|
الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية : من يسار للدولة إلى يسار للمجتمع
حميد باجو
الحوار المتمدن-العدد: 2214 - 2008 / 3 / 8 - 11:23
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
1 أعتقد أن الأخ حسن طارق قد أصاب جيدا حين تحدث في مقاله المنشور سابقا بجريدة الاتحاد الاشتراكي عن ضرورة الانتقال من يسار يتمحور حول الدولة إلى يسار يتجه نحو المجتمع. وهو بذلك يكون قد اهتدى إلى العنوان المناسب الذي يمكن أن نضعه للحظة التحول الراهنة التي يعيشها حزب الاتحاد الاشتراكي واليسار المغربي عموما. وهذا يذكرنا بلا شك بلحظة تحول أخرى عاشها الحزب في بداية السبعينات من القرن الماضي، حين قرر الانتقال من اختيار ثوري يمارس نيابة عن الشعب إلى اختيار ديمقراطي يمارس بالشعب ومع الشعب. فقد كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن ضرورة إحداث تحول نوعي في مسيرة الحزب، وبلورة مشروع مجتمعي جديد لليسار يعوضه عن المشروع القديم الذي قاده إلى الفشل في الاستحقاقات الأخيرة. ونحن حين دعونا سواء في الورقة التي نشرناها تحت عنوان "مسؤولياتنا"، أو فيما أورده الأخ طارق في مقاله أعلاه أو في ما نشرناه من مقالات سابقة، من ضرورة الخروج من منطق هيمنة السياسي والدستوراني، إلى البحث عن مجالات أخرى للفعل اليساري خاصة على المستوى الاجتماعي أو الثقافي، أو مستوى نضال القرب، فإننا كنا نصوغ تصورنا في أفق إحداث هذا التحول بالضبط. ما عشناه في السنوات الأخيرة هو شبيه في كثير من النواحي بما عاشه الحزب في الفترة الممتدة من المؤتمر الاستثنائي إلى المؤتمر الرابع. إذ بعد أن اكتشف قادتنا آنذاك استحالة إحداث تحول في الدولة من دون مشاركة للشعب، دعوا إلى تبني الاختيار الديمقراطي كوسيلة لإشراك هذا الأخير. غير أن الاستحقاقات الانتخابية التي تلت مباشرة المؤتمر الاستثنائي سرعان ما كشفت عن محدودية الالتفاف الشعبي حول هذا الاختيار خاصة خارج المراكز الحضرية، وعن التعقيد في بنية المجتمع وقوة اختراقه من طرف شبكات المخزن والقوى التقليدانية. آنذاك بدأ التفكير يتجه تدريجيا نحو المجتمع لفهمه أكثر بالاعتماد في هذا المجال بالخصوص على كتابات عبد الله العروي، فظهرت مثلا مقولة "الوعي المتقدم والوعي المتأخر" أو ضرورة "دمقرطة الدولة ودمقرطة المجتمع" عند مناضلي 23 مارس، كما قام مناضلو الاتحاد بصياغة وثيقة " أزمة المجتمع والبناء الديمقراطي". وها نحن الآن نعيش ما يشبه ذلك منذ أن اخترنا المشاركة في التدبير الحكومي. فرهاننا على التغيير من داخل بنيات الدولة اصطدم أيضا بغياب أي التفاف شعبي حول هذا الخيار، وفوجئنا مرة أخرى بمدى التعقيد الذي يطبع المجتمع لدرجة أننا لم نستطع حتى التنبؤ بنتائج الانتخابات الأخيرة ساعات فقط قبل الكشف عنها. وهذا يعني أننا في الحاجة مرة أخرى للعودة إلى المجتمع لفهمه والفعل من داخله، كما كانت حاجتنا إلى ذلك بعد نهاية السبعينات. 2 لكن ما لا يجب أن ننساه هنا، أن تلك المحاولة التي تمت بمناسبة المؤتمر الرابع قد أجهضت في المهد ولم يكتب لها الاستمرار، وبقيت الوثيقة أعلاه مجرد مشروع لم يستوعب فلسفته إلا البعض من المناضلين، وبالتالي بقي فهمنا لبنية المجتمع دائما ناقصا وغير مكتمل، حيث عاد اهتمامنا من جديد ومنذ ذلك التاريخ، للتمحور والتركيز على الدولة، سواء من أجل معارضتها أو من أجل المشاركة فيها. وهكذا وكأننا نجد أنفسنا اليوم مطالبون بالعودة إلى حيث توقفنا سنة 1984، لاستكمال ما بدأه المناضلون آنذاك، رغم أن كل الظروف قد تغيرت، العالمية منها أو الوطنية أو الحزبية. لا شك أن هناك عائقا بنيويا ما في ذهنية الاتحاديين وربما شطر كبير من اليساريين، يمنع أو يعرقل كل محاولة يتوخى منها التقرب أكثر من المجتمع والتفاعل معه. وهذا العائق في اعتقادنا هو ذو طابع إبستمولوجي ورثناه عن الحركة الوطنية. ففي البنية الفكرية لهذه الأخيرة نجد تصورا معينا عن المجتمع اتخذ آنذاك لبوس ما عرف بالسلفية الوطنية ، أخذته هي نفسها من التراث الإسلامي، ومفاده أن المجتمع ينقسم إلى خاصة وعامة، وأن هذه الفئة الأخيرة رغم أنها تمثل الأغلبية فهي لا شأن لها أبدا بأمور السلطة والسياسة، بل أن هذا الأمر يبقى دائما من اختصاص الخاصة، أي الخليفة أو السلطان وحاشيته من العلماء ورجال الجيش و المخزن. وحتى وإن وقع خلاف أحيانا بين هذه الأطراف ، فمن الأحسن أن يحسم داخليا بينها عبر توافقات معينة أو عبر الإقصاء والنفي المطلق لطرف من لدن الطرف الآخر. هذه العقلية هي التي وجهت الحركة الوطنية في لحظة أوجها، حين عمد حزب الاستقلال مثلا إلى البحث من جهة عن توافق مع القصر، ومن جهة أخرى إلى الإقصاء الكلي للمنافسين له من الشوريين والشيوعيين. وهي العقلية نفسها التي ورثها الاتحاديون عبر ما يمكن أن ننعته " بتيار الفقهاء" داخله، حيث بقيت تفعل فيه من الداخل، تخمد أحيانا حين يكون المد الديمقراطي قويا داخل الحزب كما كان الشأن في المؤتمر الاستثنائي أو المؤتمر الرابع، أو تعود للظهور بقوة حين يضعف هذا الأخير كما وقع في المؤتمر الخامس وما تلاه، حيث أخذت هذه المرة لبوسا جديدا هو ما عرف بأطروحة الكتلة التاريخية. وهي قد تتخفى أحيانا تحت لبوس شعبوي كما حدث في لحظة معينة داخل الكنفدرالية الديمقراطية للشغل، أو تتخفى بغطاء القومية العربية فتدفع بأنصار هذه الإيديولوجية الأخيرة إلى حد السقوط بين أحضان الأصولية الإسلامية في المشرق كما حدث فيما يعرف بالمؤتمر الشعبي العربي. ولأن هذه العقلية هي التي كانت وراء إجهاض محاولة الدمقرطة المجتمعية التي طمحت إليها وثيقة "أزمة المجتمع والبناء الديمقراطي" بعد 1984، فإن أنصار هذه الأخيرة أو من سيعرفون بتيار السوسيال ديمقراط ، سيعمدون أمام المد الشعبوي الذي طبع الحزب خلال مرحلة التسعينات، إلى رفع شعار الحداثة باعتبارها أسلوبا ومنهجا جديدا في التعامل مع القضايا المطروحة. وبسبب التصادم بين التيارين حدث ما حدث في المؤتمر السادس للاتحاد الاشتراكي. وقد كان من الممكن ربما أن يحقق هذا التيار الأخير ما سبق وأن فشل فيه بعد المؤتمر الرابع، لولا أن تجربة المشاركة الحكومية التي أصر الحزب على الاستمرار فيها بعد حكومة عبد الرحمان اليوسفي، وبالشروط المعروفة، ساهمت في إفقاد الحزب ما تبقى له من رصيد جماهيري. بطبيعة الحال لا يجب أن يفهم من كلامنا هذا وكأن هذه التفاعلات الفكرية والتنظيمية الخاصة التي عرفها الحزب كانت تتم داخل صندوق مغلق وبمعزل عن أي تأثير خارجي. فلفهم ما وقع فعلا، لا بد من ربط كل ذلك بالتحولات التي طرأت في تلك الفترة على مستويات متعددة، وبالخصوص مستوى التحولات على الصعيد الدولي و مستوى البنية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع المغربي، ثم مستوى بنية الدولة نفسها. وإذ كان لابد من التأكيد على أن لكل مستوى من هذه المستويات زمانيته الخاصة، فإن التقاطع الذي كان يحدث أحيانا بين البعض منها، هو الذي كان يساهم إما في التعجيل أو في إبطاء وتيرة تطور الأحداث داخل الاتحاد الاشتراكي. فمثلا لا يمكن فهم التهميش الذي تعرضت له وثيقة " أزمة المجتمع" بدون ربط ذلك بالهجمة التي تعرضت لها القوى الديمقراطية بسبب أحداث 81 و82 و1984 ، ولا يمكن فهم انتعاش الشعبوية داخل الاتحاد الاشتراكي في بداية التسعينات بدون ربط ذلك بانهيار المعسكر الاشتراكي وبحرب العراق الأولى وبتصاعد المد الأصولي. كما لا يمكن فهم ظهور أطروحة الحداثة أواسط نفس العقد بدون استحضار سياسة اللبرلة والخوصصة التي نهجتها الدولة في السنوات السابقة والتي أفرزت فئات برجوازية جديدة صارت أكثر تحررا من هيمنة المخزن.... 3 أمام هذه المعطيات الخاصة من تاريخ الحزب، يطرح إذن السؤال عن ما هي الإمكانيات التي لا زالت أمامنا لإنجاح مهمة إعادة ربط الحزب بعمقه المجتمعي بدون التفريط بأي من القيم التي تأسس من أجلها، ثم ما هي الآليات أو المداخيل التي يمكن اعتمادها في تحقيق هذا الغرض؟ لكن قبل ذلك تطرح إشكالية المفاهيم أو الأدوات المعرفية التي يمكن اعتمادها لفهم مجتمعنا الحالي، وهل لا زالت نفس الأدوات السابقة من قبيل مفهوم التشكيلة الاجتماعية أو الطبقات الاجتماعية أو نمط الانتاج أو الدولة الوطنية ... التي وظفت مثلا حين صياغة التقرير الإيديولوجي، صالحة للاستعمال لحد الآن؟ ليس لنا أجوبة قطعية عن مثل هذه التساؤلات، ولكننا حين أشرنا أعلاه أنه ربما علينا أن نبدأ الآن من حيث وقفنا سنة 1984، فلا بأس أن تكون من بين منطلقاتنا بعض من المفاهيم الأساسية التي سبق وأن توسع فيها مفكرنا عبد الله العروي في تلك الفترة، وعلى رأسها مفاهيم الحرية والعقل والدولة، مع الإشارة إلى أنه قد حدثت عدة اجتهادات بعد تلك الفترة في هذا المجال لا بد من أخذها بعين الاعتبار وعدم الوقوف حيث وصل عبد الله العروي.
فإذا أخذنا مفهوم الحرية كنموذج، سنلاحظ كيف أن الحركات الوطنية في منطقتنا عملت على توظيفه في معركتها ضد المستعمر . لكن بعد أن اختزلته إلى بعد واحد هو تحرير الجماعة أو الأمة من الأجنبي مع تغاضيها المتعمد عن تحرير الفرد وبالخصوص المرأة وكذلك الأقليات الدينية أو اللغوية، من قيود هذه الجماعة نفسها التي ينتمون إليها، وبالتالي أفرغت هذا المفهوم من نفحته الليبرالية التي قام عليه في الأصل. وقد كان ما سعى إليه العروي ربما هو إعادة هذه النفحة الأخيرة لمفهوم الحرية والتأكيد على أن حرية الفرد هي الأساس والمنطلق لأي تحرير. غير أن هذا المفهوم قد خضع أيضا في السنوات الأخيرة، لتطوير جديد على يد المفكر الهندي أماريتا صن، الذي وسعه ليعني به أيضا تحرير كل القدرات و المؤهلات الذهنية والجسدية التي قد تتوفر للفرد. أو بتعبير آخر أن الفرد لا يمكن اعتباره حرا، فقط لأنه يتمتع بحقوقه في التعبير أو الاعتقاد، ولكن إلى أن يتحرر من كل القيود والإعاقات التي تمنعه من الاندماج في محيطه أي حتى يتحرر من الجهل والمرض والفقر والإعاقة عن التواصل.... مع العلم أن محيط الفرد قد أصبح الآن مفتوحا على العالم بأكمله .
المفهوم الثاني هو العقل. وكما هو معلوم أن هذا المفهوم حين صيغ قديما عند الإغريق ثم لاحقا عند مفكري الأنوار في أوروبا، فقد كان هدفهم هو توضيح من جهة أن لا سلطة فوق سلطة هذا الأخير ، ومن جهة ثانية أنه أسمى ما هو مشترك بين كل الناس مهما اختلفت أجناسهم ومعتقداتهم. غير أن هذا المفهوم حين دخل أرض الإسلام تم تحويره وإعطاءه معنى مغاير حين تم وضعه تحت سلطة ووصاية النص الديني، وذلك على الرغم من محاولة بعض المفكرين المتنورين القلائل معاكسة هذا التيار. ولتبرير هذا التحوير ذهب البعض إلى حد الدفاع عن أطروحة تعدد العقول واختلافها، ووجود عقل إسلامي وآخر عربي وثالث غربي ...الخ. ولأننا لم نستطع لحد الآن في مجتمعاتنا، أن نتخطى هذا العائق ونرسخ لمفهوم العقل في تربتنا الثقافية، فقد بقينا أسرى لشبكة القراءة اللاهوتية واللاعقلانية لواقعنا وبالتالي عاجزين عن فهم ما يجري حولنا. وبقيت الذهنية العامة للمغاربة مستعصية على حاملي المشروع التنويري في حين لا يجد الأصوليون أي صعوبة في اختراق هذه الذهنية وتوجيهها بحسب ما تقتضيه مرجعيتهم الخاصة.
المفهوم الثالث هو الدولة. وكما هو معروف أن هذه الأخيرة قد رأت النور لأول مرة في صورتها الحديثة، في أوروبا حيث جاءت كاستجابة للرغبة في تنظيم وضبط السوق الداخلي للرأسمالية الناشئة آنذاك. وفي إطار الحدود التي رسمتها السلطة المهيمنة لهذه الدولة، تبلورت الجماعة البشرية التي أصبحت تسمى القومية، وظهر ما يعرف بالوطن . وهذا يعني أن القومية أو الوطن غير سابقة على الدولة، بل هي نتاج لها ، مع العلم أن هذا الأخير قد يتطابق أحيانا مع وجود جماعة بشرية موحدة لغويا أو دينيا فتظهر ما يسمى بالدولة الأمة، وقد لا يتطابقان. و الملاحظ أن كثيرا ما يعمد البعض عندنا إلى إحداث خلط بين مفهوم الوطن أو القومية أو الأمة، وعدم مراعاة السياقات الخاصة بكل مفهوم. فالحديث عن الأمة ، يحيل في الغالب على البعد الديني الذي هو بعد ما قبل رأسمالي ولا علاقة له بالتطور التاريخي الحديث وهذا ما ينطبق على الأمة الإسلامية مثلا. أما الحديث عن القومية فهو وإن كان يحيل على بعض التجارب الحديثة، إلا أنه يتعمد تعميم تجارب معينة تطابقت فيها وحدة السوق الرأسمالي مع الوحدة اللغوية، أو ما يعرف بتجربة الدولة الأمة. وبالتأكيد أن هذا النموذج لا يمكن تعميمه على المجتمعات العربية، باعتبار تشتت أسواق هذه الأخيرة وانغلاق الحدود فيما بينها، وليس هناك في الأفق ما يؤشر على أن النظام العالمي الحالي سيسمح يوما بتجاوز هذه العوائق، كما لا نعتقد أن التقارب اللغوي والثقافي بين هذه المجتمعات كفيل وحده بإزالة مثل هذه العقبات. لذلك يبقى المفهوم الوحيد الأجدر بالاستعمال في ظل السياق التاريخي الحالي للمغرب هو مفهوم الوطن، الذي يجب أن يبقى هو الإطار الأسمى لانتماء كل المغاربة. غير أن هذا المفهوم نفسه، باعتباره هو أيضا مجرد معطى تاريخي وليس جوهرا ثابتا في ذاته، لا بد وأن يمر من تحولات تاريخية تنقله من مرحلة إلى أخرى أو حتى تعصف به. وهذا ما يظهر حاليا واضحا في ظل تسارع وتيرة العولمة وبداية تكون نظام عالمي جنيني موحد، تفقد فيه الدولة الوطنية تدريجيا من سلطاتها وآليات ضبط فضاءاتها الخاصة، لصالح هيئات عالمية أو تكتلات جهوية ما فوق وطنية، أو حتى لصالح وحدات جهوية ما تحت وطنية. وبالتأكيد أنه في ظل هذا التحول الذي ينتظر فكرة الوطن، لابد وأن نفكر نحن في المغرب بجدية في محيطنا ما فوق الوطني المتمثل في الاتحاد المغاربي، ومن ذلك مثلا وضع أي تصور لحل مشكلة الصحراء ضمن تصور أشمل يهم مستقبل المنطقة المغاربية ككل. المفهوم الرابع يتعلق بالهوية، وهو مفهوم عاد للتداول بقوة في السنوات الأخيرة، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وما صاحبه من تراجع للإيديولوجيات الشمولية وتصاعد تأثير الحركات الدينية والإثنية. فلأن أي شخص لابد أن ينتمي في نفس الوقت، إلى عدة جماعات أو دوائر للانتماء كالعائلة أو القبيلة أو الجهة أو الدين أو الثنية أو الإيديولوجية أو الوطن.... الخ، فمجموع هذه الانتماءات هو ما يحدد له هويته. غير أنه حينما يتعلق الأمر بجماعة بشرية كالشعب، يطرح السؤال عما هي الدائرة الأكثر حضورا في الحياة اليومية لهذا الأخير أو التي لها تأثير حاسم في تحديد مصيره ومستقبله. وبطبيعة الحال لأن التقديرات تتفاوت على هذا المستوى، بين من يقدم مثلا الانتماء الديني على ما سواه، أو الانتماء القومي أو الجهوي أو الوطني... يبقى الطريق الأقرب للاقتراب من الحقيقة، هو استفتاء كل الأفراد المنتمين لهذا الشعب عن نوع الانتماء الذي يقدمونه على كل الانتماءات الأخرى، مع الالتزام بطبيعة الحال، باحترام حرية كل فرد في التعبير والاختيار أو الالتزام بالمعايير الديمقراطية المتعارف عليها في هذا المجال. فلا هوية يمكن فرضها مسبقا أو خارجيا على الفرد أو دون أن يأخذ رأيه في ذلك. وبالتأكيد أن الهوية أو دائرة الانتماء التي قد يلتقي حولها أغلب أفراد الشعب تبقى هي الوطن أو الهوية الوطنية، مع إمكانية احتفاظ كل مجموعة ربما من المجموعات المكونة لهذا الأخير بحقها في الانتماء إلى دوائر أخرى، لكن كانتماءات ثانوية لا يمكن لها أن تسمو على الانتماء الوطني. هذا مع الإشارة إلى أن طبيعة هذه الانتماءات نفسها أو طريقة ترتيبها لا تبقى بالضرورة ثابتة وهي قد تتحول من مرحلة إلى أخرى، أي أن الهوية هي بطبيعتها متغيرة وتتفاعل مع التطور التاريخي.
المفهوم الخامس هو الكونية، الذي يفترض أن أي تفكير في واقع ومستقبل بلادنا لابد أن يوضع في إطار أفق كوني يأخذ بعين الاعتبار كل التطور الحاصل على الصعيد العالمي. فبحسب النظرية العامة للأنظمة التي اقتبسنا منها هذا المفهوم، أن ليس هناك من ظاهرة تحدث على صعيد النظام الأسمى الذي في حالتنا هو النظام العالمي، إلا وله تأثير مباشر على النظام الأدنى منه أو الفرعي كما في نظام دولة معينة أو تكتل جهوي. فكثير من الظواهر التي نعيشها مثلا في بلادنا، لا يمكن فهمها إذا لم نضعها في سياقها الكوني وفهمنا آليات اشتغالها على الصعيد العالمي. ومن المؤكد حاليا، أن أهم وأخطر القرارات التي ستتحكم في مصيرنا وترسم لنا خط مستقبلنا، هي تصنع الآن على الصعيد العالمي بدءا من القرارات الاقتصادية والتجارية ومرورا بتلك التي تتعلق بالإعلام والثقافة مثلا، وصولا حتى تلك التي ترتبط يتطور البيئة وتحولات المناخ..... الخ. ولهذا فإن أي تفكير يحصر أفق رؤيته داخل الحدود الوطنية أو حتى الجهوية المباشرة، سيبقى قاصرا عن إدراك ما سيقع وما هي الاتجاهات التي ستأخذها الأحداث الوطنية. وباختصار أنه إذا أردنا فهم ما سيحدث في بلادنا لابد وأن نفهم ما يحدث في العالم، وكل قرار قد نتخذه في معاكسة للتيار الذي يسير عليه النظام العالمي، سيكون مآله الفشل وهدر الطاقات بدون جدوى. ومن دون شك أن مفهوم الكونية، يفرض علينا إعادة النظر أو حتى التخلي ببساطة، عن عديد من الأفكار والتصورات التي تداولناها سابقا من قبيل مواجهة الامبريالية أو معاداة الرأسمال الأجنبي أو الدفاع عن استقلالية الاقتصاد الوطني أو إغلاق السوق الداخلية أمام المنافسة الخارجية، أو الحفاظ على قيمنا و أصالتنا الثقافية من الغزو الثقافي ..... الخ. وحتى التخفي وراء شعار مثل مناهضة العولمة لم يعد يعني شيئا، لأن المطلوب ليس مناهضة هذه الأخيرة ولكن البحث عن أنجع السبل للاستفادة من فرصها مع تجنب مساوئها. في هذا الإطار تطرح أهمية تكتلنا الجهوي على المستوى المغاربي، وتعميق ارتباطنا بالفضاء المتوسطي والأوروبي شمالا والفضاء الإفريقي جنوبا. ونحن قد لا نتفق هنا مع من لا يزال يطرح البعد المشرقي سواء في امتداده العربي أو الإسلامي كخيار أولي لنا، لأن الصراع أو التنافس العالمي لم يعد كما كان في السابق في اتجاه شمال جنوب، ولكنه أصبح الآن يتم بين تكتلات جهوية قد يضم كل واحد منها دول من الشمال كما من الجنوب في مواجهة تكتلات أخرى بتركيبة قد تكون مشابهة.
4 إن توضيح أو التذكير بهذه المفاهيم ليس هدفا في حد ذاته، وإنما هذه الأخيرة ما هي إلا أدوات معرفية قد تساعدنا في فهم ومقاربة المجتمع والعمل داخله ، وبناءا عليها استوحينا نحن ا المداخل التالية: المدخل الأول هو الاجتماعي، باعتباره هو الأساس في وجود اليسار ككل. إذ ليس هناك إمكانية أصلا لقيام مجتمع حديث وتطوره بشكل سليم، بدون مراعاة لحد أدنى من مصلحة كل أفراده، وإشراك الجميع في إنتاج وفي الاستفادة من ثرواته. وهذا ما طالب به البعض سواء تحت مسمى النظام الاشتراكي أو العدالة الاجتماعية أو المجتمع التضامني ... غير أنه إذا كان الخطاب الاشتراكي قد ركز سابقا على التفاوت أو الصراع بين الرأسمال والعمل، وعلى قضية توزيع فائض القيمة بينهما، فإن الإشكالية غدت حاليا أكثر تعقيدا ، بعد أن تفاقم التفاوت ليس فقط بين من يملكون وسائل الإنتاج ومن لا يملكون، ولكن أيضا بين الذين يعملون والذين لا يعملون أي العاطلين، وبين فئات الذين يعملون أنفسهم: العمال اليدويون والعمال الذهنيون، ثم بين الذين يملكون أو يتحكمون في وسائل الإنتاج أنفسهم: بين مالكي الرأسمال منهم، في مواجهة المسيرين، أو المقاولين الكبار في مواجهة الصغار، أو المستثمرين في هذا القطاع أو السوق في مواجهة القطاعات والأسواق الأخرى .... ولهذا لم يعد مجديا ربما مقاربة الإشكالية الاجتماعية بالنظرية الماركسية التقليدية، أي بحسب الموقع من عملية الإنتاج، ولكن الأفضل أن ينظر إليها من زاوية الموقع من عملية الاستهلاك. وعلى هذا المستوى يصبح المؤشر الأكثر تعبيرا عن واقع الصراع داخل المجتمع هو نسبة التفاوت في الدخل أو ما قد يعبر عنه مثلا بمؤشر جيني GINI ، وفي نوعية نمط الاستهلاك. حيث أصبح واضحا الآن أنه كلما توسعت الهوة بين مكونات المجتمع على هذا المستوى، إلا و طغى الإحساس بالحرمان la frustration و"بالحكرة" ، وبالتالي فقد الناس الثقة في كل المقومات التي تقوم عليها لحمة المجتمع. وبالتأكيد أن ما زاد من مفاقمة هذا الإحساس الأخير في الوضع الراهن، أن مجال المقارنة مع الآخرين لم يعد محصورا في المحيط المباشر للفرد كالحي أو المدينة ، بل أن وسائل الإعلام والتواصل الحديثة قد جعلت هذا الأخير يقارن وضعه بما يجري على كل الصعيد العالمي . وربما يمكن اعتبار هذا التحول في مرجعيات المقارنة بالنسبة للفرد في الدول الفقيرة أنها من أكبر وأخطر المساوئ التي حملتها العولمة إلى هذه الأخيرة. من هذا المنظور يصبح ترتيب الأوليات في اعتقادنا في عمل اليسار على مستوى المسألة الاجتماعية كالتالي. 6 مناهضة كل أشكال اقتصاد الريع و الامتيازات الريعية وكل مظاهر الفساد التي تطبع الحياة العمومية من رشوة وزبونية وتهرب من الضرائب وهدر للمال العام .... الخ. فتخلي الدولة مثلا عن حوالي 24 مليار درهم كجبايات غير محصل عليها، أو تقديم ما يناهز 15 مليار أخرى في شكل دعم مباشر إلى جهات معينة، هو هدر صارخ لإمكانيات البلاد ليس هناك ما يبرره لا اقتصاديا ولا اجتماعيا غير محاباة أو خضوع للوبيات وقوى ضغط نافذة في جهاز الدولة وذلك إلى أن يثبت العكس. وفي اعتقادنا إنه إن بقي هناك من مبرر لاستمرار وجودنا داخل الحكومة الحالية، فهو أن يلتزم وزراءنا بجعل هذه المعضلة على رأس انشغالاتهم وشرط استمرارهم في مواقعهم الحكومية. 7 دعم كل الحركات الاحتجاجية التي تقوم بها الفئات الاجتماعية الأكثر إحساسا بالحرمان، وعلى رأسهم أصحاب الشواهد المعطلين وقاطني الأحياء الهامشية والفقيرة وسكان القرى النائية والعمال المطرودين وباقي المتضررين من تدهور القدرة الشرائية وغلاء الأسعار .... مع توجيه مناضلينا للانخراط في حركاتهم والمساهمة في تأطيرهم. 8 الانخراط في عمل القرب إلى جانب الجمعيات التنموية والمساهمة في تأطير السكان في الأحياء والقرى ومصاحبتهم في تدبير و البحث عن موارد التمويل الضرورية للمشاريع الصغرى الذاتية. 9 إعادة الاعتبار للعمل النقابي بالسعي إلى تخليصه من هيمنة "الزعيم" والبيروقراطيين من جهة عبر ثقافة الديمقراطية والشفافية داخله، وتجاوز حالة التشرذم والفئوية والتبعية الحزبية من جهة ثانية. 10 التزام الوزراء والمسؤولين المحسوبين على اليسار، وكذلك المنتخبين في مختلف الهيئات بإعطاء المسألة الاجتماعية الأولوية في كل نشاطاتهم.
المدخل الثاني، هو الثقافي والإيديولوجي. فاليسار وإن كان قد عرف عنه دفاعه بالدرجة الأولى عن المسألة الاجتماعية، فذلك لا يجب أن يحجب عنا كون نشأته في أوائل القرن التاسع إنما تمت في أحضان الثورة الفرنسية، تلك الثورة التي مثلت عصارة ما توصل إليه فكر الأنوار لحدود تلك الفترة. وبالتالي فحتى بعد أن انحرفت الرأسمالية لاحقا تحت تأثير نزعة الامبريالية، بقي اليسار هو الوفي والوريث المباشر لتلك القيم الليبرالية، من حرية وعقلانية ومساواة وفصل للدين عن الدولة .... والمدافع الأول عن حقوق الإنسان الفردية والجماعية. غير أن اليسار لما دخل إلى مجتمعاتنا العربية والإسلامية، جاء ذلك في لحظة كان هو نفسه واقعا تحت وطأة النظرة الشمولية والاستبدادية التي ألصقها به النظام الستاليني في الاتحاد السوفياتي, وبالتالي لم يبال مثقفونا اليساريون الأوائل بذلك العمق الفلسفي الليبرالي الذي انبثق عنه اليسار لأول مرة، واختزلوه في بعده الاجتماعي فقط . ومما زاد في الطين بلة، أن ذلك جاء متلائما مع النزعة الاستبدادية المترسخة في بيئتنا العربية والإسلامية، و المتنكرة أصلا لكل حقوق فردانية. اتجه اهتمام اليسار في بلادنا إلى حل المسألة الاجتماعية وإقامة النظام الاشتراكي، وكان مدخله الأساسي لذلك، هو التغيير الثوري للدولة القائمة. ثم لما تبين له استحالة تحقيق ذلك، اختار الطريق الديمقراطي كوسيلة لإقامة الدولة الوطنية الديمقراطية أو لتأميم الدولة وتحويلها إلى دولة رعية. غير أنه لسوء حظه أن التغيرات السريعة للعولمة في العقدين الأخيرين فاجأته في منتصف الطريق فانهارت كل آماله على هذا المستوى، وبقي عاجزا عن تقديم أي برنامج اجتماعي أو اقتصادي بديل، غير تبني الإصلاحات الليبرالية التي جاءت بها العولمة ولو على مضض، كما حدث له مع سياسة الخوصصة مثلا، وفي أحسن الأحوال المطالبة بأنسنتها. ماذا تبقى إذن لليسار من مشروع مجتمعي يميزه عن الآخرين؟ عمليا لا شيء إذا ما هو بقي محكوما بالباراديغم القديم القائم على بناء الاشتراكية أو العدالة الاجتماعية داخل البلد الواحد. فالعولمة الحالية فرضت أن يكون المشروع اليساري إما مشروعا كونيا أو لا يكون. أي على اليسار أن ينقل معركته من أجل الاشتراكية من الفضاء الضيق للوطن الواحد إلى الفضاء المفتوح على كل العالم. ما بقي له على الصعيد الوطني هو فقط تحقيق بعض الأهداف المرحلية كحلقات لابد أن تصب في آخر المطاف في أفق النضال الكوني بجانب باقي اليسار العالمي، ومن ذلك مثلا حل إشكالية المسألة الاجتماعية بالصيغة التي رأيناها أعلاه، والتي هي نفسها ليست سوى وسيلة لإدماج أفضل كما تصوره أماريتا صن، لأكبر عدد ممكن من المغاربة في هذا الاقتصاد المعولم للقرن الواحد العشرين. أما المهمة الثانية التي على اليسار أن ينجزها محليا فهو العمل على ترسيخ تلك القيم الليبرالية الأنوارية التي سبق وأن ضحت بها الرأسمالية بعد تحالفها مع القوى الإقطاعية و الرجعية في المجتمعات التي استعمرتها. هذه القيم التي أصبحت الآن وبفضل نضالات اليسار على الصعيد العالمي، قيما كونية مشتركة بين كل الشعوب. وفي هذا نطرح ثلاث محاور للاشتغال كالتالي.
- محور المسألة الدينية، وهو المدخل الأساسي في اعتقادنا لحل كل المشكلة الثقافية في بلادنا. ونحن نميز هنا في البداية بين الدين كفكرة مجردة وبين التدين كسلوك يومي للأفراد، حيث يطرح السؤال بالخصوص، هل التدين هو سلوك فردي لا يهم إلا صاحبه، أم هو ممارسة اجتماعية تتحكم في أمور الشأن العام؟ ولا شك أن المتتبع لتطور الرأي العام في بلادنا وخاصة بين الشباب، سيلاحظ كيف أن هذا الأخير لا زال يتحرك فوق أرضية ثقافية لاهوتية محضة، أي أنه يفسر كل شيء بالمرجعية الدينية، في تجاهل تام لحقائق العلم الحديثة ولضرورات المنطق والتفكير العقلاني. فكيف يعقل مثلا أن نسبة كبرى من هذا الأخير، لا زالت ترفض النظرية العلمية التطورية في البيولوجيا، على الرغم من أن كل الاكتشافات والابتكارات الحالية في مجال الهندسة الجينية تقوم أصلا على هذه النظرية؟ فكيف سيمكن للمثقف اليساري الذي من المفروض أنه يستمد قناعاته من العلم، أن يتواصل ويقنع مثل هذا الشباب بأفكار وبقيم اليسار؟ لا شك أن المسألة هنا مرتبطة بشكل كبير، بالخيار السياسي للبلاد، فالدستور المغربي ينص على أن الإسلام هو دين الدولة و أن أمير المؤمنين هو الممثل والناطق الوحيد باسمه. بل أكثر من ذلك أنه حتى في نطاق هذا الإسلام، يتم التضييق وحصر الاختيارات في اتجاه واحد هو ما تعبر عنه ثلاثية: المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف الجنيدي. وقد تجنب اليسار المغربي دائما أن يتعرض إلى هذه المشكلة بشكل صريح، خوفا من إثارة حساسية الناس ومن تهمة الإلحاد التي صاحبت الحركة الشيوعية والفكر الاشتراكي على العموم منذ بدايته. وإذا كان واضحا مثلا أن اليسار في أوروبا لم يتح له تجاوز هذه المشكلة وبلورة رؤيته الخاصة بذلك، لولا وجود تراكم طويل من الفكر الأنواري، وقبله من تجارب للإصلاح الديني، فإن اليسار المغربي قد وجد نفسه منذ البداية في مواجهة إشكالية التدين في شكلها الأولي تقريبا, بدون أي تراكم سابق عنه في هذا المجال، باستثناء تجربة الإصلاحيين السلفيين التي وقفت في أول الطريق. ففي أوائل القرن الماضي، واجه الإصلاحيون السلفيون المتأثرين بمدرسة النهضة الإسلامية في المشرق، الإسلام الشعبي التقليدي الواقع تحت سيطرة الزوايا والطرقية. غير أن هذا الإسلام السلفي الإصلاحي نفسه، قد تطور لاحقا نحو ثلاثة اتجاهات متفاوتة: اتجاه رسمي تبناه المخزن وأصبح هو الصيغة الرسمية للإسلام في البلاد، واتجاه عاد للسقوط في أحضان السلفية الوهابية وحركة الإخوان المسلمين في المشرق، ثم اتجاه كان من الممكن أن يتطور نحو صيغة أكثر انفتاحا وتنويرا، حمل لواءه بعض رموز السلفية الإصلاحية الذين ساهموا في تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. غير أن هذا الاتجاه الأخير وجد نفسه أمام مهمة التقريب والتوفيق بين مرجعيتين متباعدتين، المرجعية الدينية الأصلية التي جاء منها، والمرجعية اليسارية ذات المنحى العلماني أو الدنيوي. وللإشارة فإن تجارب من هذا النوع قد قامت في مجتمعات أخرى وتوفقت في هذه المهمة وهذا ما ينطبق مثلا على تجربة لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية. في المغرب لم يتح لمثل هذا التطور أن يتحقق، بالرغم من عديد من الاجتهادات التي ظهرت في هذا الاتجاه، على الصعيد العربي و الإسلامي. وربما كان ممكنا لأطروحة الخصوصية التي دافع عنها عابد الجابري، أن تمثل مدخلا مناسبا لتطوير صيغة أكثر انفتاحا وتنويرا للإسلام في المغرب، لولا أن ما وقع من أحداث لاحقا، قد حاصر هذه الأطروحة. فقد تزامنت الفورة البترولية في الخليج مع الثورة الإيرانية في نهاية السبعينات، ثم الحرب الأفغانية، مما شجع تنامي الإسلام السلفي الأصولي، وتمكنه من السيطرة شبه التامة على حقل التدين في بلادنا وعلى الثقافة الدينية لأغلب الفئات الشعبية، كما تجسد ذلك واضحا مثلا في مسيرة الدارالبيضاء المناهضة لمدونة الأسرة. بل أن حتى الدولة نفسها قد قامت بالركوب في وقت معين، على هذه الموجة السلفية وتوظيفها في تصفية حساباتها مع اليسار. وربما كان ممكنا أن تستمر تلك الموجة في التصاعد لولا وقوع الأحداث الإرهابية الأخيرة ، التي فرضت على هذه الدولة أن تعيد النظر في علاقتها مع هذا الإسلام السلفي وتفك ارتباطها به عبر نهج ما يعرف بسياسة تأهيل الحقل الديني، وإعادة الاعتبار لبعض المميزات الخاصة في التقليد الديني المغربي المتمثلة في التصوف والطرقية، أي نفس تلك المميزات التي سبق للحركة الوطنية أن حاربتها من قبل. وقد طرحت هذه الأحداث أيضا، وقبلها النقاش الذي ثار حول مدونة الأسرة، أسئلة حرجة على المثقفين المغاربة وعلى اليساريين منهم بالخصوص، الذين بقوا حتى تلك اللحظة، غير مكترثين بما يجري داخل المجتمع على هذا المستوى . وفي هذا الإطار يأتي النقاش الذي قرر الاتحاديون فتحه بمناسبة التهيئ للمؤتمر القادم، حول المسألة الدينية ببلادنا، والإجابة عن بعض الأسئلة ومن ذلك، إلى أي حد يمكن للحزب أن يتقدم في معالجة هذه الإشكالية، وأي قدر من الجرأة سيتوفر عليه الاتحاديون لكسر بعض الطابوات وإحداث قطائع في هذا المجال؟ هل سنتجرأ إلى حد المطالبة بالعلمانية بشكل صريح، وفصل الدين عن الدولة، مع تحمل ما ينتج عن ذلك الموقف من تبعات سياسية، بما فيه المطالبة بإصلاح دستوري تعاد بموجبه صياغة الفصول المتعلقة بهذا الموضوع، كالتي تتكلم عن إمارة المؤمنين وعن الإسلام كدين للدولة؟ أم أن خطواتنا يجب أن يطبعها التريث، ونكتفي فقط في المرحلة الراهنة، بتشجيع ثورة تنويرية من داخل المرجعية الإسلامية نفسها، عبر إعطاء المزيد من الاعتبار لأعمال الاجتهاد التي تروم إعادة صياغة بعض المفاهيم والتصورات الدينية السائدة، وتحمل الحزب لمسؤولياته في نشرها والدفاع عنها وسط المواطنين، واحتضان المفكرين الذين يشتغلون في هذا الاتجاه كعابد الجابري مثلا أو أركون أو الخمليشي أو أصحاب التيار القرآني أو غيرهم؟ وبعبارة أخرى هل المدخل هنا مرة أخرى، يجب أن يكون سياسيا أم ثقافيا؟ هل نجعل من مواجه الدولة على هذا المستوى هي مهمتنا الأولى في هذه المرحلة، عبر مطالبتها بتعديل الدستور، أم نواجه المجتمع عبر السعي إلى تغيير عدد من قناعاته وتصوراته الدينية، وتحويل الكفة داخل الثقافة الدينية الشعبية لصالح أطروحات الإسلام المتنور؟
- محور التعددية الثقافية والهويات الفرعية
يتعلق الأمر هنا بإمكانية التقليص من ظاهرة المركزة الشديدة التي تطبع الحياة السياسية و الثقافية في البلاد. هذه المركزية التي يمكن إرجاعها إلى سببين رئيسيين: أولا، الثقافة التقليدية الدينية التي انطلقت في أصلها من ثابت وحدانية الله، لتعمم ذلك وتترجمه في وحدة الأمة، المتجسدة في سلطة الخليفة والسلطان، ووحدة العقيدة المجسدة في سلطة الفقيه، ووحدة اللغة المجسدة في هيمنة العربية الفصحى لغة القرآن، ووحدة العائلة المتجسدة في سلطة الباب، وهكذا دواليك إلى مختلف مستويات البناء المجتمعي. وكل تمرد على هذه الوحدة يعتبر مروقا وخروجا عن الإجماع، وبالتالي وجب محاربته وتخوين أو إقصاء من تسول له نفسه ذلك. فالتعددية والاختلاف والنسبية هي مفاهيم غير مقبولة على العموم، في ثقافتنا التقليدية. ثانيا، النموذج السياسي الفرنسي الذي ورثناه عن الاستعمار، والقائم على التصور اليعقوبي للدولة، أي مركزة كل القرارات في العاصمة، ومنع أي تميز أو استقلال للجهات والأقاليم. ومن هاتين المرجعيتين، تبلورت لدينا تصورات مغلوطة لا زالت تطبع ثقافتنا السياسية حتى وسط اليسار، تقوم على التنكر لكل الهويات الفرعية التي تنزع إلى التميز عن المركز. فبالإضافة إلى المركزية الدينية التي تختزل كل تدين في المذهب السني المالكي، ينطبق ذلك أيضا على المركزية اللغوية التي تتنكر للدارجة أو الأمازيغية أو الفرنسية أو الاسبانية...، ولا تعترف رسميا إلا بالعربية الفصحى، وهناك مركزية النوع الذكوري الأبوي في مواجهة النوع الأنثوي والشبابي، وأيضا المركزية المجالية في مواجهة التعددية الجهوية. وبالتأكيد أن التركيز في نشاطنا الحزبي على ما هو سياسي فقط وما يتعلق بالدولة، لا يمكن إلا أن يزكي هذه المركزيات ويدعمها، فيحرمنا بالتالي من التواصل والتفاعل مع قطاعات عديدة من المجتمع قد لا توجد قضاياها ضمن دائرة اهتماماتنا السياسوية الممركزة و الضيقة. لهذا فدعوتنا للتحول من يسار للدولة إلى يسار للمجتمع، ما هو في حقيقته سوى دعوة لتشجيع التعدد والاختلاف والنسبية، وإلى خروج الحزب من قوقعته المركزية للتفاعل مع القضايا التي قد تشغل مختلف الفئات الاجتماعية.
- محور العلاقة مع المثقفين والمبدعين ويمكن معالجتها على الأقل، على مستويين: المستوى المعرفي، والذي يفترض حاجتنا في الحزب للعودة في كل القضايا التي تطرح علينا، إلى المفكرين والباحثين من ذوي الاختصاص، للاستفادة من معارفهم ، والقطع مع الممارسة السياسوية والسطحية التي سقطنا فيها في السنوات الأخيرة. وبالتأكيد أن المعرفة العلمية وفي مقدمتها السوسيولوجية ستكون هي الجسر الذي سييسر علينا الانتقال من الاهتمام فقط بالدولة وبالمجال السياسي الضيق، إلى الاهتمام بالمجتمع على رحابته وتعقيداته. ثم المستوى الإبداعي، والذي يرتبط بمدى احترامنا لحرية المبدعين وقبولنا بتعددية ونسبية الحقائق واختلاف زوايا النظر إلى القضايا والأشياء. فالحزب بسبب السياسوية التي سقط فيها في السنوات الأخيرة، لم يعد يشعر هذه الفئات الأخيرة بحاجته إليها، وبالتالي دفعها إلى أن تنفر منه فاتحا المجال بذلك للدولة وحتى لقوى أخرى معارضة لقيم الديمقراطية والحرية لأن توظفها وتستفيد من خدماتها. وبالتالي أن هذه القطيعة بين الحزب وفئات المثقفين والمبدعين كانت هي السبب الرئيسي في حرمان الحزب من وسيط أساسي بينه وبين الفئات الشبابية والمتعلمة. فالاتحاد الاشتراكي لأنه حزب إيديولوجي حامل لمشروع مجتمعي قبل أن يكون مجرد تنظيم أو باحث عن أصوات انتخابية، عليه أن يكون ذا إشعاع فكري وثقافي، وله القدرة على الفعل والتأثير في التمثلات وفي المخيال الاجتماعي للمغاربة، وخاصة لدى الشباب، وتهيئهم لتقبل قيمه ومبادئه قبل مطالبتهم بأصواتهم وبالتجاوب مع برامجه ومرشحيه.
- المدخل السياسي والمؤسساتي إن اقتناعنا بضرورة التحول إلى يسار للمجتمع، هو ما يجعلنا غير متفقين هنا على وضع هذا المدخل على رأس أولويات اليسار، وذلك على الأقل في المرحلة الراهنة. فنحن نعتقد أن طرح المسألة الدستورية والسياسية، إنما يجب أن يأتي كنتاج و تتويج لصيرورة من تطور المدخلين الاجتماعي والثقافي. غير أن عدم التصنيف كأولوية لا يعني التجاهل التام لهذه المسألة وإلغاءها نهائيا من برامجنا المرحلية، ولكن التمييز فقط بين عدد من المستويات أو المحاور ضمنها، قد يكون للبعض منها أهميته في المرحلة الراهنة. من ذلك: مسألة الحكامة، أي ضرورة التطبيق السليم للقوانين المتوفرة حاليا. وهو ما يعني الحرص أولا على تفعيل مبدأي المراقبة والمحاسبة في تسيير الشأن العمومي، ومحاربة الرشوة والفساد الإداري وتبسيط المساطر الإدارية، والتقدم تدريجيا نحو تفعيل الإدارة الإلكترونية... والقيام بهذه الإجراءات لا يفترض بالضرورة الانتظار حتى تحقيق الإصلاحات الدستورية الكاملة، ولكن فقط توفر إرادة سياسية عند المسؤولين، وبالخصوص تعبئة شعبية من طرف القوى السياسية والمجتمع المدني في هذا الاتجاه. ثم مسألة الجهوية، بما يعني ذلك من ضرورة التقليص من هيمنة المركز ونقل أكبر ما يمكن من الصلاحيات إلى الأجهزة المنتخبة جهويا، في أفق تحول البلاد على أمد معقول، إلى نظام فيدرالي. كما يجب التفكير على هذا المستوى، في كيفية تقريب وربط الجهات الحدودية في شرق وجنوب البلاد، بالجهات المقابلة لها في البلدين الشقيقين: الجزائر وموريتانيا. ولكن ذلك يبقى مرتهنا بطبيعة الحال بما ستؤول إليه قضية الصحراء. على هذا المستوى أخيرا، تطرح مسألة المشاركة الحكومية، وهل ضروري بالنسبة للحزب أن يربطها أم لا، بإنجاز الإصلاحات الدستورية. وكجواب عن السؤال الذي طرحه المناضلون بعد نتائج الانتخابات الأخيرة، هل ننسحب من الحكومة أم نبقى فيها، خاصة في ظل وجود تعاقد سابق مع حزب الاستقلال في هذا الشأن، فما نعتقده أنه هنا، لا يجب ربط موقفنا من ذلك فقط بما حصلنا عليه من نتائج في الانتخابات، ولكن بالأساس، بالبرنامج أو الأولويات التي سنسطرها في المؤتمر. فإذا ما نحن ما ذهبنا فعلا في اتجاه إعطاء الأولوية للمسألة الاجتماعية كما وضحنا ذلك أعلاه، سيكون اشتراطنا للاستمرار في المشاركة الحكومية، هو مدى التزام هذه الأخيرة، بالتجاوب مع المطالب الاجتماعية للفئات الشعبية الأكثر احتياجا. وبالتأكيد أن أمام ما يلاحظ حاليا، من تفاقم في الغلاء والتضخم، وتزايد حدة الفوارق الاجتماعية، و استمرار نفس تفشي الفساد والرشوة واقتصاد الريع وغياب المتابعة ..الخ، فإن الحكومة إما تكون أكثر جرأة وإرادة على هذا المستوى، وإما لن يبقى هناك من مبرر لاستمرارنا فيها، وبالتالي العودة للمعارضة لما فيه مصلحة البلاد أولا ومصلحتنا كحزب ثانيا.
حميد باجو عضو المجلس الوطني للحزب
#حميد_باجو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليسار المغربي نداء بوزنيقة للعمل اليساري المشترك.
-
تيار الاشتراكيون الجدد : مسؤولياتنا
-
-رحيل اليازغي عن الاتحاد الاشتراكي... نهاية الأزمة أم بدايته
...
-
تجربة -الاشتراكيون الجدد-
-
الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية تيار -الاشتراكيون الجدد-
-
التصورات حول العالم والإنسان في الديانات والمعتقدات القديمة
-
أي مستقبل لليسار المغربي؟
-
اليسار المغربي في الحاجة إلى إعادة التأسيس
-
مشروع أرضية لتيار الاشتراكيون الجدد داخل الاتحاد الاشتراكي ل
...
-
عن مآل الاشتراكية
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
عن الجامعة والعنف الطلابي وأسبابه الحقيقية
/ مصطفى بن صالح
-
بناء الأداة الثورية مهمة لا محيد عنها
/ وديع السرغيني
-
غلاء الأسعار: البرجوازيون ينهبون الشعب
/ المناضل-ة
-
دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية
/ احمد المغربي
-
الكتاب الأول - دراسات في الاقتصاد والمجتمع وحالة حقوق الإنسا
...
/ كاظم حبيب
-
ردّا على انتقادات: -حيثما تكون الحريّة أكون-(1)
/ حمه الهمامي
-
برنامجنا : مضمون النضال النقابي الفلاحي بالمغرب
/ النقابة الوطنية للفلاحين الصغار والمهنيين الغابويين
-
المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
/ سعاد الولي
-
حول النموذج “التنموي” المزعوم في المغرب
/ عبدالله الحريف
-
قراءة في الوضع السياسي الراهن في تونس
/ حمة الهمامي
المزيد.....
|