يذكر أبو الفضل جعفر بن علي الدمشقي في بداية كتابة الإشارة إلى محاسن التجارة: (هذا كتاب اختصرناه في محاسن التجارة ومعرفة قيمة جيد الأعراض ورديها وغشوش المدلسين فيها وجعلناه فصولاً):
الفصل الأول: في بيان حقيقة المال. والمال في اللغة هو القليل والكثير من المقتنيات وينقسم إلى أربعة أقسام:
1 ـ الصامت: وهو العين، ماضرب من الدنانير، أو الورق وهو المال من الدراهم. وبذلك فالمال الصامت هو الدنانير الذهبية والدراهم وسائر المصوغ منها.
2 ـ العرض: ويشتمل على الأمتعة والبضائع والجواهر والمعادن وسائر الأشياء المصنوعة منها.
3 ـ العقار: وهو صنفان أحدهما المسقف وهو الدار والحانوت والحمامات والمعاصر والفواخير والأفران … الخ، والآخر المزدرع ويشمل البساتين والكروم والمراعي والغياض وما يحويه من العيون والحقوق في مياه الأنهار.
4 ـ الحيوان: وتسمية العرب المال الناطق وهو ثلاثة أصناف:
ـ الرقيق وهو العبيد والإماء.
ـ الكراع وهو الخيل والإبل المستعملة.
ـ الماشية وهي الغنم والبقر والماعز والإبل السائمة المهملة.
في مجال مدح الغنى المكتسب والموروث. ونسبية قيمة الأموال. جميع الأموال نافعة لأهلها (إذا دبرت كما يجب وبعضها أفضل من بعض وتختلف باختلاف أحوال الزمان وبحكم ما هي عليه من صفاتها المكروهة أو المحبوبة وأحوالها المحمودة أو المذمومة). ص 19
ويصنف المؤلف حاجات الإنسان في فصل حول موضع الحاجة إلى المال الصامت إلى مجموعتين:
1 ـ حاجات ضرورية طبيعية ( الغذاء والكساء أو المأوى).
2 ـ حاجات عرضية وضعية ( الحاجة إلى السلاح في مواجهة العدو أو الحاجة إلى الدواء وقت السقم).
كما تحدث عن ضرورة الاجتماع ليعين الناس بعضهم بعضاً، لان الإنسان عاجز عن أن يحيط بالصناعات كلها من أولها إلى آخرها.
وفي مجال المبادلة تحدث عن وحدة الثمن (النقود) ضرورة واقعية، حيث احتاج الناس (إلى شيء يثمن به جميع الأشياء ويعرف به قيمة بعضها من بعض فمتى احتاج الإنسان إلى شيء مما يباع أو يستعمل دفع قيمة ذلك الشيء من ذلك الجوهر الذي جعل ثمناً لسائر الأشياء). ص 21
ووقع إجماع الناس على تفضيل الذهب والفضة كوحدة ثمن لسرعة المواتاة في السبك والطرق والجمع والتفرقة والتشكيل بأي شكل أريد، مع حسن الرونق وعدم الروائح والطعوم الرديئة، وثبات السمات التي تحفظهما من الغش والتدليس، فطبعوهما وثمنوا بهاما الأشياء كلها. فلذلك لزمت الحاجة في المعاش إلى المال الصامت. ص 23
وخصص المؤلف فصلاً فيما يمتحن به المال الصامت فيعلم جيدة من رديئة، حيث قدم نظرات في علم الكيمياء، ووسائل اختبار غش الذهب، ووسائل اختبار غش الفضة.
كما خصص فصلاً في الأعراض (الأمتعة والبضائع والجواهر والمعادن): والأعراض تحتاج إلى الصيانة والاحتياط والتفقد، ويعني الاحتياط العلم بقيمتها المتوسطة وبجيدها ورديئها، واللجوء إلى معرفة الخبيرين بها. ولابد من صيانة الأعراض قبل أن يسرع إليها الفساد والتغير، وحفظها من الخونة والسراق والقطاع.
وناقش الدمشقي موضوعاً هاماً حول المعرفة بالقيمة المتوسطة لسائر الأعراض، فأوضح نسبية القيمة والثمن، حيث يكون المتوسط والمعتدل من الأسعار في أحد المكانين غير المتوسط والمعتدل من أسعارها في المكان الآخر. ثم حدد كيف يمكننا معرفة متوسط القيمة عن طريق سؤال الثقاة الخبيرين (…. وتقيس بعض ذلك ببعض مضافاً إلى نسبة الأحوال التي هم عليها من خوف أو أمن، ومن توفر وكثرة أو اختلال). ص 29
ونادى باستطلاع حالة الأسعار وسوق العرض والطلب، وتحديد غالي الرخيص ورخيص الغالي.
وبين كذلك جيد الأعراض ورديئها وبخاصة مما يكثر بيعه وشراؤه والمتاجرة فيه كالجواهر المثمنة، والدر (اللؤلؤ) والياقوت، والزمرد والفيروزج، والمرجان، والعقيق، واللازورد.
وتابع الحديث في الفصل الذي يليه عن الطيب وأوله المسك، والعنبر، والكافور، والعود، والقرنفل، والصندل والزعفران وكذلك عن السقط الكبير كالنيل (من مواد الصياغة) والبقم (خشب أحمر اللون) والفلفل واللبان والمصطكى (شجرة تستخدم ثمارها في علاج بعض الأمراض) والدارصبني (القرفا) والآل، والزنجبيل، ولزرلباد، والخولنجان، والقسط، واللاذن، والاهليلجان، والكاعد، والكتان، والقطن، والابريسم، والديباج، والخز، والديبقي (نوع من النسيج) والاوداري، واللبود، والبسط والطنافس، كما تحدث عن المعادن كالحديد، والنحاس، والرصاص، والزئبق، وتحدث عن الأقوات كالحنطة، والدقيق، والزيت، والخل، والصابون، والسكر الأبيض والأحمر، والفواكه اليابسة، واللحم والشحم، والحطب والفحم والتبن .
وخصص الدمشقي فصلاً في العقار. وهو من أفضل الأموال مع العدل الشامل، والأمن الكامل، لأنه يجر مالاً بصناعة وبغير صناعة. أما العقار المزدرع (فهو الأملاك الظاهرة. وأفضلها: ما قرب من البلاد الجامعة، وكان جيد التربة، كثير الماء، قليل الخراج، مجاوراً لأهل السلامة). ص 53
كما تحدث عن العقار المسقف ( المسقفات التي في بواطن الأرض أفضلها ما توسط البلد وقرب من الماء والسوق ومنها الحمامات والفنادق والارحيه، والدور والحوانيت. وأوضح كيفية الاحتياط في شراء الأملاك العقارية .
وفي حديثه عن الحيوان أوضح الدمشقي الصفات المحمودة في الخيل والبغال والحمير والإبل. كما حدد ما ينبغي اقتنائه من الماشية وهي البقر والجواميس والغنم والماعز والإبل السائمة .
كما تحدث في أسباب الملكية والحصول على الأموال، فأوضح أن أسباب الملكية هي إما القصد أو المصادفة. فأما ما كان من طريق المصادفة والعرض فهو كمثل المواريث عن الآباء والأهل والأقارب والخبايا التي لم يبق لها أحد وتسمى الركاز، وكذلك كل ما يأتي من الفوائد باتفاق. أما ما كان بطريق القصد والطلب فهو ينقسم إلى قسمين الأول اكتساب المغالبة وينقسم إلى جهتين سلطانية كالجبايات والمكوس والخراج والرسوم والأعشار وما شاكل ذلك، والثاني خارجية منها المعلن كقطع الطريق والمستتر كالسرقة. والثاني اكتساب بنوع من الاحتيال وينقسم إلى ثلاثة أقسام وهي إما تجارة أو صناعة أو مركب منهما.
كما أن هناك اكتساب بالأمر المركب في المغالبة والاحتيال معاً. وهي تجارة السلطان أو معاملات ذوي الجاه العريض. ص 59ـ60
وأفرد فصلاً في الصنائع فأوضح تفاضل الصنائع والعلوم. فالعلم بالصنائع والعلوم على الإطلاق حسن لكن بعضها أفضل من بعض. والطبيب أفضل من النجار من حيث المادة التي يتعامل بها كل منهما أو من حيث الغاية التي يهدف بالوصول إليها.
وقد فرق بين السيف والقلم من جهة وبين الصنائع العملية. والرياسة التي تنال بها الحال الدنيوية مقسومة بين: السيف والقلم.
رياسة السيف: هيثم الملوك الأمراء، الحجاب، قواد العسكر، شيوخ العشائر، رؤساء القبائل.
رياسة العلم : هم الوزراء، الكتاب، القضاة،، الخطباء.
أما الصناعة العملية فهي تعني (صناعة في الكف أمان من الفقر وأمان من الغنى).
كما ناقش المهن الضارة والأعمال الشاقة مثل معاناة الأشياء المنتنة والسمك والغبار ودق الكتان وحمل الأثقال وما شاكل ذلك. ص 64
وقدم لنا وصايا نافعة لسائر التجار وحدد أهم الصفات للتاجر الناجح نذكر منها:
1 ـ معرفة الغشوش.
2 ـ الحذر في تصديق السماسرة.
3 ـ الاحتراس في تصديق أحاديث التجار.
4 ـ الاستعانة بالثقاة والأعوان.
5 ـ الشراء من زاهد والبيع إلى راغب.
6 ـ الاعتدال في طلب الفائدة والربح.
7 ـ لزوم ما تحققت فيه البركة.
8 ـ المسامحة في البيع.
واعتبر أبو الفضل الدمشقي أن التجارة أفضل المعايش حيث قال: التجارة إذا ميزت من جميع المعايش كلها وجدتها أفضل وأسعد للناس في الدنيا والتاجر موسع عليه وله مروءة، ومن نبل التاجر أن يكون في ملكه ألوف كثيرة ولا يضره أن يكون ثوبه مقارباً (غير جيد). ص 69
وقد ورد في الحديث الشريف (ما أملق تاجر صدوق) (… إلا أن التجارة مع ما ذكرته من فضلها مبنية على الشدة والمصارفة والنظر في الحقير والمضايقة في الطفيف ومتى لم يكن التاجر عندهم هكذا كان معيباً). ص 70
وقد صنف المؤلف التجار وفقاً لما يلي:
1 ـ التاجر الخزان : وهو الذي يشتري الأشياء بأسعار منخفضة والتربص بها لحين ارتفاع سعرها فعليه:
ـ المبادرة بالبيع عند التنبؤ بانخفاض من الأسعار،
ـ تجزئة الشراء،
ـ أخذ البضاعة في حال كسادها ورخصها،
ـ أن يتأمل أحوال السلطان أكان عادلاً أم جائراً،
2 ـ التاجر الركاض: وعليه التبصرة والاحتياط، ويستحب له اصطحاب رقعة بأسعار جميع البضائع التي يتعامل بها.
3 ـ التاجر المجهز: كالوكيل المجهز.
وطالب أيضاً بالتحرز من خطر المطمعين والمزيفين، وكذلك التحرز من المبرطحين (وهم من شر الخونة) والمحتالين خوفاً من النصب والاحتيال. وطالب أيضا بالتحرز من أهل الربا(الذين يصيدون الدنيا بالدين).
وأوضح أن حفظ المال يحتاج إلى خمسة أشياء:
1 ـ أن لا ينفق الإنسان أكثر مما يكسب.
2 ـ أن لا يكون ما ينفق مساوياً لما يكسب.
3 ـ أن يحذر الرجل من أن يمد يده إلى ما يعجز عنه وعن القيام به.
4 ـ أن لا يشغل الرجل ماله بالشيء الذي يبطئ خروجه عنه.
5 - أن يكون الرجل سريعاً إلى بيع تجارته بطيئاً عن بيع عقار وإن قل ربحه بالتجارة وكثر في بيع العقار.
أما إنفاق المال فينبغي أن يحذر فيه خمس خصال:
1 ـ اللؤم: الإمساك عن أبواب الجميل.
2 ـ التقصير: التضييق في مصالح العيال.
3 ـ الإسراف: الانهماك في اللذات واتباع الشهوات
4 ـ البذخ: أن يتعدى الرجل ما يتخذه أهل طبقته.
5 ـ سوء التدبير: أن لا يوزع نفقته في جميع حوائجه على التقسيط والاستواء.
كما تحدث عن تنظيم الإنفاق العائلي والاحتياط في الشراء والإنفاق، وحث على الأخلاق المحمودة والقناعة. وأوصى بطلب العلم (حيث أوصى بعض الحكماء ولده فقال: يا بني عليك بطلب العلم وجمع المال فإن الناس طائفتان خاصة خالصة وعامة رعاع. فالخاصة تكرمك للعلم والعامة تكرمك للمال. واعلم أنه قل شيء لم يزدد إلا نقص والنقصان يلحق الكثير كما تلحق الزيادة القليل). ص 85
وأكد على إنفاق المال في أبوابه، والمال تخربه المعصية.
وقال أحدهم ( لو أن لي ألف دينار ولي بعير أجرب لقمت عليه قيام من لا يملك شيئاً غيره. ولو أن عندي عشرة دراهم لا أملك غيرها ولزمني حق لوضعتها فيه). ص 90
وأضاف أن تثمير المال آلة المكارم وأكد على حسن تدبير المال، وناقش موضوع تنظيم المالية العامة.
وحدد أن اكبر آفات المال شيئان هما:
1 ـ أن حق المال الأنفاق وأن مالكه إن لم يصرفه فيما تتطلع نفسه إليه من شهواته في حياته وإلا حظي غيره بما بقي منه بعد وفاته.
2 ـ ما يرجوه من سرعة الخلف في إنفاقه.
وقد ورد في دائرة المعارف الإسلامية حول كتاب الإشارة إلى محاسن التجارة: أن الدمشقي كتب فيه:عن التاجر وعن بضاعته، وميز بين أصناف التجار فذكر الخزان أي تاجر الجملة والركاض أي التاجر المتجول أو المستورد والتاجر المجهز أي المصدر، كما تحدث عن الوكالات التجارية. حيث يجب على المجهز (المصدر) " أن ينصب له في الموضع الذي يجهز إليه وكيلاً مأموناً يفيض البضائع التي يصدرها إليه ثم لاينفذ بضاعة إلا مع الأصحاب الثقات الذين يدعونها ويتولى هذا الفايض بيعها وشراء الاعواض عنها وله حصة في الربح" كما ناقش مسائل الاقتصاد النظرية كتحديد الأسعار في السوق ومتوسط السعر والقيمة والنقود وغير ذلك.
الدكتور مصطفى العبد الله الكفري
جامعة دمشق - كلية الاقتصاد
[email protected]