أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - علي ثويني - علي الوردي والحاجة لعلم إجتماع عراقي*















المزيد.....


علي الوردي والحاجة لعلم إجتماع عراقي*


علي ثويني

الحوار المتمدن-العدد: 2213 - 2008 / 3 / 7 - 09:21
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


فقد عالم الثقافة والتنوير في نهايات القرن العشرين وخلال خمسة أعوام علمين عالمين، تركا كل منهما الأثر والفائدة ، بحسب إجتهادة في قراءة المجتمع العراقي. وهما العراقي علي الوردي(1913-1995) والفلسطيني الأمريكي حنا بطاطو(1926-2000).وقد أثر غيابهما في دفق مشروع التنوير الإجتماعي العراقي والعربي ، وتركا فراغا لايرتق بسهولة كما هو حال مشاريع التاريخ الإستثنائية التي تشكل القاعدة.
ويكمن الحنين الرجعي لآرائهما الحاجة لهما في تفسير ما آلت إليه أحوال العراق الحالية و إيجاد تأويل لخروقات التشرذم و تقاذف المصالح والأهواء وطفوح الغرائز وسطوة الأنانية للأفراد والجماعات متحججة بواه الأمور. و يتراكب الأمر مع تأسينا على حالة ضياع غير متوقفة النكوص أو عابئة بوزن العراق وقيمته في التاريخ والمنجز، مع خيبة أمل بصنع نخب وطبقات للوعي الواعد تداني ما بنيناه قبل ألف عام ونيف وتجسد في حركة المعتزلة أو صفوة أخوان الصفا.
أن علم الاجتماع(سوسيولوجي )من العلوم الجديدة نسبيا في منظومة العلوم الإنسانية المعروفة اليوم، ولا يتعدى عمرة أكثر من قرن ونيف في الغرب. لكن عندنا كان أثره أعمق وريادي بالرغم من عدم أخذه بالحسبان في سياقات المركزية الغربية ،ونجد له شطط الإلتفاتات في التراث الإسلامي عند الجاحظ والتوحيدي وغيرهم، بيد أنه لم يرتقي الى تجميعه في نظرية تفسر على ضوئها كل ظواهر الحياة البشرية. وتجسد تباعا كعلم قائم على يد المغاربي عبد الرحمن بن خلدون (1333-1406م) ،الذي أسماه حينئذ(العمران). وفحوى النظرية وجدت منسية فيما احتواه المجلد الأول من سرد تاريخي، و دعى "المقدمة". وكانه قد أعلن نهايات المد التصاعدي للفكر الإسلامي ودق ناقوس خطر الجمود والنكوص الذي سيحل منذئذ حتى أيامنا الراهنة.
لقد خط كتابه هذا في ستينيات القرن الرابع عشر ببيت حجري في قرية جبلية وادعة رابضة على ربوة تدعى قلعة بني راشد تقع على مقربة من مدينة تلمسان الجزائرية اليوم ثم طورها عضويا وحسن في أدائها حينما عاش في مصر آخر 28 عام من حياته الزاخرة بالتقلبات والمغامرات والتجريب، و نجد تحليل لهل لها في كتاب الوردي(فلسفة إبن خلدون).ومن محاسن منهج إبن خلدون أنه نقل مبدأ (السببية) أو العلة والمعلول من عالم الفلسفة الى عالم التاريخ بما يخص دور الفرد والجماعات الإقتصادية فيه،بما فتح له أفق جديد أمسى بعد سياقات التوسع والشجون علما جديدا أرساه وتناساه من تلاه . فالتاريخ لأبن خلدون كان محض ترابط وتشابك في الزمان والمكان وارتباط بين علة ومعلول. وليس حوادث ووقائع إعتباطية منفصلة عن بعضها البعض. وبعبارة أخرى فأن ابن خلدون رأى بأن التاريخ (في ظاهرة لايزيد على أخبار" الأزمنة الماضية. ولكن "في باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق).
إن هذه المنهجية في كتابة التاريخ لم تكتسي أهمية في حقب الطغيان والسلاطين ومماليك الظلام ،ثم حدث أن أعاد لها الإهتمام لفيف من المستشرقين إبان تحضيرات أهل الغرب للوثوب على بلدان الشرق بما دعي بـ (الحقبة الاستعمارية) . ووردت في الغرب بثلاث قراءاتٍ لابن خلدون منذ اكتشافها: قراءة فقهية لغوية انطلق بها الفرنسي سيلفستر دو ساسي عام 1810 لدى تقديمه مقتطفات من (المقدمة) أثارت في حينها الدهشة والإعجاب في كل أوروبا حتى اكتشاف الجانب التاريخي من كتابات ابن خلدون، لدى إصدار المستشرق شولز عام 1828 فصلاً من (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر من أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر) بما يتعلق بتاريخ الشعوب البربرية، ما حوّل الاهتمام عن (المقدّمة) في اتجاه نصوص ابن خلدون التي قارب فيها تاريخ أفريقيا الشمالية والأندلس وصقلية. لم يُستخدم هذا الكاتب كمرجع تاريخي أوّل حتى نهاية القرن التاسع عشر فحسب، بل أمسى مرشدٍ لكتابة التاريخ السياسي والثقافي للدول الإسلامية عموماً، ولأفريقيا الشمالية خصوصاً. ولكنْ مع بداية القرن العشرين، تقدّم الجانب الإجتماعي والأجناسي(الأنثروبولوجي) من كتاباته على الجوانب الأخرى، فاتجهت الأنظار من جديد إليها ، حتى أخذت تباعا مكانتها داخل (الفكر الشمولي) بينما وصف صاحبها (بالعقلاني) و(الحديث) ونُظر منذئذ إليه كأحد روّاد العلوم الاجتماعية.وتلك العلوم كان نصيب المدرسة الألمانية فيها هو الأوفر، متماهيا مع حقبة الأنوار ومدارس الفلسفة وحمى إعلان النظريات. ثم تلقفها أصحابنا تباعا وقلبوها بحثا دون كثير أثر أو موائمة مع الحاضر بالرغم من قربها الزماني ، فتحيز وغالى منهم وأنصف من أنصف . لكن وبالمحصلة ظهرت لنا مجموعة من الرؤى والتيارات ، تنحى كل منها منحى تفسيري لتطور المجتمعات .
لقد جلب علم الاجتماع الاهتمام حتى تآصر مع منظومات العلوم الأخرى التي تقبلته مستأنسة به،وأنسجم وأفاد في قراءات السياسة والإقتصاد والعمران والنفس. وأولت المجتمعات الغربية إهتماما لهذا العلم المتصاعد،وأمسى يداني العلوم الراقية مثل الطب والهندسة .لذا فأن إختيار المرحوم علي الوردي لهذا العلم كان لبابة وريادة ووسع إطلاع أرتقى فوق مستوى إدراك المجتمع العراقي في أربعينات القرن العشرين.
ومكثت مصادر هذا العلم ونظرياته غربية مترجمة الى العربية، حتى ظهرت كتابات الوردي إبتداءا من بدايات الخمسينات،ثم تصاعد الأمر وساهم بعض الغربيين الموفدين مخصوصين أو الباحثين المهتمين الطموحين في دراسة المجتمع إستنادا على النظريات الغربية التي مكثت بعيدة عن ملموس الخصوصية للمجتمعات الشرقية عموما،والعراقي على الخصوص،و الذي نقر بأنه يختلف حتى مع جيرانه في الشام والجزيرة وفارس من العرب والعجم، لأسباب تحتاج الى سرد.وبذلك فأن مساهمة الوردي كانت ريادية حتى في الثقافة العربية إجمالا.
ويبدو أن طروحات الوردي" المشاغبة" أمست مثل حجر حرك بحيرة ساكنة أو كأنها صفعة أفاقت مترنح، فحركت عقول جيلي الخمسينات والستينات.، وأتذكر بأن الشباب اليافع في الستينات بين أعمار(16-20) عام ،و كنت صغيرا استمع لأحاديثهم منبهرا ،وأنصب في جوهره على سجالات تلك الفترة المحتدمة بالإنتقالات من التوفيقية للجذرية(الراديكالية) ومن الدعة الى(العنتريات) ، بما يعني أثره العميق في حركة الوعي للعقود التي تلت الحرب العالمية الثانية.وأتذكر في تلك الشجون سجال محتدم نشب بين شباب بهذا العمر كانوا يتجمعون قرب بقالية والدي، كان موضوعها هل الإنسان مسجى على تفضيل مصلحته الذاتية على الموضوعية أم العكس، وكان كل شاب يعطي دليلا ومثالا معقولا أبهرني حتى حرت بأيهما أقنع بالرغم من أني لم أكن أفهم الكثير من المفردات الطنانة المتطايرة بين الأفواه والمسامع. وأقر هنا بأني لم ألتقى مثل هذا الإرتقاء الحواري في كل الأجيال التي تبعتها، ولاسيما بعد سنوات المسخ البعثية التي قوضت معنية أو مغفلة ذلك الدفق الجامح للعقل والوعي،فأوصلت "ونحن شهود عيان اليوم" المجتمع العراقي الى محض رعاع تائهين ومتناحرين وعصابات(علي بابا)، لايجتمعون على سجال أو حوار أو رأي، يعين على إمتصاص حماسهم ويحثهم على التفكير المعمق ويرتقي بنوعهم، وهذا مافعلته حركة الوردي الفكرية.
لقد تبارت الكتب بعدد ونوع من يلتهمها لهما، فكانت الغلبة لكتب الوردي ، ليس لكونه عراقي محض وقريب من هواجس الناس ومن طبيعة أسلوبه السردي الممتع ولغته المبسطة المفهومة لكنه كان دقيق الرصد وعميق التحليل ومتسقط العلة قبل المعلول والمضمون قبل الشكل والوسائل قبل الغايات.كل ذلك جعله مقروءا من قبل جل الطبقات والأطياف الفكرية ،بالرغم من منهجة البحثي ومن عدم مداهنته أو موالاته لأي قوى متسلطة في تلك الحقبة من محافظة ملكية أو دينية طائفية أو متنورة أو قومية عروبية او كرودية أويسارية وليبرالية.
وعلى خلاف حنا بطاطو الذي ضن الكثيرون انه عراقي بسبب مؤلفاته التي ترجمت الى العربية كمساهمة غربية في دراسة المجتمعات العربية ومنها العراقي . ولا يعرف جل المطلعين كون الرجل فلسطيني من أب مقدسي عربي وأم أمريكية وخلفية دراسية ونفسية أمريكية . وأعتمد بطاطو في تأويلاته على نظريات غربية محضة ومنها الطبقات الاجتماعية وماهيتها ، و كتب عن الحركة الشيوعية في العراق وكان ناجحا الى حد بعيد في مسعاه ، حتى أضحى المرجع الموثوق والمحلف لدى كثير من الباحثين في تاريخ الحركة الشيوعية أو الحركات السياسية في العراق المعاصر.و كرس جهوده على مبرر ظهور الحركة الشيوعية في العراق وسبب غنى رصيدها ومدها وسطوتها الواسعة خلال سنوات الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، ثم اقتفى أثرها داخل ثنايا طبقات المجتمع العراقي و"محلات" مدنه وإجتهد أن يجد لها عللها بعلمية ومنطق لبيب .ولم تترجم له أعمال جيده مثل أطروحته للدكتوراه عام 1960 من جامعة هارفرد كان عنوانها : " الشيخ و الفلاح في العراق ، 1917 - 1958 " The Shaykh and the Peasant in Iraq, 1917-1958.ويبدو انها لم تهم النخب والسلطات كثيرا بالرغم من أهميتها.
وتشعب الإهتمام الغربي ورام قرائتنا من الداخل بنزعة(واقعية) ، مع حمية أملتها المنافسة بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي إبان(الحرب الباردة) التي سقنا إليها كالأنعام دون وعي .وهنا نشير الى أن التوجهات الشيوعية في عراق تلك الحقبة كانت غالبة ولها أسباب ملموسة تبحث على حدة، لكن ولهذا السبب او غيره كانت خسارتهم مدوية تباعا، بسبب نزقهم وغفلتهم و عدم وعيهم لبواطن الصراع العالمي ووضع بيضهم في سلة واحدة.
لقد أهتم الأمريكان بدراسة العرب والعراقيين في الخمسينات، وإذ أسوق لكم مثال وجدته بالصدفة لدراسة أقامها إجتماعي أمريكي يدعى (مالكوم كوينت Malcolm N. Quint) كتبها على ضوء تجربته بين أعوام (1956-58) وهو يعايش فلاحي قرية نائية تبعد 65 كلم شرق مدينة العمارة، ضمن هور الحويزة تدعى (أم نهر) . والدراسة أنصبت على موضوع مفهوم التقدم(idea about the progress) وما يحلمون به عاثري الحظ والمتمرغين بالفاقة والتهميش، من تحسين لأوضاعهم المعشية ، ومقارنة المعطيات مع ما يشيعه المتفذلكين المتبغددين في سلطة بغداد . ويبدو أن التحضيرات للإنقضاض على العراق عام 2003 لم تكن محض صدفة وأحجية سلاح الدمار الشامل أو صدام حسين..الخ ، بل هي محض تداعيات لنفس طويل تعاضده بحوث وقراءات وخطط على مستويات ثلاث ،يكون مركزها وميزانها الجانب الإجتماعي الفاعل في كل معادلة. وهنا لا نبالغ إن قلنا بأن ما حدث بعد 1963 ومنها وصول البعثيين الى دست الحكم، وتقويض الشيوعية على مرحلتين(63-73)،والرخاء الإقتصادي المفتعل في نهاية السبعينات، ثم حروب الخليج العبثية ثم إنفراد الأمريكان كقطب واحد في عالم السطوة والجبروت وقمع إنتفاضة العراقيين عام 1991، والحصار الظالم على الشعب العراقي والتجويع المتعمد الذي كانت خاتمته إحتلال أمريكي سافر وكافر كان من السهولة والسذاجة وواه المبررات ما لا يمكن أن يستوعبه عقل اللبيب ولاسيما العراقي الجدلي،ولو كان قد حدث عام 1960 لهب له العراقيون ذائدين عن ديارهم ولكانت خسائر الأمريكان أكبر من فيتنام، ولكن لم يكن البعثيون أرحم على العراقيين من الأمريكان وإحتلال بعثي أو أمريكي سيان، فسلموا أمرهم لله الواحد القهار. كل تلك الأحداث المتراتبة لم تأتي من فراغ ورجم بالغيب وضرب بالرمل، بل من خلال دراسة متأنية منهجها علمي وآلياتها إجتماعية ونتائجها تدلل على مسارها.
يعود الفضل للدراسات الإجتماعية في إماطة النقاب عن خصوصيات المجتمع العراقي، ولا يمكن أن تنأى عن الخط الذي سلكه المستشرقون في دراساتهم سابقا ،كما كان الحال مثلا مع المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون(1883-1962م) الذي أسهب البحث في الفرق والملل الإسلامية والحركات السرية فيها، وكتب عن الحلاج ووطأا أروع الفتوح البحثية حتى كنّى (توأم الحلاج) . ولكن وبالنتيجة كان كل ذلك يخدم الأغراض إياها، ولا نغالي أن ذهبنا الى أن التناحر الطائفي في العراق اليوم يمت الصلة مشيميا بذلك السياق البحثي التراتبي.
وهنا جدير أن نرصد بأن لا يمكن الحدس بمدى علم ماسينيون نفسه بمن حصد زرعه وجهده ،والأمر ينطبق على الوردي وبطاطو ،وهل كانوا يعون من سيستفيد من دراساتهم؟. ويمكن أن نتذكر في ذلك السياق مقولة موشي دايان حينما سؤل عن خطورة نشر مذكراته بعد حرب 1967 بين العرب وإسرائيل،و عدّوها نقاده كشف لبعض أسرار العسكر،فأجابهم بسخرية: (العرب لا يقرءون).ونخلص الى أن من وصل بر الجهد العلمي قبل غيره فاز به، ومن قرأه بتأني ورجاحة فقد "فتح طاقة ليلة القدر" عليه. وبذلك أضاع العراقيون جهد الوردي، مثلما أضاعوا جهود غيره .
لقد كان الوردي جريئا بنقده المجتمع العراقي ،وتداعى الأمر أن يتحالف ضده الجميع ،وللطرفة نقول لو كان قد عاش حتى أيامنا الحاضرة للقى حتفه على يد إحدى المليشيات أو الأحزاب المتناحرة التي تؤل الأمور بحسب أهوائها ومصالحها،مثلما تعرض لهدر دمه على يد فتوى من الشيخ الخالصي في الكاظمية وحلت بالتراضي في حينها. ونذهب هنا الى أن طروحات الوردي كانت كالصفعة المصحية لمترنح أو سكران أو نائم. و وقف من جراءها ضده كل هؤلاء الغافين من ماركسيين وشيوعيين ومتدينيين وطائفيين وقوميين وحتى الليبراليين.وهكذا كثر خصومه وضعفت قواه ثم خارت ،وأنحسر وأفل وترك الحلبة لمن صال وجال كما كانت ثقافة خير الله طلفاح ثم جيل مكتشفي عقاري(صدامين وبكرين)، ولم يتبوأ الوردي ما يليق به من منزلة يستحقها.
وبالنتيجة أغلقت منافذ تهوية الوعي وشاعت الشمولية وإحصاء الأنفاس على الناس،و كان العراقيون من السذاجة بحيث انطلت عليهم كل المهازل ، ونجح الطغاة في ترويضهم . ولجأ "التراثيون" يستنهضون الهمم من خلال طرق مكارم التراث ،وإيمانهم راسخ بأن لايمكن إنشاء بناء إلا على أثر وأساس ينقى من الشوائب والخزعبلات، كي يرسخ عليه البنيان الجديد.وبالمقابل مكث المتفذلكين من النخب يأتون لنا بمسميات طنانة لتيارات وشخوص ما أنزل الله بها من سلطان، إلا من أجل الإيغال في النأي عن العامة،ولكي يمكثوا في أبراجهم العاجية ،شامتين فارزين أنفسهم عن الجموع والأهم غير عابئين بما نعانيه ،وربما راقصين على جراحنا ومستثمرين مواهبهم البهلوانية في إقتناص الفرص قبل أن تصلنا.
إذا كانت لوميض الفكر من تأثير في أحداث التاريخ كما كان مونتسيكيو في إشعال الثورة الفرنسية أو الرعيل الثوري الذي أجج الثورة الروسية فأن أفكار علي الوردي قد أينعت بأقل من عقد ،وكانت الشرارة الفكرية وراء إنبثاق ثورة 14 تموز1958 ، حينما تيقن عبدالكريم قاسم ورعيله، أن لا طائل في معالجة بداوة السلطة سواء كانت عروبية أو تركية أو كردية التي سخرت أحاجي قومية وطائفية وحرمة بيوتات واهية تتداول وتتحاصص نصاب السلطة والإمتيازات بينها ،من خلال عملية إصلاح ترقيعي ورجاء ودعاء بالتغيير.فتيقن هؤلاء أن الأمر محوج لعملية إستئصال وتغيير شامل يؤسس لقاعدة اللابداوة والشروع بإرساء دولة المواطنة التي تساوي بين الرؤوس وتنتصر للمنحوس وتشيع التكافئ بالفرص وتسعى للبناء الحضاري وتكرس الشعور بالانتماء للوطن الواحد وتلغي الانتماءات الهامشية والدونية المستشرية. و ها نحن نأن اليوم من ذيلية وتشرذم وأنانية النخب ، الذي لا ولن يمكن أن يؤسس لدولة راسخة .
وعلى خلاف ذلك فأن ما حدث من ردة على ثورة تموز في 8 شباط1963 فأننا نعزيها الى قراءات حنا بطاطو ونتاج لها، رغب في ذلك الرجل أم أبى ، أغفل أم أستغفل، فبالنتيجة فأن معطيات دراسته لمعطيات المجتمع العراقي وظفت على أحسن صورة من قبل أجهزة المخابرات الأمريكية في إيصال البعثيين و القوميين العرب والأكراد"قبل أن ينقض العرب على الأكراد" الى سدة الحكم من خلال موازنة ضبط من خلالها طبيعة الطبقات وصراع النخب وحيثيات الإنتماءات الصغرى ومدى إمكانية تقديم تنازلات من الفئات والمكونات التي تستعمل وتروج لصفاء دماء القوم أو دينهم أو مذهبهم أو طبقاتهم من أجل مآرب سياسية غاياتها تبرر وسائلها حتى لو اقتضى الأمر الوصول(بقطار أمريكي) كما كان الحال مع البعثيين. وهكذا تم تعاون المصالح الآنية على الدائمة من خلال نزق تاريخي استعملت به البداوة مطية. وفي ذلك حديث نسرده في الفصل الرابع بما يتعلق بسمات البداوة في السلطة وما حدث في شباط 1963.
يجب الاعتراف بأن النخب العربية عموما والعراقية على الخصوص تمادت أو غرر بها حتى شطحت بعيدا عن مجتمعاتها وتبنت طروحات جاهزة لعلماء الإجتماع الغربيين ، التي شذ عنها الوردي حينما طرق فكر إبن خلدون،بما ألب عليه تلك الصفوة المتفذلكة . وسمعنا طحنا ولم نأكل خبز هؤلاء الذين لم يجتهدوا في شرح خصوصيات الأمور بما أستأنسوه بعمومياتها فالموائمة للنظريات والإستقصاء والتحليل والإستنباط يمكث أصعب من النقل الببغاوي المستشري. ولم نلمس من هؤلاء تبسيط للأمور وهي مزية تكبر على حفظهم للأسماء الطنانة أوالتشدق بها،وهنا نقر بأن لاقيمة للفكرة أن لم تجد لها وسيلة للشرح والإيضاح والموائمة والإفادة للآخر،ولاقيمة لمن يفكر دون أن يدون أو يرسم أو يبين فكرته للآخرين .
وهكذا مكثت النخب في برجها العاجي بعيدا عن بر الجموع ولم تجس هموم الناس ، وجسدوا بذلك مفهوم "ثقافة الصفوة" التي تقع على النقيض من ثقافتنا المسترسلة من سومر حتى الإسلام وتميزت دائما بمشاعيتها(جماهيريتها mass)،وهو ما أدى الى قطيعة جعل النخب تندب حضها العاثر وتشق جيبها على تخلي الناس عنها،فقد تركتهم الجموع عند ساعة الحقيقة والإنقلابات التاريخية الكبرى، وتبعوا أثر ذلك "روزخون" أو شيخ جامع لايفقه شئ أو سياسي ساذج. كل ذلك زاد الفجوة وكرس القطيعة "النخبوية" وأشاع "حوار الطرشان" بين النخب و المجتمع .لقد كان الأجدى بالنخب أن تتلمس هموم الناس وتجس مفاصل العطب ،وبحث أسباب تسلق قمة هرم السلطة والمجتمع رهط من الأفاقين والمغامرين والطغاة والفساق.
ثمة حاجة ماسة لأحياء ماكتبه علي الوردي من باب حث النفوس على قراءة متأنية وعاقلة للأمور،والأمر نابع من إيماننا بأن العراق البشري وليس الجغرافي هو بلد فسيفسائي الأصول والفصول، فلا تفاضل أو إمتياز لأصل ولون عن آخر إلا بالولاء والإنحياز الإيجابي للبلد وأهله ومصلحته. ولاضير في هكذا إختلاف ، فموقع تلك الواحة الغناء وسط هضاب ووهاد جعل أفئدة البدو المحيطين بها تهفوا إليها متطلعة للإنقضاض أو الهجرة أو خطب الود ،وأمسى من جانب آخر ساحة وغى للمتناطحين المتنافسين والجبابرة فأتوها من الصين وآسيا وفارس واليونان والجزيرة واليمن وأخيرا من بريطانيا و أمريكا النائيتين، وهو أمر طبيعي في السلوك الإنساني ،فلا يمكن أن يهرب العراق من محيطه البدوي العربي والفارسي والتركي والكردي والمغولي ، أو يمنع عنه من يطمع به حتى من آخر الدنيا . أجدر بنا اليوم الإقرار بأن سكان العراق محض هجين جميل وبوتقه زجاجية مرهفة لتصاعد النوع الأجناسي بين تلك الآرومات البشرية ،التي يحتمل أن تتهشم في لحظة دعة وغفلة أو عفن أوترهل يصيب بنيتها أو زيت يصبه طامعين على نارها.لكن وبالرغم من كل مناخات التاريخ وكثرة الإنكسارات والإحتلالات نقر ودون مواربة نصاب أن العراق يمكث واحدا الى ما شاء الله.
إن قراءة علي الوردي في سياق قراءة إبن خلدون تصب في غايات وضع اليد على المسببات والتي تكشف العلة وتساعد في رسم منظور للعلاج. ومن هنا فان المستقبل يمكن التنبؤ به استنادا الى حوادث وأخبار الزمن الماضي ومدى صلتها مع زمننا الحاضر من خلال النهج العلمي في الفحص والتحليل وردها الى عللها وأسبابها القريبة والبعيدة ودون خشية أو مداهنة ومحاباة لأحد. وهنا يجدر الإقرار أن فكر علي الوردي كان يمثل مرحلة وأساس معرفي لايمكن البناء بدونه أو تحاشي الأخذ به،وهو يكافئ جهد جماعي لجيل متنور مضى. لكن يجب أن لايعد نهاية مطاف ومحصلة فكر،بل هو مشروع في بداياته وإلتفاته وإنتباهة تحضر لمنظور قادم الأيام.
وكما بنت الصين وأحتوت هجمات المغول المدمرة وروضتهم وأمست مقبرة لرعيان آسيا،فأننا نروم من خلال النشر والتوعية بناء سور لنا ليس من الحجر الزائل المتهدم، بل من الروح والوعي وسمته سمو الإرادة وقوة النفس ، والإعتداد بالذات المهلهلة لكي ترتقي وتعتد وتتصاعد،و سيقف حيال النكوص والإبتذال والشرذمة و الإنتماء للآخر الواه.

* هذ المقال ديباجة كتاب سيصدر في بغداد(علي الوردي والمشروع العراقي) ضمن سلسلة كتاب المشروع العراقي لدار ميزوبوتاميا للنشر.



#علي_ثويني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محاضرة عن السلم المدني العراقي في ستوكهولم للباحثة بسعاد عيد ...
- ما لم يقله علي الوردي في 8 ‏شباط‏ 1963
- كلاب بافلوف والكلاب العراقية-الحلقة 5- الأخيرة
- كلاب بافلوف والكلاب العراقية-الجزء4
- كلاب بافلوف والكلاب العراقية.الجزء الثالث
- كلاب بافلوف والكلاب العراقية- الجزء 2-5
- كلاب بافلوف والكلاب العراقية- الجزء15
- عمارة البيوت في سياق الثقافة الكردية
- حينما غنوا القوميين الأكراد: يا أهلا بالمعارك
- العمارتان العراقية و الفارسية..مدخل مقارن في الريادة والإقتب ...
- ماذا جنى العراقيون من التشيع والتسنن؟ الجزء3- الأخير
- ماذا جنى العراقيون من التشيع والتسنن؟الجزء3- الأخير
- ماذا جنى العراقيون من التشيع والتسنن؟ الجزء2- من ثلاثة أجزاء
- ماذا جنى العراقيون من التشيع والتسنن؟ الجزء1- من ثلاثة أجزاء
- بلاد مابين الفدرلة والفرهدة
- 30 تموز..الأمريكان والبعث وصدام.. خصام أم وئام
- ثورة تموز... رؤية متروية بعد الحول التاسع والأربعين
- وزراء البيشمركة وعودة الى لعبة الحرب بالنيابة
- خان مرجان وعمارة الرمق الأخير في بغداد الجزء22
- خان مرجان وعمارة الرمق الأخير في بغداد-الجزء 1-2


المزيد.....




- الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج ...
- روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب ...
- للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي ...
- ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك ...
- السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
- موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
- هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب ...
- سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو ...
- إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - علي ثويني - علي الوردي والحاجة لعلم إجتماع عراقي*