طوال القرنين الماضيين دخل التاريخ البشري مرحلة جديدة عنوانها احترام حقوق الإنسان كهدف رئيسي تسعى للوصول إليه جميع شعوب العالم، التي تفاوتت في درجات تطورها الديمقراطي، وشهدت انتكاسات لم تؤثر على مسار التقدم نحو حياة أفضل في ظل أوسع الحريات، بحيث أصبحت الديمقراطية قانون العالم المعاصر ومقياساً لتقدم الأمم لا يمكن لأحد أن يستمر طويلاً في الخروج عليه، فحيثما تفتقد الديمقراطية لا يمكن لإنسانية الإنسان أن تتحقق.
في هذه المسيرة العالمية تأتي الدول العربية في مؤخرة الركب، فمعظم حكوماتها سلطات اعتمدت القوة العسكرية والأمنية أو شرعيات مدعاة لملكيات مطلقة قديمة، للاستمرار في الحكم لعقود طويلة، ولرفض أي اعتراف بسيادة الشعب كمصدر للسلطات. إلا أن الأمر بدأ يخرج من أيدي الأنظمة الاستبدادية العربية التي لم تعد تستطيع تجاهل التطور الديمقراطي في العالم، وبعد أن سقطت المبررات والحجج لتأجيل الديمقراطية وحقوق الإنسان، كأولوية الأخطار الخارجية، أو أولية الوحدة وأحياناً الاشتراكية أو التنمية، فانتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي وبدء الإدارة الأمير كية حربها على الإرهاب، أدى لرفع الغطاء عن الحكام الديكتاتوريين العرب، وانكشاف الديمقراطية المزيفة المقامة بالاعتماد على مؤسسات وانتخابات تتحكم بها السلطات المطلقة، وتهاوي النظريات حول ديمقراطية تتلاءم مع خصوصية عربية مفترضة، فالخصوصية ليست في أسس الديمقراطية بل في سبل الوصول إليها، فهي عملية تطور سياسي واجتماعي لا يمكن أن تتحقق بقرار، بل بعملية تدرجية تراكمية مع اختصار الزمن بشكل كبير بالاعتماد على الخبرة العالمية.
يمتلك العراق في وضعه الراهن فرصة لم تتوفر لمجتمعات عربية أخرى، هي انهيار السلطة الديكتاتورية بأجهزتها القمعية والأمنية والعسكرية والإدارية وحزبها الواحد، وتحولها إلى ركام ذكر البعض بوصية ماركس حول التحطيم الكامل لآلة الدولة القديمة البرجوازية كشرط لإقامة سلطة الطبقة العاملة. إلا أن تحطم النظام السابق غير كاف لوحده لبدء عملية الانتقال للديمقراطية، وليس إقامة نظام ديمقراطي كامل - وهو وهم روج له محبذون و معارضون لما سمي الديمقراطية القادمة فوق الدبابات - لا يمكن الوصول إليه إلا بعد تطور طويل ينشأ ثقافة ديمقراطية واسعة الانتشار، فرغم تأسيس عشرات الأحزاب والصحف والمجلات ونشر وسائل الاتصال الحديثة وتوفير حرية التعبير لمسيرات سلمية، فإن معوقات عديدة تعترض المسيرة العراقية نحو الديمقراطية، لا بد من وضع الحلول المناسبة لها.
أهم هذه المعوقات العنف الذي تمارسه منظمات أصولية آتية من الخارج بالإضافة لفلول النظام السابق التي تسعى لاستعادة سلطتها، فعملياتها المسلحة تحولت في معظمها إلى حرب على العراقيين أكثر منها على الأميركيين، ستؤدي لتمديد فترة بقاء قوات الاحتلال وإعاقة عمل الحكومة الانتقالية من اجل الديمقراطية. ما هو مهم هنا أمن المواطن قبل أمن النظام، المعتمد على وسائل قانونية وليس قمعية، وهو ما يفترض نقل الملف الأمني للحكومة الانتقالية وإنشاء قوى أمنية وعسكرية جديدة تحدد مهمتها قوانين ولوائح تحصرها في حماية أمن المواطن ومنع أي تدخل لها في الحياة السياسية تحت طائلة القانون، وتحريم خوضها لحروب إلا دفاعاً عن حدود الوطن، وبناء سلطة قضائية مستقلة تأتمر بالقانون وليس بالسلطة التنفيذية، تكون من مهامها الأولى إجراء محاكمات تتوفر فيها كافة شروط المحاكمات العادلة، لقيادات النظام السابق المتهمة بارتكاب جرائم بحق الشعب.
ويرى البعض في التعدد القومي والديني والمذهبي والاجتماعي، عقبة أمام التحول الديمقراطي، بينما يراه آخرون ميزة للتنافس والإبداع في نظام يمثل جميع مكونات المجتمع، إلى أن تتطور العملية الديمقراطية لتولد مواطناً واعياً يعطي الأولوية لانتمائه العراقي على انتماءاته الطائفية والقومية والعشائرية، فالتحول الديمقراطي يطلق صراعات بين قوى ومفاهيم ومصالح متنوعة، ولكن يوفر في نفس الوقت مجالاً سلمياً لضبط الصراعات بالقوانين وليس بالقمع، ومن ضمنها قوانين تتصدى للنزعات الضارة للتمييز الطائفي أو القومي. وإذا كان حل مسألة التعدد القومي بالفيدرالية، فالعلمانية شرط لنظام ديمقراطي يؤمن المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، أما الدعوة لحكومة دينية فلن تلقى نجاحاً، والخلط بين الدين والدولة يسيء لكليهما، والفصل بينهما لا يلغي الدين بل يحرره من سلطة الدولة ويضمن الحرية الدينية الكاملة للجميع، كما أن قوانين المجتمع وأنظمة الحكم هي من صنع الإنسان الأدرى بشؤون دنياه. والنظام السياسي الديني ليس حلاً بل أزمة جديدة تستبدل الاستبداد السابق المتخفي وراء أيديولوجيا قومية أو اشتراكية، باستبداد ذو مرجعية أيديولوجية مقدسة.
ومن أهم معوقات نجاح التجربة الديمقراطية في العراق، تركة النظام السابق من الخراب في الوعي الثقافي والسياسي والاجتماعي، فأجيال عراقية عديدة تربت على الخوف من السلطة والسياسة والآخر، وتعودت على معاملة همجية من السلطة، مما اضطرها للاحتماء بثقافة تقليدية مستمدة من الدين أو من العادات العشائرية، والتمسك بعقلية ثقافية واجتماعية متأخرة لا تتناسب مع العصر، وانعكس ذلك ضعفاً عاماً في القوى السياسية والنخب وغياب تقاليد العمل الديمقراطي. وأحد أهم الحلول نشر الثقافة الديمقراطية بشكل واسع، وهي مهمة الأحزاب القديمة والجديدة، لغرسها في الأوساط الشعبية، والعمل لتوفير كافة الظروف التي تسمح بعودة الطبقة المثقفة العراقية التي تشتت معظمها في أرجاء العالم هرباً من قمع النظام وسوء الظروف المعيشية، التي انهارت بعد الخراب الذي سببته الحروب العبثية. كما أن ثروات العراق تعود الآن، بعد إهدار قسم كبير منها، لتسخر في الإعمار ورفع مستوى معيشة المواطنين مما سينعكس على تنامي الوعي الديمقراطي والإنساني. كما أنه من المفترض العمل لإنشاء جبهة تجمع كافة الأحزاب التي يهمها انتصار الديمقراطية، إذ أن فشل التجربة سيصيب الجميع وسيؤدي لعودة النظام الاستبدادي بوجوهه القديمة أو بوجوه جديدة.
كما لا يمكن أيضاً إهمال تأثير دول المنطقة في عرقلة الانتقال الديمقراطي العراقي فمعظمها لا يناسبها قيام ديمقراطية أفضل في العراق تظهر عيوبها وتكشفها أمام شعوبها فمن مصلحة بعضها وأدها قبل أن يشتد عودها وتصبح قادرة على ممارسة تأثيراً على الشعوب الراضخة لأنظمة قمعية أو لديمقراطيات منتقصة كالديمقراطية التركية التي لا تعترف بالحقوق القومية لأقلياتها وتعاني من تدخل العسكر في السياسة، أو الديمقراطية الأردنية والكويتية المهمشة لصالح سلطة وراثية، أو الديمقراطية الإيرانية الواقعة تحت هيمنة رجال دين غير منتخبين، أو الديمقراطية اللبنانية المرتهنة للجار القوي، أو الديمقراطية الإسرائيلية المشوهة باحتلال أرض شعب آخر. وللأسف فإن بعض معارضات هذه الدول لم تستطع حتى الآن، بسبب رؤية وحيدة الجانب تركز على الاحتلال المؤقت، أن ترى فضائل الانتقال للديمقراطية في العراق، وربما بسبب أن بعض هذه المعارضات هي الوجه الآخر لسلطاتها القمعية لا تفهم من الديمقراطية سوى السماح لها وحدها بالعمل السياسي.
وحتى الآن فإن قوات الاحتلال الاميركية في العراق لم تفعل كل ما هو مطلوب لتثبت أنها تخلت عن سياساتها السابقة في دعم الحكومات الاستبدادية المؤيدة لها في المنطقة، إلى أن تسلم السيادة الكاملة للحكومة الانتقالية العراقية، وتتخذ سياسة جادة لوقف العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وتمكينه من أقامة دولته المستقلة على كامل الأراضي المحتلة في العام 1967، وهو مما يوفر المصداقية للسياسة الأمير كية التي تدعي العمل من أجل الديمقراطية في الشرق الأوسط.
إن إزالة المعوقات من أمام مسيرة الديمقراطية في العراق، أو الحد من تأثيرها، يستوجب عملاً دؤوباً للحكومة الانتقالية ومؤسسات المجتمع المدني لبناء قوات أمنية وعسكرية وصياغة الدستور الجديد وإجراء انتخابات حقيقية، وإلغاء كافة القوانين التي تتعارض مع مبادىء حقوق الإنسان العالمية، وتحرير المرأة وهي عملية تشكل نصف الديمقراطية، وإخراج الاقتصاد من هيمنة رأسمالية الدولة، وإعلان نهاية الحروب وتحسين العلاقات مع دول الجوار، وغيرها من المهمات، لاجتياز المخاض العسير في الانتقال نحو الديمقراطية وإنهاء الاحتلال.
*كاتب فلسطيني