تتعالى أصواتُ السلامِ والتسامحِ والعدالةِ في بلادِنا, وتتسِعُ مساحةُ القوى المنادية بتحكيمِ المنطقِ العقليّ ورشيدِ الحكمةِ والرجوعِ إلى مبدأ إنصافِ الآخر, والدفاعِ عن إيصالِ صوتِهِ في وقتِ ِ لمْ يُدلِ أحدُُ بعدُ بصوتِهِ الانتخابي.. ويأتي مثلُ هذا الموقفِ بالضدِ من استغلالِ بعضِ القوى المريضةِ سواء من أنصارِ فلسفةِ الدكتاتوريةِ والاستلابِ أمْ منَ القوى المتطرفةِ الناشطة اليوم ممَّنْ لا يروقُ لهُم لا عدالة ولا مساواة ولكنَّهم يستغلون أجواءَ الحريةِ لينفذوا إلى مواقعِ ِ تؤهّلُهم للتخريبِ ومن ثمَّ للسيطرةِ على المجتمعِ عامة وعلى مساراتِ الديموقراطيةِ التي نحنُ بصددِ بنائِها والتعاطي مع مبادئِها ...
أمّا ميدانُ الاصطراع القائم فهو ميدانُ صياغةِ الدستورِ وتحديدِ ملامِحِهِ ومبادئِهِ (الأساسية) ومصادر التشريع فيه. ولا خلاف على ما للديموقراطيةِ من عودتِها للأغلبيةِ في اتخاذِ القرارِ وفي رسمِ السياساتِ, ولكنَّ ما لا خلاف عليه [أيضاَ َ] هو محافظة الديموقراطيةِ على حقوق الأقليةِ وصيانتِها ومنعِ الاعتداءِ على تلك الحقوق أو الانتقاص منها. هذا من جهة ومن جهة أخرى تؤكِّدُ الديموقراطية في مبادئها على حقيقة تلتزمها عنواناَ َ لآلية عملها تلك الحقيقة تتمثل في روح المواطنة التي تنتفي فيها عوامل الاستعداء والحساسيات والتناحر والاضطراب وتلغى مفاهيم التمييز بين طرفين أو فردين أو بالتحديد بين مواطنين اثنين لأية دواعِ ِ أو أسباب ومنها كون أحدهما ينتمي إلى الأغلبية والآخر ينتمي للأقلية وإلآ فإنَّ جوهر الديموقراطية سينتفي من أيّ تعاقد بين تلك الأطراف على العيش المشترك في وطن واحد..
وهنا يعنينا تسجيل العقد الأساس للمجتمع العراقي أيّ الدستور العراقي الدائم الجديد.. وأبرز نقاط تعدد تصورات الحوار والمناقشة [ولنتجنّب تسميتها نقاط اختلاف] هي تلك المتعلّقة بصفة الدستور العراقي أيكون دستورا علمانياَ َ أم دينياَ َ؟؟ ويقف بعض الوسطيين على يمين العلمانيين مقترحين دستورا يقرّ العلمانية أساسا للدستور مع إشارة لاحترام المعتقدات الدينية, فيما يقف من الوسطيين بعضهم على يسار المتشددين ليقترحوا دستورا يؤكد المرجعية الدينية وبالتحديد المرجعية الإسلامية باللجوء لمفهوم الأغلبية مع إقرار بالحقوق والحريات العامة بحيث لا تطاول المرجعية الدينية تلك الحريات بالتقييد أو بالتقاطع السلبي..
ونحن هنا بحاجة لقراءة أيّ الخيارات هي التي ينبغي لها أنْ تكون أصدق وأنفع من بين كلّ تلك الخيارات .. مع التأكيد والبرهنة على صواب الخيار المعني وفائدته لمجتمعنا العراقي. وأسألتنا الأساس تتمثل فيما إذا كانت الحلول الوسط صحيحة صائبة في جميع الأحوال؟ وإذا ما كانت تلك الحلول هي أسهل الخيارات وأصدقها اليوم لإشكالية الدستور الدائم؟ وإذا ما كان إقرار دستور بغير إجماع وطني هو الطريق الحالي الوحيد للإجابة المرتقبة بغية تجاوز عنق الزجاجة في المرحلة الراهنة؟
في البدء لابد من القول بأننا لسنا الوحيدين في ميدان مناقشة علمانية الدستور من دينيته.. فالاتحاد الأوروبي اليوم يناقش الإشكالية على الرغم من كون أغلب دوله تلتزم العلمانية وثبّتت في دساتيرها مثل هكذا تصور أو مبدأ. والجديد لديها هو دخول دول توقفت دساتيرها عند تصور مختلف وحدَّدت المرجعية الدينية لتشريعاتها وهو ما فتح السجال هناك؛ وإلا فإنَّ الدولة العلمانية الأوروبية مضى عليها زمن بعيد جدا من دون أنْ تشتكي فيها كنيسة أو جامع أو معبد من مضايقة العلمانية أو تحديدها لمساحة نشاطها وحرياتها الأساس. وكانت العلمانية باستمرار الطريق للمساواة والعدالة فضلا عن كونها أنشأت مجتمع التسامح وحرية التعبير وحماية رأي الآخر وصيانته من الإخضاع لمنطق البقاء للأقوى ..
ولذا فمن الطبيعي بالمقارنة الزمنية البسيطة أنْ نخوض معترك السجال القانوني الدستوري وطبيعة توجهاتنا العراقية المشتركة المستقبلية وألا نتهيَّب من صعوبة الحوار وتعقيداته.. وفيما يخصُّ الإجابة عن تساؤلاتنا المقدَّمة هنا نقول: إنَّ ديمومة الدستور أو سمة كونه (دائمـ) ــاَ َ تعني الحاجة للتأني وعدم الاستعجال من جهة وعدم وضع مفردات مُختَلَف عليها حتى إنْ عبَّرت عن وجهة نظر الأغلبية البسيطة؛ ففي الأمور الدستورية عندما يتعلق الأمر بفقرة أو مادة يشترط (الشارع أو المشرِّع) للتغيير نسبة لا تقل عن الثلثين ونسبة مشاركة تصويتية عليا فما بالنا نتعجل افتراض التعامل مع الأغلبية وموضوعنا ليس فقرة أو مادة بل الدستور كلّه ومبادئ أساس تحكم ثوابته الجوهرية؟!!
وبالعودة إلى دائمية الدستور وامتداده على مساحة زمنية بعيدة (أحيانا لقرون, مئات السنين) كما نلاحظ في التجاريب التي سبقتنا في الدول المتحضرة نجد أنَّ إشكالية النسب والإحصاءات السكانية ليست هي القيمة التي ينبغي تثبيتها ومعالجتها في مبادئ الدستور ولكنَّ ما يُعالَج هو روح التآخي والتعاضد والتفاعل على قدم المساواة بين أطراف المجتمع ومكوِّناته. وألا يتعارض التوزيع السكاني الديني أو الطائفي أو القومي مع مبدأ المساواة أيّا كانت التناسب الإحصائي بين تلك المكوِّنات ..
وإلا فهل ينبغي للدول الكبيرة أنْ تبتلع الدول الصغيرة أو أنْ تقوم العلاقات بينهما بالاستناد إلى التفاوت في الحجم والقوة؟ وهل نتفق مع الرؤية التي تقرّ هذا المنطق (منطق الأكبر والأصغر) في رسم علاقات الشعوب ووضع الاتفاقات والعهود الدولية بناء عليه؟ وما ذنب إنسان يولد في وسط مجموعتهذات الأقلية الدينية أو الطائفية أو غيرهما ويتحدد وضعه الدستوري وحقوقه البشرية بناء على الحجر المسبَّق لشروط دستورية وُضِعت على حسب منطق الأغلبية والأقلية وعلى وفق منطق قوة الأكثرية وسطوتها الانتخابية؟
إنَّ الناس يولدون أحرارا ويمتلكون الحقوق نفسها والحريات الإنسانية ذاتها ولا يجوز استلابهم تلك الحقوق أو الحريات الأساسية بقرارات مسبَّقة تقوم على سلطة أو منطق الأغلبية .. ونحن هنا نوظِّف هذا المفهوم في غير موضعه من جهة وفي مقاصد غير موضوعية من جهة أخرى! ومن زاوية أخرى لا يجوز لأحد أنْ يفرض فلسفة سياسية أو فكرية أيديولوجية لطرف على آخر بتمريرها على العقد بين طرفين مختلفين فما يحكم العلاقة بين طرفين ليس اعتقاد أحدهما وإنْ كان ذاك الواحد هو الأقوى حجما (هنا الأغلبية التصويتية) فلا عدالة في ظل مثل هكذا منطق والساعي إلى العدالة وتوفيرها في رسم الدستور ومبادئ الشارع الإنساني ينبغي له احترام مبدأ التوازن والمساواة وعدم انتقاص حقوق طرف أو آخر لأي سبب كان..
وما يحكم العراقيين بكل طوائفهم ومجموعاتهم الدينية, الإثنية العرقية, القومية, والسياسية وغيرها هو عقد توافقي تُجمِع عليه الأطراف كافة وألا يكون لأي طرف فيه السبق والأوّلية والتقدم لأنَّ ذلك يخلّ بمبدأ التوازن والمساواة من جهة ويُخرِج مفهوم العدالة من الدستور فيقيمها على أسس معوجّة ويخترق مفهوم الحريات مستلبا إياها من جوهرها..
وهنا بالتحديد أتحدث عن المبادرين لما يرونه دفاع عن موقع الأغلبية وحقوقها التاريخية؟! وهو ليس بدفاع عن تلك الأغلبية فمصلحتها هي جزء من مصلحة كلّ الأطراف تتعادل إنسانيا في مسألة العدالة والحريات والمساواة. وطالما تمَّ الانتقاص من حقوق طرف أو اُسْتُلِب آخر منها فإنَّ ذاك سيكون مقدمة لضرب التآخي والتعاضد ولشعور الغيض والحساسيات وللاحتكاكات التي ستقضي على روح السلم ومن ثمَّ على مصلحة الأغلبية مثلما الأقلية في العيش بسلام واستقرار وأمان ومن غير متاعب... ثم كيف يريد ابن الأغلبية وهو يقترح تثبيت سلطته ومرجعيته في الحكم دستوريا, كيف يريد الآخر أنْ يشعر بالعدالة؟ إنَّ تلك العدالة حتى إنْ توافرت النية لممارستها عند فرد أو أفراد من الأغلبية ستظل عثرة أمام العقد الاجتماعي (الدستور) وهي ستظل حسب ذهن الأطياف من الأقلية وحتى من بعض الأغلبية (غير المسجّلة ضمن قائمة مجموعة دينية بعينها ولكنها تحمل رؤى مغايرة فكريا وسياسيا) ستظل مجرد زعم وادّعاء وستكون قاعدة للتجاوز والاعتداء بحسب حالة الحكومة والجهات (السلطات) التنفيذية مرجعيتها باستمرار تلك الأغلبية ...
هذا فضلا عن كون الدستور هو جوهريا الصيغ القانونية التي تحمي وتحرس وتصون وتمنع الأفراد والمجموعات من التجاوز والاعتداء فكيف إذا تمَّ اختيار صياغات توفر ارضية الاعتداء والتجاوز بخاصة إذا ما جاء شخص يُخطئ (بأحسن النيات) عن غير قصد مالذي سنقوله حينها لابن الأقلية انتظر قرنا أو دهرا حتى تكون مجموعتك هي الأغلبية لتحميك مبادئها! لا منطق قانوني يسوِّغ أو حتى يبرِّر الحديث عن الصبغة الدينية أو الطائفية للدستور .. فالحديث في هذا (في الأغلبية والأقلية) أمر يخص سياسة أجهزة الدولة التنفيذية وما إليها ولكنه لا يخص العقد الاجتماعي من قريب أو بعيد ..
إذ العقد الاجتماعي يكون بين مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات ونحن نتحدث فيه عن رسم حياة الإنسان الفرد وإذا لم يستطع ممثلوا الأغلبية معالجة هذا المبدأ من ناحية العدالة والمساواة فكيف بعامة الناس تصويتيا وبعضهم يتبع اليوم مرجعيات أحيانا تتميز بالتطرف وبمجافاة منطق العقل والحكمة.. كما يقوم بينهم تأثير التخريب الفكري السياسي لعقود من الزمن بل تذهب بعض المرجعيات الراشدة (وهي تعي ما تقوم به) إلى استغلال سلبي للأغلبية بدعوتها إلى الانتخابات؟!
عن أيّ انتخابات يتحدث هؤلاء؟ وعلى أيّ أسس إحصائية؟ وفي أية ظروف أمنية؟ ألا يرون أفعال التخريب الانتقامية لقوى الشرِّ الرديئة من مخلّفات النظام الدكتاتوري؟ ألا يرون قوى التطرف الديني والطائفي والسياسي؟ أم أنَّهم يستغلون الظرف لتثبيت مواقع سياسية فكرية هي في أبعد ما تقدِّم تقدِّم قصر النظر ومحدودية الرؤية وخطلها على مستوى مستقبل العراق وشعبه, لأنَّها تقف عند حدود المصالح السياسية الضيقة لفئة معلومة دون غيرها لا أكثر ولا أقل..
وهناك مَنْ راح يدعو الأمم المتحدة لتنقذه من موقفه المصرّ على الانتخابات إلا إذا قالت الأمم المتحدة أنَّ الوضع الأمني لا يساعد فلماذا الأمم المتحدة؟ ألا يرى هو نفسه؟ ألا يعيش في وسط الوطن والشعب ويرى ما يتعرض له من اعتداء وتخريب؟ إنَّ الوقوف عند المصالح الفئوية الطائفية الضيقة فيما يتعلق بالدستور وصياغته لا يمكن القبول فيها بحلول مشوّهة أو أنصاف حلول..
الدستور عقد مشترك يتوافق ويتواضع عليه الجميع ولا يمكن أنْ يُقرّ إلا من جميع الأطراف ولـْ يَفُزْ غدا مَنْ يفوز في الانتخابات وفي تشكيل الحكومة ولكن حارس أبناء الأقليات وغير الأقليات وحاميهم هو الدستور المتواضع عليه جمعيا وليس المفروض بسلطة (أغلبية؟) الدستور المكتوب بروح التسامح والمساواة والعدالة التامة الكاملة غير المنقوصة التي لا تسمح للتمييز بالدخول إلى مفرداته من أية جهة كانت..
الحق ينبغي أنْ نقوله اليوم ولا ينبغي السكوت على جريمة تاريخية تُرتكَب بحق الأغلبية مثلما هي بحق الأقليات. فعندما يدخل التمييز وتتحدَّد المرجعيات لجهة دون أخرى ويجري استبعاد مرجعية الآخر في حكم نفسه ونحكمه بمنطقنا نحن الأغلبية , فإنَّنا سنكون وضعنا العقدة في المنشار ومنعنا السلام الاجتماعي وبدأنا مسيرة التدمير الذاتي بدلا من مسيرة البناء وإعادة الإعمار بعد عقود الخراب التي استظلت كما نذكر بمنطق دستور الأغلبية (أية أغلبية)؟؟؟! وما كان من دستور ولا قانون إلا قانون الخيار العدائي.
أوقفوا أيها الشرفاء من العراقيين المزاعم والادعاءات بتمثيل الفئات والمكونات العراقية واتجهوا بمسارنا بوضوح إلى طريق التوافق والتواضع المشترك.. وإلى الإجماع على عهد الحريات واحترام المواطنة العراقية بوصفها القيمة العليا التي يمكن أنْ يستظل بها الجميع على قدم المساواة وامنعوا زعيقا يريد وضع الفتيل المدهون بزيت نعرات الاحتراب في نار الاقتتال ..
إنَّ شعبا يعود إلى جذوره الحضارية العريقة لا يمكنه إلا أنْ يصوِّت لصالح الخيار الأسمى ألا وهو خيار السلام العدالة المساواة التسامح وإنصاف الآخر ؛ والآخر في عراقنا اليوم تمثله شعوب العراق الضاربة جذورا في حضارتنا ألم يؤسس الكلدوآشوريين بلادنا؟ أليس شعب الجنوب هو شعب سومر وفجر الحضارة الإنسانية؟ أليست كلّ الديانات العراقية من صابئة وأيزيدية ويهودية ومسيحية هي المكوِّن الوطني التاريخي والحاضر؟ هل يريد بعض دعاة اليوم أنْ يصبغوا عراقنا ودستوره بصبغة برامجهم الحزبية الضيقة مدّعين تمثيل الأغلبية ..
فإذا بدأنا التساؤل السريع في هذه المقالة عمَّن نصَّبهم أوصياء ممثلين للأغلبية؟ وكم [حزبا إسلاميا] موجود في الساحة؟ وكم منها سني وكم منها شيعي؟ وكم مرجعا شيعيا في الساحة؟ وكم فرقة في الطائفة الواحدة؟ وكم من الطائفة المذهب يرجع لكلّ مرجع أو حزب أو فرقة؟ ألا يوجد بين الأغلبية مَنْ يرفض فلسفة كلّ هذا العدد من المرجعيات ومنهم مَنْ يقف على النقيض من هذه المرجعيات؟
الحلّ الموضوعي الوحيد لا يضمنه سوى علمانية ينبغي أنْ نشخّصها بالتراضي على أنَّها ليست حكم الإلحادية واختزال مصالح طرف من الأطراف أو استلابه.. وهي (أيّ العلمانية) ليست بالمرة ضد الدين أو ممارسته وطقوسه بل هي أفضل في توفير العدالة التي تحمي الجميع... إنَّها ليست اعتقاد طرف أو آخر ولكنها مبادئ وتصورات توافق حضارية حارسة لحقوق جميع الأطراف التي تتخذها موضوعا ووسيلة للعيش في ظلالها.. بخلاف اتخاذ اعتقاد طرف دون آخر فهو بأي مبلغ من عدالته لا يكون إلا استلابا لشئ من الآخر.
وبعد فليس ختاما لمقالي هذا سوى الإشارة إلى كمِّ المرار والاختلاف والاحتكاكات مما مرَّ ذكره في مقال عن التسامح والسلام بوصفهما القيمة العليا للإنسانية؛ فكيف سيكون مرار أبناء العراق من مختلف الطوائف والأديان والفلسفات والأفكار إذا ما صيغ دستورهم بالإكراه على وفق منطق الزعم بمصالح الأغلبية؟!! لعلَّ أصحاب العقل العلمي والفكر التنويري من أبناء العراق جميعا هم مصدر ثقتنا جميعا في إمكان الوصول إلى ضفة الأمان والاستقرار...