الى رفيقي وزميلي العراقي ابو حازم ورفيقي ابن بيتي محمد نفاع
*من منا، مثلا، يأسف على مقتل مجرم قاتل خطير بأيدي عصابة اجرامية أخرى* تعالوا لا نسارع في تلطيخ سُمعة شعب عانى القهر والعذاب طيلة سنوات*
كنت في ظهيرة يوم الاحد في بيتي، في الناصرة، في وضعية ساخرة، نوعا ما، فالتيار الكهربائي مقطوع بقرار "سلطوي"، إذ قررت شركة الكهرباء، في هذا اليوم بالذات، قطع التيار عن حارتي لاتمام اعمال ترميم في الشبكة، وإذا بالهاتف يرن ليخبرونني بأن اقفز الى التلفزيون لاسمع ان صدام حسين قد تم اعتقاله، فأي تلفزيون من دون كهرباء، وقد طالت فترة الانقطاع، ويزداد تشوقي لمشاهدة التلفزيون. وبعد يأس معين عزيت نفسي قائلا، انه لا شك في أن وضعيتي الآن هي كوضعية إبن بغداد ومدن عراق النفط، ولكن بفرق واحد، فالتيار عندي سيعود بعد التصليح، اما هناك فلا أحد يعلم متى ستحل "رحمة" الغزاة عليه، الغزاة الذين يسلبون خيراتهم ويحرمونهم منها، وهم ايضا في غالبيتهم دون اجهزة لاقطة لمحطات التلفزة، وتواقون لرؤية المشهد.
وبعد ساعات حلّ "الفرج" وجاء التيار وتسمّرت امام التلفزيون للمشاهدة، واول مشهد رأيته، وحتى قبل رؤية ذلك الجزّار، كان مشهداً مميزاً في شارع بغداد، رقص في الشوارع بالاعلام الحمراء، وهذا مشهد يتم بثه في محطات عربية قحطانية، فاستغربت اكثر حين اقتربت الكاميرا لارى المنجل والشاكوش يزينان العلم الاحمر، وإذا بهم رفاق شيوعيون عراقيون امام مقرهم في بغداد، فأخذتني الدهشة ليس لرؤية التظاهرة الاحتفالية، وانما لتركيز الاعلام العربي على هذا المشهد، فأخيرا اصبح للشيوعيين خانة في هذا الاعلام الموجّه.
وتقلّبت، طيلة ساعات، بالاساس بين محطتي الجزيرة والعربية، وكان الفرق واضحا. حين تجولت كاميرات القناتين في الشارع العراقي، احضرت لنا قناة العربية فقط ردود فعل مبتهجة لاعتقال صدام، اما الجزيرة فقد ظهرت فيها بعض ردود الفعل المتباكية على صدامهم، وطوال الوقت وأنا أتأمل واشاهد بدقة، الى أن جاءت صور ذلك المجرم، فحلّ بي صمت رهيب.
منذ اكثر من 17 عاما وفي كل مرّة ارى فيها صدام حسين، تظهر امامي صورة رفيقي الشيوعي العراقي الطيب، ابو حازم، زميلي في الدراسة في بلغاريا الاشتراكية، مع انه يكبرني بحوالي 30 عاما، إن لم يكن اكثر، وطبعا لا اعرف ما هو اسمه الحقيقي سوى انه حازم، وابو حازم، كحال الشيوعيين العراقيين الذين هجّرهم صدام من وطنهم، بعد ان ذبح الآلاف منهم ومن ابناء عائلاتهم، ليس لشيء، إلا لكونهم شيوعيين يناضلون من اجل "وطن حر وشعب سعيد"، وقد يسأل سائل كيف يكون ابو حازم وفي هذا الجيل المتقدم زميلا لي في الدراسة الاكاديمية، والجواب هو ان مقاعد الدراسة كانت الشكل الوحيد لضمان مكان اقامة لهؤلاء الشيوعيين في الدول الاشتراكية.
لابي حازم قصة مأساوية كباقي الرفاق الشيوعيين، ولكن المأساة كانت بادية عليه تماما، فقد مكث في زنازين صدام لفترات طويلة تحت التعذيب، ومن اشكال التعذيب التي تعرض لها كانت ان قطعوا له مقدمتي قدميه، واصبحت قدماه دون اصابع ومفاصل الاصابع، ولهذا كان يضطر الى احتذاء حذاء خاص وثقيل، وأما سيره فكان بطيئا، وهذا يعني انه ايضا حين هرب من هذه الزنازين الرهيبة بقي التعذيب يلازمه طيلة حياته.
المرّة الاخيرة الاخيرة التي التقيت فيها رفيقي العزيز ابو حازم كانت قبل 13 عاما، وافترقنا بحرقة لأن الامل بأن نلتقي مجددا كان معدوما، فأين وكيف ومتى، خاصة وانني لا اعرف اسمه الحقيقي، وهو لا يعرف اين سيستقر واين سيعيش، وكم انا مشتاق اليه.
في لقاءاتنا اليومية كان كثيرا ما يحكي لي عن نظام صدام وأساليب التعذيب، ونظامه القمعي، ولهذا حين اسمع الآن عن جرائم هذا النظام، تكون ليست جديدة عليّ، لا بل أتأكد منها الآن اكثر فأكثر.
وطوال يوم الاحد لم يبرح ابو حازم من مخيلتي، والسؤال الدائم كان اين ابو حازم؟ الآن هل عاد الى وطنه؟، هل عاد الى بيته وحارته؟، هذا إن ابقى له صدام بيتا، وإن عاد فهل هو بين المبتهجين؟، ولكن كنت على يقين انه حتى لو كان هناك فلن يكون باستطاعته ان يرقص فرحا في الشارع، لا لشيء، إلا لأن صدام حرمه من حقه الطبيعي في ممارسة حياة طبيعية ومن سير على الاقدام بشكل طبيعي.
في صباح امس الاثنين لفت نظري في صحيفتي، بيتي الدافئ، "الاتحاد"، تصريح لرفيقي العزيز والغالي الكاتب محمد نفاع، الذي عبّر فيه عن اسفه لمشاهدة الاعلام الحمراء مع المنجل والشاكوش وهي تتراقص فرحا في شوارع بغداد لمناسبة اعتقال صدام، وللأسف فقد اثارني جدا هذا التصريح، وكنت أفضل لرفيقي الحبيب ان يتريث وينتظر قليلا قبل اصدار هذا التصريح، خاصة وان ابو هشام شخصية مركزية واساسية في حزبي، الحزب الشيوعي، وهو ايضا مثلي عايش الرفاق الشيوعيين العراقيين على مدى سنوات، وكان لقاؤه بهم تقريبا سنويا من خلال اللقاءات السياسية التي كانت تجري في الخارج.
صحيح ان من اعتقل صدام حسين هم قوات الارهاب الامريكي، المأمورة دون شك من عصابة الارهاب الدولي المنظم المتجمّعة هناك في البيت الأبيض، ولكن هذا السبب لا يمكن ان يكون مانعا لفرحة من وقع تحت ظلم وقهر وتعذيب هذا الطاغية.
وأكثر من ذلك، فإن وضعية المواطن العراقي الآن، ولنقل الغالبية الساحقة من مواطني العراق، تتلخص بالعبارات البسيطة التي اطلقها ذلك الشاب العراقي في قنوات التلفزة، فقال هذا الشاب وبحق، إن من أحضر صدام الى الحكم هي امريكا، ومن اقصته عن الحكم هي امريكا (انتهى الاقتباس). وهذا الامر ينطبق على شعورنا حين تكون تصفية حسابات بين عصابات العالم السفلي الاجرامية، فمن منا، مثلا، يأسف على مقتل مجرم قاتل خطير بأيدي عصابة اجرامية أخرى.
لقد هرع الشيوعيون الى الشوارع، وليس هم وحدهم بل الغالبية الساحقة من الشعب العراقي الذي وقع تحت القهر طيلة عشرات السنوات، لقد نزل هؤلاء بمشاعر النقمة الطبيعية التي تتفجر امام مشهد اعتقال، وليس، اطلاقا، ابتهاجا بالغزاة الامريكان، وتعالوا بهدوء لا نلطخ صفحة وسُمعة الناس البسطاء، الناس الفقيرة التي حرمها صدام طعم العيش الكريم في وطن أسير تحت سلطة صدام، وما زال أسيراً بيد غزاة محتلين.
لقد قرأ الارهابي جورج بوش الخارطة بالشكل الصحيح، تقريبا، حين قال ان اعمال المقاومة ضد قواته لن تتوقف بسرعة، لانه يعلم علم اليقين ان المقاومة الاساسية كانت ضد الاحتلال وليس من اجل اعادة الارهابي صدام الى الحكم. ومن المؤكد ان الغزاة الامريكان والبريطانيين لن ينسحبوا من العراق في عروض عسكرية احتفالية وباقات الزهور فوق رؤوسهم، وانما سيتم دحرهم وسيخرجون بشكل مهين كما يليق بهم، والفارق الوحيد، هو ان هذه المقاومة ستظهر الآن بصورة ناصعة اكثر ولن تكون متهمة بأنها تسعى لاعادة صدام وعصابته الى الحكم، فالى الجحيم سوية: ارهابيي البيت الابيض والجزار الارهابي صدام وعصابته.
ولأن هذا المقال سينشر ايضا في موقع الانترنت اليساري "الحوار المتمدن"، الذي يديره شيوعيون عراقيون، اتوجه الى كل من يعرف ابو حازم من بين الرفاق الشيوعيين، حسب الوصف الذي ذكرته وعاش في بلغاريا في الثمانينيات واوائل التسعينيات، ان يخبرني عنه، ليكون بامكاني ان احادثة واتعلم اكثر من مشاعره، ولأبارك له الآن، وليكون بامكاني لاحقا ان ابارك له تحرير العراق السعيد من آخر الغزاة المحتلين. وليس ابو حازم لوحده بل رفاقي هناك ابو فرات وابو وام يسار وابو عادل وغيرهم الكثير.
ولا استطيع ان انهي رسالتي هذه دون ان اتطرق الى حال الشيوعيين العراقيين، فليست الأمر مسألة داخلية لهم، لأن وحدتهم الآن ضرورية بالأساس للشعب العراقي، الذي عرف الشيوعيين بأنصع الصور، وأحبهم، وضرورية لنا نحن الشيوعيين في كل مكان، خاصة وان حزبهم له تراث نضالي يحتذى به.
لقد تعددت التوجهات كثيرا بين الشيوعيين العراقيين خاصة في ما يتعلق بمجلس الحكم، وهناك من اجتهد ورأى ضرورة بالانضمام له، وهناك من رأى من المناسب ان يعارض، وكفلسطيني يعيش في وطنه الذي اصبح اسمه اسرائيل، وانضم ونما سياسيا في الحزب الشيوعي الاسرائيلي، الذي ابدع في وضع التكتيكات والبرامج السياسية، في احلك واصعب واخطر الظروف، وخاصة تلك التي تتعلق بالموقف من تقاسم الوطن والعلاقة بالحكم الجديد في حينه، ولم تكن هذه التكتيكات والبرامج مقبولة على الكثيرين، وثبت لاحقا صدق هذه التكتيتكات، مع ان الكثيرين لم يوفروا الشيوعيين بالنعوت الساقطة، فلا يسعني إلا ان اعطي انا ايضا، ومعي رفيقي محمد نفاع، فرصة للشيوعيين العراقيين بأن يجتهدوا ويتحركوا بما يناسب تحقيق اهدافهم، فلا انبل من هدف الشيوعيين العراقيين الذي رفعوه منذ عشرات السنين "وطن حر وشعب سعيد".
إذا صدق مجلس الحكم في العراق في وضعه شهر حزيران/ يونيو القادم موعدا لبداية نهاية حكمه، فبامكان الشيوعيين الآن الجلوس سوية والبحث عن السبيل لتجازو الأزمة، ولاعادة وحدتهم في فترة ما بعد مجلس الحكم، في فترة العراق الحر.