|
المعاني الإلهية و اللغة العربية
نبيل مسعد
الحوار المتمدن-العدد: 2206 - 2008 / 2 / 29 - 01:41
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
القرآن ظاهرة تاريخية ، لها إطارها الزماني و المكاني ، تأثرت بالثقافة السائدة في عصر النزول . بمعنى أنها " مُنتَج ثقافي " بفتح التاء ، هذا ما يكرره الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه " النص ،السلطة ، الحقيقة . النص الديني بين إرادة المعرفة و إرادة الهيمنة " فالنصوص عنده " مهما تعددت أنماطها و تنوعت ـ تستمد مرجعيتها من " اللغة " و من قوانينها ، وبما أن اللغة تمثل " الدال " في النظام الثقافي فكل النصوص تستمد مرجعيتها من " الثقافة " التي تنتمي إليها " و هذا لا يقدح في مصدر القرآن لان القرآن و إن كان منتج ثقافي فانه بدوره أصبح ينتج الثقافة . لقد تناول في دراسته تلك موضوع شديد الخصوصية يمثل خط احمر و طابو في الوعي الإسلامي القديم منه و المعاصر ، اعني الدراسية النقدية للقرآن . و قد أدرك عاقبة ما أقدم عليه ، لذلك نجده لا يحكم حكما إلا و يطنب في شرحه دفعا لكل لبس . فعندما فصل بين اللغة و الكلام متأثرا في ذلك باللغوي فريديناند دي سوسير ، و نظر إلى القرآن بوصفه " كلاما " قال: " و إذا كان الحديث عن النص القرآني كلام الله ، فهو بامتياز نص يمتلك " كلاما " و ليس نصا تنطقه اللغة ، وان كان يستمد مقدرته القولية أساسا من اللغة ، و مرة أخرى المقصود بالمقدرة " القولية " مقدرته من حيث هو نص موجه للناس في سياق ثقافة بعينها ، وليس المقصود مقدرته من حيث طبيعة المتكلم به ، الله عز وجل . وهذا شرح لازم حتى لا يزايد علينا المزايدون الذين تنطق اللغة من خلالهم و لا يمتلكون " كلاما " يقولونه من خلال اللغة . " ليخلص إلى هذه النتيجة " النص القرآني يستمد مرجعيته من اللغة لكنه كلام في اللغة قادر على تغييرها " إلا انه لم يسْلم ليس الانتقادات و المضايقات . و كان عليه أن يذهب بعيدا ، و يفصل في مسألة تحول الإلهي إلى البشري و انتقال المعاني الإلهية إلى واقع الإنسان ، مرتدية لباس اللغة العربية لتشكل في الأخير النص القرآني . إن الاعتناء بالقرآن و تلميعه ، و صل إلى درجة أن حجب حقيقته عنا ، ذلك لان القرآن يمتلك جهاز مناعي يتألف من ترسانة من الآيات و ضعت خصيصا لتقف أمام كل محاولة لنقده ، إنها تمثل نظام حماية . و ابرز هذه الآيات ،نجدها تحتل الصدارة على الغلاف الخارجي للقرآن أحيانا ، وهي " لا يمسه إلا المطهرون " و التي أخذها البعض بمعنى أن تمارس طقوس شعائرية قبل تصفح القرآن ، و ما يصاحب ذلك من تهيؤ على مستوى الدماغ لتقبل كل ما يصدر عنه . إنها آية أشبه ما تكون بالحقنة التي تسبق العملية الجراحية . فتشل العقل عن التفكير . و إن كنتَ من الذين لم يحقنوا بها من قبل ، و أقبلت على القرآن تدرسه كنص سقطت عنه قدسيته بعد أن اخترقت جداره الدفاعي الذي احكم غلقه الفقهاء ، ستنكشف لك حقائق قد تصدمك ، كما حدث لمؤلف كتاب " محنتي مع القرآن و مع الله في القرآن " ذلك الأزهري الذي خرج من تجربته الدينية التي تجاوزت 70 سنة بأثر أسود على جبينه لا يخطئه النظر كما يقول، من اثر السجود ، وقد احتار في كيفية التخلص منه . فما أن يزول الأثر التخديري للقرآن إلا و تتساءل عن حقيقته ، وهل النسخة المتداولة بين أيدينا الآن تشتمل على كل ما نقله الرسول عن ربه .ان " الجمهور " يعتقد ذلك وانه جُمع في زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان ـ ولا ادري إن كان قد خضع لعملية تنقيح ـ جمعه في مصحف موحد و تخلص من النسخ الأخرى وفق منهج معين . و " الجمهور " متأكد من عدم تحريف القرآن و دليلهم " انا نزلنا الذكر و انا له لحافظون " ومن الواضح ان هذا الدليل في حاجة إلى دليل . و مع ذلك نفترض ان هذا القرآن، هو الأصل و قد وصلنا كاملا غير منقوص بالتواتر . لنعود إلى البداية إلى المرحلة الإلهية للقرآن قبل نزوله ، عندما كان مجرد معاني عند الله . و تلك المعاني في حاجة إلى ألفاظ ، لإن الألفاظ حصون لها . ثم دونه في اللوح المحفوظ . و هنا نتساءل عن اللغة التي استقبلت هذه المعاني في مستوى اللوح المحفوظ ؟ ليس من السهل الإجابة عن هذا السؤال لأنه يخص القرآن وهو في مراحله المتقدمة .لينتقل بعد ذلك إلى البشر في مرحلة لاحقة عبر آلية الوحي . وهنا تكمن المشكلة ، عندما يتحول الإلهي إلى البشري . إذا انطلقنا من المسلمة التي تقول إن الله وظف اللغة العربية كقوالب لمعانيه الإلهية ، هذا يعني أن معانيه لا تختلف عن نظيرتها عند البشر مادامت العربية تستطيع أن تخرجهما إلى الواقع ، و هنا نقع في التشبيه ، عندما تصبح المعاني البشرية تضاهي المعاني الإلهية . و لتنزيه الله عن ذلك و نبقي على انفراده بمعاني تليق بمقامه كاله . يمكن القول ان الله كان بمقدوره أن يوظف لغة متطورة تستطيع أن تعبر عن معانيه كما يجب دون تشويه ، ولكن في هذه الحالة لا يتحقق الغرض ولن يفهم الناس الرسالة ، لهذا استخدم الله لغة بشرية ، حتى يتم التواصل . فإذا اقتضى الأمر مثلا أن يتصل احد العلماء المتخصصين في العلوم الدقيقة بشخص أصم ، فعليه أن يتنازل إلى مستوى هذا الشخص و يوظف لغة الإشارات ، فيحدث التفاهم ولكن على حساب المعنى ، لان لغة الإشارات لا تعبر بالشكل المطلوب . ونفس الشيء مع الله عز وجل ، انه تنازل و استعمل لغة البشر، التي قد تشوه المعنى الإلهي . إذن لو وظف الله لغة متطورة تليق بسمو و تعالى معانيه ، فان الرسالة لن تصل إلى البشر بسبب جهل تلك اللغة ، وان استخدم لغة البشر فإنها حتما لا تعبر عن المعنى كما يجب ، إنها أحيانا لا تعبر عن المعاني البشرية فما بالك بالمعاني الإلهية . ولهذا يكون الأقرب إلى الصواب أن الله انزل القرآن ، كمعاني فقط على قلب النبي أو بواسطة احد الملائكة ، ليتولى النبي ترجمتها إلى لغته الأم ، اللغة التي يتقنها ، و هناا يمكن فهم مقولة " القرآن منتَج ثقافي " حيث ساهمت ثقافة النبي في بناء النص ، وهذا التصور ليس غريب انه اقرب ما يكون لطبيعة الحديث القدسي ، و المعروف عنه انه وحي من الله ، لكن ألفاظه ترجع إلى النبي . لنخلص في النهاية و حسب هذه البحث إلى القول أن معاني القرآن إلهية مترجمة إلى اللغة العربية عن طريق الرسول (ص ) شأنه شأن الحديث القدسي .و إن كانت هذه هي حقيقة القرآن فاعتقد أننا سنجد حلول لما يثيره البعض من انتقادات حول النص القرآني ، و انه يحتوي على أخطاء معرفية و نحوية ن حسبهم . و ربما أدركت هذا من قبل أم المؤمنين عائشة التي أرجعت أخطاء القرآن إلى الكتبة و المدونين .ثم إن هذا الفهم ينزه الله عن الخطأ و يفتح المجال لدراسة القرآن دراسة معاصرة ، تتجاوز حدود التلميع و الزخرفة إلى دراسة موضوعية ، لنص التقت فيه المعاني الإلهية بلغة إنسانية في الجزيرة العربية في القرن 6 بعد الميلاد .
#نبيل_مسعد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رصد طائرات مسيرة مجهولة تحلق فوق 3 قواعد جوية أمريكية في بري
...
-
جوزيب بوريل يحذر بأن لبنان -بات على شفير الانهيار-
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
لحظة هروب الجنود والمسافرين من محطة قطارات في تل أبيب إثر هج
...
-
لحظة إصابة مبنى في بيتاح تكفا شرق تل أبيب بصاروخ قادم من لبن
...
-
قلق غربي بعد قرار إيران تشغيل أجهزة طرد مركزي جديدة
-
كيف تؤثر القهوة على أمعائك؟
-
أحلام الطفل عزام.. عندما تسرق الحرب الطفولة بين صواريخ اليمن
...
-
شاهد.. أطول وأقصر امرأتين في العالم تجتمعان في لندن بضيافة -
...
-
-عملية شنيعة-.. نتانياهو يعلق على مقتل الحاخام الإسرائيلي في
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|