كانت العلاقة الروحية مع القوى الغيبية التي كان يقيمها الفرد في العصر الجاهلي، كنتاج لثقافة وعقل ذاك المجتمع، تقوم على مستوى من الحسية والتجسيم وعبر وسائط ( الاصنام)، في حين جاء الاسلام، كدين توحيدي، ناقضا لتلك العقلية ولقيمها الحسية والتجسيمية ومحولا العلاقة بين الفرد وخالقه ( الله) ـ حسب المعتقد الاسلامي ـ الى علاقة فردية ذاتية وتجريدية بدون وسائط ولاتجسيمات. وقد تكون هذه الخلفية هي التي شكلت حساسية الاسلام من اشكال التجسيم والتشبيه لارتباطه بمعطى نقض الاعراف الجاهلية في الشرك بالله لتماهيها مع فعل الخالق للخلق. والذي وجد صداه في الموقف المتصلب من فن التصوير الذي شدد على حرمته الاسلام.
اثمرهذا التاسيس الذي جاء به الاسلام، كمنعطف حضاري كبير، تحولا نوعيا في نمط العلاقة بالاله وتجسيد المقدس منتقلا فيه الى تخوم التجريد من غير ان يقضي، لاسباب تاريخية، جذريا على عقلية الصنم، المكونة لعصب الثقافة الجاهلية، لتعود هذه الظاهرة الى الظهور الرمزي باشكال مختلفة عبر التاريخ الاسلامي ذاته، مع تطورات وتغيرات الازمنة والظروف، الى ان وصلت بشكلها الفج والمنحط في ممارسة حكام عرب ومسلمين جسموا شخوصهم وذواتهم بتلاوين من التعبير الصنمي كان اكثرها بشاعة وانحطاطا هو تكثيف وجودهم وتقديسه، وهم احياء، عبر الصور والتماثيل، ناشرينها في كل مكان وحيز جاعلين بهذا من واقعة تحطيم هبل واللات التاريخية والرمزية لاتتجاوز كثيرا الفعل المادي المباشر والمحدود للهدم. اذ بقيت باثرها ثقافة وعقلية خلق الصنم وعبادته كامنة في ثنيات الممارسة الاجتماعية عندنا وصار مجتمعنا وانساننا يعيد انتاجها بشكل متجدد ولانهائي.
الصنم هذا الذي هجست وتهجس ثقافتنا ابدا في ابداعه صارت له اشكال وجود وتجل متعددة المستويات متخطيا بها الحالة السلطوية والمجال الديني المقدس ومتغلغلا في تفاصيل اخرى سياسية وفنية واجتماعية فصار غالبا مالايستطيع الفرد في مجتمعاتنا الوجود وممارسة العيش من غير مقدس ما او رمز ما يحتمي بوجوده ويضفي على كيانه معنى ويمنحه جدوى وعلامة او حتى هوية ومشروعية لوجوده ومجسدا امامه قيم اجتماعية ونفسية توفر له الثبات والتوازن والثقة بالنفس. وللاصنام هذه اطوار للتجسد تشكل نواتها الجنينية الفكرة التربوية التجريدية الداعية الى البحث عن قدوة ومثال في الحياة غالبا مايكون صورة مجردة عن قيم اخلاقية مثالية وطوباوية توقع حاملها في حالة من الفصام مع الواقع وتكبل ارادته الذاتية وحيويته وتلقائيته الاجتماعية وتوسم شخصيته بالاستلاب. وتتفاقم الحالة بامتدادها الى الفضاء الاجتماعي والعائلي فتحيل العلاقات الاجتماعية الى مجموعة من المقدسات المطلقة والرموز..فالام والاب رمز والعلاقة بهما في طابعها العام قائمة على موجبات ومواضعات والزامات تعمل في لاوعي الفرد وتحركه اكثر من، او بالتساوي مع، قيمتهما الفعلية والواقعية ودورهما الاجتماعي والمادي في حياة وواقع الابناء. وهنا استدراكا يجب التمييز بين مفهوم الرمز في العلاقة مع الاب او الام وماينطوي عليه من تجريد واطلاق ولاواقعية وبين المشاعر الطبيعية من حب وتعلق واحترام يربط الانسان بذويه، فغالبا ماتكون العلاقة في المنظومة القيمية الصنمية مع احد الوالدين لما يحمله الواحد منهم من دلالات رمزية معنوية وتجريدية اكثر من الاحساس الشخصي الذي يتولد لدى الابناء نتيجة التجربة والمعايشة بالاضافة للرابط البيولوجي. فغالبا وبتاثير تلك العقلية مايقيم الابن علاقته مع ابيه على اسس اجتماعية ضوابطية تمليها الاعراف والتقاليد وليس لانه يكن له شعورا طبيعيا. فهو يتعامل مع الام والاب وباقي المقدسات والرموزعلى اساس فكرة مجردة وصورة جاهزة وثابتة في مخياله ولاوعيه مشبعة بالمقدس وليس مع انسان حي يعيش معه. وهكذا يتواصل نمط العلاقة هذا بصعود مضطرد وصولا الى الشخصيات و( الرموز) الروحية والقائدة ذات الحضور والتاثير الشاملين في المجتمع. واغلبنا عايش تجارب تكون فيها صورة القائد السياسي ورجل الدين او العلم او الثقافة صورة مثالية تاليهية ولاواقعية لانسان متكامل لايخطئ وهو الخير والصدق والحق كله.
من هذا الواقع والتصور المصاحب له تشكل محيط اجتماعي ومناخ نفسي وتربوي راسخ الترابطات، الخفية والظاهرة، في القدرة على انتاج الرمز وتصنيمه معنويا. فنشات عندنا شخصيات وهيئات دينية واجتماعية واحزاب لايمكن المس بها ولا التعرض لممارساتها لأنها في المفهوم الصنمي مقدسة وان التعرض لها بالنقد والملاحظة يجب ان ياتي مشروطا مقدما بالاقرار القسري بانها ذات منجز هائل وان النقد لها هو لسلوك او موقف عابر لايصب في جوهر ممارستها الموسومة بالدقة والضبط والانسجام. بمعنى ان النقد لكي يهضم عند هؤلاء يجب ان يصحب بالمديح والتبجيل حتى يمكن وصفه بالمفردة المستهلكة السقيمة (البناء).
ولان مسالة الاعتراض على نقد الاحزاب السياسية بحجة عراقتها والمراجع الدينية لقدسيتها والشخصيات الوطنية والثقافية لرمزيتها ولمحمول القيم الاستثنائية الذي تحملهم اياه هذه العقلية، هو من صلب عقلية التوثين والتصنيم هذه، استوجب تقديم ملاحظة تتعلق باللغط والشد والجذب حول مسالة حقوق ونوع وحدود النقد، والميل او السعي لتكميم الافواه باسم الذرائع الغريبة هذه. ينبغي التاكيد على ان الخلط بين الشتائم والنقد الممارس بكثرة ووضعهما في خانة واحدة هو اجراء مقصود وعملية تلقائية في ذات الوقت تمارسها العقلية الوثنية تلك لاعتيادها التقديس الذي ولد لديها احساسا داخليا يصور لها النقد ضد رموزها على انه حالة عدائية فتخلطه بالشتم مع انه ليس منه. وهنا ينبغي التاكيد ايضا على ان الشتم مرفوض بالمطلق ولذاته وليس لانه يمس تلك الشخصية المقدسة او ذاك الحزب العريق فتلك هالات وهمية يضفيها اصحاب الشان على مسمياتهم لارهاب الاخر واسكاته ولتكريس الغيبوبة التي تعيشها ثقافتنا ووعينا ولحرف او قمع النقد الذي لايستوي اي مشروع حضاري ثقافيا وسياسيا بغيره. فالشتم هو ممارسة فجة وذات مرجعية عاطفية ونفسية وليست فكرية كتلك التي تشكل خلفية النقد.
في مستوى السلطة تكون الحالة اكثر يسرا للانكشاف فيتخطى الطابع الرمزي فيها الاطار والمعنى الخفي والمستتر وراء قيمته المثالية المعنوية والتجريدية الماثلة في المقدسات الاخرى ليتحول الى واقعة متجسدة ماديا( تمثال وصورة) وحضور مكثف للرمز ولاسمه وظله في كل حيز ومناسبة.
ينتظم (الرمز) بعد تكيثفه اجتماعيا وتصعيده معنويا وروحيا في صف المقدس والالهي ويدخل هو شخصيا في لعبة نسج الصورة الاسطورية عن ذاته ويضفي على نفسه بوعي وبغير وعي صبغة لاتاريخية وببعض من اوهام الصفات اللابشرية فلايتصرف او يقوم بالاشياء العادية في الحياة علانية كما يمارسها البشر الاخرون فيخلق اوهامه بالوهيته او تعاليه ويخلق ازدواجيته، ازدواجية البشري وغير البشري، او في مستوى اخر الانسان المتعدد الشخصيات والانماط السلوكية فيمارس سلوكا ينوس بين متطلبات المواضعات الاجتماعية التي تمليها الاعراف المثالية عادة ومستلزمات الاهاب الرمزي وبين اهواء ورغبات الانسان العادي الطبيعية.
روى احد المقربين من الفنانة ام كلثوم ـ وزمن ام كلثوم كان مرحلة عبادة اصنام بامتياز ـ انها رفضت ذات مرة ان تلتقي ببعض الناس الذين حضروا للقاءها لانها كانت مريضة. واوضحت السبب بانها لاتريد ان تهشم صورتها امام الجمهور وتظهر بهذا المظهر الضعيف وغير اللائق بها*. مع ان المرض عارض بشري عادي. ونحن نعرف ان هذا النمط من السلوك منتشر بكثافة في ثقافتنا لاسيما في اوساط مشاهير الفن والمجتمع وهم علامات مميزة لهكذا ممارسة حيث يشيع بكثافة في وسطهم اطلاق الالقاب التبجيلية والممارسات الشكلية التي تريد ان تسبغ عليهم هالة سحرية اسطورية خاصة. صحيح ان عالم الفن عندنا غالبا مايكون مكان دعاية وتهريج الا ان اشكال الخطاب واللغة والمكنون التعبيري المستخدم فيه يضمر دلالات واضحة تعكس عقلية التوثين والترميز التي تشبعت بها ثقافتنا ووعينا الجمعي.
ولايبتعد عن ذلك رجال السلطة والسياسة من قادة احزاب فهم يضعون اسيجة ومسافات فاصلة بينهم وبين الجمهور يملئون فضاءها بالرهبة والاسرار. ويتكرر وسط هؤلاء الامتعاض والضيق من اسئلة الصحفيين او مناقشاتهم فيوقفونهم بعبارة :انت تنسى انك تخاطب من!!. هذا غير النزعة الاستعراضية والمواكب الفخمة والضخمة المصاحبة لتحركاتهم وما لها من دلالات.
في الواقع لايستطيع اي مجتمع ان يقوم بحراك اجتماعي يبني من خلاله تجربة حضارية بقيم انسانية رفيعة تحترم الانسان وتسعى لتحقيق ذاته وسعادته وهو ينوء باثقال من المقدسات التي لايمكن المساس بها او التقرب منها كما لايستطيع هذا المجتمع ان يضع خطواته في الطريق الصحيح او ان يعثر عليه قبل ذلك وهو يسير وسط احراش من العلاقات الاجتماعية والمفاهيم العقلية التي تقيد عقله وتكلس روحه في مجموعة كبيرة ومتماسكة من القيم الزائفة والمتعارضة مع نزوع الانسان الفطري للانعتاق والحرية وتحقيق الذات. لان الانسان كما يقول عنه الاديب والتربوي الروسي كورلنكو قد خلق للسعادة كما خلق الطائر للطيران.
لنكسر قيود هذا الانسان اذن ولندعه يمارس سعادته في الحرية.
هامش
* ضمن فقرة عن ام كلثوم في برنامج ثقافي بثه التلفزيون السويدي قال احد المصريين انه لم يصدق ان ام كلثوم ماتت وانها يمكن ان تموت... يعكس هذا الكلام الى حد ما التصور التاليهي لهكذا شخصيات( رموز) نسجت اسطورتها عقلية مشبعة برغبة التقديس لكل شيء.
السويد
13-12-2003