|
أحوال مصرية
صالح سليمان عبدالعظيم
الحوار المتمدن-العدد: 2205 - 2008 / 2 / 28 - 10:39
المحور:
المجتمع المدني
قالت لي مرة إحدى السيدات العربيات المثقفات أن المصريين لديهم عشرة أشياء يرددونها دائما أينما ذهبوا وحلوا وأقاموا. ودائما ما كانت هذه السيدة تبدأ بذكر بعض هذه الأشياء دون أن تتمها جميعا حيث يأخذنا الحديث نحو مشارب أخرى تتعلق بالمصريين، سواء من خلال ذكر محاسنهم أو مساوئهم. وما أذكره جيدا مما قالته هذه السيدة الرائعة أن المصري غالبا ما يذكر أن طعام أمه أجمل طعام في الدنيا. حتى بعد أن يتزوج فإنه غالبا ما يردد ذلك أمام زوجته، متحسرا على طعام أمه الذي لا يضاهيه أي طعام في العالم بما في ذلك طعام زوجته، حتى ولو من باب المجاملة وغلق باب المشاحنات وتصعيد الخلافات. والشيء الثاني أن الشيوعيين المصريين يصلون ويصومون رمضان. وهم أغرب شيوعيين في العالم، من حيث تبنيهم للفكر الماركسي والجمع بينه وبين الممارسات الدينية. وفي رأيي أن هذه المسألة لا تقف عند المثقفين الشيوعيين فقط بقدر ما يمكن أن تنسحب على عموم المصريين ككل الذين يقبلون على الدين كممارسة شعبية تجمع كافة المتناقضات المختلفة، وليس الدين الصافي الطقسي كما تمارسه بعض الدول الدينية في العالم العربي. فالمصري لا يستطيع أن ينفصل عن الدين لكنه يتعامل معه وفق معطيات ومتطلبات حياته اليومية. ومن أهم الجوانب التي أذكرها من حديث هذه المرأة أن المصريين يعشقون مصر بكل متناقضاتها إلى الدرجة التي يمنحون لأنفسهم الحق في نقضها وسبها ولعنها شريطة ألا يقوم الآخرون من غير المصريين بهذا الفعل. فهم يمنحون لأنفسهم هذا الحق فقط في نقدها وسبها ولعنها، أما إذا قام الآخرون بذلك فإنهم يتحولون إلى أعداء حقيقيين لمن يقوم بذلك. والواقع أن كلام هذه السيدة يستند إلى قدر كبير من الصحة، وبشكل خاص في المسألة الأخيرة التي تتعلق بعلاقة المصريين بالوطن، أو علاقة المصريين بمصر. ففكرة الوطن فكرة محورية جدا لدى المصريين، ورغم تلك الأوضاع الاقتصادية الحادة التي تعصف بمصر الآن، فإن المصريين مازالوا يقدسون مصر ويرتبطون بها بشكل كبير، واللافت للنظر أنهم ينتقدونها ليل نهار، في السر والعلن، لكنهم يحبونها ويستندون إليها عاطفيا ونفسيا وإنسانيا. لا أعلم لماذا تذكرت كلمات هذه السيدة، ربما دفعني إلى ذلك تلك الأفراح المصرية الحالية بالفوز بكأس أفريقيا، وهذا الحضور الشعبي الطاغي الذي شمل كافة أرجاء مصر. ورغم أن تلك البطولة بدأت بحادثة طريق راح ضحيتها ثلاثين مصريا بخلاف عدد كبير من الجرحى، ورغم أن الأسبوع الأخير منها قد انتهي بوفاة رجاء النقاش أحد النقاد المصريين الكبار، ومجدي مهنا أحد صحفييها المعارضين الأبرار، إلا أن المصريين كعادتهم ينسون كل شيء وهم يفرحون، وكأن الزمن زمانهم، وكأن العالم عالمهم، وكأنهم امتلكوا ناصية كل الأمور. يعيش المصري المعاصر حالة من الخوف والترقب وعدم ضمان المستقبل، في ظل تلك الظروف الاقتصادية والسياسية الخانقة، وهو الأمر الذي يجعله يخلق تلك الثوابت التي ذكرتها سابقا. بالطبع هناك طعاما أفضل من طعام أمه، وبالطبع هناك بلدانا كثيرة أجمل من مصر، لكنها تصورات المصري التي يقبض ويصر عليها حتى يستطيع أن يقاوم تلك الظروف الضاغطة التي تعصره وتعصف به وبكيانه، بحاضره وبمستقبله. من هنا يمكن فهم تلك الأفراح العاتية التي تجاوزت كل الحدود. ولا يمكن لأي مراقب خارجي يشاهد تلك الأفراح غير المسبوقة إلا أن يتصور بأن ظروف هذا الشعب مستقرة اقتصاديا، ومسترخية سياسيا، وبأن هذا الشعب يعيش في رغد ورخاء وليس أمامه أية مشكلات حياتية يواجهها. فلا يمكن لمتابع خارجي أن يتخيل أن وراء هذه الأفراح معدلات فقر عالية، وتدهور تعليمي، وضعف اقتصادي، وغلاء مفترس لكل المدخولات الفردية، ومعاناة حياتية يومية، إضافة إلى غليان سياسي، وحالة ترقب للوضعية السياسية القادمة التي لا تبشر بخير. لكنها الشخصية المصرية، التي تنسي كل هذه الأوضاع وتعيش لحظات الفرح التي تعلم تمام العلم بأنها لن تستمر طويلا، فأمام المصري فيما بعد الفرح طابور طويل من المعاناة ومسار مترامي الأطراف من اجترار الأحزان المعيشة. ورغم انتهاز البعض لذلك الفوز ونقله من وضعيته الرياضية إلى وضعيته السياسية، بحيث يستحيل الانتصار انتصارا للنظام السياسي ذاته، فإن المصري لا يهمه كل ذلك، ربما يشارك فيه، ويردده، لكنه في قرارة نفسه يهمله ولا يستدمجه. ما يبقي له هو تلك السعادة الغامرة، وذلك الشعور الجارف بانتصار مصر، التي يردد اسمها ولا يعي فعلا حدودها وماهيتها. إن الثوابت التي تطغى على حياة المصري تزداد مع ارتفاع الضغوط الاقتصادية والسياسية التي يواجهها، وليس هناك من مفر أمام المصري سوى التمسك بتلك الثوابت التي يصنعها ويرتكن إليها في مواجهة أعبائه اليومية. وليس أمامه من مفر سوى القبض على لحظات الفرح التي يعيشها، فهو لا يضمنها ولا يثق في قدرة النظام على استمراريتها والحفاظ عليها. مبروك لمصر وللشعب المصري كأس أفريقيا، وكل الأمنيات الطيبة بدوام الفرح والسعادة لأبناء الشعب المصري.
#صالح_سليمان_عبدالعظيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عالم بدون إسلام
-
مُعضلة التدين في العالم العربي
-
تقرير حالة السكان العالمي 2007 الصادر عن صندوق الأمم المتحدة
...
-
-جَوْجَلة- المعرفة
-
نحو سلام واقعي
-
أزمة علم الاجتماع في العالم العربي
-
الأغنية العربية المعاصرة
-
-الحرية والخوف- التقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية 2007
-
ثقافة التمثيل
-
عزمي بشارة والملاحقات الإسرائيلية
-
التقرير العالمي لرصد التعليم للجميع 2007
-
المثقف والعاصمة: هل من علاقات متبادلة؟
-
رواية -شيكاجو- وتنميط العربي المسلم
-
!!زواج من أجل الطلاق
-
فورا بوش، جرينجو بوش
-
عن الحب والرومانسية وأشياء أخرى
-
ثقافة النكد في العالم العربي
-
حرب الأفيون الأمريكية
-
إثنان وثلاثون عاماً على رحيل أم كلثوم
-
قصص قصيرة جداً
المزيد.....
-
الرئيس الإسرائيلي: إصدار الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق
...
-
فلسطين تعلق على إصدار المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال
...
-
أول تعليق من جالانت على قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار
...
-
فلسطين ترحب بقرار المحكمة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتقا
...
-
الرئيس الكولومبي: قرار الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو منطق
...
-
الأمم المتحدة تعلق على مذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة ا
...
-
نشرة خاصة.. أوامر اعتقال بحق نتنياهو وغالانت من الجنائية الد
...
-
ماذا يعني أمر اعتقال نتنياهو وجالانت ومن المخاطبون بالتنفيذ
...
-
أول تعليق من أمريكا على إصدار مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغال
...
-
الحكومة العراقية: إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتق
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|