المواصفات والسمات
ان من يطلق عليهم بنخب الساسة والمثقفين العرب كتل عصّية عن الفهم حقا كلما تقدم بنا الزمن وامتدت بنا الحياة بكل حداثتها وتطورها في العالم ، وبكل مأساتها وعفونتها في دواخل دنيانا ويا للاسف الشديد ! انها لا تشكّل اي جدلية حية بينها وبين طرفين اساسيين من المعادلة الثلاثية : بين القيادات العليا في الدولة وبين الجماهير وفئاتها وطبقاتها في المجتمع . وليكن معلوما بأن الاطراف الثلاثة لا علاقة حقيقية بينها ولا تجسير واقعي يترجم جدليتها برغم وضوح المعالم كاملة بين الكتل الثلاث . وبرغم رجحان كفة كتل الجماهير نظرا لقوتها واتساعها ، فان النخب الفئوية من سياسيين ومثقفين ومهنيين نقابيين وحزبيين وجماعات الاعتراض ضد السلطة او جماعات التأييد معها لا توازي ابدا ما نسميه بـ " الانتلجينسيا " التي لابد ان تتوزع حقا بين السياسي والثقافي والمعرفي التخصصي .
ولابد من القول بأن نخبنا العربية المعاصرة تعيش حالات عدة من الانفصال عن الواقع واساليب التعامل معه .. ان غالبيتها تعيش ارهاصات عتيقة من التقولات واليوتوبيا والخيالات تحت مسميات لا حدود لها .. وهي تغرق الجماهير بالاوهام وزرع الكراهية والاحقاد السياسية .. انها ليست نقية وطاهرة في مجتمعات اخرى ولكنها اكثر تعبيرا عن واقع .. فضلا عن اساليب التضليل التي تمارس في محيطنا ومناخنا ازاء القيادات في الاعلى والجماهير في الادنى .. ولقد ازداد تأثير النخب العربية سوءا منذ العام 1979 بتأثير الثورة الدينية في ايران وزحف مؤثراتها على مجتمعاتنا قاطبة . واذا كانت السلطات العربية تمثل دور الجلاد عند الجماهير ، فان النخب تلعب امامها دور الضحية والجلاد معا بحيث تريد التعمية والتغطية على الام الجماهير ومآسيها الرهيبة وتعمل على تغييب احوالها التعيسة التي تزداد سوءا يوما بعد آخر !
ان النخب السياسية والمثقفة العربية تحمل في طياتها ادوات شريرة على عكس ما كانت تحملة من نقاوة ونظافة وبرغم انها مبشرة لمشروعات النهضة والمستقبل – كما يسمونها – الا انها تلجأ دوما لتجد ملاذها عند المستبدين والسفاحين الذين باستطاعتهم توظيف تلك النخب بكل بساطة ويسر ، اذ غدا شراء الذمم مسألة طبيعية ومن اجل ان تؤدي ادوارا باستخدام آليات سائدة في مجملها تشّوه الحقائق او تفبرك الاقوال او تزور المعلومات او تلوك الشعارات او تلقي الخطابات .. تتشدق بالحرية والديمقراطية وهي بعيدة كل البعد عن الشفافية السياسية والشرعية الدستورية والحوار الجاد .. انها تعلم بأن الديمقراطية هي حالة جدلية متجددة بين الجماهير ومن تنتخبه ليتولى المسؤولية والقيادة ، وهي تعتقد خطأ بانها ستفنى حتما وتخسر ليس مصالحها حسب ، بل كل نفسها اذا استسلمت للتغيير على مستوى الرسمي والشعبي وان اي تغييب لها سيسمح للذاكرة الجماعية ان تتألق في كل من الدولة والمجتمع نظرا لمشاركة الجميع في صنع المستقبل .
كيف نجعل العالم كله في ايدينا ونتعامل معه ؟
وعليه ، فان النخب العربية المعاصرة والقادمة في قابل ، بحاجة الى امتداد واسع من افق معرفي وتفكير حضاري وتخطيط مستقبلي لمعرفة ما يمكن ان يكون لديهم وبناء قاعدة من المعلومات المتكاملة والمتراصة من اجل ان يضعوا اقدامهم على سلم الصعود والمؤدي للبناء والتقدم العلمي والمعرفي فإنه لا غنى له عن الإطلاع على مختلف الادبيات في شتى المجالات والمواضيع والعناوين وأرى أن فهما معمقا للادبيات المعرفية والميدية المعاصرة التي تستحق منا وقفات نقدية واشكالية للإطلاع على محتواها وفحوى معلوماتها والتي قد لا نجد لها مثيلاً إلا في القلة القليلة في ما يترجم الى العربية . وهذا لا يعني إعجابي التام بمثل هذه الادبيات وخاصة أن بعضها يتعارض مع مبادئنا وتربوياتنا وحتى توجهاتنا وافكارنا كشرقيين وعرب ومسلمين ولكنني أرى أنه لا بد من الإطلاع على أفكار الغرب ومبادئه من خلال ادبيات مجتمعاته وكتاباتهم ومنشوراتهم واعلامياتهم .. لنتمكن من ما يجري في التفكير العالمي ، ولنفهم ايضا الى اين يسير العالم ، ناهيكم عن ادراك موقعنا الحقيقي من التاريخ الحديث للبشرية ، مع الاخذ بنظر الاعتبار مسألة الرد على كل الاتهامات والتقولات والاحكام التي يصدرها الغربيون عنّا ومناقشتهم فيها .
المهم في الأمر أن باستطاعتنا ان نجعل العالم كله بين أيدينا ونحن نتعامل معه من جغرافية مركزية لها استراتيجيتها المهمة برا وبحرا وجوا .. اضافة الى ما يمكننا الاستفادة منه في حمل المعرفة المتطورة عن تطور المجتمعات البشرية وقدرة الفكر الفلسفي المعاصر على اجتياز أفكار هيجل وماركس وتوكنيل .. والخروج بفلسفات متنوعة على امتداد مساحة القرن العشرين ، وهي فلسفات انبثقت عنها اتجاهات فكرية وتيارات سياسية وحركات اجتماعية .. فضلا عن جملة من النزعات الادبية والنقدية في الثقافة العالمية . هنا ، وقد اجتاز العالم عتبة القرن الواحد والعشرين وتخضرم الجيل الحالي من المعاصرين بين قرنين ، سيختلف هذا القرن الجديد بالضرورة عن ذاك الذي سبقه والذي عاشت اجيالنا الحديثة في خضمه .. فلابد اذن من طرح جملة هائلة من التساؤلات الفكرية ، وخصوصا تلك التي تتطلع الى بناء واقع من نوع جديد سوف لن يكون الا باعادة التفكير في كل ما يخص الحياة .. واعتقد ، انه من دون اعادة التفكير في الشأن الحضاري ( بعيدا عن النهضوي الذي عاش معنا في القرن العشرين ) والشأن المستقبلي .. سوف لن يكون اي نجاح يذكر على مستوى ما ستحققه الاجيال الثلاثة القادمة في القرن الواحد والعشرين .
بماذا نفّكر ؟ وبماذا نعيد التفكير ؟
لابد من إعادة طرح سؤال قديم يتجدد باستمرار : لماذا تأخرنا وتقّدم غيرنا ؟
ومن أجل الاجابة على هذا السؤال الذي ازعم ان فيه نوعا من الغباء عندما يسأل ونحن في غمرات مكونات التاريخ الحديث ، او بمعنى ان تقدما قد حصل في بيئاتنا وطالنا التأخر والتراجع في حين كانت الصورة معاكسة عند الغربيين كما يتصورون ! واعتقد ان ابتعاد التفكير العربي المعاصر عن التعمق في فهم التاريخ البشري وسوء استيعابه للتحولات الحديثة في العالم خلال القرنين الاخيرين قد سبب رواجا لقناعات غير صحيحة ابدا في ذلك التفكير وخصوصا في التربويات المدرسية والثقافة الجماعية الشعبية والاعلاميات الرسمية وغير الرسمية وكتب الايديولوجيا والسياسات المفبركة والخطابات العاطفية والحماسيات الثورية والشعارات الساخنة والاشعار الملتهبة .. الخ بعيدا عن المعرفة والمنهج والعقل والنقد والتقييم وتبيان أوجه الضعف والقوة في المجتمع والدولة ، فضلا عن عدم تأسيس اي تمفصل عربي حقيقي بين مؤسسات الدولة وشرائح المجتمع .
الاحباطات النفسية الصعبة في المجتمع العربي
حينما نتحدث عن تشاؤمنا واحباطاتنا ، لابد من القول أن من أسباب ذلك في القرن العشرين هو ما حدث فيه من سوء ادارة واستغلال واستيطان وحروب وكوارث وانقلابات عسكرية وانظمة دكتاتورية ونشوء ايديولوجيات مؤذية وغير نافعة ابدا .. ناهيكم عن احياء مآثر عاطفية وانهيار مقومات وتحجر ثوابت وانتفاء اخلاقيات وسقوط دول وقتل واعدامات وسيول دماء واندلاع حروب عبثية وعمليات إبادة جماعية .. الخ ومع ذلك ، فهناك سببان رئيسيان يدعوننا للتفاؤل، ذلك أن هناك أسس عدة للتفاؤل كانا أملاً للقرن الماضي ، ولكنني ساقتصر على ذكر اثنين فقط وهما:
اولا :الاعتقاد بأن العلم الحديث سيقضي على الجهل والمرض والفقر فتتحسن بذلك أحوال البشر في مجتمعاتنا – كما حصل في مجتمعات اخرى - ، وأن التكنولوجيا الحديثة ستتحكم في الطبيعة المعاصرة ، ولكن من خلال انتاجها لا البقاء اسرى استهلاكياتها ، وهي التي ظلت دوماً حقيقة واقعية للإنسان العربي فهو لا يفكر من الذي اوجدها وطورها بشكل مذهل ، وبقي يردد ان مرجعياتها انما تعود للحضارة العربية الاسلامية ، وبرغم انه جعلها أداة في سبيل زيادة سعادته ، الا انه لم يعترف ابدا بفضل اصحابها عليه كونهم من الذين استعمروه ، وهنا يبقى لا يفصل بين المجتمعات والدول ، وبين الثقافات والسياسات .
ثانيهما : أن تجارب الحكومات الديموقراطية الحرة التي عاشت تجاربها الصعبة في ظل اوضاع متخلفة في النصف الاول من القرن العشرين ، لم تجد من يرسخ فيها المؤسسات ويعتني كثيرا بالدستور .. ولما زادت الهجمة السياسية الثورية والانقلابية عليها محملة اياها كل تبعات فقدان فلسطين والتآمر مع الاستعمار والتحالف مع الرجعية ، فانه سيستمر انتشار الهجمة عليها مع بروز جيل اثر الحرب العالمية الثانية سيمتلىء عاطفيا بالشحنات السياسية المناوئة للفكر الحر والغرب بحكم الظروف التي كان عليها العالم كله في ظل احتدام الحرب الباردة بين المعسكرين الشرق والغرب . وهذا سيقود بالضرورة عندما تغيرت احوال نهايات القرن العشرين الى المزيد من الاحباطات على مستوى التفكير .
تفاهة مانشيتات القرن العشرين وشعاراته
ان قسوة انهيار بعض تلك القوى المحلية والثورية والراديكالية التي منحت نفسها مانشيتات وتسميات عدة مثل : التقدمية والحرية والقفزة النوعية والارادة الشعبية .. الخ وتبدد تلك التطلعات عند بدايات القرن الواحد والعشرين، أعاد التشاؤم والاحباط إلى قرننا العربي . كيف لا وحروب الخليج الاولى والثانية والثالثة .. كانت سبباً رئيسياً في زعزعة ثقة المجتمع العربي بنفسه ومع أن هذه الحروب وما سبقها من حروب من نوع آخر كانت قد أسقطت بكارة النظم السياسية القومية والثورية واهانت عذريتها وطهاراتها التي كان قد اعلن عنها مؤسسوا الحركات الثورية والايديولوجيات الانقلابية منذ اكثر من خمسين سنة ، الا ان النظم السياسية العربية القديمة التي مثلتها بعض الانظمة لم تستطع ان تتجاوز هي الاخرى حواجزها وحدودها من اجل ان تطور مؤسساتها السياسية وآلياتها في الحكم وعلاقاتها الدستورية بكل من الدولة والمجتمع العربيين برغم أن تأثيرها النفسي كان أعمق بكثير في العالم وخصوصا من النواحي السلمية والامنية مقارنة باجهزة القمع والقسوة التي مارستها المخابرات في الانظمة الثورية ، فكم تحت ظل هذه الانظمة من آلاف البشر قتلوا واعدموا وغيبوا في السجون والمعتقلات ومورست ضدهم كل الشناعات من التعذيب النفسي والجسدي بعيدا عن اي مبدأ من مبادىء حقوق الانسان ، فكيف بحقوق السماء في القرآن الكريم والكتب الدينية المقدسة ؟؟
اختلاس التفكير : الاردية الممزقة
بالرغم من أن الأسباب القوية للتشاؤم الذي نجم من تجاربنا السياسية والايديولوجية العربية خلال النصفين الأول والثاني من القرن العشرين باختلاف احداثهما وشخوصهما وعناصرهما ، إلا أن أحداث النصف الثاني تشير إلى اتجاه مختلف تماماً وغير متوقع عما كان يألفه المجتمع في النصف الاول منه . وإذا بتنا الآن عند بدايات العقد الاول من القرن الواحد والعشرين ، نرى أن نخبنا ومثقفينا وسياسيينا ككل لم يكشفوا عن شرور وآثام اقترفت بحق ضد حقوق الانسان وضد تكوينات اجيالنا التي تبلورت حياتها وتفكيرها بعد الحرب العالمية الاولى ، وإنما طرأ عليه تحسن واطراء ومنافع في مجالات واضحة معينة . ومن أبرز المفاجآت التي وقعت في الماضي الغريب ذلك الانهيار التام غير المتوقع للشيوعية العالمية وللعالم الاشتراكي كله في معظم أنحاء العالم خلال السنوات الأخيرة من عقد الثمانينيات وبداية التسعينيات .
وعندما سقط الاتحاد السوفييتي واتهارت معه المنظومة الاشتراكية في التسعينيات ، وهنا لا أجد نفسي إلا متفقا تماماً مع آراء اولئك القليلون الذين فضحوا علاقة الايديولوجية بالتفكير والمعرفة وهيمنة الخطاب السياسي والايديولوجي على الاذهان والعقول ردحا طويلا من الزمن ، وعولوا عليه كثيرا معتبرين اياه المخلص من اطواق الماضي بأسم ترديد شعارات التقدمية والتحررية .. الخ وبالرغم من ادواته ووسائله التي يمتلكها وهي بدون شك مستعارة عن الاخرين في العالم ولا غرابة في ذلك باعتبار ان الجميع قد استعاروا وكانوا من المقلدين ، الا ان الشعارات التي عبرت عن خطاب مؤدلج كانت تستخدم فيه مصطلحات متنوعة ولكنها كانت خالية المضامين ، مثل : الحرية والحقوق والتقدمية والامبريالية والشعبية والصراع الطبقي والتنمية الانفجارية والرسالة الخالدة والوحدة الاندماجية وحرق المراحل والقفزة النوعية ... الخ وهي تعبيرات مفبركة اختلست تفكير العرب ولعبت بعواطفهم كما هي كانت لعبات ما اسمي بـ تقاليد " الليبرالية العربية " خلال النصف الاول من القرن العشرين التي وصفت بـ " الرجعية واليمينية " من قبل " اليساريين والتقدميين " في النصف الثاني منه كما عايشنا ذلك كله .. وتصدرت الساحة الجماهيرية الاحزاب والفئات والجماعات الدينية التي تعبر عنها هذه المرة نخبها هي الاخرى .
وأخيرا
وإذا ما نظرنا اليوم الى واقعنا نجده قد تخلى بسرعة عن تلك " الشعارات والتعبيرات " عند انهيار مصادر تأليفها في ادبيات المنظومة الاشتراكية التي عمرت عقودا طويلة من القرن العشرين .. وطفا على السطح وبسرعة فائقة بعد العام 1979 المد الديني الاسلامي الذي دعوه في مطلع الثمانينيات بـ " الصحوة الاسلامية " لتدخل النخب والجماعات المثقفة والسياسية في صراع من نوع جديد بين التناقضات التي خلقتها الظروف والمتغيرات هبت من ايران وارادت اجتياح المنطقة العربية بالكامل . من جانب آخر ، لا نجد إلا بنيويات كبرى من الأنظمة الايديولوجية الإستبدادية من كافة الأنواع اليمينية واليسارية والعسكرية تتهاوى واحدة تلوى الأخرى وبدأت تنشأ عن انهيار هذه الأنظمة دعوات نخبوية وفكرية من اجل تأسيس ديموقراطيات ليبرالية تتمتع بالرخاء و الإستقرار . ولقد تأثرت النخب في العالمين العربي والاسلامي بالدعوات الجديدة لتبدأ تتقمصها من جديد بالرغم من ايمان هذه النخب بكل ما تتضمنه الايديولوجيات على حساب المعرفيات ! ولكن الذي يقف ازاء كل التناقضات اليوم ويشكل بنفسه تناقضات جديدة .
ان على النخب العربية العمل على ازالة الفجوات والنتوءات القائمة من خلال تطوير آليات الحياة في المؤسسات الرسمية وتربية الاجيال على منظومة قيمية واخلاقيات من نوع جديد بعيدا عن ثقافة الاستبداد او التمسح بالسلطات وعن قسوة المركزيات مما يجعلها في خدمة التاريخ واثراء حيويته وانشطته وظواهره .. وسيجد المجتمع العربي وغيره من المجتمعات المجاورة نفسها يتألق من خلال قوى التغيير وفعالية المشروعات بعيدا عن السائد الرسمي وغير الرسمي في الحياة العربية .