|
نقد المثقف الشيوعي..فوضى اللغة والبواعث النفسية للعنف الثقافي
سلام عبود
الحوار المتمدن-العدد: 2203 - 2008 / 2 / 26 - 10:41
المحور:
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
الجزء الثالث مقدمة هل المجتمع العراقي، في لحظته العصيبة الراهنة، مؤهل لطرح الأسئلة الثقافية الكبرى، الوجودية والمصيرية المتعلقة بالهوية؟ وهل هو مؤهل للوصول الى أجوبة عميقة، جذرية، أم أنه لم يزل غارقا في بحر الجزئيات التفصيلة للمشهد اليومي الدامي والعسير؟ هل المثقف العراقي مؤهل وقادر على صياغة معادلات ثقافية بحجم الأخطار التي يعيشها مجتمعه؟ هذه الأسئلة وغيرها هي مادة هذا البحث. ومن هذه الأسئلة السؤال المتعلق بالثقافة الوطنية في مرحلة الاحتلال. هل أنتج "الاحتلال" واقعه الثقافي الخاص به: إعلامه ، وتنظيراته، ودعايته، ومشاريعه العقلية وقيمه السياسية؟ عن هذا السؤال سيبادر كثيرون الى الإجابة الفورية بـ "لا" كبيرة. وحجتهم تقول إن هذا السؤال باطل من أساسه. لأنه لا يوجد في العراق شيء اسمه الاحتلال. وإذا أردنا أن نعيد صياغة السؤال بالقول: هل أنتج "التحرير" مثقفه المتماهي والمنسجم مع سياسة ونهج وقيم المحرر (بصرف النظر عن صوابها أوخطئها)؟ يكون الجواب، من قبل الفريق السابق نفسه، أسرع من سابقه: لا. يأتي الجواب هذه المرة نابعا من تحفظ إجتماعي ونفسي. فلم يتكمن أنصار هذا الفريق، إلا ما ندر، من التأقلم أخلاقيا واجتماعيا مع هويتهم الجديدة، على الرغم من مكابرتهم السياسية، ولم يزل كثيرون منهم يخشون من انقلاب الأحوال وتبدلها. ومن المفارقات الثقافية هنا أن كثيرين، حتى بعض معارضي الاحتلال، يشتركون بدرجة أو أخرى في نفي وجود سياسة ثقافية وإعلامية صاحبت ورافقت وتزامنت مع عملية التحرير- الاحتلال، مثلما أنكر مثقفو التعبئة العسكرية ثقافةَ الثكن والعنف، التي انتجها نظام الحكم السابق. فالبعض يخشى أن يمتد السؤال فيشمل تاريخه أو حقبته. وهنا نعثر على أول خيط يوصلنا الى الجواب عن سؤالنا، والذي يتجسد في الموروث الثقافي ودوره في صناعة اللحظة الراهنة، وسبل وأشكال ظهور منتوج هذه اللحظة وخصوصياتها.
إن تطور الجدل في هذا الموضوع يقود في نهاية المطاف الى حصر آفاق حركته وحدوده ، شئنا أم أبينا، في ثلاثة تعابير لا رابع لها: احتلال، تحرير، شراكة. وسواء كان الوجود الأجنبي يتجسد في الواقع العملي في صيغة احتلال أو تحرير أو شراكة فإنه يكوّن، بذاته، وجودا ماديا وروحيا متحققا، يلعب دور الضاغط أو المؤثر – سلبا أو ايجابا- على الهوية الوطنية ومكوناتها. وفي هذا الجانب لا نعني بهذا الوجود العراقيين (سياسيين ومثقفين) من مناصري مشروع الاحتلال أو التحرير أو الشراكة. فأولئك، بصرف النظر عن درجة قربهم أو بعدهم عن المشروع الأجنبي، يظلون كيانا غريبا على الذات الفاعلة. فهم كيان يقع وجوده الموضوعي خارج الإرادة الأجنبية- ولا يعني خارج منافعها وخططها- أي خارج إطارها كذات مقررة وصانعة لوجودها الخاص. سيقول قائل: مثل هذه الأسئلة لم يطرحها المواطن القطري وبلاده تعدّ مركزا قياديا للقوات الأجنبية! والجواب هنا هو أن المحتل، أو المحرر، أو الشريك، هو الذي يصوغ المعادلات الثقافية الخاصة به، لا نحن. وسواء امتلك المواطن القطري المقدرة على التساؤل أم لا فإن الذات المهيمنة هي التي تصوغ معادلات الوجود الخاصة بها. فهي لا تستطيع أن تتجاهل الموروث الثقافي للمجتمع المعني، الذي امتد تكوينه لآلاف السنين، فضلا عن تطور البنية النفسية -الاجتماعية وآليات بناء مراكزالسلطة في المجتمع الذي تتعامل معه. فالعراق لم يكن مجتمعا سكونيّا قط، بل كان مركزا ومحركا وقائدا لحركة التوازن العالمي على مدى حقب طويلة، في الفترة السابقة لسقوط الحضارات القديمة وفي العصر الوسيط. أما تاريخه القريب فهو مشحون بالمقاومة، التي لا يستطيع نكرانها حتى أكثر قادة الاحتلال صلفا. كان بمقدور الولايات المتحدة احتلال العرق، بتأييد من البشرية كلها، عقب هزيمة القوات العراقية في الكويت. لكنها لم تفعل ذلك لأسباب تتعلق بالدرجة الأساسية بموضوعنا: مقدار استجابة الجسد العراقي لوجود قوة جديدة، غازية، وجودا مباشرا، قوة لها قيمها ومثلها ومصالحها وأساليبها ومزاجها أيضا. إن قوة جبارة بحجم الولايات المتحدة الأميركية قادرة على سحق العراق، غير المنسجم مع ذاته، عسكريا، وقادرة على هصر وعصر واستحلاب إرادته السياسية، وتفكيك بناه وإعادة تركيبها، لكنها غير قادرة على تجاهل العنصر التاريخي المكون لهوية المجتمع. إن أبسط عراقي يلهج يوميا بعبارة " العراق العظيم" الزائفة، وينطقها كحقيقة قائمة على الأرض. كيف يتقبل عقل كهذا أن يكون محكوما بإرادة أجنبية، وهو على هذه الدرجة من العظمة! هذا إشكال ثقافي، نستطيع تجاهله، لكننا سنصطدم بتناقضاته ونغدو جزءا من هذه التناقضات لو جرؤنا على مواصلة التجاهل. وهو ما لا تفعله القوة العظمى، بل تفيد منه سلبا وايجابا. تفيد من جانبه الزائف لبث مشاعرالرعب والتخويف وما يرافقها ويتبعها من تعامل بالغ الفظاظة بـ "ضمير مستريح"، وتفيد من هشاشته لزرع الإيمان الكاذب بالذات الفارغة، المتخاصمة مع نفسها، المستلبة من الداخل. كيف يتحالف المحتلون مع طيف سياسي إسلامي عراقي معين ويناصبون دولة جارة العداء، والفريقان يحملان الفكر السياسي والمذهبي ذاته؟ إن الولايات المتحدة ليست قوة غبّية، يخدعها هذا الهاوي السياسي "الشاطر"أو ذاك، كما يشيع الإعلام الأميركي عند انكشاف كل فضيحة. إن الإرادة السياسية الأميركية هي إرادة أمة قائدة، وحيدة في تحكمها العالمي، في أوج عظمتها وفي نشوة انتصارها على خصمها وندها الأشرس تاريخيا، عدوها الشيوعي. لذلك فهي تمثل إرادة واعية، متماسكة، متينة في تنوعها ووحدتها الداخلية، لا ينجو من تأثيرها مقاوم أو حليف أو شريك. إنها قوة ثقافية ومنهج للقيم والمفاهيم والمعتقدات، الى جانب كونها قوة عسكرية واقتصادية. فما تأثير هذه القوة على الواقع الثقافي العراقي، سواء اعتبرنا هذه القوة محتلا أو محررا أو شريكا؟ سنتوقف في هذا الجزء من البحث على مشارف الجواب، ولا نتوغل في الإجابة. سنتوقف عند موضوع العلاقة بين المرحلة الراهنة واللغة، ونصوغ الإشكال بالسؤال التالي: كيف أثّرت هذه الحقبة على سبل وطرائق التعبير اللغوي والخطاب الثقافي، بصرف النظر عن صحة أو خطأ هذا الخطاب سياسيا وأخلاقيا؟ إنه سؤال يتعلق، كما نرى، بمعرفة الهوية، وبمعرفة الذات، أي بمعرفة من نحن. فمن نحن حقا؟ وما خصائص هذه "النحنيّة" الثقافية التي نتمتع بها، وما أساليب التعبير عنها؟ إن الولادة القيصرية لنهج إسقاط السلطة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية لم تجلب للمجتمع العراقي ثقافة غريبة في هيئة مفاهيم وقيم سياسية وأخلاقية فحسب، بل صنعت أيضا نموذجها الثقافي الخاص والهجين، غير المألوف وطنيا. وهو نموذج تجميعي، مركب تركيبا فجّا، متعجلا، يضم في ثناياه مساوئ الكثير من الآيديولوجيات القائمة والمنقرضة. إن ولادة هذا النموذج تؤشر على نحو جلي الى أن المجتمع العراقي أنتج ثقافيا ما كان يراد منه من قبل القوة (الذات) المهيمنة. وعلى الرغم من هشاشة، ووقتية، وشذوذ هذا النموذج، إلا أنه نموذج يستحق المعاينة والتفحص، لأسباب عديدة، أولا: لأنه، في ملامحه الخارجية وتنظيراته الدعائية الشكلية، جزء من ظاهرة جديدة على المجتمع العراقي. ثانيا، لأنه اقترن بتيارات سياسية محددة، حاول جاهدا أن يكون، زورا وصدقا، وجهها الدعائي الجديد. ثالثا، إن هذا النموذج، في محتواه وجوهره، جزء من بقايا ميل ساد المجتمع العراقي في فترات انكساره التاريخي كافة، وظهر بأوجه وأقنعة مختلفة على مر العصور. رابعا: إن الأخطار النفسية والأخلاقية التي يحدثها هذا التيار عظيمة. إن قوة هذا التيار الذاتية لا تكمن في طاقاته الخاصة، لأنه مركّب ثقافي على درجة عالية من التهافت والضعف الداخلي كمكون، لكنه يغدو قويا ومؤثرا حينما يتّحد بمؤسسات العنف المرتبطة بالارادة الأجنبية وبالتيارات المحلية ذات المشاريع المعادية للمصالح الوطنية العراقية. إن هذا التيار قوة قمع إضافية، محليّة، تسند عقليا وروحيا الخطط التدميرية للقوى المعادية لوحدة واستقلال القرار السياسي والثقافي العراقي، وتنضج بشكل مدروس ومنهجي خطط تفكيك الهوية التاريخية الوطنية. إن تتبع خطى هذا النموذج منذ ولادته، ورسم ملامحة واضحة، مجسمة، هي الوسيلة الوحيدة الممكنة، التي تجعله موضع رصد ودراسة وتحليل ونقد. إن الترابط بين الظواهر السياسية وما يرافقها أو ينتج عنها من ميول ثقافية لا يأخذ دائما طابعا مباشرا. لأن الثقافة تتميز بمقدرتها العالية على التمويه والتقنّع، وقلما تظهر وجهها سافرا. بيد أن عنصر التكرار، والنتائج المترتبة على السلوك الثقافي، تشير دائما الى اتجاهات الظواهر وتحدد مواقع ارتباطها بالأصل الذي نشأت منه. إن عنصر التكرار يؤكد أن ما يحدث الآن لا ينحصر في الأفراد، بل هو جزء من ظاهرة أشمل، تتجاوز حدود المثقف، ككيان معزول. إن ما يحدث الآن هو تجديد لدورة العنف الروحي وما يلازمها من غطاء ثقافي، وهي الدورة ذاتها التي ولدت في رحم الانظمة الاستبدادية كافة، يعاد بعثها بثوب جديد ويتّم توظيفها ثقافيا لمصلحة مستبد جديد.
" في شارع السعدون يسقط وجه الصنم البارد يرشقه الصغار بالحجارة" (فاضل العزاوي) أية منفعة يجنيها المرء من إعادة قراءة كلمات فاضل العزاوي الشعرية المشاعة هذه؟ فمن لا يعرف حكاية الصنم الذي سقط في شارع السعدون ورشقة صغار وكبار بالحجارة! بيد أن مزيّة هذا النص تكمن في حقيقته التاريخيّة. فقد كُتب قبل ما يقرب من أربعين عاما على سقوط الصنم الأكبر في ساحة الفردوس. ظهرت نجمة المجوس تلك ضمن نص اسمه "طيور في معطف الليل"، كتبه العزاوي بين عامي 1961و 1965. إذاً، نحن على الأرض العراقية! حينما نقترب من التربة العراقية، تغدو علاقة اللغة بالعنف أكثر وضوحا، لكنها ليست أقل تعقيدا والتباسا. ففي العراق تتواجه قوتان عنفيّتان، معروفتان بشدة ميلهما الى القسوة، وباستخدام الفظاظة كنهج سلوكي وأخلاقي، وأعني بهما: السلطات العراقية المتعاقبة والإدارات الأميركية المتعاقبة. لهذا السبب أخذ العنف في العراق طابعا وحشيا، مفرغا من القيم، فاق كل تصور. فالمجتمعان المتقابلان: الأميركي والعراقي، يستخدمان موروثهما التاريخي من العنف، وأكاد أجزم فأقول يتبادلانه، ويوظفانه، بتنافس أو تناغم خفي وعلني، ضد مصلحة المجتمع والإنسان العراقي ، وضد المصلحة التاريخية الأميركية والإنسانية عامة، بعيدة المدى. لقد أثبتت السنوات المنصرمة أن المجتمع العراقي غير قادر بعد على قلب المعادلات الثقافية التي سادت لعقود طويلة، والتي لعب فيها الإعلام والأدب والفن دورا شاذا، من طريق تثبيت وتقوية الميل العنفي، بدلا من الوقوف ضده ومواجهته. ومن ينظر في سبل استخدام مفهوم الاحتلال في حقبتي صدام وحقبة الاحتلال الأميركي يصل الى نتيجة غير سارة تؤكد أن السياسيين والمثقفين العراقيين يستخدمون، بابتذال تام، كلمات كبيرة كالتحرير والحرب والحرية والوطن والديموقراطية والإرهاب والإعمار والاجتثاث، وحقوق الإنسان، والمجتمع المدني. وتبين المقارنة اللغوية التاريخية، أن الكلمات التي استخدمت في مرحلة الديكتاتورية يُعاد استخدامها الآن بالمغزى والمحتوى نفسه. أي أن تواصلا، في الثقافة والممارسة السياسية، لا انقطاع فيه، يستثمر ثقافة العنف وما يلازمها من لغة تقوم على الشحن العاطفي السلبي، لصالح مشروع العنف الدولي والمحلي. فالعنف لم يزل، كما كان في حقبة الديكتاتورية، يُستخدم كمرجعية ثقافية وأسلوب لإدارة الحياة، وكنمط للعلاقات القائمة بين الأفراد والجماعات وبين مؤسسة الحكم والمجتمع، بصرف النظر عن الشعارات والأماني والنيّات.
أوطان افتراضية: الوطن نحن!
كيف ترسم اللغة صورة الوطن؟ وكيف يتم بناء الأوطان بالكلمات؟ حينما تقوم اللغة بتقزيم واختزال الوطن الى عبارة موجزة: " وطن صدام" و"عراق صدام" كما فعل مريدو مشروع الحرب الأميركية، أو حينما نقوم بتزييف وعملقة صورة الوطن، مثلما فعل أدب حقبة صدام حينما روّج لفكرة "العراق العظيم!" و"عراق الحضارات"، تنتفي الحاجة الى وجود وطن حقيقي، واقعي، وأرضي. فالوطن هنا يتجاذبه قطبان زائفان، متناقضان شكلا، متشابهان جوهرا، لا يرتبطان بواقع الحياة وحقيقتها. مثل هذا الوطن يمكن استباحته من قبل كل من هب ودب، ويمكن الثأر منه بتعليقه علنا على أعلى مشنقة. تلك أوطان زائفة، صنعتها إرادات مغشوشة. إن صورة الوطن تتشكل من اتحاد الجداول وهي تصب في النهر الكبير، ومن اتحاد قطرات المطر وهي تصب في الجدول، ومن أصغر وأدق ذرات البخار، التي تصنع بتكاثفها غيمة الوطن الروحية. حينما انتهت الحرب العالمية الثانية بهزيمة النازية تنادى مثقفو ألمانيا الى إعادة إحياء الثقافة، ووضعوا شعارا أسموه "سنة الصفر"، أي عام البداية التاريخية الجديدة، كمحاولة لإعادة تأسيس الروح الممزق والوطن المحطم. أما في العراق، فإن الصفر الثقافي بدأ على نحو غريب وشاذ، عكس حجم الدمار في الذات الوطنية، وحجم الاستباحات الروحية التي خضع لها المواطن. إن المقارانات الحسيّة مفيدة هنا، لأنها تعطينا صورة عن أنفسنا، وتجيب عن السؤال الذي نجيد إهماله: من نحن؟ ولكي تكون المقارنات أكثرعيانيّة، ندعو القارئ الى قراءة هذا النص، وسنفترض أن كاتبا يابانيا كتبه عشية الهجوم الأميركي على ناكازاكي وهيروشيما: "إعصفي بهم يا أمريكا. واتركيهم غبارا عالقا بالتاريخ. وأعيدي اليابانيين من حيث أتوا. حيث البحار نسيان. دعي القنابل تدوي بين جماجمهم. والمدافع تثور. ولا تنصتي لأحد. اليابانيون يستمنون. والشعراء مخانيث. وغوغاؤنا وجوه لا ترى إلا عند كل سوأة. عليك بهم يا أمريكا. فصلاتهم فحيح. وقبلتهم الخراب. إعصفي بهم يا أمريكا. وأعيدهم من حيث أتوا . الى الآخرة. من أجل بيرل هاربر. الآن قبل الأوان" وهذا نص آخر لشاعر، سنفترض أنه ألماني، يكتب نصه عشية اندحار قوات هتلر: " ليلة البارحة... انتابني شعور بالحقد والكراهية ضد هتلر وزمرته بعد أن تابعت على الشاشات صور أسرى الحرب الأميركان! حاولت أن أسأل نفسي لماذا لم ينتابني هذا الشعور وأنا أشاهد العديد من أبناء وطني الألمان وهم يقتلون أو يدفنون تحت أنقاض الصواريخ الأميركية" ( النصان تمت استعارتهما من مقالة بعنوان العهر الأخلاقي والثقافي، بقلم علي رشيد) وهذا نص لشاعر أميركي يصور مشاهد النهب والفرهود التي حدثت عقب اعصار اوكلاهوما : " " نقلت التلفزيونات الأميركية ولأجنبية بصورة مباشرة، وبالالوان مشاعر الشعب الأميركي، ولكن المراسلين لم يفوتوا الفرصة ايضا للنكاية بالشعب الأميركي، فهذا يقول: نهب للمحلات والمتاجر، فيما الصورة من وراء ظهره تظهر المواطنين الأميركيين يسلبون مبان حكومية بحتة" وهذا شاعرفيتنامي يعيش في لندن يقول: آن الأوان أن تتزين ساحات سايغون بنصب الجنود الأميركيين المحررين! يتساءل بعضهم: من صنع صدام؟ الجواب عن هذا السؤال يوجد في تلك النصوص. النص الأول قصيدة كتبها في 17- 3 - 2003 ،عشية الهجوم الأميركي على وطنه، شاعرعراقي رقيق وحساس، أحب أن يرى وطنه حرا. والنص الثاني انطباعات عاطفية نثرية، نشرت في المناسبة ذاتها لشاعر حداثي. حينما نتساءل: من صنع صدام، وحينما نقول بأن تلك النصوص تجيب عن ذلك، فهذا يعني أننا لا نقف عند حدود النص وقائله، وإنما نذهب الى متلقيه في المقام الأوّل. فكم عدد الذين أحسوا بالخزي عند قراءة هذه النصوص المؤذية للمشاعر السويّة؟ هنا يوجد الجواب الأبدي عن السؤال الأزلي: من صنع صدام، ومن منح الغزاة والسياسيين حق العبث بدماء أبناء شعبنا؟ إضافة الى السؤال الأهم : من نحن؟ فلو أن هؤلاء الشعراء كانوا حقا من اليابان وألمانيا وفيتنام وأميركا، لأودعوا أقرب محجر نفسي، ولتلقفتهم مدارس الأبحاث العلمية كعينات فريدة، غير قابلة للتكرار، وكشاهد حسي على حالة عاطفية تقف في تعارض تام مع نواميس الطبيعة: شاعر يطالب بتفجير جماجم أبناء جلدته، وآخر لا تنتابه مشاعر الحزن وهو يرى أبناء شعبه يمحقون بالصواريخ، وثالث يطالب أبناء وطنه المحتل أن يقيموا نصبا لمستعبديه، ورابع يمجد نهب ممتلكات الدولة، التي كان ، قبل أشهر فحسب، يمجد حروبها وقادسياتها! وإذا تركنا السياسة والحرب واتجهنا الى الرياضة، وهي مجال خال من القسوة السياسية، نعثر على الخبر الوطني التالي: " خبر رياضي - البديل العراقي 14-12- 2006 بعد فوز قطر على إيران هل سيفترس أسود الرافدين الذهب الآسيوي ؟ فهل سيجترح أسود الرافدين المعجزة ويفترسون الذهب الكروي للدورة الآسيوية الخامسة عشرة ؟ ما حققه الأسود العراقيون حتى الان من انجازات يعجل من الممكن تماما التفاؤل بنيل الفريسة الذهبية "!! أما المدى الرياضي فتنقل لقارئها الخبر التالي: الاسود تفترس الاحمر العليل وتتأهب لموقعة (بوكيت جليل) .. السفاح يجمد الدماء في عروق الفيتناميين.. وفييرا ينزع اسلحة ريدل بالقطعة. (المدى 22 يوليو 2007) أسود تفترس، ونزع أسلحة، وتجميد دماء، وموقعة، وفريسة، وسفاحون. هذه الكلمات البربرية غدت أهم مفردات القاموس الرياضي، وأهم تعابير الفخر والمديح الوطني. فالمباراة أضحت موقعة حربية، والمنافسة الرياضية نزع أسلحة، والرياضيون حيوانات مفترسة، وحتى بطل الكرة الوديع، يونس محمود، أرغموه على أن يحمل أبشع أسماء "الدلع": السفاح! وإذا تركنا الرياضة وذهبنا الى التربية نعثر على ما هو أبشع. ففي كتاب القراءة المعدل للصف الأول الابتدائي " مبادئ القراءة الخلدونية"، أجرى المربون تعديلات على الكتاب الموروث من الحقبة الماضية، وانتزعوا منه صور صدام وبعض العبارات المباشرة, لكنهم نسوا أو لم يتنبهوا الى أنهم وضعوا في صفحة التمهيد الكتابي- وهي مرحلة التمرين النفسي والحركي الأولى - ما يلخص حقيقة النظام القائم وما يربطه بسلفه. فعلى الضد من مناهج البشرية جمعاء, التي تبدأ التمهيدات الكتابية فيها بصور مشوقة، دالة, ذات مضمون إنساني، ابتدأ الكتاب المعدل بصورتين: الأولى لمسدس يطلق النار والثانية لدبابة في وضع الهجوم، يتولّى الطفل فيهما مهمة إرشاد الطلقة الى هدفها، لكي لا تضل الطريق! وفي الصفحة السادسة من التمهيد يضع المؤلفون صورة بندقية الى جوار صور الديك والبطة والهر والطفل والسيارة والساعة، كما لو أن صوت البندقية جزء من مكونات البيئة لا غنى عنه حتى في قاعات الدرس. ومثل ذلك نجده في الصفحة 88 ، ومن دون ضرورة تربوية أو معرفية ملزمة ، حيث يرغم الأطفال على رسم صورة الجندي: "نحن نرسم. أرسم الجندي قالت سعاد". و في الصفحة 45 لم يزل أطفال العراق يلبسون بدلات فدائيي صدام بزهو وخيلاء. ويتكرر المشهد في الصفحة 108 على نحو أوسع في نص" الجندي"، "أنا أحب الجندي. الجندي يحب وطنه ويدافع عنه. جيشنا جيش الأمة العربية. رعاك الله يا جيشنا البطل." ثم يعاد تكرار الأمر ثالثة في الصفحة 109 ويصبح الجيش والسلاح موضوعا شعريا، بعد أن كان موضوعا فنيا ومادة للرسم، ثم موضوعا قرائيا. " سفينتي حربية سريعة قوية. أحمي بها بحاري. من خطر الأشرار. طيارتي سريعة. متينة بديعة. أحمي بها سمائي. وتربتي ومائي. دبابتي كبيرة. ونارها كثيرة. أحمي بها حدودي. وموطن جدودي. ومدفعي ثقيل. ليس له مثيل. فصوته يدوي. يخافه عدوي." ومن سخريات القدر أن العراق لا يطل على بحار، ولا يملك سوى شريط خانق من المياه الدولية، ولكنه على الرغم من ذلك، محمي بالسفن الحربية القوية السريعة والمدافع الصوتية، التي لا مثيل لها في الواقع وفي الخيال!! ماذا أبقى شعراؤنا وكتابنا مربونا لمرتزقة الماء الأسود؟ وهل يعرف شعراؤنا وكتابنا أن جلادي أبي غريب ما كانوا يجهلون أننا نملك مثل هذه المشاعر الشاذة نحو أهلنا وأبناء وطننا. لذلك كان من المرجح أن يصبح جنود المارينز والمرتزقة الأمنيون حمقى، في نظر أنفسهم، لو أنهم لم يبادروا الى التمتع بكرمنا البربري. إن الآخر يرانا بعيوننا، ويرى وطننا من خلال الصورة التي نرسمها نحن لشعبنا، ويتعامل معنا على ضوء الصور التي نعلن بها مشاعرنا وأفكارنا. فالوطن هو نحن، نحن في خيرنا وفي شرنا.
#سلام_عبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقد المثقف الشيوعي.. من ديالكتيك ماركس الى جدلية رامسفيلد
-
نقد المثقف الشيوعي
-
محاكمة الأدب الفاشي عالميا
-
إنهم يصرعون الله بالضربة القاضية
-
تحالف الحكّام الشيعة والكرد: شراكة وطنيّة أم زواج متعة؟
-
عراقي في لوس انجلس .. الحلم الأميركي والكابوس العراقي
-
المذبحة الأخيرة على الأبواب: معركة كركوك
-
قميص بغداد!
-
الثقافة بين الإرهاب وديموقراطية الاحتلال
-
زورق الأزل! من أساطير عرب الأهوار في جنوب العراق
-
شهداء للبيع! البحث عن رفات الشهيد كاظم طوفان
-
من أوراق مثقف عراقي من سلالة اليانكي
-
حنين الى زمن أغبر! رد على نقد ثقافة العنف المنشور في صحيفة ا
...
-
مشكلة كركوك أم مشكلة الحرب على العراق؟
-
الجنس بين الرقيب الداخلي والرقيب الرسمي
-
من زعم أن العراقيين لا ينتحرون؟ - دعوة رسمية لحضور حفلة انتح
...
-
اجتثاثا البعث بين الحقيقة والوهم
-
هل التربة العراقية صالحة لإنبات ثقافة مقاومة العنف؟
-
اغتصاب الزوجات وانعكاسه في النص الأدبي
-
هل العراقيون مؤهلون لخلق حركة ثقافية معادية للعنف؟
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها
/ عبدالرزاق دحنون
-
إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا )
/ ترجمة سعيد العليمى
-
معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي
/ محمد علي مقلد
-
الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة
...
/ فارس كمال نظمي
-
التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية
/ محمد علي مقلد
-
الطريق الروسى الى الاشتراكية
/ يوجين فارغا
-
الشيوعيون في مصر المعاصرة
/ طارق المهدوي
-
الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في
...
/ مازن كم الماز
-
نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي
/ د.عمار مجيد كاظم
-
في نقد الحاجة الى ماركس
/ دكتور سالم حميش
المزيد.....
|