منذ ما يزيد على عقد ارتضى شعب كردستان العراق لنفسه وعبر الانتخابات الحرة الخيار الفدرالي والذي تجسد بقيام المجلس الوطني لكردستان عام 1992 كأول برلمان منتخب في تاريخ الكرد الحديث ، وقبل ذلك بأكثر من ثلاثة عقود نال شعب كردستان بعيد ثورة تموز عام 1958 اعترافاً دستورياً في المادة الثالثة بوجود القومي كشريك للشعب العربي في تكوين الجمعورية العراقية دون تفسير هذه المادة أو تطبيقها على الصعيد العملي كمبدأ حقيقي للشراكة في السلطة والحكم والثروة وصنع القرار . وقبل اعلان الفدرالية بحوالي عقدين حقق الشعب الكردي عبر قيادته السياسية بزعامة البارزانى الخالد انجازاً آخر في طريق تقرير مصيره القومي عندما صدرت اتفاقية الحادي عشر من آذار عام /1970 المتضمنة لقانون الحكم الذاتي لكردستان الذي وبالرغم من قيمته القانونية والسياسية ووقعه المؤثر في ذلك الوقت إلا انه وبسبب وجود نظام دكتاتوري فاشى على رأس السلطة في العراق لم يكتب له النجاح ولم يحمل أي مضمون يعترف بحق تقرير المصير للشعب الكردي حسب المبادئ المتعارف عليها عالمياً واستعملته السلطة تكتيكاً مؤقتاً جرى التخلى عنه بعد أربع سنوات .
كان واضحاً للقيادة السياسية الكردية ولشعب كردستان ان هناك اصراراً على تجاهل الواقع التاريخي والقومي لتكوين الدولة العراقية من جانب الأنظمة والحكومات المتعاقبه . هذه الدولة التي أسسها الأستعمار البريطاني بداية في العراق العربي عام 1921 ثم جرى ضم كردستان ( ولاية الموصل ) بعد اربعة اعوام دون ارادة شعبه . ومنذ صياغة القانون الأساسي ومن بعده اعلان الدستور عام 1970 تجاهل ممثلو القومية السائدة ( العربية ) من الملوك والرؤساء والحكومات وحتى القوى السياسية والأحزاب الوطنية العربية من قومية ويسارية واسلامية وليبراليه الحقيقة الكردية بما هي شعب متميز وجغرافيا محدده وموطن قومي ، وبذلك التجاهل المتواصل والمدروس منذ ثمانين عاماً تم زرع مفهوم جمعي في عقول وذاكرة الاجيال العربية في العراق يرفض الاخر الكردي كشعب له حق اختيار مصيره القومي بحريه وكعنصر من عناصر التركيبه العراقية القائمة يستحق ان يشارك حسب حجمه في عملية القرار الوطني وان يستفيد ايضا بلقدر ذاته من خيرات وطنه في البناء والأعمار والحياة السعيده .
من جانب آخر وبالرغم من حدوث اختراقات هنا وهناك ولو بشكل محدود لصالح تقييم الموقف من الحقيقه الكردستانية بعد تحرير العراق إلا ان الموقف العام للقوى الوطنية والقومية والأسلامية والتي كانت في صفوف المعارضه لايدعو الى الارتياح حيث يشوبه الغموض والتردد واحياناً يرضخ للميول الشوفينية الذرائعية بأسم الوحده الوطنية والأخوة الأسلامية والمصالح العلياً على حساب القفز فوق ارادة شعب كردستان .
ولهذا و انطلاقاً من شعور كوردي عام بوجود بسلبية موقف القومية السائده اقدمت الحركة الكردية على خطوات باتجاه حسم وتوضيح البرنامج القومي والوطني فخلال عقد كامل من اعلان الفدرالية لأقليم كردستان وعبر الانتخابات الحرة كما ذكرنا لم يظهر من الجانب الكردي أي طرح لمفهوم تلك الفدرالية وظل الأقليم دون دستور وبقي – الأعلان – الوثيقة اليتيمة الوحيده وذلك يعود الى تعقيدات الظروف السياسية العراقية والأقليمية وحتى الكردية ، وفي حزيران / 2002 بادر الحزب الديموقراطي الكردستاني الى طرح مشروعه حول كل من " دستور الجمهورية الفدرالية العراقية " و" دستور اقليم كردستان " وذلك كخطوة تمهيدية للتحضير لما بعد مرحلة الدكتاتورية ومن اجل ان يتمكن الكرد والأطراف الوطنية العراقية من الأطلاع عليه ومناقشته والمساهمة في تطويره وتعميقه على امل أن ينال الأجماع الوطني في العراق الحر المنشود .
وقد اقترن طرح البرنامج الكردستاني للسلام والتعايش والأتحاد الأختيارى والذي جسده كما ذكرنا المشروعان الفدرالييان العراقي والكردستاني المصادق عليهما من جانب البرلمان والاحزاب السياسية جمعاء بتحرك سياسي تجاه بغداد بعد التحرير ومشاركه فعاله في تحمل اعباء استكمال عمليه التحرير وبناء الدولة الحديثة وتحقيق الأمن والأستقرار ، و بمناقشه المصير المشترك بكل صراحة ووضوح مع اعضاء مجلس الحكم وممثلي القوى السياسية الأخرى خارج المجلس ، فقد طرح ممثلو شعب كردستان مشروعهم للسلام والتعايش على اساس فدرالي أمام ممثلي القومية السائده وتحديد العلاقة الكردية – العربية على أساس الشراكه الحقيقية والأعتراف بالحقوق وعلى رأسها حق تقرير المصير لشعب كردستان الذي اختار النظام الأتحادي كتجسيد لذلك الحق ، وعلى هذه القاعده يمكن بناء عراق تعددي موحد يعزز الوحده الوطنية دون اكراه أو اضطهاد أو تمييز بين القوميات والأديان والمذاهب – أي اجراء تغيير جذري في مفهوم الوطن والمواطنه والشراكه والأتحاد الأخياري الذي دام ثمانين عاماً باتجاه المزيد من الديموقراطية
والشفافية والضمانات الدستورية والقانونية ورؤية الآخر الكردستاني ، وبخلاف ذلك فإن الجانب الكردي يمتلك خيارات اخرى وهوحر في اتخاذ مايراه مناسباً متطابقاً مع ارادة شعب كردستان من خلال مؤسساته الشرعيه وبرلمانه وقواه السياسيه وقومياته المتعدده ومنظماته الأهلية واوساطه الأجتماعية والثقافية ومرجعياته الشرعيه الأخرى التي سيفرزها المستقبل بالوسائل الديموقراطية .
تجارب التطبيق الفدرالي قديماً وحديثاً :
الفدرالية كما هي متعارف عليها في التراث البشرى وفي التجارب القديمة والحديثة بالدول والكيانات المتعددة القوميات . هي ممارسة حق بوجهين : حق الأستقلال الذاتي في الحدود الجغرافية المرسومة لشعب في موطنه التاريخي الأصلي وحق المشاركه في ادارة الشؤون المركزية حسب نسبته في الدولة المركبة وحجمه البشري وذلك في السلطات الثلاث ( التشريعية والتنفيذية والقضائية ) وهذه الصيغة الأتحادية
( الفدرالية ) المتفق عليها بين عناصر الدولة المعينة هي تجسيد عملي لمبدأ حق تقرير المصير بالنوع الذي يرغبه الشعب المعنى أو الشعوب المعنية المتحده ، وهي السبيل الأمثل للتوازن بين القوميات والمناطق والمشاركة الفعلية في صنع القرار وحكم الجماعه بدل سلطه الفرد .
ومن أقدم التجارب الفدرالية في العالم الأتحاد الذي تم بين مناطق مختلفه في سويسرا عام / 1291 على أساس – الأتحاد التعاهدي – ثم قام الأتحاد السويسري عام / 1874 على انقاضه ، وفي امريكا قام الأتحاد عام / 1789 على أساس تعاهدي – ايضاً وهو الآن تطور الى اتحاد فدرالي متطور فيما الأتحاد السويسري وصل الى اتحاد / 26/ كانتون ونصف الكانتون هذه التسميه للمقاطعات ينفرد بها سويسرا فيما الولايات المتحدة الأمريكية تطلق على اتحاد ولاياتها باتحاد دول ( States ) وكذلك كندا .
أما الأتحاد الفدرالي الألماني فقام بين 1871 – 1918 في ظل الأمبراطورية الألمانية وقام هذا الأتحاد بين / 26 / ولاية عقب الحرب السبعينية مع فرنسا . وكان على شكل سلطات فدرالية وكذلك محلية على صعيد الولايات مع حق الأحتفاظ بالتمثيل الدبلوماسي المنفرد مما اطلق عليه ايضاً الشكل – التعاهدي – وليس الفدرالي . كذلك ظهر الأتحاد الفدرالي الألماني ( جمهورية فايمار ) 1919 – 1923 من / 17/ ولاية ومن مجلسين : مجلس الولايات ومجلس الشعب . وهناك اتحادات في الهند والبرازيل وكندا واستراليا والأرجنتين ونيجيريا وبلجيكا .
تتوزع الصيغة الأتحادية ( الفدرالية ) من حيث الشكل والمضمون بين تجارب وممارسات واشكال متعدده فهناك الفدرالية على أساس قومي جغرافي كما هو حاصل في كل من ( سويسرا – كندا – بلجيكا وكما هو مطروح للسودان والعراق ) وهناك ايضاً الفدرالية بين الولايات والمناطق والأقاليم كما هو متبع في ( الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية المانيا الأتحادية واستراليا والبرازيل ) وهناك ايضاً الفدرالية بين الآديان والطوائف والمذاهب والأمارات والمشيخات كما هو حاصل في ( الهند والأمارات العربية المتحدة ولبنان ونيجيريا ) وهناك ايضاً الفدرالية بين النقابات والمنظمات الأجتماعية والثقافية والسياسية .
من جهة اخرى هناك في التجارب العالمية اشكال من الفدرالية من جمهوريات فدرالية ، الى اقاليم فدرالية الى كيانات وسلطات فدرالية . وتقتصر طريقة تشكيل الفدرالية على اسلوبين وهما : اما اتحاد مناطق واقاليم مختلفه وبارادة جماعيه وتشكيل دول فدرالية كما حصل في تجارب الأمم والشعوب التي ذكرناها آنفا ، أو تفكيك دولة مركزية الى دولة فدرالية او دول متعدده حسب ارادة شعوبها كما حصل للأتحاد السوفيتي – ويوغسلافيا – السابقة واندونيسيا ونسبياً لأفغانستان وكما هو متوقع أن يحصل للسودان والعراق . وهنا من المناسب ذكر أن احدث وانجح التجارب في مجال تحويل دوله مركزية الى فدرالية ماتم في – بلجيكا – كما لاحظنا توزع التطبيقات الفدرالية بمختلف اشكالها في جميع القارات ويمكن الأستفادة منها جزئياً أو كلياً حسب الحاجه المطلوبه والأمر المشترك بين جميع هذه التجارب منذ قرون وحتى الآن هو اخضاع أسس ومبادئ الفدرالية كنظام سياسي دستوري لمتطلبات مصالح الشعوب وهي لاتشكل صيغة موحده غير قابله للتنوع وبالأخير سترضخ لارادة واهداف القوميات والعناصر المكونه
لها في كل زمان ومكان . واذا كنا قد استحضرنا تطبيقات الفدرالية من امريكا وحتى استرايا مروراً بآسيا وافريقيا واوروبا والشرق الأوسط ، فإنه من المفيد استعراض التجارب الأقرب الينا وهنا لابد من التوقف قليلا عند تجربة السودان حول قضية شعب جنوبه . واذا كانت التجربة لم تكتمل حتى الآن إلا انها نموذجاً متقدماً للشعوب الأخرى وللدول المتعدده القوميات المرشحه للتحول من المركزية المطلقة وسيطرة القومية السائدة عبر الحكم الشمولي والشوفيني الى الاتحاد الطوعي الأختياري بين عناصره في ظل الحريه والديموقراطية .
فقد دشنت اتفاقية عام / 997 بين الحكومة والحركة الشعبية لجنوب السودان نهجاً جديداً على طريق الحل عندما أقرت باجراء استفتاء في الجنوب – فقط في الجنوب – حول أمرين : 1- الوحدة على اساس ( الكونفدرالية – أو الفدرالية أو الحكم الذاتي ) 2- الأنفصال . وقد شكلت الأتفاقية أساسا متينا للمضي في المصالحه والتفاهم خاصة وانها اعترفت بأن حق تقرير المصير يقرره شعب جنوب السودان وليس شعب شمال السودن . لأن الأمر يعنيه أولا واخيراً ولن ينوب عنه احداً .
وجاءت اتفاقية – مشاكوس – في كينيا بين الطرفين وباشراف قوى اقليمية ودولية كبرى عام / 2002 لتعالج القضايا التفصيلية والجزئية انطلاقاً من الأتفاقية المبدئية السابقة ، فاقرت بوجوب ايجاد حكم ديموقراطي تعددي يتحقق فيه حق تقرير المصير للجنوب واقتسام السلطه والثروه ، وتشكيل جمهورية بأسم كونفدرالية السودان من دولتين ( جنوبيه وشمالية ) كل دولة لها دستورها وقوانينها الخاصه ، وتتعاون كشريكين في مجال الأقتصاد والسياسة الخارجية أي دولة بنظامين وجيشين ومشكلة من ثلاث كيانات : جنوب – شمال والكيان المركزي يتم فيها توزيع عائدات النفط بشكل عادل مع هيئة مشتركة للأشراف على استخراج وتصدير وتسويق النفط .
وكما هو متوقع فإن الجولة الأخيره من المفاوضات الجاريه الآن ستشهد طرح قضايا جديده من جانب – الحركة الشعبية – ومن اهمها اعادة تكوين الأجهزة الأمنية الأتحادية ( أمن داخلي – أمن خارجي – شرطه شعبية – اجهزة اعلام – مؤسسات واجهزة دستورية عليا – محكمة عليا قانون المحاسبه ورد المظالم – آليه لمسألة حقوق الأنسان والأنتهاكات السابقه وسيادة حكم القانون ) وكذلك ترسيم حدود الجنوب والدستور ، وازاله الأحكام العرفيه وقانون الطوارئ .