منذ القدم نشأ صراع فلسفي بين المثالية والمادية ما زال محتدما حتى يومنا هذا. وكانت المسألة الاساسية التي يسستند اليها هذا الصراع هي هل المادة اساس والفكر انعكاس لها في الدماغ الانساني ام الفكر هو الاساس والمادة هي انعكاس له؟ ونشأت الديانات كلها على مختلف اشكالها منذ القدم وحتى اليوم على اساس الفلسفة المثالية حيث ادعت وجود قوة خارجية، الالهة، خلقت العالم وهي تسيطر على حركته بينما نشأ العلم عموما على اساس مادي هو دراسة صفات المادة المحيطة بالانسان وتوجيه هذه الصفات لخدمته.
وكان من نتيجة نشوء الاديان ايمان الناس بها وعبادة الاله الذي اعتبرته تلك الديانات الهها. واذا اخذنا الديانات القريبة منا، الديانات التوحيدية كاليهودية والمسيحية والاسلام، المحيطة بنا ونلمسها اكثر من غيرها نجد ان الله لم يكن في الواقع هو الذي فرض نفسه علينا انما قدمه لنا اناس مثل الانبياء موسى والمسيح ومحمد، زعموا ان الله ارسلهم لكي ينشروا عبادته بين الناس. ولكن ادعاءات الانبياء هذه لم تكن كافية لجعل الناس يؤمنون بهم ويتبعونهم ويمارسون عبادة الله بطريقتهم. فقد كان لهؤلاء الانبياء ما يقدمونه للناس من حلول للمشاكل التي كانوا يعانونها ووسائل لتحريرهم من بعض القيود التي كانوا يرزحون تحتها. ولدى مر الايام اصبح تمثيل الله على الارض اختصاصا يحترفه الكهنة من كل نوع وينفذون مصالح الطبقات الحاكمة في مختلف العصور باسم الله وباسم عبادته.
نرى من هذا ان الله وسائر الالهة هم من خلق الانسان نفسه وليس هناك اي اله فرض على الناس عبادته بنفسه مباشرة. هذا هو التحليل المادي لنشوء الاديان والعبادات على اشكالها.
كانت الماركسية قمة الفلسفات المادية اذ ربطت بين المادية والديالكتيك وحللت المجتمع الانساني والانتاج الاجتماعي بطريقة علمية واظهرت ان نفس القوانين الموضوعية التي تتحكم بحركة الكون تنطبق على حركة تطور المجتمع وان المجتمع طبقا لذلك يتطور وفقا لقوانين موضوعية خارجة عن ارادة الانسان.
وحين تسنم الخروشوفيون سلطة الدولة وقيادة الحزب البلشفي بعد وفاة ستالين شرعوا بتحويل الاتحاد السوفييتي من دولة اشتراكية متقدمة الى دولة راسمالية امبريالية واضطروا في سبيل ذلك الى ابتداع فلسفات ومفاهيم لخدع شعوب الاتحاد السوفييتي وشعوب العالم ولاخفاء حقيقة اعمالهم التدميرية للدولة الاشتراكية وللحركة الشيوعية العالمية.
ومن جملة المفاهيم التي اوجدوها لغرض محاربة اللينينية والاشتراكية التي بنيت وفقا لها، مفهوم "عبادة الشخصية" وزعموا ان ستالين، وهو اخلص من طبق اللينينية في بناء المجتمع الاشتراكي، هو الذي فرض عبادته على الشعوب السوفييتية.
رأينا ان جميع الديانات نشأت ليس باوامر من الالهة انفسهم بل بظهور قادة مصلحين لمشاكل المجتمع الذي يعيشون فيه عجزوا في مراحل ظهورهم التاريخية عن جر الناس وراءهم بغير الطابع الديني. وكانت البرجوازية اول طبقة لم تكن بحاجة الى الدين كوسيلة لتنظيم الجماهير من اجل تحقيق ثورتها البرجوازية.
فهل كانت في الاتحاد السوفييتي او في العالم عبادة ستالين حقا؟
اذا كان يقصد بالعبادة حب شعوب الاتحاد السوفييتي وشعوب العالم لستالين وتنفيذ شعوب الاتحاد السوفييتي لاوامره وتوصياته وتنفيذ برامجه فالجواب نعم. فلم ينل اي قائد سياسي في التاريخ ما ناله لينين ومن بعده ستالين من الحب والتقدير من شعوب الاتحاد السوفييتي. وقد تجلى ذلك في حماس البروليتاريا السوفييتية ومن ورائها سائر الكادحين في تحقيق اول مجتمع اشتراكي في التاريخ بالقضاء على اخر معاقل البرجوازية، طبقة الكولاك، وفي انشاء الكولخوزات وفي تنفيذ مرامج السنوات الخمس الاولى قبل الاوان. تجلى في تفاني شعوب الاتحاد السوفييتي في القضاء على المحتل النازي الغاشم وانقاذ العالم منه. تجلى في تحول الطبقة العاملة كلها سواء في الاراضي المحتلة ام في الاراضي غير المحتلة الى جيش موحد لمحاربة النازيين بكل الوسائل التي توفرت لديهم. تجلى في تحويل حرب ستالينغراد وفقا لنداء ستالين الى ساحة حرب دافع فيها الجيش الاحمر وسكان ستالينغراد عن كل حجارة من حجاراتها. وتجلى في حماس الشعوب السوفييتية في اعادة بناء ما دمرته الحرب.
لم يستطع حتى خروشوفي عريق مثل غورباشوف انكار ذلك. فقد كتب في بيريستروكاه في معرض المقارنة بين حماس شعوب الاتحاد السوفييتي في تلك الفترة وخمول هذه الشعوب ولا اباليتها ولجوئها الى ادمان الخمور في الفترة الثانية حيث قال "وبدأ انحطاط الخلق الاجتماعي وضعف ذلك الشعور العظيم بالتضامن الذي تولد في حمأة الزمن البطولي للثورة. وفي ابان الخطط الخمسية الاولى والحرب الوطنية العظمى وفي خلال مرحلة البناء التي تلت الحرب. فكان ان شدت اواصر الناس بعضهم الى بعض، اضف الى ذلك انه ازداد الادمان على الخمور والمخدرات وارتكاب الجريمة. وقوى تغلغل انماط من الثقافة الجماهيرية غريبة عنا. بكل ما تتسم به من التفاهة والابتذال والذوق البدائي وخواء الروح." (غورباشوف، بيريسترويكا، الطبعة اللبنانية ص ٢٥)
ولكن غورباشوف، وهو التحريفي الكبير، ينسى او يتناسى ان هذه الفترات البطولية التي يتحدث عنها هي ذاتها الفترات التي كان ستالين قائدها ومهندسها وملهمها بينما الفترة الحالية، فترة التفسخ واللاؤبالية والسوق السوداء هي بالذات الفترة التي قادها اسلافه الخروشوفيون.
فهل يمكن اعتبار حب شعوب الاتحاد السوفييتي لستالين وسيرها تحت قيادته بهذا الحماس المنقطع النظير عبادة؟ واذا كان هذا عبادة فما معنى القيادة اذن؟ ان حب ستالين كان تعبيرا عن ادراك الشعوب السوفييتية لقيادته الصحيحة الحكيمة وكانت النتائج التي توصلت شعوب الاتحاد السوفييتي الى تحقيقها تحت قيادته برهانا ساطعا على ذلك. ولكن حب ستالين لم يقتصر على شعوب الاتحاد السوفييتي وحدها. كانت شعوب العالم كلها تقدر ستالين وتتطلع الى كلماته الحكيمة وتستلهمه في نضالاتها سواء لدى شعوب المستعمرات واشباه المستعمرات التي كانت تخوض معاركها من اجل تحقيق ثوراتها البرجوازية ام في الدول الراسمالية حيث كانت البروليتاريا تناضل من اجل تحقيق ثوراتها الاشتراكية. فهل يمكن اعتبار ذلك عبادة؟ وهل يمكن اعتبار ستالين مسؤولا عن عبادة كهذه؟ اضف الى ذلك شاهد العالم كله، حتى اعداء الشيوعية وانصار الراسمالية، ان قادتهم كانوا على ضلال وكانوا يخدعونهم حين ساندوا هتلر قبل الحرب وغرروا بهم حين حاولوا اقناعهم بان تقديم التنازلات لهتلر كان من شأنه ان يؤدي الى ابعاد خطر الحرب في العالم واحلال السلام لمدة طويلة. رأوا ان قادتهم كانوا على ضلال حين زعموا ان الاتحاد السوفييتي مظهر كاذب وانه لن يستطيع الصمود في وجه جحافل الجيوش النازية اكثر من ثلاثة اسابيع، وان شعوب الاتحاد السوفييتي التي يستعبدها الحزب الشيوعي ويرهبها ستالين ستنتفض وتحرر نفسها من ظلم الشيوعية فور هجوم الجيوش الامبريالية عليها. ولذا كان هؤلاء الناس، رغم كرههم للشيوعية، يرون في خطابات ستالين وارشاداته التي اثبتت صحتها مقياسا لتفهم الاحداث العالمية. فهل يمكن اعتبار ذلك عبادة للشخصية؟
لقد حكم غورباشوف على بيريسترويكاه بالموت حين اكد على ان البيريسترويكا سيكون مصيرها مصير اصلاحات خروشوف وبريجنييف اذا لم تهب شعوب الاتحاد السوفييتي لمساندتها كما في فترة بناء الاشتراكية. فالسلبية التي تتصف بها شعوب الاتحاد السوفييتي حاليا ليست امرا عفويا بل نوعا من انواع المقاومة السلبية لسياسة الخروشوفيين الذين اعادوا الراسمالية واستغلالها الى الاتحاد السوفييتي. ولم يظهر بعد هناك قادة مثل لينين وستالين لتنظيم الطبقة العاملة وسائر الكادحين من اجل الاطاحة بالطبقة البرجوازية الجديدة، طبقة خروشوف وغورباشوف، والعودة الى بناء الاشتراكية. ان وجود مثل هؤلاء القادة على رأس حزب من الطراز اللينيني شرط ضروري لكي تعود شعوب الاتحاد السوفييتي الى حماسها وبطولاتها التي اذهلت العالم واذذاك فقط سيعود ماركس وانجلز ولينين وستالين الى انارة الطريق لهذه الشعوب في اعادة بناء الاشتراكية والتقدم نحو المجتمع الشيوعي كما يحدث الان في البانيا الاشتراكية.
ان حماس السوفييتيين حاليا يبرز فيما نشاهده من تنامي الحركات القومية البرجوازية كما ظهر اخيرا في استونيا ولاتفيا وليتوانيا وارمينيا واذربايجان وسيظهر بالضرورة في اماكن اخرى من الاتحاد السوفييتي. يبرز في مطالبات مكافحة الغلاء وتوفير المواد الغذائية والمواد الاستهلاكية وفي النضال من اجل حماية حقوق العمال التي تستلب يوما بعد يوم.
ولو كان بامكان شخص ان يفرض عبادته على الناس لاستطاع خروشوف الذي ملأ الدنيا صراخا وضجيجا في تبجحاته حول كفاءاته النادرة ونجاحاته وعبقريته في اصلاح الاراضي البور. ولكن الناس لم تعبده ولم تتحمس له فكان مصيره المصير الذي آل اليه ويعرفه العالم كله. بل لاستطاع غورباشوف نفسه الذي جعل من بيريسترويكاه كانها بداية تاريخ البناء واعادة البناء ليس في الاتحاد السوفييتي فقط بل في ارجاء العالم. وقد بلغ به التهور الى درجة انه صور كل النجاحات التي احرزتها شعوب الاتحاد السوفييتي نتاجا للبريسترويكا خلال السنتين من حكمه منذ ان اكتشف البيريسترويكا.
فكما ان الالهة لا تستطيع ان تفرض نفسها على العباد كذلك لا يستطيع القادة فرض حبهم على الشعوب. فالشعوب تريد طريقا واضحا. تريد قائدا مثل لينين وستاليين ينير لها هذا الطريق في انجاز ثورتها وبناء مجتمعها لكي تخلص له الحب وتسير وراءه في ثورة اكتوبر وفي بناء الاشتراكية وصيانتها من النازيين.
لم يكن حب ستالين متساويا لدى كل الناس من حيث فهمهم له وادراكهم لتضلعه العبقري بالماركسية اللينينية وعظمته في تطبيقها على الطريق الجديد الذي شقته شعوب الاتحاد السوفييتي بنجاح وتحسسه لكل انحراف عن الماركسية وعن طريق تقدم الاشتراكية في اتجاه بناء المجتمع الشيوعي. فقد كان بين الناس داخل الاتحاد السوفييتي وخارجه من كان حبهم لستالين سطحيا يتركز على المظاهر وحدها. اورد مثالا على ذلك كان شائعا جدا حتى بين الشيوعيين خارج الاتحاد السوفييتي. كان ذلك الاعتزاز بشاربي ستالين الى درجة ان بعضهم كان يعتبر ان الشيوعي لا يكون شيوعيا حقيقيا بدون شاربين كثيفين شبيهين الى حد ما بشاربي ستالين. وهذا النوع من الحب، الحب السطحي غير المبني على اساس الدراسة والتفهم والتتبع، يمكن تشبيهه بالعبادة. وكما تولى الكهنة في مختلف الاديان بث الدين وادعاء تمثيل الالهة اخفاء لخدمتهم مصالحهم الخاصة ومصالح الطبقة الحاكمة في عصرهم كذلك كان في الاتحاد السوفييتي اشخاص يحيطون بستالين قاموا بدور الكهنة في الديانات الاخرى لكي يتستروا وراء عبادة ستالين لاخفاء مؤامراتهم البشعة ضد ستالين ولينين والماركسية والاشتراكية ومن اجل اعادة الراسمالية الى بلد الاشتراكية الاول. كان هؤلاء من ناحية يقدمون لستالين تقارير مشرقة كاذبة عن الاوضاع ومن الناحية الثانية يسكتون الشعب عن التذمر والانتقاد بحجة عدم ازعاج "الشيخ". ان من يريد ان يرى مثالا رائعا على ذلك ما عليه الا ان يقارن بين خطاب خروشوف في المؤتمر التاسع عشر حين كان ستالين حيا وخطابه في المؤتمر العشرين بعد وفاة ستالين.
كان ستالين يشعر بنشاط مثل هؤلاء الكهنة ويحبط محاولاتهم التي يطلع عليها. ويبدو ان نضاله ضدهم لم يكن كافيا. وقد قال عنهم مرة "انهم يرفعون من اسمي حاليا لكي يشوهوا سمعتي بعد وفاتي". وقد كان جوابه على اللجنة التي كانت تضع كتاب الاقتصاد السياسي الذي كان ستالين يعتبره كتابا دراسيا لجميع الشيوعيين في العالم نموذجا على نضاله ضد اية عبادة للشخصية. فقد اقترحت اللجنة وضع فصل خاص في اخر الكتاب حول لينين وستالين باعتبارهما مؤسسا الاقتصاد السياس الاشتراكي فكان جوابه "هل يجب ان يكون فصل خاص في الكتاب عن لينين وستالين باعتبارهما مؤسسا الاقتصاد السياسي للاشتراكية؟ اعتقد ان الفصل المعنون "النظرية الماركسية للاشرتاكية تأسيس الاقتصاد السياسي للاشتراكية من جانب لينين وستالين يجب ان يحذف من الكتاب اذ ليست له ضرورة بتاتا، نظرا الى انه لا يضيف شيئا بل يكرر فقط بصورة لا ذوق فيها ما سبق ان قيل بمزيد من التفصيل في فصول الكتاب السابقة". (ستالين، القضايا الاقتصادية للاشتراكية، الطبعة الانجليزية) ترى هل هكذا يتكلم من يريد من الناس عبادته؟
وردا على المديح الذي كاله له بعض رفاق الحزب في احد الاجتماعات اجاب ستالين "يجب ان اقول مع ضمير حي، ايها الرفاق، انني لا استحق نصف هذه الامور التملقية التي قيلت عني هنا. يبدو انني بطل ثورة اكتوبر، قائد الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، قائد الاممية الشيوعية، الفارس الاسطوري وما الى ذلك. هذا سخيف ايها الرفاق ومبالغات لا ضرورة لها. انها من نوع الامور التي تقال عادة في تأبين ثوري متوفى وليس في نيتي ان اموت في الحال الحاضر." (ستالين م ٨ ص ١٨٢)
صور الخروشوفيون ستالين بانه رجل متعطش للدماء يفتك بكل من يتجرأ على انتقاده. شخص هو الامر الناهي الذي لم يترك لاي شخص اخر فرصة مشاركته المسؤولية. شخص حقق ما حققه من انجازات بالحديد والنار. وما زال كل قائد سوفييتي لحد اليوم اعجز من ان يقدم برنامجا جديدا او يتخذ خطوات جديدة بدون تسعير الهجوم على جرائم ستالين. وهذا ما نراه واضحا اليوم في عصر البيريسترويكا. ان هذا امر طبيعي. فالتطور في الخطوات والسياسات والبرامج الجديدة كلها معادية للماركسية اللينينية التي كان ستالين اعظم ممثليها بعد لينين واكبر مطبق لها في بناء الاشتراكية. وكانت وما زالت كتاباته منارا يهدي كل شيوعي مخلص سواء في داخل الاتحاد السوفييتي ام في خارجه. وليس بمقدور هؤلاء المحرفين الاقزام ان يناقشوا كتابات ستالين العملاق لان كل جملة فيها تشكل طعنة لهم في يالصميم وتكشف عن سر اعادتهم للنظام الراسمالي الذي قدمت شعوب الاتحاد السوفييتي اغلى التضحيات في سبيل القضاء عليه. وهذا هو السر في ان الهجوم على ستالين مركز على جرائمه المزعومة مع السكوت سكوتا مطبقا على كتاباته. فهل كان ستالين قائدا من هذا الطراز؟ ان تاريخ الاتحاد السوفييتي في فترة قيادة ستالين يبرهن على خلاف ذلك. لا اريد ان اتطرق الان الى ناحية الانجازات والحماس الذي رافقه اذ يكفي في ذلك ما جاء على لسان غورباشوف في العبارة المقتبسة اعلاه.
أود الان ان اتطرق بايجاز الى كيفية سير المناقشات في الحزب وبين شعوب الاتحاد السوفييتي في تلك الفترة.
من المعروف ان انتخاب ستالين سكرتيرا للحزب الشيوعي البلشفي جرى في ايام لينين وباقتراحه. ولكن تروتسكي، وهو الذي حارب لينين منذ ١٩٠٣ وحتى الاشهر الاخيرة من سنة ١٩١٧، ادعى بعد وفاة لينين مباشرة انه احق من ستالين بالقيادة وفرض على اللجنة المركزية التصويت على ذلك فلم ينل تروتسكي فيه سوى صوت واحد هو صوته اذ تخلى عنه حتى اقرب الناس اليه فصوتوا ضده.
كان الاتحاد السوفييتي بعد وفاة لينين المبكرة وفقدان قيادته الماركسية الحكيمة يشق طريقا جديدا لم يسبق لاية دولة او اي حزب سلوكه فيما مضى. كان يريد بناء الاشتراكية ولم تكن لدى القادة الشيوعيين اية خبرة سابقة في بناء مثل هذا المجتمع. فنشأت شتى النظريات والاراء وكانت هذه الاراء كلها تنشر على صفحات الجرائد وفي كراريس وكتب ليناقشها اعضاء الحزب والطبقة العاملة وسائر الكادحين.
كانت جميع الاراء تناقش علنا وتكتب في الجرائد وتطبع في الكتب. فاراء تروتسكي وبخارين وزينوفييف وكامينيف وغيرهم كانت تظهر شأنها شأن اراء ستالين ومولوتوف وكالينين وجدانوف وغيرهم. وكان على قيادة الحزب وعلى الحزب والشعب ان يقرروا اي هذه الاراء هي الاصح وايها الذي يؤدي فعلا الى بناء الاشتراكية. وفرض تروتسكي على الحزب استفتاءين عامين يختار الاعضاء فيهما بين ارائه واراء ستالين. فوضع الحزب ثقته بستالين وبسياسته وشجب سياسة تروتسكي وطرد تروتسكي بعد الاستفتاء الثاني من الحزب ومن الاتحاد السوفييتي. كان الانتهازيون يعولون بالدرجة الرئيسية في نضالهم من اجل اعادة الراسمالية على اكبر فئة متبقية من البرجوازية هي طبقة الكولاك. وحين اشتد الصراع الحزبي الداخلي طرد اشخاص مثل بخارين وزينوفييف وكامينيف من الحزب وهو اشد اجراء يستطيع الحزب ان يفرضه من عقوبات. فالحزب اتحاد اختياري لاناس يؤمنون باهداف معينة ويخضعون لنظام معين. ومن خالف اهداف ونظام الحزب مصيره الطرد. وسياسة تطهير الحزب من حين لاخر سياسة لينينية معروفة.
ومع كل ذلك لم تقطع ولا رقبة واحدة خلال هذه النقاشات، ودليل ذلك ان هؤلاء المطرودين قدموا الى الحزب اعترافا باخطائهم وتعهدوا بالتمسك باهداف الحزب والخضوع لنظامه والسير تحت قيادته البلشفية وعلى رأسها ستالين فاعادهم الحزب الى مناصبهم لانه لا يريد ان يفرط باية كفاءة او خدمة مخلصة في سبيل تحقيق اهداف الحزب.
بعد ابادة الكولاك كطبقة ونجاح الحركة الكولخوزية فقد هؤلاء سندهم الرئيسي الذي كانوا يضعون عليه امالهم في تحقيق معارضة جماهيرية فانعزلوا عزلة تامة وتحولوا من سياسة المناقشة والمحاججة والتحريض الى سياسة التخريب والاغتيالات والتعاون مع العدو الاجنبي. واذ ذاك انتهى دور النضال الحزبي الداخلي وجاء دور دكتاتورية البروليتاريا ومهمتها في القضاء على الرجوازية وممارسة القمع ضد كل مؤيديها واعوانها. فقدم عؤلاء المجرمون الى محاكم الدولة وحوكموا لا على ارائهم التي واصلوا بثها طوال السنين بل على جرائمهم التي ارتكبوها واعترفوا بها امام محكمة علنية حضرها جميع السفراء الموجودين في الاتحاد السوفييتي وممثلو الصحافة العالمية. والغريب ان احدا منهم لم ينبس ببنت شفة ولو بالتنويه بالطعن بعدالة المحكمة او التحقيق الذي سبقها رغم اعترافهم التام بجرائمهم البشعة وعلمهم ان جزاء هذه الجرائم هو الموت المحقق. وقد قام حكام الاتحاد السوفييتي الحاليون باعادة اعتبار هؤلاء المجرمين حتى بدون اعادة علنية لمحاكماتهم واعتبارهم من ضحايا ستالين.
أليس واضحا من كل ذلك ان سلوك القيادات السسوفييتية التي تعاقبت بعد وفاة ستالين هو سلوك مثالي لا مادي بصدد موضوع عبادة الشخصية اذن؟
٧ كانون الثاني ١٩٨٩
----------------------------------------------------
[1] ينشر هذا المقال لاول مرة