تزامنت الذكرى الخامسة والخمسون للإعلان العالمي لحقوق الإنسان مع مناسبة أخرى لافتة، طارئة واستثنائية وفريدة للإنصاف، هي تسليم جائزة نوبل للمحامية الإيرانية شيرين عبادي، أوّل امرأة مسلمة تنال هذه الجائزة الأرفع، والمرأة رقم 11 بين 103 أسماء منذ عام 1901. والحال أنّ أهمية هذه المناسبة الثانية لا تنبثق من الصلات التي تجمع جائزة نوبل للسلام بمسائل حقوق الإنسان (لأنّ سجلّ الجائزة يقول الكثير المناقض لتلك الصلات في الواقع، وخذوا العبرة من بعض أسماء الحائزين على الجائزة: شمعون بيريس، اسحق رابين، إيلي فيزل، مناحيم بيغين، هنري كيسنجر، ثيودور روزفلت...)، أو من الصلة بحقوق المرأة بصفة خاصة (بدليل الإحصائية السابقة الفاضحة، حول نسبة النساء إلى الرجال في حصاد الجائزة). الأهمية تنبثق، حصراً ربما، من المعنى الثقافي ـ السياسي لهذا التزامن، في هذه المرحلة من تاريخ البشرية، في هذه الشروط الراهنة من أحوال التنمية والتقدّم والحرب والسلام وعلاقات الشرق بالغرب.
واسمعوا ما قالته المحامية الإيرانية الشجاعة في محاضرة نوبل ساعة تسلّم الجائزة: "اليوم يصادف الذكرى الخامسة والخمسين لتبنّي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ وهو إعلان يبدأ من الاعتراف بالكرامة المتأصلة والحقوق المتساوية الثابتة لجميع أعضاء الأسرة البشرية، بوصفها أساس الحرية والعدل والسلام في العالم. وهو إعلان يَعِد بعالم يتمتع فيه أبناء البشر بحرّية التعبير والرأي، وبالتحرّر من الخوف والفقر".
ماذا نجد على الأرض، عملياً وعيانياً؟ تتابع عبادي: "من المؤسف أن برنامج الأمم المتحدة للتنمية UNDP هذا العام، وجرياً على أعوام سابقة، يشدّد بوضوح تامّ على تعاظم الكارثة التي تنأى بالبشرية عن ذلك العالم المثالي الذي رسمه أصحاب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ففي عام 2002 عاش قرابة 1.2 مليار آدميّ في فقر مريع، بدخل يقلّ عن دولار واحد يومياً. وهنالك 50 بلداً وقعت ضحية الحروب أو الكوارث الطبيعية. وحصد مرض الإيدز أرواح 22 مليون نسمة، محوّلاً 13 مليون طفل إلي أيتام"!
العنصر الآخر الذي يكمل المشهد القاتم هو وضع حقوق الإنسان، لا في البلدان التي اعتادت انتهاكها فحسب، بل أساساً في البلدان التي اعتادت تمجيد تلك الحقوق وتحويلها إلى أناجيل معاصرة. تقول عبادي: "في الوقت نفسه، خلال السنتين الماضيتين، انتهكت بعض الدول المبادىء والقوانين الكونية لحقوق الإنسان عن طريق التذرّع بأحداث 11 أيلول والحرب على الإرهاب الدولي (...) وإنّ قلق المدافعين عن حقوق الإنسان يزداد حين يلاحظون أنّ قوانين حقوق الإنسان الدولية لا تُنتهك على يد خصومها المعتادين تحت ذريعة النسبوية الثقافية فحسب، بل هي أيضاً تُنتهك في الديمقراطيات الغربية، أي في البلدان التي كانت هي ذاتها في عداد روّاد ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان".
ولكي لا تغيب مسألة تسييس حقوق الإنسان، تلك الذريعة الأخرى الماكرة التي تختفي خلف شعائرها عشرات أمثلة السكوت عن جرائم الأنظمة هنا وهناك في العالم، تذكّر عبادي المجتمع الإنساني بأنّ الأمم المتحدة (صاحبة الإعلان العالمي وراعيته والساهرة على تنفيذه، في عبارة أخرى) هيئة مشلولة إجمالاً، وأمّا حين تنشط وتصبح فاعلة فلكي تكيل بأكثر من مكيال متباين متضارب إزاء القضية الواحدة المتماثلة: "لماذا صدرت عن الأمم المتحدة، في الـ 35 سنة الماضية، عشرات القرارات الخاصة باحتلال دولة إسرائيل للأراضي الفلسطينية، ولم تُنفّذ؛ في حين أنّ العراق شعباً ودولة، بتوصية من مجلس الأمن أو بالرغم من المجلس، خضع للعدوان، والهجوم العسكري، والحصار الإقتصادي، وأخيراً الاحتلال العسكري" تسأل عبادي.
وليس بجديد القول إنّ ملاحظات عبادي تعيد التذكير بسلسة حقائق تخصّ ملفات حقوق الإنسان الكونية من جهة، والإعلان العالمي الذي صوّتت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في مثل هذه الأيام قبل 55 سنة من جهة ثانية. وتلك الحقائق تذهب أبعد من مناخات الاحتفاء والاحتفال والبهجة، لأنها إنما تسائل جوهر الإعلان ذاته، وأيّ حقوق يحمي، وما طرائق انتهاكه علانية أو خفاء. هنا بعض تلك الحقائق:
1 ـ القول بأنّ الجمعية العامة للأمم المتحدة صوّتت عليه بالإجماع ليس دقيقاً تماماً، لأنّ التصويت أسفر عن 48 دولة لصالح الإعلان، وثماني دول ضده. ولو أنّ عدد الدول النامية (دول العالم الثالث في عبارة أخرى) كان كما هو عليه اليوم، فإنّ من الصعب تخيّل تحقيق هذه النسبة في التصويت، وربما من الصعب تخيّل الإعلان وقد فاز بالتصويت أصلاً.
2 ـ الدول التي صاغت، ورَعَت وسوّقت وصوّتت على الإعلان، لم تكن سوى تلك القوى الغربية الكبرى، الضالعة في سياسات استعمارية هنا وهناك في العالم، والتي كانت تمارس انتهاك حقوق الإنسان (وحقوق الشعوب، في عبارة أدقّ) حتى وهي تنخرط في معمعة النقاشات المحمومة حول هذه الصيغة أو تلك من فقرات الإعلان نفسه. ولعلّ هذا بعض السبب في أنّ المؤتمر التأسيسي لدول عدم الإنحياز (باندونغ 1955) رفض الإعراب عن أيّ دعم سياسي للإعلان، واكتفى رؤساء الدول (وكانوا من الكبار لمن ينسي: نهرو، عبد الناصر، تيتو، ...) بالقول إنهم أخذوا به علماً!
3 ـ الإعلان يسكت تماماً عن حقّ الشعوب في تقرير مصيرها (الأمر الذي يتناقض على نحو صارخ مع الفقرة الأولى التي تقول: "يولد البشر أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق"). أكثر من ذلك، يسوّغ الإعلان مفاهيم الوصاية والإنتداب والهيمنة الإستعمارية، حين يحثّ الدول الأعضاء (المستقلة و/أو الإستعمارية) على احترام حقوق شعوبها مثل حقوق الشعوب والأراضي الواقعة تحت سلطتها القانونية (أي: الدول غير المستقلّة و/أو المستعمَرة).
4 ـ الإعلان يحدّد مفهوم حقوق الإنسان انطلاقاً من شخصية الإنسان الغربي وحده، من قِيَمه وثقافته وأعرافه وفلسفاته، من حضارته التي كانت هي التي انتصرت (على نفسها!) بعد الحرب العالمية الثانية، حين انعقد مؤتمر سان فرنسيسكو لتأسيس الأمم المتحدة، ولتأسيس النظام الدولي الجديد... آنذاك، وليس عام 1992 في أعقاب "عاصفة الصحراء"، أو 2001 بعد انهيار برجَي التجارة في 11/9، أو 2003 بعد غزو أفغانستان والعراق. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كان وليد تلك البرهة الإجماعية الغربية بامتياز، ولم يكن مدهشاً بالتالي أن تكون صورة العالم كما يرسمها الإعلان هي صورة العالم كما رسمتها لتوّها الحضارة الغربية.
5 ـ إنها، بمعني النقلات الحضارية الكبرى، تبدأ من اليونان الإغريقي الكلاسيكي، ثم روما الإمبراطورية، ثم الكنيسة الكاثوليكية. هنالك أيضاً عصر الأنوار، الثورة الفرنسية، الثورة الأمريكية، الآلة البخارية، الثورة الصناعية، الحداثة. هنالك، بين حين وآخر، فلسفات كانط، ديكارت، نيتشه، هيغل، وماركس. هنالك، أيضاً، الحروب الصليبية، اكتشاف أمريكا، محاكم التفتيش، الفتوحات الكولونيالية، الإمبريالية، الفاشية، والنازية،... وفي صياغة الإعلان، وبعد الإتكاء المباشر على صورة العالم هذه، جرت الإحالة إلى تراث غربي طويل في صياغة العلاقة الحقوقية بين الحاكم والمحكوم: العريضة الإنكليزية لعام 1627، إعلان الإستقلال الأمريكي لعام 1776، دستور الولايات المتحدة لعام 1787، قانون الحقوق الأمريكي لعام 1791، الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن لعام 1789. هنالك، بمعنى آخر، الصالح مثل الطالح، والكوني مثل المحلي، والعامّ مثل الخاص...
هذه ملاحظات لا تصدر بوحي الإنحياز إلى أية ثقافة واحدة، أو حتى إلى كتلة ثقافات، مناهضة للثقافة الغربية أو موازية لها، خصوصاً وأنّ نقد الإستشراق ــ في أعمال الراحل الكبير إدوارد سعيد بصفة خاصة ــ دلّنا إلى سُبُل تفكيك مفاهيم مثل "الشرق" و"الغرب" و"الشمال" و"الجنوب"، وردّها إلى مكوّناتها الباطنية ذات الصلة بعلاقات القوّة والإخضاع والتفوّق والهيمنة، قبل العلاقات الثقافية بين الأمم والحضارات. والحال أن هذه الملاحظات يمكن أن تصدر عن مهاتير محمد مثل جيمي كارتر، وعن دانييل بيل (أبرز الأدمغة الغربية الرصينة المدافعة عن فلسفات اليمين) مثل نوام شومسكي.
ذلك لأنّ الواقع الفعلي على الأرض يذهب بالكثير من ألق النظرية الكامنة طيّ الفقرات الثلاثين من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وفي وسع المرء، وربما كان من واجبه، أن يبدأ من الدول الغربية الكبرى نفسها، أو من الولايات المتحدة الأمريكية بالذات: الدولة التي ترفع راية قيادة العالم الحرّ منذ أن وضعـــت الحرب العالمية أوزارها. وهذه مناسبة للإشارة إلى أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كان صنيعة الحلفاء الخارجين من حرب غربية ـ غربية ألحقت الخراب بالشرق مثل الغرب.
والشعوب تملك، الآن كما في الماضي القريب، مسرداً طويلاً لانتهاكات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة، وكيف انقلبت هذه الإنتهاكات إلى تشريعات أساسية في الدستور الأمريكي نفسه. هنالك، علي سبيل المثال، حقيقة الغياب التام لكلمة مساواة في الدستور الأمريكي، الذي لا ينصّ البتة على توفير ضمانات تكفل حقّ المواطن في الغذاء، واللباس، والمسكن، والصحة، والعمل، والراحة، والأجر المعقول إنسانياً، والضمان الإجتماعي في العمل والحياة، وحماية الأسرة والأطفال. أليست هذه في صلب حقوق الإنسان؟ أليس ضمان الحقّ المتساوي في الطعام واللباس والمسكن هو جوهر الشرائع والحقوق؟ أيّ حقوق إنسان هذه حين يكون في مدينة نيويورك 36 ألف مواطن مليونير، و38 ألف مواطن يقتاتون على النبش في صناديق القمامة؟ وأيّ حقوق إنسان حين تثبت هيئة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أنّ المواطن الأمريكي ليس متساوياً أبداً أمام القضاء، وأنّ الأحكام الصادرة بحقّ الأمريكيين السود والآسيويين أقسى بثلاثة، وأحياناً بأربعة، أضعاف من الأحكام الصادرة بحق البيض في قضايا مماثلة؟
حاملة نوبل للسلام شيرين عبادي ــ المسلمة غير المتعصبة وغير الأصولية، وابنة العالم الثالث غير المتطرّفة وغير الراديكالية ـ لا تشير بإصبع الإتهام إلى الولايات المتحدة والغرب والمجتمع الدولي إجمالاً فحسب، بل تضع الإعلان العالمي ذاته موضع مساءلة نقدية حين تذهب إلى تبرئة الإسلام من تهمة العداء المتأصّل لحقوق الإنسان، وحين تردّ الكثير من الأسباب الجوهرية إلى الأنظمة الحاكمة وأعراف المجتمع البطريركي والتخلّف والفقر. وهذا في واقع الأمر هو المعنى الآخر للرأي الذي يقول إنّ وثيقة 1948 لم تكن قادرة على تمثيل حصيلة إنسانية مشتركة حول العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ولم تكن خالية من الثغرات التي ترقى إلى مستوى المساوىء البنيوية، تماماً مثلما كانت حافلة بالمحاسن التي تبرّر القول إنها خطوة كبرى ــ ولكنها تظل خطوة أولى ــ على طريق صياغة تعاقد إنساني عالمي حول حقوق الإنسان.
ذلك هو جوهر السبب في أن تسييس تلك الخطوة الأولى (أي وضعها بتصرّف أجهزة تسعى إلى أغراض سياسية واقتصادية وثقافية قبل الأغراض الحقوقية) هو الذي يجعل المشهد الراهن يبدو منقسماً إلى عالمَين: الراصد لانتهاكات حقوق الإنسان (الغرب إجمالاً)، والمرصود المتهم بانتهاك تلك الحقوق (العالم خارج الغرب إجمالاً)، على نحو يذكّر بثنائيات عريقة مثل المستعمِر والمستعمَر، المتمدّن والهمجي، الأبيض والأسود، الخ...
ولم يكن غريباً، تأسيساً على جماع هذا المنطق، أن يرفع الغرب رايات حقوق الإنسان في ذروة دعمه ومساندته، بل وأحياناً قتاله إلى جانب، أعتى الأنظمة الاستبدادية في العالم الثالث عموماً وبلدان الشرق الأوسط والثروات النفطية خصوصاً. هذه الإزدواجية ليست فاقعة إلا في الحساب الأخلاقي، أو في صحوات الضمير النادرة الزائفة غالباً، ولكنها ليست مكروهة أو بغيضة أو حتى نافرة ناشزة حين يتعلق الأمر بالحسابات الجيو ـ سياسية والإقتصادية، حسابات المصالح الحيوية، والربح والخسارة!