كان من دواعي سرورنا ان نلتقي في مؤتمر منتدى قوى اليسار الاوروبي الذي عقد في نيقوسيا في السادس من شهر كانون الاول الجاري مع عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي الدكتور رائف فهمي. ومبعث سرورنا يعود الى عاملين اساسيين، الاول، ان نسمع من فم المصدر الاول حقيقة التطورات الجارية في العراق، فاهل مكة ادرى بشعابها، كما يقول المثل. والثاني، ان كثيرًا من الاسئلة كانت تدور في مخيلتنا وتنتظر الاجوبة الشافية حول حقيقة موقف الحزب الشيوعي العراقي المجيد من الاحتلال الانجلو امريكي وعوامل دخوله "مجلس الحكم" الذي عينه المحتل والموقف من المقاومة العراقية للغزاة المحتلين وما هي الآفاق المرتقبة التي يراها الحزب الشيوعي لزوال الاحتلال وجلاء القوات الغازية.
خلال المداخلة التي قدمها رائف فهمي امام المجتمعين في المنتدى واستغرقت اكثر من ساعة، وخلال حوارنا وحديثنا ونحن نجوب شوارع نيقوسيا في البرد القارس ليلاً ومرافقتنا القبرصة، فيرا، تصر على أن تمتع المشاركين بالتعرف على الاماكن الاثرية الخلابة وعلى الوضع المأساوي الذي يخلفه الاحتلال التركي لقسم من الجزيرة، خلال كل ذلك ركز رائف فهمي على الامور التالية:
ان العراق يشهد اليوم عملية سياسية بالغة التعقيد واصبح يمثل جبهة صراع ملتهبة، تتقاطع وتتصادم على أرضه مصالح واستراتيجيات اقليمية ودولية تتشابك مع الوضع الداخلي وتعمل على دفع الاوضاع باتجاهات بعيدة عن مصالح الشعب وتطلعه لاعادة الامن والاستقرار واستعادة سيادته على ارضه وثرواته وتحقيق البديل الدمقراطي والاسراع بعملية اعادة البناء الشاملة.
* الموقف من مجلس الحكم:
حول ملابسات ودوافع دخول الحزب الشيوعي العراقي "مجلس الحكم" الذي عينه المحتل الانجلو امريكي يقول رائف فهمي: لقد وزع حزبنا رسالة الى جميع الاحزاب في العالم حددنا من خلالها موقفنا ووجهة نظرنا من التطورات الجارية على ارض الصراع في العراق، فبعد انهيار النظام الدكتاتوري أصبح العراق يرزح تحت نير الاحتلال، عندئذ طرحت امام البلاد مجموعة مهام ملحة متداخلة جوهرها خلق شروط إنهاء الاحتلال ووضع العراق على طريق التطور الوطني الدمقراطي. ولأجل مواجهة الاوضاع الجديدة دعا حزبنا الشيوعي العراقي سائر القوى الوطنية العراقية للمبادرة الى عقد مؤتمر وطني عام تشارك فيه اطياف الشعب العراقي السياسية والقومية والدينية تنبثق عنه هذه الحكومة العراقية المؤقتة واسعة التمثيل وذات الصلاحيات لتتولى تحقيق مهمات ادارة البلاد في المرحلة الانتقالية واعداد مشروع دستور ومشروع القانون الانتخابي، ومباشرة الحوار مع الطرف الامريكي لانهاء الاحتلال.
غير ان فكرة عقد المؤتمر الواسع وتشكيل الحكومة المؤقتة اصطدمت بعراقيل جمة حالت دون تحقيقها في الوقت المناسب. وكان في مقدمة تلك العراقيل تبدل موقف امريكا وبريطانيا من عقد المؤتمر وتشكيل الحكومة المؤقتة، وبدلا من ذلك وبعد مساومات مع الدول الاعضاء في مجلس الامن صدر القرار 1483 الذي كرّس سلطة الاحتلال في العراق وشرّع وجودها. اما المعرقل الثاني فتجلى في سلوك الاطراف السياسية العراقية ذاتها. فبعضها انغلق على نفسه وسعى الى الانفراد في تمثيل العراقيين، وبعض آخر انطلق من مواقع حزبية ضيقة وغلّب مصالحه على مصالح الشعب العامة، وبعض ثالث لم يتخلص من نزعة الهيمنة والزعامة. وفي مسعى لاخراج البلاد من المأزق الذي انتهت اليه، عبر صيغة توفق بين الرغبة في تنفيذ القرار 1483 ورغبة اغلبية العراقيين في تشكيل الحكومة المؤقتة، جرى على مدى اسابيع مفاوضات مكثفة مع سلطة الاحتلال والاطراف السياسية العراقية. وقد شارك حزبنا في المرحلة الاخيرة من المداولات مع الجانبين الامريكي والبريطاني، وبطلب منهما.
وكانت صيغة "مجلس الحكم" قد تبلورت في هذه الاثناء كبديل لصيغة "المجلس السياسي" عديم الصلاحيات وذي الطابع الاستشاري البحت التي قوبلت بالرفض الواسع من اوساط شعبنا. وتعبر صيغة مجلس الحكم في جوهرها عن حل وسط بين مشروع "المجلس السياسي" الذي ارادت امريكا ان تفرضه وبين مطلب تشكيل الحكومة الوطنية المؤقتة واسعة التمثيل وذات الصلاحيات الذي تدعو له القوى الوطنية العراقية. ان قبول الجانب الامريكي المحتل في النهاية بصيغة جهاز حكم عراقي ذي صلاحيات يشير الى امكانات كامنة للحصول على المزيد من هذه الصلاحيات في مجرى عمل "مجلس الحكم" لاحقًا وصراعه الطبيعي مع "سلطة الائتلاف المؤقتة" لذا اعتبر حزبنا هذا المجلس "ميدان صراع" اكثر منه صيغة سلطة محددة ثابتة ونهائية.
لقد اتخذ حزبنا الشيوعي قراره بالانضمام الى عضوية مجلس الحكم، ووضع حزبنا في الاعتبار الحقائق التالية:
- اولا: موافقة غالبية الاحزاب والقوى السياسية الاخرى، والجماعات القومية والدينية والطوائف في البلاد على الانضمام الى المجلس. فالمجلس يضم معظم القوى التي يمكن لحزبنا التحالف معها لتحقيق مشروعه الوطني الدمقراطي.
- ثانيًا: الرغبة العامة التي امكن تلمسها في منظمات حزبنا وفي اوساط جماهير اصدقائه ومناصريه، في ان يتحلى بالتعامل الايجابي في المرحلة الحساسة والمعقدة الراهنة التي تمر بها بلادنا والا يوفر اي ذريعة لمن يريدون الايقاع به وعزله وحتى اضطهاده من جديد.
- ثالثا: ان القبول بـ "مجلس الحكم" في صيغته الراهنة، والمشاركة فيه، لا يعنيان بحال اعتباره بديلاً عن الحكومة الوطنية الائتلافية المؤقتة المرتجاة، بل انه خطوة في اتجاه اقامة الحكومة العراقية الوطنية المستقلة، وجزء من التهيئة لاخراجها الى حيز الواقع على اساس برنامج وطني دمقراطي، يخلص البلاد مما هي فيه ويضعها على طريق اقامة العراق الدمقراطي الفيدرالي الموحد.
- رابعًا: ان المجلس يمثل ركنًا اساسيًا في العملية السياسية التي يتمثل هدفها النهائي في تحقيق استقلال البلاد ووضعه على طريق التطور الدمقراطي. ويمكن لحزبنا ان يلعب دورًا مؤثرًا اكبر من داخلها لدفعها بالاتجاه المطلوب بالتلازم مع النضال خارج اطاره لتعبئة جماهير الشعب كقوة فاعلة وضاغطة للحفاظ على المسار السليم للعملية. وهو بهذا المعنى ميدان صراع لان قوى واطرافًا متعددة تتجاذب العملية السياسية في داخل المجلس وخارجه.
* الموقف من المقاومة العراقية:
من يتابع اخبار التطورات في العراق يلاحظ تصاعد المقاومة العراقية للمحتلين يوميًا مكبدة الغزاة الخسائر الفادحة البشرية والمادية، فما هو موقف الحزب الشيوعي العراقي من المقاومة.
يقول رائف فهمي: ان شعبنا رغم ابتهاجه بالخلاص من صدام حسين ونظامه، لم تنثر الورود ابتهاجًا بدخول القوات الاجنبية ولم يستقبلها بالاحضان. وهو يتطلع الى انهاء الاحتلال عاجلاً واستعادة الاستقلال والسيادة الوطنية. كما ان مقاومة الاحتلال حق يكفله ميثاق الامم المتحدة. لذا فإن للشعب العراقي الواقع تحت سلطة الاحتلال وفقًا لقرار مجلس الامن 1483، حقًا مشروعًا في ممارسة اشكال النضال المختلفة، للاسراع في انهاء الاحتلال واستعادة السيادة الوطنية. لكن مقاومة الاحتلال، لا تقتصر على اعتماد الاساليب العنيفة في النضال. وانما تشمل الاشكال المتنوعة للنضال السياسي السلمي. وتعلمنا تجارب التاريخ ان الشعوب لا تلجأ الى الكفاح المسلح الا حين تضطر الى ذلك بعد استنفاد الوسائل السلمية. وتنفتح امام شعبنا اليوم خيارات وامكانيات متنوعة لممارسة النضال السياسي، حيث تظهر الى الوجود عشرات الاحزاب والمنظمات السياسية والنقابية وغيرها من مؤسسات ما اصطلح على تسميته بالمجتمع المدني وفي ظل اجواء الحريات المتوفرة، تكاد تجمع القوى الوطنية العراقية بكل اطيافها، ومنها حزبنا، على ان اساليب العنف ليست الانسب والاجدى، طالما لم تستنفد الصيغ السلمية.
وتحدث فهمي عن الجدولة الزمنية لصياغة الدستور والانتخابات وغيرها مؤكدًا ان عمر الاحتلال لن يطول. لم اوافقه الرأي فيما يتعلق بعمر الاحتلال، رغم تمنياتي ان يزول بأسرع ما يمكن وقلت لرفيقي العراقي ان الغزاة الانجلو امريكيين لم يشنوا حربهم الاستراتيجية لتحرير شعب العراق والمنطقة من نظام صدام الدكتاتوري كهدف مركزي، بل كان اسقاط نظام صدام حسين وسيلة لتحقيق الهدف الاستراتيجي الامبريالي المركزي وهو الهيمنة على المنطقة وثرواتها النفطية الغنية في اطار مخطط اقامة نظام عالمي جديد بزعامة امريكا ويخدم مصالح احتكاراتها عابرة القارات. وما يثير القلق - حسب رأينا - ان تحقيق هدف الهيمنة الانجلو امريكية في المنطقة سيطيل أمد بقاء قوات الغزاة المحتلين في العراق عدة سنوات قد تصل الى ثلاث سنوات او خمس سنوات او اكثر. وقلقنا مبني على الامور التالية: اولا: انه خلال جرجرة موعد تسليم العراقيين السلطة من خلال دستور وانتخابات قد يطيل هذه الموعد عدة سنوات يكون المحتل الانجلو امريكي قد دجن - كما ينشد - حكم كرازاي جديد في العراق يبصم بالعشرة على خدمة مصالح المحتلين. ثانيًا: اختفاء المحتل وراء شعار "اعادة اعمار العراق" لاحتلال العراق اقتصاديًا من خلال احتكاراته ونهب ثروته النفطية والوطنية. فالمحتلون الانجلو امريكيون يحتكرون بواسطة شركات بلادهم وحلفائهم عمليات اعادة الاعمار ويرفضون مشاركة شركات من روسيا والمانيا وفرنسا. ثالثًا: قد يلجأ المحتلون الى مقولتهم التضليلية بالاختفاء وراء "الاجراءات الوقائية" لحماية "الامن الامريكي" والتلويح بالتهديد الايراني او السوري لتبرير زرع اراضي العراق بالقواعد العسكرية ولتبرير بقاء الاحتلال الاجنبي الغاشم جاثمًا على صدر الشعب العراقي لسنوات طويلة. ورابعًا: لا نستبعد ان يلجأ المحتل الانجلو - امريكي الى اشعال نيران سياسة "فرّق تسد" بتأجيج الصراعات القومية والاثنية في العراق لاطالة امد بقائه بحجة غياب الامن والاستقرار الداخلي في العراق.
ان هواجس هذه التخوفات المقلقة تشغل بال الحزب الشيوعي العراقي والقوى العراقية ايضًا، ولكن شعب العراق المعروف بتاريخه الكفاحي الوطني لن يرضى بالمذلة وبالاحتلال والمحتلين، ومصير الاحتلال الانجلو امريكي للعراق الى زوال حتمًا.
نقلا عن موقع الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
http://www.aljabha.org/