سبب إتهام العلقمي
أتهم الوزير إبن العلقمي بأنه هو سبب مجيء التتر و سقوط بغداد، و الذين اتهموه هم من معادي الشيعة و من الذين يكفرونهم و يحللون قتلهم و سبي نسائهم و هتك أعراضهم. و إن المعادين لإبن العلقمي يحاولون تبرئة أشخاص آخرين هم السبب الرئيسي في سقوط الدولة العباسية الهشة في بغداد.
في سنة653 هـ و قبل سقوط بغداد بثلاث سنين حبك أمير المماليك و هو الدويدار الصغير مؤامرة استهدفت المستعصم و تنصيب الإبن الأكبر أبي العباس أحمد مكانه، و ما أن علم إبن العلقمي بذلك حتى سارع الى إخبار الخليفة و عملا معا على إحباط المؤامرة.
لم يكن إبن العلقمي هو الأول الذي أتهم بمراسلة التتر، ليصبح شماعة يعلق عليها كل فشل يحصده أشباه المسلمين بشكل عام و الأعراب بشكل خاص، بل أن الخليفة الناصر لدين الله قد أتهم أيضا بأنه كان يكاتب هولاكو. فيذكر إبن الأثير، في تاريخه، أن الناصر هو الذي أطمع التتر في البلاد و راسلهم في ذلك فهو الطامة الكبرى التي يصغر عندها كل ذنب.
و يذكر إبن خلدون في تاريخه أن مسكن الشيعة كان في الكرخ في الجانب الغربي من بغداد و كان الوزير إبن العلقمي منهم، فسطوا بأهل السنة. و أنفذ المستعصم إبنه أبا بكر و ركن الدين الدويدار و أمرهم بنهب بيوتهم بالكرخ. و لم يراع فيه ذمة الوزير فأسفه ذلك و تربص بالدولة و أسقط معظم الجند يموه بأنه يدافع التتر بما يتوفر من أرزاقهم في الدولة.
لكن أبو البركات الغزي يكتب في (المراح في المزاح) رأيا آخر فيقول : أنظر مزاح الخليفة و قوله لوزيره العلقمي لمأ خرَّب أصحاب ولده الكرخ في لعبة الحمام مع ولد الوزير: دع الدنيا بلا كرخ. فخرج مغضبا و قال: دع الدنيا بلا بغداد. فلما سمع ذلك تلافى شأنه معه و قال: كنت أمزح. فأظهر- الوزير- الرضى ثم سعى الى إحضار التتار الى بغداد.
أما النويري فقد كتب في (نهاية الأرب) أن الشيعة يسكنون بالكرخ و هي محلة مشهورة بالجانب الغربي من بغداد، فأحدث أهلها حدثا فأمر الخليفة بنهبهم فنهبهم العوام.
و لم يذكر النويري ما هو الحدث الذي قام به الشيعة ليقوم العوام بأمر الخليفة بنهب دورهم و سلبهم و إغتيالهم و هتك أعراضهم.
و يتابع إبن خلدون في محل آخر من تاريخه فيقول أن إبن العلقمي قد غضب لذلك و دس الى إبن الصلايا بأربل و كان صديقا له بأن يستحث التتر لملك بغداد. و أن هولاكو عام 652 بلغه كتاب إبن الصلايا صاحب أربل و فيه وصية إبن العلقمي وزير المستعصم يستحثه لقصد بغداد.
و يذكر الذهبي في ( العبر في خبر من غبر ) أن المؤيد بن العلقمي كان قد كاتب التتار و حرضهم على قصد بغداد لأجل ما جرى على إخوانه الرافضة من النهب و الخزي. فأرسل أخاه و مملوكه الى هولاكو و سهل عليه أخذ بغداد و طلب أن يكون نائبا لهم عليها فوعدوه بالأماني. و في كتاب آخر له (تاريخ الإسلام) يذكر الذهبي خبرا مغايرا وهو أنه في سنة (644هـ) قدم رسولان من التتار، أحدهما من بركة، و الآخر من باجو، فاجتمعا بالوزير مؤيد الدين بن العلقمي، و نغمت على الناس بواطن الأمور.
و على الرغم من أن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل دخل في طاعة التتار، حسب ما يذكر المقريزي في (السلوك) الا أن الذهبي في ( العبر في خبر من غبر) حاول تبرئة لؤلؤ فكتب يقول أن لؤلؤ صاحب الموصل أخذ يهيئ للتتار الإقامات و يكاتب الخليفة سرا. فكان إبن العلقمي لا يدع المكاتبات تصل الى الخليفة مع أنها لو وصلت لما أجدت لأن الخليفة كان يرد الأمر إليه.
ثم يتابع الذهبي فيقول: فلما تحقق الأمر بعث - الخليفة- ولد محيي الدين بن الجوزي رسولا الى هولاكو يعده بالأموال. و محيي الدين بن الجوزي، كما يقول الذهبي ، هو الصاحب العلامة سفير الخلافة أبو المحاسن يوسف إبن الشيخ أبي الفرج بن علي بن محمد التيمي البكري البغدادي الحنبلي، أستاذ دار المستعصم، ولد سنة ثمان و خمس مئة.
ثم يستمر الذهبي في كلامه عن لؤلؤ صاحب الموصل فيذكر أن هولاكو ركب في خلق من التتار و الكرج و مدد من صاحب الموصل مع ولده الصالح إسماعيل.
و لا أستطيع قراءة فكر الذهبي و تقلب رأيه في صاحب الموصل إذ أنه مرة يذكر أن صاحب الموصل كان يراسل الخليفة ليحذره و مرة يذكر أنه قد بعث مع هولاكو جيشا يسانده في الحرب ضد بغداد.
أما أبو الفداء فيقول في (المختصر في أخبار من غبر) أن الوزير مؤيد الدين إبن العلقمي، كان رافضيا، و كان أهل الكرخ أيضا روافض، فجرت فتنة بين السنية و الشيعة ببغداد، على جاري عادتهم، فأمر أبو بكر إبن الخليفة، و ركن الدين الدويدار، العسكر، فنهبوا الكرخ و هتكوا النساء، و ركبوا منهن الفواحش. فعز ذلك على الوزير إبن العلقمي، و كاتب التتر و أطمعهم في ملك بغداد.
و هنا يخالف أبو الفداء ما كتبه النويري عن أن العوام هم الذين قاموا بحوادث الكرخ ، فيقول أن العسكر هم الذين قاموا بنهب الكرخ و هتك أعراض النساء الشيعيات.
ارفع رأسك عاليا يابن العلقمي
و كتب الأستاذ عبد الإله الصائغ في مقالة له تحت عنوان - إرفع راسك عاليا سيدي العلقمي- إن المماليك يمقتون ابن العلقمي لأنه من أعيان بني أسد ، القبيلة العربية التي أسست مع حلفائها إمارة مهابة في الفرات الأوسط، منطقة النيل قرب مدينة الحلة فقضى عسكر مماليك بغداد عليها بغضا بالعرب والإمام علي، وانتقل المقت الى قصر الخليفة الذي كان يعج بالمماليك المشرفين على تربية أولاده وبناته وقيادة الجيش والسجون والشرطة وبيت المال بل ووصل الأمر بهم الى اختيار الضيوف للخليفة والعيون والجواري ومقابل هؤلاء الهمج يقف ابن العلقمي وحيدا متهما بإخلاصه ومروءته بل دينه والصراع كان على قلب الخليفة ويقينا أن ابن العلقمي كان شوكة في عيون المماليك الذين ينبغي أن يحمِّلهم التاريخ جريرة سقوط بغداد والأخلاق والقيم. إبن العلقمي لم يكن مدخول النسب مثل المماليك وكان يحظى باحترام كبير من لدن الخليفة ومن أجل هذا الخليفة سكت الوزير على جريمة استباحة ضفة الكرخ، وبغداد ضفتان : كرخ ورصافة والكرخ ضعف الرصافة. المغول يدكون أهل بغداد بالمنجنيق والنار، والدويدار المملوك يغري ربيبه ابن الخليفة وكان يسمي نفسه أبا بكر تيمنا بالخليفة الراشد أبي بكر(رض( يغريه باستباحة الكرخ لأن أهلها يحبون علي بن أبي طالب وأولاده (رض) فتحركت الشرطة والغوغاء واستحلوا حرام الكرخ وكان أهل الكرخ يتهيأون لمقاتلة المغول وحماية بغداد .
ثم ينقل عبد الإله الصائغ عن المؤرخ قطب الدين البعلبكي، المتوفى726 هـ والذي يناصب آل أبي طالب البغض: شكا أهل باب البصرة وهم سنية الى ركن الدين الدويدار والأمير أبي بكر فتقدما الى الجند بنهب الكرخ فهجموا ونهبوا وقتلوا وارتكبوا العظائم فشكا أهل الكرخ ظلامتهم الى الوزير ابن العلقمي فأمر أهل الكرخ بالكف عن متابعة الأمر والتغاضي.
ثم يذكر عبد الإله الصائغ: وقال المؤرخ رشيد الدين مصنف جامع التواريخ: فأضطرب الوزير ابن العلقمي مما نال اهل الكرخ وهو منهم وأيقن بالوبال على الجميع وعلى الخلافة وكان حريصا على هيبة الخلافة ودوامها ويخشى انقراض الخلافة وسقوط العباسيين مجسما أمامه وكان يتألم جدا من هذه الأحوال فهو مثل الملدوغ فلم يدّخر وسعا من السير الحثيث.
ثم يستمر الصائغ: ويقول الدكتور جعفر خصباك وقد عرفت تلك الفتنة بواقعة الكرخ فحين ركب الجند وتبعهم العوام الذين هاجموا الكرخ ونهبوا واحرقوا وأخذوا النساء سبايا، وكان بينهن علويات من بنات الأشراف وسفكوا الدماء واقترفوا المنكرات الى أن خوطب الخليفة المستعصم فأمر بالكف ونودي بالأمان وعاد أهل الكرخ الى دورهم وقتلوا كل محتل وجدوه فيها ثم أمر الخليفة بإحضار ما نهب فكان شيئا كثيرا وحملت النساء الى أسواق الرقيق ثم أعدن الى بيوتهن.
الطريقة العجيبة التي نسبوها الى العلقمي في مكاتبات التتر
على الرغم من أن الذين يتهمون إبن العلقمي بأنه كان يقوم بمراسلة التتر، الا أنهم لم يذكروا فيما إذا كانت مراسلات الدولة التي كان يقوم بها إبن العلقمي مع هولاكو أو غيره هي أيضا نوعا من الإشتراك في جلب التتر. إن الطف طريقة اتهم بها إبن العلقمي بمراسلة التتر هي ما ذكرها إبن شاكر الكتبي.
اكتشف إبن شاكر الكتبي (686هـ-764هـ) طريقة جديدة بالمراسلات السرية التي كان يقوم بها إبن العلقمي، فذكر أن إبن العلقمي لمّـا كان يكاتب التتر، تحيَّل الى أن أخذ رجلا و حلق رأسه حلقا بليغا -أقل من الصفر- و كتب ما أراد عليه بالأبر، و نفض عليه الكحل و تركه عنده الى أن طلع شعره و غطى ما كتب، فجهزه و قال: إذا وصلت مُرهم بحلق رأسك و دعهم يقرأون ما فيه، و كان آخر الكلام: "إقطعوا رأسه". فضربت عنقه.
ثم يضيف الكتبي أن هذا غاية في المكر و الخزي.
و لم يذكر إبن شاكر نوع الابر التي استعملت و حجمها، و عن طول الرسالة التي كتبها إبن العلقمي و أشياء اخرى قد تفيدنا في حاضرنا. و لم يذكر كذلك هل أن الجِـراح، عندما التأمت، نبت فيها الشعرأم لا؟
أما تاج الدين السبكي ( المتوفي في 771 هـ) فيذكر أن إبن العلقمي حلق رأس شخص و كتب عليه بالسواد و عمل على ذلك، أصار المكتوب كل حرف كالحفرة في الرأس، ثم تركه حتى طلع شعره و أرسله اليهم -أي الى المغول-.
و تذكرني قصة حلاقة الرأس هذه، بتلك القصة التي قرأتها عن الحلاق الثرثار عندما كنت صغيرا في المرحلة الإبتدائية من دراستي.
يتبع