عندما اضطررتُ لمغادرة بلادي في أبريل ( نيسان ) 1979 لـم أكن سياسياً، أي إنني لـم أكن منتمياً لحزب ولم أخرج في مظاهرة احتجاج ضد السلطة، لكن حـملة التبعيث القسري، وهذه مكارثية من أسوأ الأنواع، كانت تجري على قدم وساق. وقتها كنت أعمل بصفتي مساعد مهندس في أحد المشاريع في بوادي ( عكاشات )، أي إنني كنت أخدم وطني في أشد مناطقه وعورة وعزلة، في تلك البوادي الجرداء حيث لا مدينة ولا قرية. لكن تلك البوادي بتضاريسها العجيبة سحرتني، أوقعتني في حب العراق كما لم يوقعني شيء آخر . حدث هذا مع أنني ولدت وعشت في مدن وبساتين وأنـهار الفرات الأوسط حيث قامت وازدهرت الحضارات الإنسانية منذ آلاف السنين، وحيث أكثرية الناس، على عكس ما هو شائع عن العراقيين بفضل نظامكم، يعيشون بـمحبة وسلام.
لقد هربتُ من بلدي تحت وطأة رعب لا يُنسى، فقط لأنني لا أستطيع أن أكون بعثياً. وهذا ما لم يكن من الممكن أن يحدث، فأنا أكره حزب البعث بطريقة لا يمكن أن أصفها لك أو لسواك . وليس هذا بدوافع سياسية، بل لأن حزب البعث أتلف حياتي الشعورية وبشكل كابوسيٍّ منذ الطفولة، إذ حدث انقلاب شباط ( فبراير ) الأسود 1963 عندما كان عمري إحدى عشرة سنة، فقد صدمتني مشاهد الرشاشات وإطلاق النار وسيارات المسلحين المسرعة بوجوههم المكفهرة رعباً من العراقيين وحقداً عليهم !! وظلت أخبار القتل والانتهاكات تتوارد إلى أن سقطت سلطة الانقلاب بعد عدة شهور، وسرعان ما وجدت نفسي في حشد من الناس مندفعين باتجاه ( المستشفى الجمهوري ) وحين وصلنا إلى قاعة المشرحة، كانت وجوهنا الخائفة المندهشة تطل من شبابيك القاعة على طاولات كبيرة تكومت عليها بقايا هياكل عظمية وجماجم وملابس متربة مـمزق، كانوا قد أتوا بـها من مقبرة جماعية خارج المدينة تم العثور عليها بعد اعترافات ( الحرس القومي ) بما اقترفوه من مجازر بحق المدنيين العزل . كنت أسمع صراخاً مختنقاً ينبعث من تلك الجماجم والثياب المتربة، مشهد الجماجم والعظام هذا لا يمكن أن أغفره لأحد . فقد حطم طفولتي ومشاعري وسيظل يلاحقني إلى الأبد .
هل تستطيع أن تتصور نفسك، أنت وجماعتك، على هيئة كومة جماجم وعظام، كان قد تم قتلكم بعد رعب وتعذيب رهيب، ليتم دفنكم عشوائياً فوق بعضكم، ثم تتحولون إلى مشهد كابوسيٍّ يقض مضاجع الناس تاركاً المدينة في صمت وذهول كما وجدتها حين عدت وحيداً لا أعرف ماذا أقول . وهل بوسعك أن تسامح قاتليك أو تحبهم بعد ذلك ؟!
إن الشعوب تنتمي لأفضل ما فيها، وليس للأسوأ ، لكل ذلك فأنا أكره حزب البعث العربي الاشتراكي، لأنه شوّه سمعة العرب أمام العالم وشوه سمعة العراقيين أمام بقية العرب. ولأنني عراقي فقد تحملت كل أنواع المرارات لعدم قدراتي التصفيق للقتلة والجلادين، ولأنني عربي بحب شديد لعروبتي، ليس لأنني انتسب لهذه الأمة فقط، بل لأنني أحب النبي العظيم محمد وأُأمن ما جاء بالقرآن الكريم ( من قتل نفساً بغير نفس أو فساداً في الأرض، كأنما قتل الناس جميعاً ) لكنكم لم تجدوا أنفسكم في شريعة محمد بن عبد الله بل في شريعة الحجاج بن يوسف الثقفي الذي كان يول ( من تكلم قتلناه ومن صمت مات كمداً ) فكم قتلتم الناس ونكلتم بـهم ولماذا ؟! هل أنتم عرب حقاً ؟! هل أنتم بشر ؟! كيف وبأي اعتبار ؟!
###
حين غادرت العراق مضطراً في ذلك الربيع الأسود ، وصلت إلى بلد عربي مجاور لألتقي صديقي الفلسطيني ( ماهر ) من الجبهة الشعبية، الذي كان يتفهم مأساتنا بحكم عمله في مكتب الجبهة ببغداد. بعد يومين غادرت إلى لبنان، وعلى الحدود أخذ الضابط جواز سفري العراقي، نظر إليه باشمئزاز بائن، ربما لأن نظامكم ظل باستمرار يبعث برجال المخابرات إلى ذلك البلد وسواه، وهذا ما لا علاقة لي به طبعاً، لكن ما فعله الضابط هو إنه رمى الجواز في وجهي وهو يقول : ( يلعن أبوكم على أبو صدام حسين .. ) وهذا ما
أكد لي بأن هذا الضابط ينتمي لمدرستكم ذاتـها، مدرسة الشبهات والرعب من البشر حتى لو كانوا مسالمين، وإلا ما علاقتي أنا بصدام حسين، وعندما يضطر المواطن العربي حتى للهروب من بلده، فإلى أين يذهب إذا كان ينتظره ضباط من هذا النوع ؟! وكيف يمكن أن تصل الأمور إلى هذا الحد من الابتذال ؟! وكيف يمكن أن لا أكره حزبكم إلى أبد الآبدين ؟!
أول مفارقة حدثت حين ذهبت إلى معرض تشكيلي، كان عدد الزوار قليلاً، فأثار انتباهي أحدهم، رجل طويل ومهاب لم تكن هيئته غريبة عليَّ، وللحظة عرفت بأنه السيد سليم الحص رئيس وزراء لبنان في تلك الأيام. كان مجرد زائر دون حراس أو حماية، وهذا ما أثار استغرابي فقد عودتـمونا على قعقعة حرسكم وحمايتكم أينما تذهبون، فقد جعل نظامكم عدد أفراد الأمن الخاص بالحماية أكثر من عدد منتسبي أية وزارة في بغداد، مع نفقاته التي بلا حدود ، وهو جهاز لا علاقة له بأية عملية إنتاجية أو غير إنتاجية نافعة، بل مهمته الوحيدة هي إثارة الرعب والقتل وسفك الدماء كلما اقتضت رغباتكم ذلك. في حين إن الكلفة السنوية لحماية مسؤولي نظامكم، حيث لم يحصل أفضلكم على شهادة جامعية، بإمكانـها إنقاذ آلاف الفقراء العرب في بلدانـهم القريبة والبعيدة ممن تدعون الحرص عليهم والنضال من أجلهم، بينما سليم الحص ليس رئيس وزراء فقط، بل هو رجل مثقف وأكاديمي وخبير سياسة واقتصاد، ولا أُبالغ إذا قلت لك بأن أفضل واحد فيكم لا يصلح تلميذاً عند سليم الحص، وهو أولى بالحرص على حياته بحكم قيمته ومكانته، لكنه يخرج دون حماية رغم إنه رئيس حكومة في بلد يعاني حرباً أهلية اشتهرت بالاغتيالات السياسية، غير إنه واثق ومطمئن من نزاهته ومحبة الناس له، أما نظامكم فقد حوّل أجهزة الحماية إلى كابوس ماحق يلف العراق طولاً وعرضاً، فحزبكم هو حزب حماية، وجيشكم هو جيش حماية، ونظامكم هو نظام حـماية وثقافتكم هي ثقافة حماية !! حماية مَن من مَن وأنتم توغلون قتلاً واستهتاراً بالناس ليلَ نـهارَ ؟!
###
لقد غادرت بلادي مضطراً ، بلاد المطر والأنـهار والنخيل والقصائد الجميلة التي لم أجد أجمل منها في كل الدنيا، لقد غادرت وجوه العراقيين التي لا أستطيع أن أشعر بالوداعة والأمان والكبرياء بدونـها، تلك الوجوه هي بلادي التي ليس لي بلاد سواها، لكنكم أخرجتمونا بقلوب محطمة ووجوه محطمة ومشاعر محطمة ..
عندما غادرت بلادي لم يسألني أحد لماذا !! لم يأت إليَّ مراسلو الصحف ووكالات الأنباء والإذاعات والتلفزيون، مع إنني أملك قضية فريدة من نوعها، هي قضية شعب ملاحق بدون سبب !! مطارد في الداخل والخارج من قبل أجهزة حماية خائفة من نفسها ومن رئيسها ومن شعبها، وكأن لا موهبة لكم سوى إنتاج الخوف وتعميمه بالجملة على الآخرين !!
لكنك حين هربتَ من النظام وأجهزة الحماية التي أسستها أنت بنفسك، اهتزت الدنيا برمتها، فلم تبق صحيفة أو تلفزيون أو راديو لم يتحدث عن هروبك، حتى أصبح هذا الحدث هو الخبر الرئيسي في جميع وكالات الأنباء .
عندما هربتُ أنا في 1979 لـم أكن قد سَمعت باسمك، ولم يكن يعرفك أحد من العراقيين خارج دائرة عملك، كنتَ عسكرياً ضمن أجواق الحماية، وكنتُ شاعراً وصحفياً نشرت بعض قصائدي ومقالاتي منذ منتصف السبعينات. كان عليك أن تعتلي درجات السلم العسكري عبر أولويات الحزب وليس ضمن تقاليد الجيش العراقي المعروفة بصعوبتها حيث ليس بوسع مواطن مثلك أن يطمح بالوصول إلى ما وصلت إليه، لكنك على كل حال أصبحت فريق أول ركناً، ورتبتك العسكرية وطريقة وصولك إليها لا تستهوي مواطنين مثلي، فأنا لم ألتجئ إلى أي ( فريق )، ولا أحب الطامـحين إلى درجة ( أول ) بالطريقة التي تجعل الآخرين ثانين وثالثين وتاسعين، مع إن عبارة ( الأول على الصف ) تكرّرت عدة مرات في شهاداتي المدرسية.
أول مقال نشرته كان في صحيفة ( صوت الشغيلة ) اللبنانية، كان عن مصائر أطفال العراق الذين حولـهم نظام الـحماية إلى أيتام أو مشردين ، وقد بُثَ الـمقال وقتها عبر إذاعة إيران العربية فردّت عليه جريدة (الجمهورية ) في صدر صفحاتـها الأولى، لكنني وبسبب استمرار حذري من نظام الحماية في ذلك الوقت، نشرت المقال باسم مستعار ، فلم تكن تـهمني الشهرة التي يطمح إليها الكثيرون وأولهم ( الرئيس القائد ) وثانيهم أنت . وهكذا أصبحتَ أنت مشهوراً دون حاجة لكتابة قصائد أو مقالات، وحين هربتَ واحتشدت عليك الصحف والإذاعات، لم تتذكر أطفال العراق بكلمة واحدة، بل لـم تشر حتى للأطفال الذين كانوا معك في قافلة الهروب العجيب، والذين ما كانوا يعرفون إلى أين هم ذاهبين وكيف سيكون مصيرهم ؟! أنا مواطن وأنت مواطن لكن الفارق بيني وبينك هو فارق خرافي، لا توجد فيه أية عدالة أو منطق . فأنت لك كل الحقوق والامتيازات سواء كنت في السلطة أم هارباً منها، بينما سلطتكم هذه العربية الاشتراكية حرمتني من كافة حقوقي بما فيها حق الإقامة بأمان في بلادي، بل وحتى حق أن أعرف لماذا أتعرض إلى كل هذا التعسف أنا المواطن المسالم الذي لا ناقة لي في السياسة ولا جـمل .
أنا أُريد أن أعود إلى بيتي مع ثلاثة ملايين مواطن عراقي مشردين في أربع جهات الأرض، بعضهم انتحر قهراً لعدم احتماله حياة المنافي، وبعضهم مات غرقاً في عرض البحار بسبب سفن المهربين المستهلكة مثل ضمائرهم . نحن ثلاثة ملايين نريد أن نعود إلى بيوتنا ومقابر أجدادنا، وأنت تريد أن تعود مع ثلاثين ضابطاً لكي تصبح رئيساً جديداً للجمهورية، علماً بأنني قرأت ستة أطنان من الكتب لكي أفهم نمط جمهوريتكم هذه فلم أفلح لـحد الآن .
أنت تحمل عشرة أوسمة حربية لقاء إنجازات تتراوح بين الأسلحة الجرثومية والكيميائية وبين المدفع العملاق والمقابر الجماعية، فهل أنت مواطن مثلي أم إنك نقمة أنزلها القدر الأعمى على رؤوس العراقيين لكي تكمل إنجازات السيد الرئيس القائد ؟! أنا مؤلف لعشرة كتب تتراوح بين القصائد والقصص والأفكار التي تحاول أن تفهم مصير الإنسان إزاء الوحشة واللا قرار ، ومصير المواطن إزاء هيمنة الدولة، دولتكم التي توشك أن تفقدنا حتى القدرة على فهم أنفسنا وما يدور حولنا .
أنت عربي مسلم وأنا عربي مسلم، أنا تعلمت العروبة والإسلام من النبي العظيم محمد بن عبد الله الذي يقول : ( المسلم من سلم الناس من لسانه ويده ) ومن علي بن أبي طالب الذي يقول : ( إن صوتاً واحداً شجاعاً أكثرية ) ومن عمر بن الخطاب الذي يقول (كيف استعبدتم الناس وقد ولدتـهم أمهاتـهم أحراراً ؟! ) ومن جعفر الصادق الذي يقول ( ليس من العصبية أن تحب قومك، ولكن من العصبية أن تجعل شرار قومك خيراً من خيار غيرهم )، وأنت تعلمت العروبة والإسلام من صدام حسين ومن ميشيل عفلق، الأول يقول ( من يريد استلام السلطة في العراق سيستلم أرضاً بدون بشر ) وهذا هو البرنامج العفلقي الذي حولنا عراقنا الجميل إلى جحيم ما بعده جحيم، أما مؤلفات ميشل عفلق فلو قدمناها إلى مزبلة فإن المزبلة ستخجل من نفسها لكثرة ما فيها من رطانة وترهات .
لقد جلبتم المزيد من الكوارث والمآسي المعمدة بالمقابر الجماعية جراء حروبكم المريبة ضد إيران وضد الكويت، وكل هذا تسمونه ( رسالة تاريخية ) !! وبعد إبادة أكثر من مائتي ألف مواطن كردي حيث فعلتم ذلك بقلوب ميتة ( مكافأة ) لشعب صلاح الدين الأيوبي، وبطريقة عنصرية تتنافى مع قيم العرب ومبادئ الإسلام، وبعد تدمير بيئة العراق الطبيعية بصب الكونكريت على ينابيع كردستان لحرمان الأكراد من المياه لكي يموتوا عطشاً تيمناً بانحطاط يزيد بن معاوية ونذالته، وجففتم أهوار الجنوب لتدمير طريقة حياة مستمرة منذ آلاف السنين، وهكذا تكونون قد دمرتم الجغرافية ولوثتم التاريخ وحولتم الزمن العراقي زمناً مرعباً، أصبحنا نحن العراقيين خارج كل شيء ما عدا الألم الذي يسكن قلوبنا وأيامنا، فصار لزاماً علينا أن نكون شعباً معارضاً وسياسياً على رؤوس الأشهاد، وصرنا أيضاً موضع تشكيك لدى بعض المثقفين العرب المعجبين جداً بجماليات المقابر الجماعية وتشريد العراقيين من وطنهم وتهديد دول المنطقة وبـهذا يكون المشهد ملائماً تماماً لخصائهم العقلي وانطفاء ضمائرهم التي تلهث وراء الطغاة بصفتهم أبطالاً .
وهكذا أصبحت أنا سياسياً أيضاً رغم كرهي الشديد للسياسة ومعارضاً رغم عدم انتمائي لأي حزب أو تنظيم، فوجدت نفسي على هذا الديدبان منذ 16 سنة . ومثلما كنتُ وما أزال مندهشاً من نفسي لأنني أصبحت كاتباً سياسياً واحتلت كتب التاريخ والدولة ومذكرات السياسيين رفوف مكتبتي لتنافس كتب الأدب والفن الأثيرة لديَّ، فقد زدتنا دهشةً ما بعدها دهشة حين حللتَ بين ظهرانينا وأصبحت معارضاً في صفوف معارضتنا العجيبة، وأصبح هدفنا، كما أعلنتَ، هو هدفك في إنقاذ البلاد من سلطة ( السيد الرئيس القائد ) ليحفظك الله ويرعاك إذن .
أما سبب هذه الرسالة وهدفها، صدقني، ليس هو تذكيرك بأنك كنت مسؤولاً مباشراً عن كل ما جرى للعراق، بحكم كونك الرجل الثاني في الدولة، أو إن أخاك صدام كامل أدمن على التسلية بقتل شباب العراق المعتقلين بمسدسه الذهبي، فهذا وسواه معروف عند العراقيين كافة وليس بـحاجة إلى رسالة، لكن السبب هو انقلاب دهشـتي من موقفك الجديد إلى حيرة وصمت، وقبل أن أوضح لك السبب حاول أن تتأمل مفردات مثل (دهشة ) و ( حيرة ) و ( صمت ) لتكتشف بان نزعتي الأدبية هي الغالبة على طريقة تفكيري ولغتي، وإن السياسة ولغة السياسة هي مجرد هم ومسؤولية أخلاقية أخذتـها على عاتقي دون هدف شخصيٍّ أو طموح لزعامة .
إنـها مـجرد رسالة للتخفف من الدهشة والحيرة والصمت .
****************************
نُـشرت هذه الرسالة في جريدة الحياة في 2 – 9 – 95 أي قبيل عودة حسين كامل ومقتله في بغداد -