|
حوار مع فرويد -3
قاسم حسين صالح
(Qassim Hussein Salih)
الحوار المتمدن-العدد: 2194 - 2008 / 2 / 17 - 09:17
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
+ لنطرق باب الأحلام الذي فتحته عام 1900 بأضخم مؤلف عنها في كتابك (تفسير الأحلام ) الذي توصلت فيه الى نظرية خلاصتها أنها ( الأحلام ) عملية يقوم بها اللاشعور لاشباع ما بداخله من دوافع مكبوتة ... فرويد : صحيح ،لكن مضافا الى كونها تحقيق( مقنّع ) لرغبة ( مكبوتة ) فانها - كأي عرض عصابي ـ محاولة توفيق بين مطالب دافع مكبوت وبين مقاومة تبذلها الرقابة في الذات . وبعبارة سهلة :اللاشعور يحاول ان يشبع في الاحلام الحاجات التي لا يمكن التعبير عنها او اشباعها في حالة اليقظة . + هنا لديّ اشكاليتان ، الأولى تأكيد جنابك ان الاحلام تتضمن ذكريات من مرحلة الرضاعة وخبرات الطفولة المبكرة لاسيما الاحداث المرتبطة بالوالدين ،وأن مضمونها جنسي خالص..فكيف اهتديت الى حكم قاطع يبدو لكثيرين ليس فيه منطق ؟. فرويد : دعني اقولها بالصريح : ما من غريزة لقيت منذ الطفولة مثل الكبت الذي لقيته الغريزة الجنسية .وما من غريزة مثلها خلّفت وراءها رغبات على هذا المدار من الكثرة والقوة تعمل على احداث الحلم في حالة النوم . ولأنني أعدّ الاحلام افعالا نفسية لها من المعنى مثل ما لغيرها ، وأن النزعة المكبوتة تسعى الى الاشباع حين لا تكون عليها رقابة ، فأنني علي يقين بأن معظم أحلام الراشدين ، ولم أقل كلها، تتضمن خبرات تعود الى الطفولة ولها علاقة بالجنس ،وأنها تبدو واضحة لمثلي لدى الاشخاص المحرومين جنسيا . واؤكد لقرائك بأنه كلما زاد المرء اشتغالا بحلّ مشكلة الأحلام زاد استعداده للتسليم بأن غالبية احلام الراشدين تعالج مادة جنسية وتعبّر عن رغبات عشقية . + الاشكالية الثانية قولك ان للحلم معنى ظاهري سطحي وظيفته تشويه او اخفاء المعنى الحقيقي للحلم ، ومعنى خفي تكمن فيه حقيقة الحلم .. فرويد : صح ولا اشكال في ذلك + الاشكالية في التفسير ياسيدي، فالشخص الذي يرى في حلمه افعى وربطة عنق ، وآخر يرى في حلمه ملكا او رئيسا ، فانك تنظر الى هذه الرموز بوصفها المعنى الظاهري ، اما معناها الحقيقي – على ما ترى جنابك – فان الأفعى وربطة العنق يرمزان الى الأعضاء التناسلية الذكرية ، فيما يرمز الملك او الرئيس الى الأب او المعالج النفسي ، الا ترى في ذلك تأويلا تريده ينسجم مع نظريتك ؟ فرويد : ان الرغبة المكبوتة أشبه بمجرم أودع في السجن ، ولأنه محرّم عليها أن تظهر نفسها للناس فقد دفع بها " الأنا " الى مخزن اللاشعور . وعندما ينام الرقيب ، او الحارس الذي يقف على باب اللاشعور فان الفرصة تتاح للرغبة المكبوتة ان تظهر على مستوى الشعور في حالة ينطبق عليها مثل لديكم يقول : ( اذا غاب القط ألعب يافار ) . ولكي لا توقظ سجّانها ( الأنا ) فان عليها أن تتخفى بالظهور لتظل تسرح في الحلم وتمرح على سطح الوعي وتشبع حاجتها ولو في الخيال ، ولهذا أكرر القول بأن الأحلام اشباع لرغبات مكبوتة . + أفهم من ذلك أنني اذا قلت لمراجع يأتيني: قل لي أحلامك أقول لك من أنت ، صحيحة وفقا لنظريتك . فرويد : الى حد كبير ، شرط ان تكون ماهرا في التحليل النفسي وقادرا على استجلاء المعنى الخفي للأحلام.
+ قبل ان نتقدم خطوة اخرى ، نستخلص من حديثك بان نظريات المقاومة والكبت واللاشعور ، وقيمة الحياة الجنسية في تعليل المرض ، واهمية الخبرات في مرحلة الطفولة ، هي العناصر الاساسية التي يتكون منها بناء التحليل النفسي . فرويد: صحيح تماما" ، مع ملاحظة أن المعالج النفسي يشبه في عمله التحرّي detective الذكي الذي يجد دليلا صغيرا يبدو للآخرين تافها لكنه بمهارته يوصله الى الحقيقة ، ومهارة المعالج النفسي تكمن في قدرته على استعمال وسائل التحليل النفسي المتمثلة بالتداعي الحر وتحليل كل من الاحلام والازاحة ، أعني بالازاحة نقل او ترحيل الانفعال من موضوعه الاصلي الى موضوع آخر كأن يكون المريض يكره اباه فيحوّل كرهه الى المعالج النفسي ، او تحب أباها فتتعلق عاطفيا بمعالجها النفسي ، وأعني بالمقاومة الاستراتيجيات اللاشعورية التي يستخدمها المريض لمنع المعالج النفسي من فهم مشكلته او عقدته النفسية .
+ تقول في كتابك ( الجنس ) ما نصه : يظهر لي ان النمو الحالي للجنس البشري لا يحتاج الى اي تفسير يغاير ما ينطبق على الحيوان . فان ما يظهر في اقلية من الافراد كحافز قلق لمزيد من الكمال يمكن فهمه كنتيجة لغرائز فاشلة بني عليها اسمى ما في الثفافة البشرية من قيم . فما هو رأيك بالابداع الفني ؟ فرويد : ان التسامي Sublimation هو العملية المؤدية مباشرة الى الابداع الفني . فحين يتعذر الاشباع الكامل للرغبات الجنسية في الحياة الواقعية يتحول مجرى الطاقة الى نشاطات اخرى هي عمليات الخلق والابداع الفني في حالة الفنانين . والتسامي يختلف عن كل الآليات او الحيل الدفاعية من حيث أنه عملية بنائية ، ولأن وظيفته تتعدى حدود حماية الأنا. ففي التسامي يجري تحويل دوافع غير مقبولة اجتماعيا وأخلاقيا الى أشياء أو موضوعات مفيدة للمجتمع . وعن طريقه يتم الحصول على اشباع من بدائل مفيدة اجتماعيا عندما يحال بين دوافع قسرية او غير مقبولة وبين اهدافها او موضوعاتها الفعلية . فالشخص الذي تتملكه دوافع عدوانية ضد الناس ، فهو بدلا من أن يوجهها فعلا ضدهم فأنه يحولّها الى عمل روائي ( رواية ، قصة) او عمل موسيقي او فيلم سينمائي او لوحة فنية ...وعليه فأنني افترضت بأن معظم أعمال فناني عصر النهضة ، لاسيما منحوتاتهم الجميلة لأجساد عارية من الرجال والنساء ، هي نتاج لتصعيد دوافعهم الجنسية . بل أنني أنظر الى الحضارة نفسها على أنها نتاج الآف السنين من التسامي .
+ لا ادري لماذا تستهويك أحكام كبيرة وقاطعة اترك أمرها لقرائك، ولكنني فهمت ـ تأسيسا" على وجهة نظرك ـ ان الفنان يبدو لجنابك كالعصابي أو مريض نفسيا. فرويد : نعم من حيث انسحابه من واقع لا يرضيه الى دنيا الخيال، لكنه يختلف عن العصابي بكونه يعرف كيف يقفل منه راجعا" ليجد مقاما" راسخا" في الواقع. ومنتجاته ، اعني الاعمال الفنية ، اشباع خيالي لرغبات لاشعورية شأنها شأن الاحلام ، وهي مثلها محاولات توفيقية تتفادى اي صراع مكشوف مع قوى الكبت . ولكنها تختلف عن منتجات الحلم النرجسية من حيث ان المقصود بها اثارة اهتمام الغير وان بوسعها ان تستثير وترضي فيهم بدورهم الرغبات اللاشعورية نفسها . وزيادة على ذلك فهي تستفيد من اللذة الحسية للجمال الشكلي بوصفها ( جائزة مغرية ) وان ما يفعله التحليل النفسي هو ان يأخذ العلاقات المتبادلة بين ما تأثر به الفنان في حياته وخبراته ومنتجاته، ويستخلص منها نفسيته وما يعتمل فيها من دوافع . + في العام 1908تفحصت حياة دافينشي وأعماله الفنية وتوصلت الى أن دافينشي كان رجلا يعاني من كف جنسي متطرف ناجم عن الشعور بقلق الاخصاء ، وتعني به خوفه من عقاب أبيه على رغبته الجنسية نحو أمه بقطع عضوه الذكري ، وأنه قام بتحويل مجرى الطاقة الجنسية لديه نحو انتاج لوحات فنية مميزة لاسيما لوحته الموناليزا ، وفسّرت ابتسامتها الغامضة بأنها ابتسامة والدة دافينشي ، فكم أنت على يقين من استنتاجك هذا؟. فرويد: أنا أرى أن الأعمال الفنية الابداعية اشباع لرغبات محجوزة في اللاشعور لكونها غير مقبولة أخلاقيا واجتماعيا ،وانها بارتقائها الى مستوى الابداع تنجح في التحايل على تجاوز القيود التي تمنعها من التصريح بها بشكل مكشوف ، ولو لم أكن على يقين لما نشرت ذلك .
+ انسجاما" مع نفس المنطق ، فانك تعتبر طفولة " دافينشي " ذات الطابع الشبقي هي العوامل المحددة لسلوكه . فما فشل " ليوناردو دافينشي " في تكوين علاقات عاطفية ناضجة ، والجنسية المثلية عنده ، وابتسامة الموناليزا ، واتحاد الانوية والذكورة في لوحة يوحنا المعمدان ، وانشغاله في محاولاته الفنية المبكرة بتصوير رؤوس نساء باسمات ، الا ـ من وجهة نظرك ـ كون دافينشي كان اسير ابتسامة امه وانوثتها التي انفصل عنها في سن مبكرة . فرويد : يقول ( موتر ) عن ( دافينشي ) : لقد رسم ( ليوناردو من الجراد آكل الانجيل ، باخوس ابولو ، الذي ينظر الينا بأبتسامته الغامضة على شفتيه وبساقيه المتقاطعتين الناعمتين ــ بعيننين ساحرتين ) ان هذه لصور تنفث تصرفا" في السر الذي لا يجرؤ المرء على النفاذ اليه . فالمرء يستطيع ـ غالبا" ـ ان يبذل الجهد لاقامة صلة ذلك باعمال ( ليوناردو ) المبكرة . فالاشخاص فيها مخنثون ، انهم صبيان وسام ، يتسمون بالرقة ، ولهم اشكال أنثوية ، انهم لا ينكسون روؤسهم وانما يحملقون في غموض بنظرة انتصار ،كما لو كانوا منهمكين في حادثة هائلة سعيدة ، وعليهم ان يحفظوها في كتمان ، وتقودنا الابتسامة الفاتنة المألوفة الى ان نستنتج انه سر الحب . ومن الممكن ان يكون ( ليوناردو ) قد اخفى في هذه الاشكال تعاسة حبه وهزمها بفنه ، حيث مثّل تحقيق رغبة الصبي الذي فتنته امه في وحدة هائلة للطبيعة الذكرية والانثوية . ولنكن على يقين من ان الاب ايضا" كانت له اهمية في تطور ( ليوناردو ) من الناحية النفسية الجنسية، والاكثر من ذلك ان تلك الاهمية لم تكن بمعنى سلبي اثناء غيبة الاب خلال السنين الاولى من طفولة الصبي ، وانما كانت اهمية مباشرة اثناء حضوره في طفولته المتأخرة . انه لايستطيع الامتناع ـ وهو طفل يرغب في أمه ـ عن الرغبة في ان يضع نفسه في مكان ابيه ، وان يمثل نفسه به في مخيلته ، واخيرا" ان يجعل مهمة حياته ان ينتصر عليه .
+ ولكنك تشير الى ان حديثك عن ( دافينشي ) لم يتناوله الا من ناحية الباثوجرافيا ، وهذه لا تكشف عن نواحي النبوغ لدى ( دافينشي ) العظيم ، لان منهج التحليل النفسي لا يستطيع اطلاعنا على طبيعة العمل الفني . فرويد: هذا صحيح ولكن ينبغي تثبيت نقطة مهمة هي انه في الفن وحده يندفع الانسان بفعل رغباته اللاشعورية فينتج ما يرضي أو يشبع هذه الرغبات. خذ مثلا" ( ديستويفسكي ) ـ ففي شخصيته الخصبة عدة وجوه : الفنان الخالق ، والاخلاقي ، والعصابي ، والآثم ـ فان الصلة التي لا يمكن ان يخطيء المرء في ادراكها بين قاتل الاب في الاخوة كارامازوف ومصير ( ديستويفسكي ) نفسه قد هزت اكثر من واحد من كتّاب السيّر وادّت بهم الى الرجوع الى مدرستنا ( التحليل النفسي ) . لقد كان الحكم على ( ديستويفسكي ) بالاعدام ـ كسجين سياسي ـ حكما" ظالما" . ولا بد أنه كان يعلم ذلك ، لكنه قبل هذا العقاب الذي لم يكن يستحقه بين يدي الاب البديل ـ القيصر ـ كعوض عن العقاب الذي يستحقه على خطيئته ضد أبيه الفعلي ، فهو بدلا من ان يعاقب نفسه ، عوقب بواسطة أبيه الفعلي .
+ انك تربط الابداع الفني بالكبت والجنس والعصاب ، وانك تعدّ عقدة اوديب ( التي تعني في نظريتك : رغبة لاشعورية لدى كل الأطفال – دون استثناء ! - بقتل آبائهم وامتلاك أمهاتهم جنسيا ) هي العقدة الرئيسية في الامراض العصابية . وتقرر بان الاعتراف بعقدة اوديب اصبح المبدأ الاساسي الذي يميز اتباع التحليل النفسي عن خصومه . و تقرر ايضا" بان عقدة اوديب تمثل القمة التي يصل اليها النشاط الجنسي الطفلي ، وأنها المحدد الأعظم أهمية الذي يقرر سلوك الطفل في تكيفه الجنسي والتي تؤثر في نتائجها تأثيرا" حاسما" حتى في النشاط الجنسي للراشدين . وتضيف بأن كل شخص يصل لأول مرة الى هذا الكوكب يجابه مهمة التغلب على عقدة اوديب ، التي هي جوهر العصاب ولبّه ، وكل فرد يفشل في ذلك يقع فريسة العصاب . وتقرر اخيرا" بان عقدة اوديب تبدو في حياتنا على انها نهاية حكم عليها ان تكون مرعبة . فكيف توصلت الى هذه الاحكام ؟ وبالمناسبة كنت انت قد حلمت في صباك بأنه قد نحت ك تمثال كتب عليه : ( الى من حلّ لغز ابي الهول وكان اشدّ الرجال اقتدارا" ! ) . فرويد: ( اوديب ملكا ) تدخل بين ما يعرف باسم مأساوية القدر ، ويقال ان تأثيرها المأساوي يقوم بالتضاد بين مشيئة الالهة القاهرة وبين محاولة الانسان سدى ان يجنب نفسه الويل الذي يتهدده، وان الدرس الذي يخرج به من شهد المسرحية هو الاستسلام لمشيئة الالهة والاعتراف بالضعف الانساني . ما أريد أن أقوله : اذا كانت ( اوديب ملكا ) تهز اليوم معاصرينا مثلما هزّت من عاصرها من الاغريق، فلا تفسير لذلك الا لأن وقعها لا يقوم على ما بين القدر وارادة الانسان من التضاد ، وانما ينبغي ان نتلمس سرّ هذا الوقع في طبيعة المادة التي تشخص بها هذا التضاد .ان النبؤة قد صبت علينا ـ ولمّا نولد ـ تلك الدعوة التي صبت عليه فلعله قد قدّر علينا جميعا" ان نتجه بأول نشاطنا الجنسي جهة الام ، وبأول البغضاء ورغبة الدمار جهة الاب . واحلامنا تقنعنا بان الامر كذلك ، فاسطورة اوديب قد نبعت من مادة حلمية قديمة ازلا، متصلة بهذا الاضطراب الاليم الذي ينتاب علاقة الطفل بوالديه من جراء نزعاته الجنسية الاولى . ذلك ما نجده في نص مأساة ( سوفوكليس ) من اشارة لاشك فيها ، فها هي ذي ( يوكاستا ) ترّفه عن اوديب ـ ولم يكن قد استنار بعد ولكن ذكرى النبؤة اخذت تشيع الاضطراب في نفسه ـ فاذا هي تشير الى حلم يأتي حقيقة اناسا" كثيرين ، ولكن دون ان يعني ذلك ـ في زعمها ـ شيئا" . ( كم من مائت قبلك ضاجع في الحلم امه ، ولكن يسهل عبء العيش لمن لم يلق الى ذلك بالا ). واليوم كما في ذلك الوقت يحلم الكثيرون بمضاجعة الأم ويرون احلامهم مستنكفين متعجبين ، ومن السهل ان نفهم ان هذا الحلم هو مفتاح المأساة والجزء المكّمل للحلم بموت الاب . فقصة الملك اوديب استجابة من المخيلة الى هذين الحلمين النمطيين ، وكما ان هذه الاحلام تصحبها ـ حين تقع للراشدين ـ مشاعر من النفور ، فقد حق كذلك ان تضم الاسطورة في طياتها الارتياع وايقاع العقاب بالنفس . واما التحوير الذي يجيء بعد ذلك فمنشؤه مرة اخرى ان المادة تراجع هنا ايضا" مراجعة ثانوية خاطئة بهدف استخدامها في اغراض لا هوتية .
+ يعزو البعض ان اهتمام ( شكسبير ) بكتابة المأساة يرجع الى انه ـ شكسبير ـ شعر بهوة عميقة بينه وبين الحياة التي بدأت ترسخ سلطة الاقطاع . اما انت فانك تخضع هاملت شكسبير لنفس عقدة اوديب .. فما هي اسباب تردد هاملت من وجهة نظرك ؟ . فرويد : ماهي اسباب هذا التردد، ذلك ما لا يتحدث النص بحرف عنه وبذلت في تفسيره محاولات لا تحصى فما اتت بطائل. فهاملت في نظر ( فيلهم مايشتر ) اصلها ( جوته ) ولا تزال لها الغلبة حتى اليوم بمثل هذا الطراز من الرجال الذين شلت عندهم القدرة على العمل المباشر بفعل نمو العقل نموا" مفرطا". وفي نظرة اخرى ان الشاعر اراد ان يصور لنا مريضا" مذبذبا" شارف النوراستانيا . بيد ان المسرحية ترينا ان هاملت بعيد كل البعد عن ان يصور في صورة انسان فقد كل قدرة على العمل. فنحن نراه يعمل مرتين : الاولى في ثورة مباغتة حين يطعن السامع المسترق من وراء الستار ، والثانية فعن قصد مبيت بل في مكر جم ، وذلك حين يرسل برجلي البلاط الى الموت الذي كان مدبرا" له هو ، مبديا" في ذلك كل التحلل االخلقي الذي يمكن ان يتصف به أمير من أمراء عصر النهضة . فما الذي يوقفه على هذا النحو في انفاذ المهمة التي كلفه بها شبح أبيه ؟. الجواب نجده مرة أخرى في الطبيعة الخاصة لتلك المهمة . ان هاملت يستطيع ان يأتي كل شيء الا ان يثأر من الرجل الذي ازاح اباه ، واحتل مكانته عند أمه . الرجل الذي يريه ـ اذن ـ رغباته الطفلية وقد تحققت . وهكذا يحل عنده تأنيب النفس وتخويف الضمير محل الاستبشاع الذي كان كفيلا" ان يدفعه الى الانتقام الذي كلف بعقابه. وانا اذ اقول ذلك اترجم في عبارة شعورية ما كان مقررا" بقاءه لا شعوريا في نفس البطل . فاذا اراد البعض ان يدعو هاملت هستيريا ، لم اجد الا ان اسّلم بأن تلك نتيجة تخرج من تفسيري ، ويتسق ذلك احسن الاتساق ما يعرب عنه هاملت مع اوليفيا من نفور من الحياة الجنسية . وهذا النفور الذي كان مقدرا" ان يزيد على الدوام تمكّنا من نفس الشاعر في مستأنف سنواته حتى بلغ التعبير عنه اقصاه في ( تيمون الاثيني ). فما يطالعنا في هاملت بالطبع هو الحياة النفسية ( لشكسبير ) . واني الاحظ في كتاب ( جورج براندس 1896 ) قوله : ان ( شكسبير ) كتب هذه المسرحية فور موت أبيه ـ 1601 ـ اي حين كانت وطأة الحزن عليه في اشدّها وحين بعثت في نفسه من جديد ـ كما يحق لنا افتراضه ـ مشاعره الطفولية نحو والده . ومن الامور المعروفة كذلك ان والد ( شكسبير ) الذي مات في سن مبكرة كان يحمل اسم ( هامنت ) وهو يطابق هاملت .
+ طبقا" لوجهة نظرك فان اوديب سوفوكليس وهاملت شكسبير والاخوة كارامازوف لدستويفسكي ، تتعرض جميعا" لموضوع واحد هو قتل الاب ، وان الدافع لذلك هو المرأة الام . فرويد : ان اكثر الامور صراحة هو بالتأكيد تمثل المأساة المشتقة من الاسطورة اليونانية ، ففيها نجد ان البطل نفسه هو الذي يرتكب الجريمة ، ولكن المعالجة الشعرية تكون مستحيلة دون تهذيب وتخفيف. فالاعتراف المكشوف بنية ارتكاب جريمة قتل الأب يبدو غير محتمل بدون اعداد تحليلي. فالمأساة اليونانية تقدم ـ مع احتفضاها بالجريمة ـ التخفيف اللازم للعبارات ، بطريقة فنية بوساطة اسقاط الدافع اللاشعوري للبطل ، في الواقع ، في صورة اكراه من القدر قد انتقل اليه . يرتكب البطل فعلته بدون قصد ، وهو يرتكبها في الظاهر تحت تأثير امرأة ، ويؤخذ هذا العنصر الاخير ـ مع ذلك ـ في الاعتبار ، في الظرف الذي يستطيع فيه البطل فحسب ان يصل الى امتلاك الملكة الام ، بعد ان يكون قد كرر فعلته عن التنين الذي يرمز للاب . والبطل بعد ان يكتشف ذنبه ويصبح شعوريا" ، لا يقوم بأية محاولة لمسامحة نفسه بالاستشهاد بالحيلة المصطنعة عن قهر القدر . انه يسّلم بجريمته ويعاقب عليها، كما لو كانت قد تمت على مستوى شعوري تماما" . وهو ما يبدو لعقلنا ظلما" ، وان يكن صحيحا" تماما" من الناحية النفسية . اما في مسرحية هاملت فالتمثيل غير المباشر اكثر من ذلك . فالبطل لا يرتكب الجريمة بنفسه ، انما الذي نفذّها شخص اخر ، لا تعدّ الجريمة بالنسبة له جريمة قتل أب . فالدافع الحقيقي للمنافسة الجنسية على المرأة لا يحتاج من ثم الى تخفيف . ونحن نرى عقدة اوديب عند البطل في ضوء معكوس حينما نعلم الاثر الواقع عليه من الجريمة التي ارتكبها الآخر ولابد ان ينتقم لهذه الجريمة ، ولكنه يجد نفسه عاجزا" ـ بصورة غريبة ـ عن ذلك . ونحن نعلم ان شعوره بالذنب هو الذي يعوقه ، غير ان الشعور بالذنب يفسح مكانا" ـ بطريقة تتمشى تماما" مع العمليات العصابية ـ لادراك عدم كفائته لانجاز مهمته. فهناك دلائل على ان البطل يحس بالذنب كفرد فائق التميز ، لكنه يحتقر الاخرين بدرجة لا تقل عن احتقاره لنفسه. اما الاخوه كارمازوف فتخطو خطوة ابعد في نفس الاتجاه ، ففيهما ايضا" ترتكب الجريمة بيد انسان اخر . مع ذلك فهذا الشخص الآخر ايضا" تربطه بالرجل المقتول نفس علاقة البنوة التي تربطه بالبطل ديمتري، ودافع المنافسة الجنسية في حالة الشخص الآخر معترف به صراحة ، انه اخو البطل وانها لحقيقة ملحوظة . ان ( ديستويفسكي ) قد نسب اليه مرضه هو ـ اي الصرع المزعوم ـ كما لو كان يسعى الى الاعتراف بان الجانب الصرعي فيه ـ اي العصابي - كان هو مرتكب جريمة قتل الاب . + بما أنك لا تستثني أحدا من عقدة أوديب ،سأتجرّأ وأسألك : كنت الولد الأكبر بين أخوانك وأخواتك ،وكانوا يعدّونك من صغرك ذكيا . وكنت تحظى بعناية خاصة من والدتك ، فهل يحق لنا أن نطّبق قولك ( أن الولد ينجذب جنسا نحو أمه ) على تعلّق فرويد الرومانسي بأمه ، سيما وأنك كنت في العشرين من عمرك شابا وسيما وأجمل من أبيك بكثير ؟!. فرويد : " يضحك " .ان كان قد حدث لك مثل هذا ..فقد حدث لي !.
( الحلقة القادمة : المرأة والحب..) رئيس الجمعية النفسية العراقية
#قاسم_حسين_صالح (هاشتاغ)
Qassim_Hussein_Salih#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوار مع فرويد - 2
-
حوار مع فرويد
-
ماركس ولينين ام فهد وسلام ؟!
-
بعض الأمراض النفسية في قوى اليسار العراقي
-
البديل المنقذ لعراق مدني ديمقراطي ..وساطة لتوحيد قوى اليسار
-
البديل المنقذ لعراق مدني ديمقراطي / ملاحظات على دعوة ..ودعوة
...
-
العلم العراقي ..المقترح اقراره
-
ذكريات مع الدكتور علي الوردي
-
العراقيون ...شعب أسطوري !
-
العراقيون في عام 2020
-
كاظم الساهر..والعراقيون
-
الحوار المتمدن .. تكريم لضحايا الفكر
-
العراقيون وسيكزلوجيا التطير
-
المرأة ..والعراف
-
العراقي ..وسيكولوجيا الهوس السياسي
-
مركز دراسات المجتمع العراقي من الفكرة الى التأسيس
-
سلطة الرمز الديني في لاوعي الشخصية العراقية
-
النفاق والازدواج في الشخصية العراقية( القسم الثاني :ازدواج ا
...
-
دعوة لتبني مشروع دراسة المجتمع العراقي(استجابات )
-
النفاق والازدواج في الشخصية العراقية ( القسم الأول)
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|