اعتقد ان جملة هائلة من الاماني العريضة التي عاشها العراقيون منذ زمن طويل في تأسيس عراق مستقر زاهر وجميل ومتقدم .. كانت من قبيل الاحلام الوردية التي ينعشون بها ذاكرتهم ويتخلصون بواسطتها من آلامهم وجروحهم واحزانهم .. نعم ، لقد حققوا شيئا كبيرا حتى وهم في ظل الاحتلال الامريكي ولكن مشاكلهم ومعضلاتهم اكبر مما يمكن تصوره او تخيله ، وبامكان كل من عرف العراق وتعّمق في تاريخه الصعب ان يخلص الى نتائج لا تسر ابدا . وكثيرا ما حدّثت نفسي بأن اتوقّف عن كل هذا الذي اكتبه لقناعتي بأن لا نفع فيه مع الاخوة العراقيين بالذات ولكنني اعود لأقول بأن ما اكتبه ويكتبه غيري من الكتاب والمؤلفين سيكون توثيقا من اجل ما تراه جملة من النخب العراقية واضحا وصريحا ومباشرا من مصلحة عليا للعراق والعراقيين سيذكرها المستقبل في يوم من الايام البعيدة .. عندما سيحّل به وبهم من المصاعب وكأن التاريخ قد كتب عليه وسجل عليهم ان يبقوا منذ عشرات السنين في سلسلة من النكبات والمكابدات المحزنة . دعوني اكمل ما كنت قد كتبته الاسبوع المنصرم :
اسس العراق الجديد
يمكنني القول ان جميع الذين كتبوا ودرسوا ونظروا مسألة الدولة العراقية في مفهومها وآلياتها الأولى لم يطلعوا البتة على ما احتوت عليه تلك "الأدبيات" والوثائق السرية وما أصدرته تلك الدولة سواء من خلال جريدتها الرسمية " الوقائع العراقية " أم منشوراتها الأخرى السياسية والاعلامية على امتداد اكثر من ثمانين سنة.
لعل أبرز ما يمكننا تحديده في مفهوم الدولة العراقية من خلال بعض تلك الأدبيات:
اولا : الاندفاع القيادي والنخبوي، ومن ثم الفئوي والجماهيري لتكوين دولة مركزية وعاصمتها بغداد، وبالسرعة اللازمة ليس من أجل سد الفراغ السياسي والحكومي (=التنفيذي) والإداري الذي أحدثه انسحاب العرب من التاريخ ، بل من اجل تحقيق اهداف على النسق القومي الذي عاشته اوروبا بالدرجة الاولى في المركز والأطراف والتوابع. واعتقد ان العراق بوضعه الحالي انما هو بحاجة ماسة الى الانسجام والتماسك بديلا عن اي نوع من الانقسام .
ثانيا : التموج والتلون السياسي الذي ساد طبيعة الكيان العراقي بانتقاله من تأسيس كولينيالي بريطاني مؤقت إلى كيان عراقي وطني مؤسساتي بدأ يطرح نفس الاهداف التي نادي بها القومويون الاوائل بتأسيس دولة عربية تغنوا بها طويلا وكل ذلك قد تبلور عند القياديين في حين ان مجتمعات عراقية عريضة ومتنوعة كانت تتطلع لتحقيق اهداف وطنية خالصة .
ثالثا : الدور القومي العراقي القيادي (الذي سيتطور إلى دور الريادة الكاريزمية) لمنظم ومدبر شؤون الدولة الثقيلة بين معالجة ما أحدثه الفراغ التركي او البريطاني او الفرنسي في البلاد داخلياً ، وبين معالجة ما كان عليه الوضع الدولي والإقليمي في المنطقة والعالم فستولد مملكة فيصل العراقية اولا عام 1921 ثم جمهورية اتاتورك التركية عام 1923 ثم مملكة رضا بهلوي الايرانية عام 1925 ثم المملكة العربية السعودية عام 1932 .
رابعا : صعوبة تأسيس أول دولة عربية على أيدي أبناء (=نخبة) مجتمع جل أفراده لا يعون معنى الدولة الحديثة ولا السياسة الحديثة ، ولا معنى عندهم لا في وعيهم ولا في تفكيرهم لأية مؤسسات أو لأية علاقات أو لأية أجهزة وخصوصيات .. نظراً لما اعتادوا عليه سابقاً من تقاليد وإدارات محلية او عشائرية او اوتوقراطية او طائفية او بيروقراطية او استبدادية ، فالمشكلة ليست في تأسيس الدولة بقدر ما تكمن المشكلة في ظروف التأسيس.
خامسا : المشاكل المحلية والإقليمية والاقتصادية الحقيقية التي كان الواقع يذكيها يوماً تلو الآخر، والمعاناة من جراء الأزمات الاقتصادية العالمية. مع انبثاق الافكار الوطنية التي تبلورت لأول مرة ببروز اوطان مستقلة وقعت جغرافيا بين فكي كماشة سيطرتين استعماريتين قويتين: سيطرة الإنكليز على مصر وفلسطين والعراق والخليج العربي، وسيطرة الفرنسيين على السواحل المتوسطية وجبل لبنان.. تنبثق المشكلات اليوم من كل المحيطين !
ما الدروس النافعة من الدولة الراحلة ؟
يهمّنا كثيرا جدا : التحول الذي جرى في مفهوم الدولة العراقية الملكية الهاشمية ام العسكرية الانتقالية او الاستبدادية البعثية خلال عمرها القصير الذي قدر باثنين وثمانين سنة :
اولا : السمة المركزية العسكرية للدولة منذ بدايتها الأولى ( عندما تأسس الجيش العراقي في 6 كانون الثاني / يناير 1920م في ظل العلم البريطاني ) من خلال الصلاحيات التي خول بها الحكام البريطانيون العسكريون وخصوصاً في العاصمة بغداد والبصرة والموصل . وهل اي تجربة لا مركزية يمكنها العيش في قلب حيتان لا ترحم !
ثانيا : السمة السياسية القومية للدولة منذ تأسيسها لاول مرة عام 1921م باستحواذ المدنيين والعسكريين القوميين على التوجهات السياسية للدولة، وهي توجهات مثالية بطبيعة الحال بدأت تصطدم ممارساتها بالواقع الداخلي للمجتمع العراقي الصعب من خلال تنوعاته وتعددياته ، وقد تطور تأثير التطرف الشوفيني القومي بشكل سافر في الثلاثينيات عندما تأسست الجمعيات والنوادي القومية ببغداد ، وقاد ذلك على المدى البعيد الى سلسلة مشكلات وانقسامات وانقلابات ومؤامرات وحروب نهايات القرن دفع العراق فيها الغالي والرخيص .
ثالثا : السمة السياسية الوطنية للعديد من الاحزاب والجماعات والتيارات السياسية في كل من مؤسسات الدولة وفئات المجتمع في العهدين الرئيسيين الملكي والجمهوري ( وخصوصا في المعارضة ) اثر المشاكل التي حدثت في أكثر من مكان وزمان بنماذجها الانقلابية العسكرية او الانتفاضات السياسية او النضالات الحزبية .. الخ وينبؤنا عن ذلك : التقلب السياسي الداخلي الشديد بتبدل الوزارات من حين لآخر. ولقد وجدت هذه السمة السياسية الوطنية نفسها في اخطر مأزق على عهد صدام حسين من خلال فصائل بعض المعارضات لحكمه والتي لم تنجح في الائتلاف الا من خلال الولايات المتحدة الامريكية !
ما اشبه الليلة بالبارحة !
لقد توضحت أمامنا اليوم تلك الحاجة الماسة التي تدعونا إلى إيجاد حلول عملية وأساسية لمعالجة أزمة العراق الجديد الوليد داخلياً وعربياً سواء في ظل الاحتلال ام من بعده كوني واثق جدا بأن العراقيين سيحكمون انفسهم بانفسهم في القريب العاجل ، وامامهم بوابة تاريخية ضيقة ، فاما ينجحون في دخولها او سيعجزون في ذلك كعادتهم ويا للاسف الشديد فتقوم قوى التحالف بالحسم ! فما الذي يمكننا اتباعه ؟
أولاً : الدعوة إلى مؤتمر وطني تأسيسي لكسب مبدأ الشرعية للدولة والحكم، وتحوله من عراق محتل الى عراق دستوري واعتقد بان الامريكان لا يرفضون الفكرة .. ولابد ان يأتي ذلك عقب متغيرات عدة لابد من تأسيسها في السياسة الداخلية للدولة العراقية التي كانت ولم تزل تواجه سلسلة من التآمرات المفضوحة ضدها من قبل اطراف عدة لم تتوان عن ابتلاع حتى حقوق العراقيين المالية .
ثانياً : ماذا طرح العراق عند تأسيس دولته الراحلة ؟ سيحدد الجواب عن هذا السؤال "مفهوم الدولة" كما طرحه العراق مستفيداً من تجاربه السياسية المريرة التي مر بها في القرن العشرين وكما رآها صالحة للجمع بين كل المتناقضات التي طفت على السطح منذ زمن طويل. وهنا لابد ان يهدأ العراق سياسيا واعلاميا ويتوقف ابناؤه قليلا عن تصفية الحسابات السياسية والطائفية والعرقية في ما بينهم وكل ما يشد الى الوراء .
ثالثا : لا اعتقد ابدا ان العراقيين سيحالفهم اي نجاح في تأسيس بلادهم من جديد اذا ما حمل كل طرف منهم اجندة عمل خاصة به ليفتح له دكانا ينادي منه على بضاعته .. ان اي لعبة تحول بعض الافكار المتطرفة الى اجندة عمل سياسية من اجل تقاسم مصالح فئوية او عرقية او طائفية او مناطقية .. ستحول العراق الى كومة اشلاء تنضح منها الدماء لا سمح الله .. ان على العراقيين اليوم ان يكون لهم مشروع وطني سياسي واحد موحد من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب .. يمكنه ان يتحول في المستقبل الى ايديولوجية عراقية تأتلف عليها الاغلبية مهما كانت الانتماءات والاصول والمنابت والاتجاهات .
رابعا : أن تبنّي أي مشروع وطني أو برنامج سياسي يضع مصالح العراق العليا اولا وقضاياه ومستقبله هو الاسلوب الوحيد الناجح . وواضح اليوم كم هي الهجمة البليدة والساذجة على المناصب والقيادات والادارات .. وواضح ايضا كم هي الحسابات المزدوجة والكيل باكثر من مكيال لمحسوبيات ومنسوبيات وعلاقات شخصية .. وثمة اسئلة تطرح نفسها حول ما يمكن للعراقيين فعله باصدار دستور عراقي دائم واختيار نوعية نظام الحكم وكيفية التعامل والتفاوض مع المحتلين .. ثمة مستلزمات اساسية لابد ان تشغل بال الساسة العراقيين الجدد .
ما الذي يمكن الاستفادة منه اليوم ؟
برغم ان البعض يشّبه الظروف التي تمر بالعراق اليوم بتلك التي مرت عليه ابان تأسيس دولته الراحلة ، فانني اقول بأن هناك تباينات تاريخية واسعة في اوضاع الداخل والاقليم خصوصا .. وهناك من يقول بأن العراقيين يمكنهم الاعتماد على انفسهم في تأسيس دولة مؤسساتهم في عراقهم الجديد ! وهناك من يقول : كيف يتأسس جيش عراقي في ظل الاحتلال الامريكي وينسى او يجهل ان جيش العراق السابق بني تحت ظلال الانكليز ! وهناك من يقول : بأن العراق على قاب قوسين او ادنى من الديمقراطية وان مشاكلهم ستحسمها الصناديق الانتخابية ! وهناك من يفكّر بتطبيق مشروعات سياسية عليا يشارك فيها الجميع على احسن ما يرام وينسى او يجهل تاريخا مضمخا بالدماء صنعه العراقيون واحدهم ازاء الاخر ! وهناك من يعزف خيالا ويعيش احلاما وردية بالتغيير وكأنه يرى العراق تمثله نخبة رائعة من المفكرين والمبدعين والمثقفين وينسى او يجهل ان في العراق جملة مجتمعات متخلفة جدا فيها غرائب وعجائب وهي بحاجة الى سنوات طوال من اجل ان ينغرس فيها الوعي السياسي الذي يمكنّها ان تميّز بين المعقول واللامعقول في التعامل العادي فكيف بالسياسي ! لقد تركت الحكومات العراقية المتعاقبة في الاربعين سنة الماضية شعبا محملا باعباء ثقيلة ولكننا ننسى طبيعة شعب له تعقيداته بعد ان فتحت كل الابواب امامه ! وثمة سياسات خاطئة مورست في تكوين هذه العقلية القديمة التي تميل دوما نحو الرفض والتذمر والتمرد والانتماءات العقيمة وتبديل المواقف والامزجة كاحجار عاثرة في سبيل التقدم والرقي . ان ملايين العراقيين اليوم بحاجة الى زمن طويل وطويل جدا من اجل ان يضع بلدهم اقدامه على بداية السلم من اجل ارساء مجتمع مدني ويرتبط كل عراقي بارضه اولا واخرا بعيدا عن كل الانتماءات التي تخل بموازينه السياسية والتاريخية وتدخله في شرانق متيبسة لا يمكن ان يحيا فيها .. وتعود حليمة من جديد الى عادتها القديمة وكأنه لم يحصل اي تغيير لا في الاساليب ولا في المناهج ولا في الخطط .. فكيف سيتحقق ذلك كله من خلال الاماني الجميلة والاحلام الوردية !؟