كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 679 - 2003 / 12 / 11 - 05:59
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
لم يعد الخوف في العراق من عودة البعث إلى السلطة قائماً في واقع الحال, رغم وجود مخاوف من عمليات اغتيال ينفذها من تبقى من أتباع النظام المهووسين أو الذين فقدوا تلك المراكز التي تسلموها دون وجه حق وكفاءة, ذ لم يعد هناك من إنسان سليم العقل وحي الضمير يرغب في رؤية صدام حسين يصول ويجول في العراق كما فعل في العقود المنصرمة, أو رؤية صورته مستقرة على شاشة التلفزيون العراقي نهاراً وليلاً, فما فعله في العراق أثناء حكمه وبعد سقوطه يكفي لإقناع الملايين من البشر العقلاء من أن حقبة تاريخية مريرة عاشها الشعب العراقي قد ولّت وإلى الأبد ووضعت في مزبلة التاريخ.
وما يجري اليوم في العراق من فوضى فعلية وانفلات أمني كبير فهو نتاج تراكمات الماضي أولاً, وإعلان القوات الأمريكية – البريطانية احتلالها للعراق رسمياً, وهي التي ادعت رغبتها في تحرير العراق وحسب لا في احتلاله ثانياً, والأخطاء الفادحة التي ترتكبها سلطة وقوات الاحتلال يومياً في العراق وفي مختلف المجالات ثالثاً, ثم تلك الجماعات الإرهابية التي فقدت السلطة في البلاد نهائياً ولا تريد الاعتراف بذلك بل تريد أن تزيد من حقد وكراهية الناس لها رابعاً, ثم في تلك الجماعات الإرهابية المتطرفة من أتباع وأشباه القاعدة خامساً وأغلب استطلاعات الرأي التي جرت مؤخراً في العراق تؤكد بأن مرحلة جديدة يمكن أن تبدأ في العراق لو أحسنت القوى السياسية العراقية التصرف وابتعدت عن تلك المشكلات التي أعقبت ثورة الرابع عشر من تموز وما نشأ عنها من عواقب ما يزال يعاني منها الشعب العراقي.
وإذا تبرز يوماً بعد يوم, ورغم كل المصاعب المحيطة بالعراق, إمكانية فعلية لمعالجة جادة للفوضى ولجم قوى الإرهاب في البلاد وتفتيت تجمعاتها ومخابئها فعلياً, وبالتالي إبعاد خطر الموت عن المواطنات والمواطنين, وإذا كان العراقيات والعراقيين على اتفاق تام بأنهم جميعاً سيسعون وسيناضلون بكل عناد من أجل إنهاء احتلال العراق وإنهاء الوجود الأمريكي-البريطاني العسكري والسياسي, فأن صراعاً ملموساً بدأ منذ فترة يلوح في سماء العراق ويطأ أرضها وشعبها ويدفع باتجاه الاستقطاب, إنه الصراع حول مستقبل العراق.
لا يمكن لأحد إخفاء هذا الصراع, كما لا يمكن المجاملة فيه أو السكوت عنه, فهو صراع يمس حاضر ومستقبل شعبنا وحريته وكرامته ووجهة تطوره. ولا ابتعد عن الحقيقة حين أقول بأن الصراع يدور اليوم بين قوى العلمانية والقوى اللاهوتية أو غير العلمانية. فكيف نفهم العلمانية وماذا يريد العلمانيون لبلادهم, وماذا يريد الآخرون؟
العلمانية موقف فكري ديمقراطي حديث ارتبط بعملية التنوير التي عاشتها أوروبا خلال العقود المنصرمة والتي لم تنته بعد. ولكن ليس غريباً أن يكون بين العلمانيين من يتجه صوب الاستبداد والشمولية أيضاً تحت واجهات أيديولوجية كوسموبوليتية أو أممية أو قومية شوفينية أو قومية ضيقة, أو حتى إلحادية معادية للأديان والمذاهب المختلفة. ولكننا هنا نتحدث عن العلمانية الديمقراطية التي ترفض كل شكل من أشكال الاستبداد والهيمنة والتحكم بمصير الإنسان الفرد أو المجتمع.
فالناس الذين يقفون إلى جانب العلمانية الديمقراطية ويدعون لها يسعون إلى تثبيت الأسس التالية في الحياة الفكرية والسياسية للمجتمع:, فهي تعني باختصار شديد:
• حق الإنسان في التمتع بالحرية والحياة الديمقراطية الحرة واحترام كرامة الإنسان.
• الفصل التام بين الدين والدولة لصالح المجتمع ولصالح أتباع مختلف الأديان والمذاهب.
• الفصل بين السلطات واحترام استقلال القضاء.
• المساواة بين المواطنات والمواطنين بغض النظر عن الجنس أو القومية أو الدين أو المذهب أو اللغة, ورفض التمييز بين المرأة والرجل ومختلف أشكال التمييز الأخرى.
• والعلمانية تعترف بالأديان ولا ترفضها, ولكنها ترفض دمج الدين بالدولة, وهي بالتالي ليست ضد الدين, كما إنها ليست إلحادية, إذ أن الدين مسألة شخصية تمس الإنسان وما يؤمن به ذاتياً. ومن هنا يأتي رفضها أيضاً للاستعلاء الديني والمذهبي إزاء بقية الديات والمذاهب بحجة الأكثرية أو الأفضلية وما إلى ذلك.
• وبالتالي فالعلمانية لا يتجاوز أن يكون موقفاً ديمقراطياً حديثاً وعقلانياً من المجتمع ومن البنى الفوقية فيه ويستند إلى الاعتراف الكامل بحرية الفرد, باعتبارها الأساس المادي لحرية المجتمع.
• والعلمانية الديمقراطية تعترف بحقوق القوميات المشروعة والعادلة, بما في ذلك حق تقرير المصير ومنه إقامة الفيدرالية في إطار الجمهورية الواحدة, كما تعترف وتحترم وتمارس حقوق الإنسان والتعددية السياسية والحياة البرلمانية الحرة, إنها باختصار التنوير بمعناه الحديث الذي لم يصل بعد إلى مجتمعاتنا الشرق أوسطية, فعملية التنوير التي بدأت كظاهرة جديدة جزئياً في مصر في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين لم تتواصل بل انقطعت من جديد بفعل عوامل كثيرة وتراجعت على أعقابها. وما علينا إلا إعادة ما انقطع ومواصلتها لنستطيع الوصول إلى بناء حضارتنا الجديدة التي يفترض أن تشكل جزء من حضارة المجتمع البشري.
لا شك في وجود قوى سياسية في العراق, وخاصة مختلف القوى الإسلامية, وليس كلها, ترفض العلمانية لأنها تريد أن يسود الدين الإسلامي في الدولة العراقية, أن يكون الإسلام دين الدولة, ومن ثم كل من المذاهب القائمة
يريد أن يكون هو السائد في الحكم في البلاد ومن ثم فرض الشريعة الإسلامية. والقوى الدينية, شاءت أم أبت, سوف تتخذ مواقف محددة من مجموعة من القضايا الاجتماعية والسياسية في حالة وصولها إلى السلطة أو تطالب بها حتى وهي خارج السلطة التي لا يمكن القبول بها, إذ تعتبر بالنسبة لها الثوابت التي لا يمكن القبول بغيرها باعتبارها واردة في القرآن أو في السنة النبوية في التشريع الخاص بكل مذهب. وهذا الأمر يمس الموقف من مختلف الأديان والنظرة غليها وسبل التعامل معها, أو الموقف من حرية المرأة والعباءة ودور المرأة في المجتمع والموقف من تعدد الزوجات ومن حقوق المرأة الكثيرة التي لا يقرها علماء الدين. وكذلك الموقف حق الأفراد في اعتناق الأديان المختلفة أو تبديلها والموقف من العقوبات التي تنزلها الشريعة ةهي مخالفة لحقوق الإنسان وما وصلت إليه البشرية من تقدم في هذا الشأن, ومنها منع التعذيب والإساءة إلى كرامة الإنسان عبر قطع اليد أو الرجل أو الرجم بالحجارة أو قطع الرؤوس...الخ, وكذلك الموقف من الغناء والرقص والمسرح والمسرات وحق الأفراد في تعاطى المشروبات الروحية وحق بيعها, أو حتى الموقف من امتلاك العبيد, إذ لم يجرأ أي مشرع ومن علماء الدين أن يحرموا امتلاك العبيد أو إيقاف زواج المتعة عند الشيعة ...الخ. والقائمة في هذا الصدد طويلة جداً. وهي التي تخلق الصدامات والصراعات في المجتمع, وهي التي يفترض تجنبها عبر الفصل الكامل والفعلي بين الدين والدولة, بحيث تصبح الدولة حيادية بين الأديان وتصبح الحياة مدنية حرة وديمقراطية.
من المفيد أن نشير هنا إلى أن القوى الأكثر تطرفاً وتعصباً وعدوانية من قوى الإسلام السياسي الإرهابية لا يمكن أن تجد أرضية صالحة لها في العراق, بسبب طبيعتها المعادية لمختلف المذاهب الإسلامية وعدوانيتها, سواء أكانت سنية أم شيعية. فقوى القاعدة التي تستند إلى اللون الأكثر تطرفاً في المذهب الوهابي لا تجد سنداً لها في المجتمع العراقي إلا تلك القوى التي ارتبطت طويلاً مع الجماعات السعودية وانتعشت بالمبالغ الطائلة التي تراكمت عندها, سواء من قوى الحكم السعودي أم من قوى سعودية من خارج الحكم, والتي انتهى بها المطاف لتكون إلى جانب الجماعات الأكثر تطرفاً في المذهب الوهابي. وكذلك القوى الشيعية التي ترتبط بخيوط قوية مع الجماعات المحافظة والمتطرفة طائفياً الفاعلة في المجتمع الإيراني, ولكنها هي الأخرى محرومة من تأييد واسع في المجتمع العراقي. وهذه التقدير الواقعي يعود أيضاً إلى طبيعة أو بنية المجتمع العراقي غير المتعنت وغير المتزمت عموماً في دينه, رغم تدينه العام والطبيعي. إن هذه القاعدة العامة لا تلغي وجود الاستثناء, والاستثناء يؤكد وجود القاعدة العامة.
والإشكالية التي تبدو واضحة للعيان في الوقت الحاضر وفي خضم الصراعات الجارية في العراق هي تلك الظاهرة السيئة التي سقاها ورعاها النظام السابق والتزمت بها قوات الاحتلال الأمريكي-البريطاني, وأعني بها الطائفية في بلد متعدد الأديان والمذاهب, وكأنها نجاة الطوق لها. إن قوى الإسلام السياسي المعتدلة منقسمة على نفسها, ولكنها تسعى إلى التوحد على قاعدة الوصول إلى السلطة وفرض شكل من أشكال الدولة الإسلامية في البلاد. وهو أمر سيجعل العراق أرضاً صالحة للصراع في ما بين المذاهب, إضافة إلى صراع في ما بين الأديان, وإلى احتمالات نشوء دولة شمولية جديدة من نوع آخر غير النوع الصدامي الذي يريد إخضاع العراق لاتجاهات جديدة, سواء أكانت مقاربة لما هو في إيران أم تلك المقاربة لما هو قائم في السعودية. وكلاهما نظام ديني استبدادي طائفي غير مناسب للعراق, كما أنه غير مناسب للشعوب الإيرانية وللشعب في السعودية. وفي صفوف قوى الإسلام السياسي المعتدلة قوى أخرى لا تدفع باتجاه التزمت والتعصب الديني فحسب, بل والمذهبي أيضاً, الذي يتحول عملياً إلى تمييز ديني وطائفي مقيت وخطر على الشعب كله وعلى مستقبل العراق. الاعتراض هنا على الطائفية التي يراد لها أن تنتعش في العراق, وليس عن تعدد المذاهب الذي هو ظاهرة صحية في الإسلام وفي غير الإسلام وفي الفكر عموماً. إذ عندما تصاب المذاهب بالجمود والتقوقع, تبتلي في الوقت نفسه بالتعصب والتزمت وتتحول إلى تمييز طائفي ممقوت ويلحق أضراراً فادحة في المجتمع. ويمكن أنى تصاب مختلف الأيديولوجيات بهذه المرض أيضاً, وتجارب العقود المنصرمة كثيرة في هذا الصدد.
إن الصراع الراهن, سواء كان مستتراً أم معلناً, يدور في الساحة السياسية العراقية بين القوى التي تريد إرساء دعائم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والاستقرار والسلام, وبين تلك القوى التي تريد إقامة دولة الله في العراق والاستناد إلى الشريعة في الحكم. وإذا كان الصراع في الوقت الحاضر ما يزال هادئاً نسبياً, فيأمل الإنسان أن لا يتحول إلى صراع سلبي يلحق أضراراً بالجميع. ويفترض أن لا ننسى بأن بعض القوى السياسية تحاول تأجيج هذا الصراع من خلال التفجيرات والسيارات المفخخة والانتحاريين وحملة الصواريخ من أتباع كل القوى المعادية للمجتمع العراقي الديمقراطي المنشود, إذ أن هذه العمليات الإجرامية يمكن أن تصب بالفائدة على تلك القوى التي تريد إقامة دولة الله في العراق, وهو ما ينبغي الانتباه إليه, ولكنها يمكن أن تدفع بالاتجاه المعاكس أيضاً, وعندها يرى الناس بأن جملة هذه الأفكار يمكن أن تقود إلى عاقبة واحدة, هي اغتصاب الحرية والديمقراطية والهيمنة الفكرية والسياسية على المجتمع.
إن مجموعات من القوى الإسلام السياسي المعتدلة تقدم لنا اليوم نماذج لما تريد أن تراه وتصنعه في العراق. ويجد هذا تعبيره ليس في اتجاهات نشاط قوى السيد مقتدى الصدر فحسب, بل في مجموعات من السياسيين العاملين في قيادة وعضوية المجلس الأعلى للثورة الإسلامية, وليس الكل بطبيعة الحال, الذين بدأوا في وقت مبكر يهددون ويتوعدون بخنق حرية الناس ومن يستمع للغناء والموسيقى والرقص وما إلى ذلك, وكأن العراق ضمن ملكيتهم الخاصة, وكأن العراقيات والعراقيين توابع لهم, وأن من حقهم فرض أيديولوجيتهم على جميع البشر في هذا الوطن المتعدد الأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية. إن هذه المجموعات من السياسيين تشيع الرعب في نفوس الناس وتذكرهم بما كان يقوم به الحرس الثوري في إيران في أعقاب انتصار الثورة الإيرانية في مواجهة حرية الناس, وهو ما يمكن أن نعيشه في العراق أيضاً إن استطاعت بعض هذه الجماعات تسلم السلطة بأية صورة جاءت. كما إنها تذكرهم بما كان يقوم به خال الدكتاتور, خير الله طلفاح, إذ كان يرسل جماعات من الشباب لصبغ سيقان البنات بسبب قصر التنورة, أو قص شعر الشباب بسبب طول الشعر .. الخ.
من هنا تنشأ الحاجة الماسة والضرورة القصوى في أن تنظر القوى الديمقراطية العراقية من مختلف المدارس والاتجاهات الفكرية والسياسية, وكذلك بعض القوى الإسلامية التي تتمتع بالكثير من العقلانية والرؤية الواقعية للمتغيرات التي طرأت على الساحة الدولية والتغيرات التي حصلت في العالم الواحد الذي نعيش فيه, إذ أنها ستكون أمام محنة كبيرة خلقها أساساً النظام السابق وما تزال قوات الاحتلال لم تدرك مخاطرها وتغوص في العمق فيها وتساهم في نموها, وبالتالي فأن من واجبها أن تتحرك بشكل منفرد وبصورة جماعية وعلى أسس علمية إلى إدراك عمق الأزمة التي تحيط بالعراق وأن لا تنام على أكليل الغار وتتصور أنها في السلطة, ولكن الماء يجري من تحت أقدامها ويبوش الأرضية التي تقف عليها. إننا أمام نداء يفترض أن يتوجه إلى جميع الناس الشرفاء في العراق, إلى جميع الديمقراطيين من مختلف المدارس والاتجاهات الفكرية والسياسية مفاده: أيها الديمقراطيون العراقيون اتحدوا, يا أنصار الحرية وحقوق الإنسان ويا أعداء النظم الشمولية والأصوليات المختلفة اتحدوا من أجل بناء عراق ديمقراطي علماني حديث ومن أجل مواجهة المحنة المحتملة التي لا نتمناها لبلادنا وشعبنا.!
يبدو أن هناك من يريد التعجيل بإجراء الانتخابات, إذ أنه يعتقد بأن الشارع العراقي تسيطر عليه قوى الإسلام السياسي من مختلف الاتجاهات والمدارس المتشددة والمعتدلة والبينية أيضاً, رغم وجود دلائل تشير إلى أن العراقيات والعراقيين لا يريدون نظاماً في العراق غير النظام الديمقراطي. إلا أن القوى الديمقراطية في العراق غير معروفة تماماً حتى الآن في الساحة السياسية ولم تصل إلى الجماهير التي يفترض أن تصلها, وبالتالي فالقدرة على كسب ثقة الجماهير ما تزال بعيدة المنال. ومن هنا تقع على عاتق القوى الديمقراطية مهمة الانتباه إلى الفخ الذي يراد لها وبالتالي لمستقبل العراق.
إن وضع برنامج ديمقراطي تلتقي عنده القوى الديمقراطية العراقية, سواء أكانت أحزاباً عربية أم كردية أم تركمانية أم آشورية أم كلدانية, وسواء أكانت أحزاباً أم قوى وشخصيات مستقلة, سيساعد على خلق كتلة سياسية ديمقراطية قوية في الساحة السياسية العراقية لها وزن أكبر من كل واحدة على انفراد, وهو ما يساعد على وصول صوتها بصورة أقوى وأوضح إلى المجتمع العراقي, إلى الناس البسطاء والطيبين في المجتمع, إلى منتجي الثروة الوطنية المادية منها والروحية, قوى العمال والفلاحين والمثقفين والطلبة والكسبة والحرفيين وصغار الموظفين, ... الخ.
لقد كانت هناك قطيعة طويلة بين المجتمع العراقي وقواه الوطنية الديمقراطية بسبب الإرهاب الدكتاتوري الذي اجتاح العراق طوال عقود. ففي الوقت الذي كانت مدينة الثورة, والتي فرض عليها أتباع النظام اسم مدينة صدام ومن ثم أتباع الصدر أسم مدينة الصدر, موقعاً متقدماً للقوى الديمقراطية والتقدمية والقوى اليسارية على مدى سنوات طويلة, أصبحت اليوم محجوزة بفعل القوة أيضاً لجماعة السيد مقتدى الصدر, وهو أمر يفترض أن يدفعنا إلى التفكير عن أسباب ذلك وسبل معالجته. وكذا الحال في مناطق أخرى من بغداد, دع عنك المدن الأخرى البعيدة عن العاصمة. إننا بحاجة إلى برنامج جديد تتوحد على بنوده القوى الديمقراطية, بمن فيها قوى الإسلام السياسي التي ترى في فصل الدين عن الدولة ضرورة ملحة لصالح كل الأديان والمذاهب ولصالح إبعاد الأضرار التي تلحق بأتباع الديانات المختلفة بسبب ارتباط الدولة بدين أو مذهب معين.
إن من ابرز تجارب العراق الطويلة التي تمتد إلى الفتح الإسلامي للعراق, دع عنك الفترات السابقة, تؤكد بأن الربط بين الدين والدولة قد جر على البلاد وعلى المذاهب المختلف اشد العذابات والمآسي والموت لنسبة عالية من الناس. يكفي هنا أن نتذكر تاريخ العراق غير البعيد, في فترة احتلال الدولة العثمانية للعراق أو في فترات احتلال الدولة الفارسية للعراق, كيف كان أتباع المذهبين السني والشيعي يتعرضون بالتناوب إلى الاضطهاد والتعذيب والإساءة لعتباتهم المقدسة ومراقد الأولياء الصالحين من الدولة العثمانية ضد الشيعة ومن الدولة الفارسية ضد السنة. ولم يجر هذا بمعزل عن أو دون مشاركة العراقيين من أتباع المذهبين.
إن العلمانية القائمة على أساس المجتمع المدني الديمقراطي, المستندة إلى مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام كل الأديان والمذاهب دون استثناء والتي تتمتع الأديان في ظلها بالحرية الكاملة في التعبد وممارسة الطقوس الدينية, إضافة إلى احترام كل الاتجاهات الفكرية والسياسية, هي الأسلوب الوحيد القادر على منح العراقيات والعراقيين إمكانية التقدم والازدهار والتطور وتأمين موقع حضاري لها بين الشعوب والأمم المتحضرة وبعيداً عن الاستبداد والشمولية والقهر والتمييز بمختلف أشكاله.
مرة أخرى أدعو القوى الديمقراطية العراقية, بمن فيهم القوى والعناصر الإسلامية الواعية لتجارب الشعوب في مختلف بلدان الشرقين الأدنى والأوسط وفي دول آسيا وأفريقيا حيث توجد أكثرية سكانية إسلامية, إلى وحدة الصف ومواجهة الاتجاهات التي تدعو إلى إقامة "دولة الله والشريعة" في العراق, إذ أنها سوف لن تكون سوى أداة لجماعات إسلامية سياسية معينة تريد فرض الاستبداد والقهر الفكري والسياسي على المجتمع باسم الله والدين.
فهل نحن على وعي واقعي لما يجري في العراق؟ أعتقد ذلك وأمل أن يتجلى ذلك بصورة واقعية وسريعة. ومن قال لي مرة بأنك كنت متعجلاً في طرح بعض المقترحات بصدد وحدة القوى الديمقراطية اليسارية, فأنهم يواجهون اليوم وضعاً يمكن أن يتعقد يوماً بعد يوم, رغم أن الإنسان لا يتمنى ذلك في كل الأحوال. ويتمنى الإنسان أن لا تفقد القوى الديمقراطية الفرص بانتظار الفرص القادمة..!!!
برلين في 9/12/2003
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟