( مهداة إلى ذكرى الشهيد الشيخ عبد الرزاق اللامي المعروف برفضه للاحتلال والذي اغتاله جنود المارينـز بجبن ونذالة في بغداد يوم أمس السبت 6/12/ 2003 )
كما توقعنا قبل أيام فلا يبدو أن ثمة شيء ديموقراطي في الأفق الأمريكي فلا نصف برلمان ولا ربع برلمان ولا حتى "مزبلان " بل مؤتمرات إقليمية ! هكذا حسم أعضاء مجلس "بريمر" الأمر وركلوا مطلب المرجع الديني آية الله علي السيستاني الذي أيده وسانده في البداية رئيس حزب المجلس الأعلى السيد عبد العزيز الحكيم وخضعوا للمشيئة الأمريكية فقرروا رفض مطالبة المرجعية الدينية بانتخابات مباشرة على أساس البطاقة التموينية للهيئة التي تصوغ الدستور وتشكل الحكومة المؤقتة .
من جهتها شنت صحيفة الواشنطن بوست في نفس اليوم هجوما مهينا على السيد علي السيستاني بالاسم مشككة بنواياه ومشاريعه ( خلاصة المقالة في عدد السفير 3/12) .
الحكيم أدلى بعدة تصريحات حول هذا الموضوع ، و رغم إنها باللغة العربية الفصحى ولكنها غير مفهومة تماما فهو يقول الشيء ونقيضه في آن واحد وينطبق عليها قول القائل ( وفسر الماء بعد الجهد بالماء ) .هاكم ما صرح به ( وعلى صعيد متصل قال الحكيم انه سيحاول تفعيل نشاطات مجلس الحكم باتجاه إعطاء دور أكبر للشعب العراقي في المرحلة الآتية وانه سيناضل لدعم الاتجاه الذي يدعو لإجراء انتخابات « بطريقة مباشرة أو غير مباشرة » في المحافظات حتى يتم اختيار المجلس التشريعي.) والانتخابات غير المباشرة أو الانتخابات الجزئية أو المؤتمرات الإقليمية تعني ذات الرأس الاحتلالي ولكن بعدة "كلاوات "مختلفة الألوان .
إن هذه الخدعة السياسية هي أول الغيث ثم يهطل الخداع الأمريكي وتستمر حرب الإبادة "الديموقراطية " ضد الشعب العراقي .
وبالطبع لم تتوقف صفاقة المحتل الأمريكي عند هذا الحد بل تجاوزته إلى درجة رفض مشروع لإجراء إحصاء سكاني دقيق . والطريف إن عددا من أعضاء مجلس الحكم المعين فوجئوا بموضوع الإحصاء وليس برفضه فقط ، وقال بعضهم بأنهم لم يعلموا به إلا من وسائل الإعلام فحازوا بجدارة صفة الزوج المغفل الذي كان " آخر من يعلم " . ولكن لماذا رفض المحتل الأمريكي إجراء إحصاء للسكان في العراق ؟ بالطبع لا يتعلق السبب بالخوف على الشعب العراقي من الحسد وإنما لأن إجراء الإحصاء السكاني سيخرس أصواتا عراقية طائفية وعنصرية كثيرة بالغت في عديدها السكاني .
نعم ،الإحصاء السكاني إذا أجري بنزاهة ، وبمنهجية احترافية ،وباستعمال الحاسبات الإلكترونية وطريقة تخزين المعلومات سيخرس ألسنة كثيرة لأن التلاعب فيه سيكون شبه معدوم ، خصوصا إذا تم استعمال ما يسمى بنظام " التفييش المركزي " أي تسجيل ملف خاص لكل مواطن عراقي على ذاكرة حاسوب إلكتروني مركزي يحتوي على كل المعطيات المعلوماتية الخاصة بهذا المواطن أو المواطنة بما فيها البصمة العادية والأخرى الوراثية الجينية . وسيسمح هذا النظام بفضح كل محاولات التحايل وتسجيل مواطنين لا وجود لهم أو تسجيل المستقدمين من الدول المجاورة مؤقتا وحتى يتم الإحصاء وتسجيل سكان المقابر والإدعاء أنهم أحياء . وسيكون البت بقضايا التزوير والتلاعب ممكنا وسهلا وسريعا ويمكن لممثلي جميع الفئات الاجتماعية العراقية التأكد من عديدهم السكاني وقوائم الناس التي تبرز صفاتهم وأماكن سكناهم وانتماءاتهم العائلية وغيرها .
الأكيد إذن أن إحصاء احترافيا باستخدام الإمكانيات التقنية الحديثة والاعتماد على جيش المعلمين والمدرسيين العراقيين البالغ أربعمائة ألف شخص تقريبا كما ورد في الاقتراح أو المخطط الإحصائي الذي رفضته سلطات الاحتلال سيخرس الكثيرين من المتصيدين في المياه العكرة .
فمن الشائع والمعروف في العراق الراهن أن الطائفي الشيعي يقدر عدد الشيعة بعشرين مليون والطائفي السني يقدر السنة العرب بأحد عشر مليون و الكردي يصل بالعدد إلى تسعة ملايين كردي والتركماني إلى خمسة ملايين والكلدان إلى مليونين والآشوريين إلى مليون و هكذا دواليك وهلم جرا حتى يصل عدد السكان الإجمالي إلى ما يقارب عدد سكان الصين في عهد الرفيق ماو تسيتونغ ! كل هؤلاء سيضطرون للسكوت عند إنجاز الإحصاء ويعرفون أحجامهم الحقيقية ويتم القضاء على الكثير من جمرات وشرارات المخططات الشيطانية الساعية إلى زج العراق والعراقيين في حرب أهلية طاحنة من جهة ، ويفتح الباب واسعا أمام عملية اندماج مجتمعي يتساوى فيها العراقيون ويمارسون واجباتهم ويتمتعون بحقوقهم في دولة ديموقراطية قائمة على أساس المواطنة الحديثة والعدالة الاجتماعية من جهة أخرى .
ونعود الآن لموضوع المؤتمرات الإقليمية ، فبعد تصريحات الحكيم بقليل جاء عادل مهدي المنتفكي ممثله في المجلس ، والمنتفكي - كما نشر في الصحف مؤخرا - هو أيضا الكادر البعثي السابق والذي ساهم بفعالية في مجزرة 8شباط 1963 من خلال نشاطه في "الحرس القومي " آنذاك وابن وزير ملكي وإقطاعي كبير وصديق مشهور للاستعمار البريطاني قديما ، جاء المنتفكي ليعلن أن الرأي ( رأي مَن يا ترى يا هل ترى ؟ ) استقر على إقامة مؤتمرات إقليمية تنتخب ،ليس الهيئة الدستورية والحكومة المؤقتة القادمة ، بل ستنتخب مَن سينتخبون تلك الهيئة الدستورية وهاتيك الحكومة .. وتعال يا حلال وحلها !
وهذه الليلة 6/12/ صرح السيد الحكيم بعد زيارته للمرجع السيستاني بأن مجلس الحكم اتخذ قرارا يتفق مع مطلب المرجع بضرورة العودة إلى الشعب أما التفاصيل والآليات ( وفي التفاصيل كما يقول الفرنجة يكمن الشيطان ) لم تقرر بعد . بريمر من جهته صرح بأن الانتخابات غير ممكنة وهي حتى إن حدثت فلن تعيد السيادة للعراقيين وإن القوات الأمريكية الديموقراطية ستبقى في العراق حتى إذا أعيدت السيادة إلى العراقيين فعن أية سيادة يتحدث هذا البول بريمر ؟
السائد في السوق السياسية إذن هو احتمال الوصول إلى صفقة تحمل شعار " المؤتمرات الإقليمية " الممزوجة بقليل من بهارات التمثيل العشائري والمحمرة على نار انتخابات محلية جزئية هادئة مع قليل من "الباصطرمة " البعثية التائبة ثم يسكب الخليط الديموقراطي غير المباشر في قالب برلمان أربيل بعد أن يتم توسيعه عند حداد بهلوان خالٍ من فيروس العداء للاحتلال وبالهناء والشفاء .. يا عراقيون !
الشعار الأمريكي الجديد والداعي إلى المؤتمرات الإقليمية أو الانتخابات غير المباشرة ليس خدعة قذرة تستغبي وتزدري الشعب العراقي فقط بل هو تعبير واضح عن أزمة شاملة ، أو عن سلسلة أزمات تحيط بالوضع العراقي العام .إنها مرحلة الأزمة الشاملة التي تلف جميع أطراف العملية الصراعية الجارية على أرض الرافدين :
- فالأمريكان يختنقون تحت وطأة أزمة خاصة بهم حيث يبدو مشروعهم الاحتلالي دون آفاق ، أو لنقل يبدون أنهم بدون أي مشروع سوى الحفاظ على قبضتهم محكمة على العراق حتى موعد الانتخابات الرئاسية لكي لا يسقط بوش الابن .
- وحلفاء الأمريكان في مجلس الحكم المعين يستشعرون خفة وزنهم السياسي في الشارع العراقي وحجم الكارثة التي ارتكبوها حين قبلوا التعاون مع المحتلين فهم الآن بين حافر الرفض الشعبي للاحتلال ونعل المطالبة الأمريكية المستمرة ببذل الجهود لتطويع الشارع العراقي وتسويغ الاحتلال له .
- والمقاومة العراقية رغم أدائها الباسل الذي أربك المحتلين وأرعبهم تعاني من مأزق خطير يتمثل في انحصارها عملياتيا في إطار جغرافي ضيق لا يخلو من التأثيرات الطائفية المقيتة وعدم نجاح المقاومة حتى الآن في الانفصال تماما وعلنا وبقوة عن صدام حسين وبقايا نظامه . ولا يمكن الخروج من مأزق المقاومة هذا ،ونشرها في جميع أنحاء العراق ، إلا بمحاصرة وعزل صدام ومجموعته جماهيريا وتحميله مسئولية كل ما جرى للعراق والعراقيين طوال الثلاثة عقود الماضية ، وليس من المستبعد تماما أن تكون سلطات الاحتلال وعملاؤها هي التي تقوم برفع صور الطاغية المهزوم والهتاف تأييدا له بهدف ترويع وإخافة العراقيين في الجنوب وإقليم الفرات الأوسط من احتمال عودة النظام التي تبدو مستحيلة الآن ودفعهم بواسطة رفع تلك الصور ونشر الأشرطة الصوتية والرسائل الصدامية والإشاعات الخرافية بعيدا عن المقاومة والثورة على الاحتلال الهمجي .
إن سلاح استعمال صدام كبعبع لخنق المقاومة وتجفيف بحرها الجماهيري هو فعلا سلاح فعال ولكنه ذو حدين قد ينقلب بمرور الوقت ضد الاحتلال فيشعل ثورة شاملة في جميع أنحاء العراق بسبب تلكأ وتردد الأمريكان في إلقاء القبض على صدام و طي صفحته نهائيا . وإن بوادر كثيرة تنتشر هذه الأيام في جميع أنحاء العراق وتشير إلى نفاذ صبر الناس واقتراب لحظة الانفجار الشاملة ضد الأمريكان وهذه المرة بسبب ما يبدو وكأنه حماية غير مباشرة لصدام توفرها قوات الاحتلال .
نختم بالقول مكررا أن هذه الأزمة الشاملة لها عنوان سياسي جديد هو " المؤتمرات الإقليمية " ففي محاولة للإقامة نظام عميل للاحتلال سيرفض الأمريكان أي شكل من أشكال الانتخابات الحقيقية وسيلجأون إلى "موديل " الانتخابات الجزئية أو التعين الانتخابي عبر مؤتمرات إقليمية مترتبة النتائج سلفا . إن هذا العنوان الجديد أو " الكلاو الجديد " لن ينطلي على شعبنا وسوف ينظر الشعب باحتقار إلى كل من سيوافق على القيام بدور ما في هذه المسرحية وسينظم من يشاركون فيها إلى قائمة العملاء الذين عملوا من أجل خيار الحرب ومن ثم التعاون مع الاحتلال وسيدافعون غدا عن لنظام العميل للأمريكان .
القائمة السوداء بانتظار القادمين من وإلى المؤتمرات الإقليمية والانتخابات الجزئية غير المباشرة .
والشعب بانتظار موقف شجاع يرفض هذه الخدعة من مرجعياته الدينية وخصوصا من السيد السيستاني الذي نأمل أن يظل عند كلمته وموقفه الداعي للانتخابات الحرة .
والشعب بانتظار موقف شجاع وعملي من قواه وأحزابه وشخصياته الاستقلالية الوطنية التي لم تتلوث بالتعاون مع المحتلين أو تلك التي ستكف فورا عن هذا التعامل وتعود إلى معسكر الشعب قبل أن يرسل بها الشعب بعد طرد الاحتلال إلى معسكر آخر اسمه جهنم !
* الكلاو = كلمة من اللهجة العراقية تعني قبعة مخروطية من القماش توضع على الرأس وتعني الخدعة ، والكلاوجي هو صانع الكلاوات والكلمة كناية عن الشخص المخادع وصانع الخدع والأكاذيب .