ثمة حقائق كثيرة كان يراد لها ان تغيب ، وثمة حقائق كثيرة كان يراد لها أن تنقلب ، وثمة حقائق كثيرة كان يراد شطرها نصفين ، وحقائق أخرى تجد من يتصدى لها ويحاربها وذر الرماد حولها أذ ليس أعتباطاً أن يرد نص في كتاب الله المجيد يقول (( وأكثرهم للحق كارهون )) .
عملت الآلة الأعلامية الصدامية زمناً ليس بالقصير من اجل غسل الضمائر والقلوب وذر الرماد وتعمد جعل العمى في النظر الى الحقائق أسلوباً ومنهجاً .
بدأت في العراق منذ بواكير السنوات الأولى لأنقلاب 1968 عمليات أصطدام سيارات مسؤولين سياسيين وشخصيات بسيارات عسكرية تقف لهم بالمرصاد ، وتمت تصفية رموز عراقية بأساليب رخيصة تشيع الحط من شرف أو كرامة المجني عليه ، اذ ليس من الضروري أن يتم تصفية المعارض بطريقة تمثيلية تضفي على الحادث ابعاد شخصية أنما للتنكيل بالضحية بما يوجع المواطن العراقي ويهدده في مسألة تقع ضمن الامور المهمة في العرف العراقي وهي مسألة الشرف والأخلاق .
لجأت السلطة الى الأغتيال بهذا الشكل والأعلام العربي غائباً عن الحقيقة لايعرف ماذا يجري حقيقة في العراق ، ولم تقف ماكنة الأعلام في العراق مكتوفة الأيدي فقد نهجت منهجاً لشراء الضمائر العربية وأستئجار المباديء والفكر والصحف وبث شبكة عنكبوتية بين مؤسسات الثقافة العربية معتمدة على المال الذي كان لاينضب ولايتوقف من ايرادات النفط المتصاعد الأسعار في العراق .
لجأت السلطة في عهد صدام الى تصفية المعارضين لها والذين زادت اعدادهم بشكل ملفت للنظر ، وبالرغم من كل هذه الأعداد الكثيرة من الضحايا لم يلتفت الأخوة العرب الى خجم التعارض مع سلطة صدام وصرفوا النظر عن التساؤل المشروع في حجم المعارضة المتزايد داخل العراق ، وصرفوا النظر عن قول الحقيقية التي أريد لها أن تنطمر تحت براقع المؤتمرات القومية والثقافية وحفلات القبض والعطاء والربح المادي على حساب دموع والام العراقيين .
ففي الوقت الذي تشتري سلطة صدام صحف ومجلات عربية وأصدارات عربية لغرض تزويق وجهها البشع في نظر القاريء العربي ، وتستميل كتاب ومثقفين وسياسيين عرب وتنفق من اجل ذلك ملايين الدولارات ، في الوقت الذي يعيش العراق في عصور ماقبل التاريخ من أهمال وتردي صحي وفقر وبؤس وأمراض أجتماعية وأوبئة وتخلف وتدهور بيئي وأزمات أولها السكن وليس أخرها أنحسار فرص العمل مع أستمرار حروب عبثية أكلت شباب العراق وأوقفت قابليته على التطور والرقي واللحاق بالعالم .
وسنختزل كل مامر بالعراق من مآس لم يتعرض لها شعب في العالم ولامرت بمحنتها أرض تشابه محنة أرض العراق ، فقد أمتد زمان الحرب التي قررت السلطة أن تشنها على أيران ثمان سنوات ، حرب بكل معنى الكلمة ، تطورت من ساحات القتال الى قتال المدن ومن أحتراق الجبهات الى قصف المدن الآمنة الى استنفاذ خزين الدولتين من الأرصدة والمال الوارد من أيرادات النفط في الدولتين دون أن نتعرف على المسؤول عن هذه المآسي ودون أن يتسائل الأخوة العرب عن أسباب ومسبب كل هذا ، ثم أستباحت السلطة أرض الكويت ومن بعد ذاك صارت حرب الخليج الثانية التي أريد لها أن يتم أخراج القوات المسلحة الصدامية من ارض الكويت ولم يتسائل الأخوة العرب عن أسباب ومسبب كل هذا .
وكنتيجة منطقية وكتعبير صادق رافض لكل ما يجري على أرض العراق من ظلم للمواطن العراقي وتهميش لكل أبناء العراق وسيطرة كاملة لسلطة العائلة وتطبيق ظالم لحكم الدكتاتور فقد ثارت الجماهير العراقية بعفوية ضد سلطتها كرد فعل للنتائج التي البست برقاب الشعب العراقي دون سلطته المطبقة على أنفاسه والتي تحملها فوق طاقته ودون ان يكون له ذنب فيها ، وهذه الأنتفاضة الشعبية التي عمت أغلب مدن العراق لم تكن تتعرف على مداخل ومخارج اللعبة السياسية والمناورات والأتفاقات السرية وتبادل المصالح .
كانت الأنتفاضة العفوية للجماهير العراقية تعبير أكيد لرفض الجماهير بقاء السلطة الصدامية أو النهج الصدامي وأشارة واضحة الى حميل السلطة ورئيسها نتائج المآسي التي حلت بالعراق ، وكان من الممكن للعاقل أن يفكر بتنحي صدام عن السلطة أذا كان الرجل يفكر بعقلية السياسي والقائد الذي يحافظ على كرامته وعزله سياسيا وتنحيه عن القيادة الفردية ، وكان من الممكن أن تتم معالجة الأمور بأصلاحات أو بتغيير سياسي أو بأبدال منهجي لمسيرة ثبت أخطاءها القاتلة ، وسياسة ثبت فشلها في كافة الأصعدة والنواحي وتجسد الفشل في نتائج ماحل بالعراق ، أوعلى الأقل حالة أعتذار ونقد ذاتي لأخطاء الماضي والبدء بسياسة مغايرة وتجاوز للأخطاء والأستفادة من الأخطاء ، أو تحميل عدد من رموز السلطة البائدة ماجرى من ويلات ودمار على أرض العراق ، او على الأقل مراجعة سياسية للفشل والعزلة التي أوقع بها الطاغية مايسمى بحزب البعث تجاه القوى السياسية الوطنية في العراق الأخرى ، وأخطاء قاتلة تصلح أن تكون وحدها سببا من أسباب العزل والتحقيق والمحاكمات والأدانة ، وجرائم وأنتهاكات يجب أن تلفت النظر بقوة مما توجب التوقف والتأمل فيما سيصير عليه الحال .
غير أن الذي صار عكس ذلك بالضبط ، فقد شمر الطاغية عن ساعديه وألزم أعوانه بأنزال عقابه الصارم بحق الشعب العراقي ووظف القوات المسلحة والحرس الجمهوري والأمن الخاص وأجهزة الأمن والمخابرات والأستخبارات لأستعادة السلطة بالقوة والأنتقام من شعب العراق بقسوة بالغة وبطريقة همجية لم يكن لها سابقة في التاريخ .
وبتقدم القوات المسلحة العراقية بكامل سلاحها وتشكيلاتها العسكرية كانت تجابه بمقاومة متواضعة وشجاعة من ابناء العراق في المناطق المنتفضة مع التزام هذه القوات بالأوامر الصارمة التي كانوا يتلقوها من ذيول الطاغية الممنوحين سلطات مطلقة و المشرفين على المناطق التي تحولت الى مناطق عسكرية أضافة الى أوامر الطاغية نفسه بعدم استعمال الرحمة أو التحقيق الأصولي مع هذا الشعب .
كانت أعداد الأبرياء من المدنيين الذين وقعوا تحت سلطة القوات المسلحة لاتقدر بعدد ، أذ ان اغلب عدد المنتفضين أما قاتل القوات العسكرية حتى الشهادة أو انسحب بأتجاه الجنوب حتى أضطرت الأعداد الأخيرة عبور الحدود بموافقة قوات التحالف الدولي الى الأراضي السعودية حيث تم تجميعها في مخيمات لتحديد حركتها .
كانت القوات المسلحة تعتقل كل رجل تشك بقدرته على حمل السلاح ، كما كانت عملية الأعتقالات العشوائية تتم بناء على مزاجية أورغبة القادة الميدانيين في المناطق أضافة الى أعتمادهم على الأخباريات والوشايات المغرضة وعلى معلومات أجهزة الأمن والوكلاء في المناطق .
لم تستطع القوات المسلحة أن تعتمد عمليات الأعدام بأطلاق الرصاص على المعتقلين دون محاكمات أو تحقيق ودون معرفة برائتهم من تهمتهم فقط بالنظر لكثرة اعداد المعتقلين .
لجأت القوات المسلحة الى عملية أخرى أشد بشاعة وقسوة في التخلص من أعداد المعتقلين وهي عملية دفنهم أحياء في عدم أماكن تم معرفة بعضها ضمن المقابر الجماعية .
ساهمت عدة أسماء في أنجاز عمليات القتل العشوائي ودفن الأحياء بالمقابر الجماعية ( محمد جواد عنيفص على سبيل المثال في منطقة المحاويل ) والذي أطلقت القوات الأمريكية سراحه بزعم وجود خطأ في الأسم .
وبقيت أعداد كبيرة في معتقل الرضوانية ومعسكر الرزازة وبعض المعتقلات البعيدة عن المدن ، ظهرت مقالات الطاغية صدام التي شتم فيها الشيعة ووصفهم بأقذر الصفات والنعوت ضمن مقالات بائسة متعددة نشرها في جريدة الثورة التي كانت لسان حال السلطة تحت عنوان ( لماذا وكيف حصل هذا ؟ ) خلال فترة سيطرة القوات المسلحة على المدن المنتفضة وأعتقال الناس ، وعمدت السلطة الى محاولة التخلص من اغلب هذه الأعداد الموقوفة بسبب أتهامها بالمشاركة في الأنتفاضة فقررت التخلص منها بسرعة بعد أن أصبح العراق احد الدول المعروفة بأنتهاكها لحقوق الأنسان وبدأت رائحة المجازر الجماعية والأنتهاكات الأنسانية والجرائم ضد الجنس البشري تظهر واضحة .
بقيت الأحداث العراقية وماجرى من أحداث لايوازي في نظر الأخوة العرب ما أقدم عليه الطاغية من ضرب مزعوم ومحدد لأسرائيل خلال حرب الخليج الثانية وغض الجميع أنظارهم عن مسألة اتفاق خيمة صفوان التي تنازل فيها الطاغية عن أمور وطنية تصل لحد الخيانة العراقية العظمى والتي لم تنشرها الأدارة الأمريكية ولاتحدث بها أقطاب السلطة ومنهم وزير الدفاع السابق المقبوض عليه أو سفير العراق السابق في النمسا فارس نعمة المحياوي ، ولالفتت أنظار الأخوة العرب المجازر التي طالت الأبرياء من شعبنا العربي في المقابر الجماعية ولافي ضحايا الأنفال وحلبجة وأستعمال الأسلحة الكيمياوية المحرمة دوليا وأنسانيا .
لم يكترث الأخوة العرب الى المسافة الزمنية الممتدة بين 1980 بداية الحرب العراقية – الآيرانية والتي انتهت في العام 1988 وبين ضحايا المقابر الجماعية التي تعود لعام 1991 ولم تهتز النخوة العربية لتتمعن في حملات تنظيف السجون والتي قادها المقبور قصي المتمثلة بالأعدامات السريعة دون محاكمات أو أتباع الطرق الأصولية ولاعمليات الدفن لضحايا احياء من الأطفال والنساء لم تزل ظواهر التحلل الجسدي والكشف الطبي العدلي الجاري على الجثث المعثور عليها يشير الى كون الموت والقتل تم خلال مدة لاتتجاوز السنوات القليلة .
من المحزن أن تجد من يبرر القتل لسلطة لم تكن لها مثيل بين السلطات العربية في القمع والقتل والجرائم ، ومن المحزن أكثر حين تجد من يقف في صف الطاغية ويتهم الشعب العراقي بكل الأوصاف السيئة والقميئة والتي لاتليق بشعب من الشعوب .
وهنا نعود لموضوع الحقيقة التي اريد لها ان تموت ، فالضحايا التي تم العثور عليها في المقابر الجماعية تعود اذن وفق ادعاء بعض الأخوة العرب الى ضحايا الحرب العراقية الأيرانية وهو مالم تقله السلطة البائدة مطلقاً التي حددت المقابر التي يتم بها دفن ضحايا تلك الحرب ، فقد وجدت جثث لنساء وأطفال وشيوخ لايمكن لعاقل أن يصدق أنهم اشتركوا في الحرب ضد ايران ، كما أن المناطق التي تم اكتشاف المقابر الجماعية ضمنها لم تكن من ممتلكات الدولة وأنما ضمن اراض زراعية تعود للأفراد ، أضافة الى وجود شهود عيان عراقيين شاهدوا عمليات القتل والدفن في هذه المقابر خلال عام 1991 .
وعليه فأن حالة عمى الألوان التي لم تزل تصيب بعض الأخوة مما يجعلهم لحد اللحظة يشكون في صحة حقيقة مايقوله شعب العراق ويجددون ثقتهم بالدكتاتور العراقي ليس بسبب أن نصف الحقيقة وصلت اليهم ، انما للسيطرة والهيمنة الأعلامية التي لم تزل تعمل لحد اللحظة في سبيل منعهم من معرفة كل الحقيقة وحجبها عنهم ، بل وتوظيفهم لأنكارها والدفاع عن مايخالفها .
ثمة من يتصدى لهذه الطروحات والأفكار بأنفعال وحرقة العراقي الذي قاسى الأمرين والويل من سلطة غاشمة وظالمة لم تكن تعتمد مقياس أو معيار أنساني أو ضوابط سياسية ، وكانت سلطة لاتتشابه مع العديد من سلطات الدكتاتوريات في المنطقة أو حتى في العالم ، اضافة الى الحرقة التي تجتاح روح المواطن العراقي المنكوب وهو يستمع ويقرأ لردود الأخوة العرب الذين يجزمون معرفتهم بنصف الحقيقة أن لم نقل عدم أمتلاكهم لأبسط جزء منها .
لن يصدق المواطن العربي أن المعارض في العراق كان يتم نشره بمنشار كهربائي الى نصفين اوعدة اجزاء ، ولن يصدق العربي قطعا حين يقرأ ان العراقي يتم ثرمة بالمثارم الكهربائية الضخمة ورمية طعاما للأسماك ، ولن يصدق المواطن العربي حين يقرأ ان معارضين وأسماء عراقية بارزة تمت معاقبتها برميها للكلاب المتوحشة أو للحيوانات لتمزيق اجسادها ، ومن يصدق أن العديد من شهداء العراق لم يتم العثور على بقايا أجسادهم الطاهرة لأذابتها بحامض الآسيد والتخلص منها كلياً ، ومن يصدق أن العديد من شباب العراق تم أعدامهم ودفنهم في قبور مجهولة بتهمة ترددهم على الجوامع والصلاة بكثرة ، من يصدق من العرب أن مواطنين ابرياء تم اجراء التجارب الكيمياوية عليهم ، مثلما لن يصدق أحد أن أعداد كبيرة من الأخوة الكرد الفيلية تم فصل أطفالهم وشيوخهم عن نسائهم ورجالهم وأرسل الشيوخ والأطفال الى صحراء السلمان الجنوبية القاتلة والحارقة ليموتوا ويدفنوا في رمال المجهول من الأرض ، ومن يستطيع التصديق أن السلطة كانت تعتبر كل مواطن من غير عشيرة الرئيس البائد متهم حتى يثبت ولائه وبرائته ، من يصدق أن السلطة تعتمد قطع الرقاب بالسيوف وتبتر آذان الشباب وتوشم الجباه ، من يصدق أن السلطة تستوفي ثمن رصاصات الاعدام من العائلة التي اخترقت صدر ابنها ، ومن يصدق أن السلطة تجبر النساء أن يزغردن على جثث أولادها الذين تم اعدامهم ، من يصدق أن السلطة جعلت الناس تخاف من بعضها داخل بيوتها ومحرماتها ، ثمة من لايصدق قطعاً العديد من القصص التي نرويها لأخوتنا العرب فهي تشبه قصص الف ليلة وليلة أو قصص الخيال .
نجد الكثير من الأعذار للأخوة العرب في عدم استيعابهم لمحنة العراقي ومامرت عليه من قصص وحوادث سيسجلها التاريخ بالكثير من الأستغراب والدهشة ، وبالرغم مما ظهر من الحقائق فأن الأكثر لم يزل مطمورا ولم تبان خطوط حقائقه الواضحة ، ومن يتمعن منهم بتجرد وبحياد يجد أن شعب بأكمله يقف بالضد من سلطة وطاغية ومن خلال هذا الأمر يستقرأ الأحداث بضمير حيادي أن لم يقف مع الناس ، ثمة قضايا يقينا سيتمعن بها جيل آخر من العرب ليجدوا أن العديد من آهاليهم لم ينصفوا العراقيين أذ لم ينصفوا الحقيقة حين كرهوا النطق بها وحاربوها بالقول والفعل ، وأنطبق عليهم قول الله تعالى وأكثرهم للحق كارهون .