لقد فجر سقوط النظام الفاشي في العراق فضيحة في البلاد العربية لم يخطر ببال أحد أن تكون بهذا الحجم، والفضيحة هي أن العرب أشد الأقوام عنصرية وعصبية وطائفية في العالم. فليس هناك أكثر من العرب من يناصب العداء لكل من لا ينتمي إليهم في العنصر والدين والمذهب. لذلك فهم ينظرون إلى كل من يختلف عنهم في هذه الأمور الثلاثة نظرة دونية وعدائية إلى حد إصدار حكم القتل بحقهم. وعليه فقد قسموا العالم وفق هذا المنظور العربي الإسلامي المتعصب إلى فسطاط إيمان وفسطاط كفر وفي مواجهة انتحارية حتى يتحول العالم إلى ملة واحدة، فسطاط الإيمان. وهذا يفسر لنا كون أغلب الإرهابيين هم من العرب الإسلاميين الذين ألحقوا أشد الأضرار بسمعة العرب والإسلام والمسلمين. فجميع الذين شاركوا في جريمة 11 سبتمبر (أيلول) 2001 في أمريكا هم من العرب. وتفيد استطلاعات الرأي أن أغلب العرب يتعاطفون مع بن لادن وصدام حسين. كذلك نعلم أن جميع من قام بالإنفجارات الإنتحارية في المغرب والسعودية والعراق هم من العرب أيضاً. ومما يثير الدهشة هو، ففي الوقت الذي يدين العرب جميع الأعمال الإرهابية التي تقع في بلدانهم ويسمونها بحق إرهاباً، نراهم يمجدون ذات الأعمال التي تقع في العراق ويسمونها أعمالاً جهادية في سبيل الله، يدعمونها في السر والعلانية، مادياً ومعنوياً، بالمال والفتوى.
فقبل سقوط أصنام الطاغية صدام حسين، كرمز لانهيار الفكر العربي الشمولي، أصدرت مجموعة من رجال الدين السعوديين بياناً، طالبو فيه المسلمين في العالم أن يهبوا هبة رجل واحد إلى الجهاد لنصرة أخوتهم السنة في العراق وخلاصهم من الفئات "الضالة". والمقصود بالفئات الضالة هو 85 بالمائة من الشعب العراقي من غير السنة العرب.
وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل أصدر شيخ أزهري بعد تحرير العراق، فتوى حرم بموجبها على حكومات الدول الإسلامية التعامل مع مجلس الحكم في العراق، لتتبعها فتوى لشيخ أزهري آخر خلال شهر رمضان المبارك يساوي فيها بين المناضلين في فلسطين والإرهابيين في العراق ويجيز لهم عدم الصيام لكي يحافظوا على قوتهم البدنية في مواصلة الجهاد وقتل الكفار (كذا). علماً بأن ما يقوم به هؤلاء في العراق هو قتل الأبرياء من العراقيين وتدمير أنابيب المياه والنفط والمحطات والأسلاك الكهربائية وتسميم مياه الشرب وقتل منتسبي المنظمات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة. ولم يسلم حتى مرقد الإمام علي (ع) من هذا العمل الإرهابي الشنيع الذي استشهد فيه الشهيد الإمام محمد باقر الحكيم وما يقارب المائة من صحبه الشهداء الأبرار وجرح أكثر من أربعة مائة من المصلين. فهل بلغت العصبية والعنصرية والدينية والطائفية إلى هذا الحد بحيث أعمت بصر وبصيرة حتى مشايخ الدين في البلاد العربية لكي يبيحوا قتل الأبرياء في العراق؟
وإذا ما غصنا في التاريخ العربي-الإسلامي فنجد أن العرب هم أشد تعصباً ضد التغيير. فقد عانى النبي محمد (ص) كثيراً من هذه العصبية المقيتة بحيث جاء في القرآن الكريم بأن (الأعراب أشد كفراً ونفاقاً). نعم، قد ينبري المتعصبون ليقولوا أن المقصود بالآية الكريمة ليس العرب بل القبائل البدوية في شبه الجزيرة العربية. ولكن ألم يكن هؤلاء عرباً؟ أليس عرب اليوم هم أبناء تلك القبائل البدوية المتعصبة؟ ألا يماثل تعصب العرب اليوم أسلافهم في الماضي الذين تحولوا إلى الإسلام غصباً عنهم (أبناء الطلقاء) فتوارثوا عنهم ذات الأعراف البدوية بحيث يتعاملون مع القيم الإسلامية السمحاء اليوم بالمعايير العصبية الجاهلية الأولى وكأنها قيم قبلية وليست دينية جاءت رحمة للعالمين؟ لذلك نجدهم في وقتنا الراهن من أشد الناس مقاومة للتحضر والحداثة والديمقراطية. وهم يعاملون أي إبداع كبدعة صاحبها في النار.
كما وتجاوز الأمر رجال الدين المتعصبين ليشمل حتى الحكام والسياسيين العلمانيين من العرب. فما الحضارة الحديثة التي يدعونها إلا قشرة خفيفة تغطي تحتها القيم البدوية والعصبية الجاهلية الأولى في التعامل مع المختلف. فنراهم بمناسبة وغيرها يصرخون في الفضائيات متباكين على مصير أخوتهم من أبناء السنة العرب على أيدي الشيعة والأكراد (كذا) كمبرر للإرهاب. ومما يثير الدهشة أنه حتى الملك عبدالله، ملك الأردن، لم يتخلص من هذه العصبية الطائفية، فقد ظهر في التلفزيونات الأمريكية قبل أيام ليذرف الدموع على العرب السنة مطالباً لهم بدور أكبر في الحكم، كشرط، إذا ما أريد وقف الإرهاب في العراق. أليس هذا تهديد مبطن؟
كل هذه الفزعة العربية في التحريض على العراق الجديد ناتج عن إصرار العراقيين، عرباً وأكراداً، سنة وشيعة وسائر مكونات الشعب العراقي، على إقامة نظام ديمقراطي بعد عقود طويلة من الظلم والقهر والاستلاب بسبب دكتاتورية الآيديولوجية العربية الشمولية التي قادت شعبنا إلى المحارق والمهالك.
لقد أثبت هؤلاء أنهم طائفيون وعنصريون حد النخاع، بل أساؤوا حتى إلى العروبة التي يدعون الإنتماء إليها، إذ فضلوا انتماء الطائفي على الإنتماء القومي. فهم لا يعترفون بعروبة الشيعة العرب لأنهم شيعة. ولا يعترفون بسنية الأكراد والتركمان لأنهم ليسوا عرباً. أما مكونات الشعب العراقي من غير المسلمين فلا يحق لهم بالتمتع بأي حق من حقوق المواطنة بل يجب معاملتهم كذميين. هكذا يريد العرب أن يكون عليه العراق الجديد، لا كما يريده العراقيون أنفسهم.
تورطت مرة في نقاش مع فلسطيني في لندن وكان مؤيداً لصدام في نشر المقابر الجماعية في العراق قائلاً إن هؤلاء يستحقون القتل لأنهم ليسوا عرب ولا سنة بل هم من الشيعة والأكراد. فقلت له: هل تعلم أن الشيعة هم عرب وأن الأكراد هم سنة؟ فلم بفهم كلامي رغم تكراري له عدة مرات. ففي رأيه كل عربي هو سني وكل سني هو عربي... ولله في خلقه شؤون!! وإنا لله الواحد القهار.
يصرخ هؤلاء ليل نهار في فضائياتهم ولقاءاتهم مع السياسيين العرب وغير العرب، أن الحل هو التخلي عن فكرة الديمقراطية في العراق والعودة إلى حكم السنة العرب كما كان في الماضي. ولكن هل هذا هو رأي السنة العرب العراقيين؟ لقد عانى السنة العرب من جور حكم البعث الصدامي سوء العذاب أسوة بأخوتهم من العراقيين الآخرين. أما تمركز الإرهاب فيما يسمى ب"المثلث السني" فهذا تحصيل حاصل، وأنصار النظام البائد في هذه المنطقة لا يشكلون إلا نسبة ضئيلة من السكان تقل نسبتهم عن خمسة بالمائة. وسبب تمركزهم هنا هو لأن النظام أختار أغلب أنصاره من هذه المنطقة وورطهم في جرائمه وأسبغ عليهم بالامتيازات في المناصب والمراكز والأموال الطائلة. لذلك فهم يقاومون النظام الجديد دفاعاً عن امتيازاتهم وخوفاً من العقاب على جرائمهم التي ارتكبوها بحق الشعب في نشر المقابر الجماعية وجرائم إبادة الجنس. لذلك تورطوا في الإرهاب على أمل عودة سيدهم المختفي في الجحور ومجدهم الغابر.
إن إثارة المخاوف من "حكم الشيعة" مخطط خبيث يثيره المتعصبون من العنصريين والطائفين العرب خوفاً من نجاح الديمقراطية في العراق لأنهم يريدون الحفاظ على أنظمتهم المستبدة المتخلفة في اضطهاد شعوبهم وحرمانهم من اللحاق بركب الحضارة الحديثة. لذلك نراهم يثيرون مخاوف العالم بالشيعة وكأن الشيعة هم حزب إسلامي واحد تسيره الجمهورية الإسلامية في إيران. إن هذه الفكرة كذبة مفضوحة القصد منها نشر الرعب وتضليل الرأي العام العربي والعالمي.
فعندما يتحدث العرب عن شيعة العراق يصورونهم وكأنهم كتلة متراصة في حزب سياسي إسلامي أصولي واحد متعصب يدين بالولاء للنظام الإيراني. وبذلك فإن الديمقراطية معناها مجيء هذا الحزب الشيعي "الأوحد" إلى السلطة ليعقد تحالفاً سياسياً وعسكرياً مع إيران ضد العرب ويضطهدوا السنة العرب في العراق. هذا هو تصور معظم السياسيين والإعلاميين العرب عن العراق.
أما الحقيقة التي يجهلها هؤلاء فهي أن شيعة العراق، كغيرهم من المذاهب الإسلامية، موزعون على طيف واسع من التعددية السياسية. وكأخوتهم من أبناء السنة، أغلب الشيعة من المستقلين سياسياً، وكلما يريدونه هو الأمن والإستقرار والعيش في وطنهم بسلام ودون تمييز. أما السياسيون منهم فموزعون على مختلف الاتجاهات السياسية، فمنهم الديمقراطي الليبرالي، والشيوعي والإسلامي. والإسلاميون منهم مشتتون على عشرات التنظيمات الإسلامية ومنها في صراعات دموية. وحتى كمذهب، فالشيعة الإمامية منقسمون إلى أخبار وأصول.. فإذا كانت هذه حالة الشيعة من إنقسامات، فلماذا إثارة كل هذا الرعب منهم؟
كذلك أكد السيد عبدالعزيز الحكيم رجل الدين المعروف وعضو مجلس الحكم المقرب من آية الله السيستاني أن «لا نريد إقامة حكومة إسلامية في الوقت الحالي. لا نريد حكومة شيعية. بل نريد حكومة ديمقراطية ذات قاعدة واسعة». كما إننا نعرف حوالي 40% من السكان من السنة والأكراد وغير ذلك من الأقليات، وليس متوقعا مطلقا أن يصوت هؤلاء لقائد ديني شيعي. بقية السكان الـ60% من الشيعة، ولكن الزعماء الدينيين أنفسهم يعترفون أن جزءا كبيرا من هؤلاء علمانيون ولن يصوتوا لصالح حكومة ثيوقراطية. قال عبد اللطيف المياح، وهو أستاذ العلوم السياسية بجامعة المستنصرية ورئيس معهد الدراسات الوطنية التابع للجامعة «حوالي 30 إلى 35% من الشيعة علمانيون...... ». (جول برنكلي، الشرق الأوسط، 8/12/2003). وهذا يعني أن حوالي 75 بالمائة من العراقيين ضد حكومة شيعية أصولية. فلماذا كل هذا الخوف من الشيعة والديمقراطية؟
خلاصة القول، نعتقد أن إثارة المخاوف من الشيعة والديمقراطية في العراق لا أساس لها من الصحة وأن شعباً متعدد الأعراق والأديان والمذاهب، لا يمكن حكمه إلا بالديمقراطية التي هي الآلية الحضارية الوحيدة والسليمة لحكم البلاد ومعاملة الجميع بالتساوي في الحقوق والواجبات ورفض التمييز بجميع أشكاله. بمعنى أن العراق محكوم عليه بالديمقراطية لأسباب موضوعية وذاتية يكون فيه الدين لله والوطن للجميع.