شارون يقف منعزلا ووحيدا ضد اتجاه السلام. ولعل الأصوات الجديدة في قيادة الجيش الاسرائيلي، والتي بدأت ترتفع وتعترف بأن خطة حكومة تل ابيب لعزل الرئيس ياسر عرفات، والتخلص منه قد فشلت، وكذا تصريحات إيهود أولمرت, المقرب من شارون, بأن الحل الوحيد للحفاظ على يهودية الدولة الإسرائيلية هو الانسحاب من الأراضي الفلسطينية وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. ترجع كفة أن تغليب الصراع السياسي على الصراع العسكري أصبح في أيامنا هذه، يلقى رواجاً وقبولاً من قبل كثير من الأطراف الفلسطينية أو الإسرائيلية، والدولية والعربية والمجتمع الدولي.
كما أن تأييد واشنطن لوثيقة جنيف للسلام, واستقبال وزير خارجيتهل كولين باول مهندسي الوثيقة, وانتقادات واشنطن الحادة استمرار إسرائيل في بناء الجدار العنصري في الأراضي الفلسطينية, يدل على اقتناع الإدارة الأميركية المتزايد بأن سياسة شارون تقود المنطقة إلى الهاوية واستمرار دوامة العنف, بل إنها تضر بالمصالح الأميركية ذاتها.
شارون عودنا على السعي لإفشال أي مساع لا تتفق مع أفكاره لحل المشكلة. ولذلك استقبل حوار القاهرة بفتور. وهو يحاول طوال الوقت أن يناور ويخطط للتملص من أي اتفاق، إذ يسعى إلى الوصول إلى اتفاق -لا حرب- مرحلي طويل المدى، حتى إن اضطره إلى تقديم تنازلات إسرائيلية محدودة، ويفضل ذلك على اتفاق سلام دائم في الحرب، كما أن وجود متطرفين في حكومة شارون اليمنية يؤكد لا أمل في نجاح الخطوات المبذولة، خاصة تطيق وخارطة الطريق إلا بضغط دولي قوى يرغم إسرائيل على ذلك. ولو ترك الأمر لشارون فلن يتحرك خطوة الى الأمام ولن يتجاوب مع الجهود المبذولة من الاطراف الاخري، لذلك لابد من ممارسة الضغوط عليه من الولايات المتحدة بالذات والاتحاد الاوروبي للبدء في تنفيذ خريطة الطريق لإعطاء أمل للفلسطينيين في ان إسرائيل تريد فعلا حل القضية, وبدون هذه الضغوط او ضمان التزام إسرائيل بالهدنة عندما يتفق عليها الفلسطينيون لن تتقدم عملية السلام ولن تصمد الهدنة وسيكون مصيرها مثل سابقتها.
استطلاعات الرأي الإسرائيلية, التي أظهرت تراجع شعبية شارون إلى مستوي منخفض, وقبلها تأييد غالبية الإسرائيليين لوثيقة جنيف طبقا لاستطلاع الرأي الذي أجراه معهد بيكر للسياسة العامة, تشير بدورها إلى اقتناع المواطن الإسرائيلي بخطأ وفشل سياسة شارون في تحقيق الأمن والاستقرار له.
وفي الوقت الذي يستمر فيه شارون في سياسة التعنت والمراوغة, أظهر الفلسطينيون في المقابل، رغبتهم الحقيقية والجادة نحو تحقيق السلام ووقف العنف, فالحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني المنعقد حاليا في القاهرة وتحت الرعاية المصرية, واستعداد الفلسطينيين لعقد هدنة جديدة مع إسرائيل والعودة إلى طاولة المفاوضات كخطوة للانتقال لعقد اتفاق نهائي يفضي إلى حصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة, هو دليل على رغبة الفصائل والمنظمات الفلسطينية في نبذ العنف وتغليب خيار السلام. يجمع الكثير من المراقبين أنه بات من الضروري بمكان لإنجاز هذا السلام، أن تنتقل الإدارة الأميركية من موقف المتفرج ومجرد الخلاف الإعلامي مع حكومة شارون إلى اتخاذ خطوات حقيقية باتجاه الضغط عليها وإقناعها بالعدول عن سياساتها والانحياز لخيار السلام الشامل والعادل مع الفلسطينيين.
الأصوات التي بدأت تخرج هنا وهناك في إسرائيل تؤكد ان سياسة حكومة تل ابيب كانت مبنية على تقويم خاطئ. وينبغي تغييرها بالعودة الى التفاوض المباشر مع الفلسطينيين، وخاصة الرئيس عرفات، ورغم ان هذه الاصوات لم تنجح بعد في اقناع القيادة السياسية بموقفها، باستثناء بعض كبار موظفي وزارة الخارجية الاسرائيليين، الذين سبق واعربوا عن موقف مشابه قبل بضعة اسابيع، الا انها بدأت تتغلغل الى ذهنية عدد من القادة السياسيين وتؤثر في توجه هؤلاء القادة باتجاه تأييد الهدنة.
تتحدث الاصوات الإسرائيلية عن ضرورة الاستفادة من دروس الماضي وعدم تكرار الخطأ تجاه عرفات او تكرار الخطأ الذي وقع مع حكومة محمود عباس (ابو مازن) في التعامل الآن مع حكومة احمد قريع (ابو علاء). ولعل ما صرح به احد الجنرالات البارزين في الجيش انه يرى ضرورة اعطاء دعم كامل لحكومة ابو علاء حتى تظهر امام الشعب الفلسطيني بانجازات حقيقية بالاضافة الى الاقتراحات حول الانسحاب من المدن الفلسطينية تماما وازالة كل الحصارات والاغلاقات، واقترح ان يلغى تماما الحصار على عرفات وان يتاح له التجول بحرية كاملة، يمكن من شأنها أن تشعل بارقة آمل في حدوث انقلاب في الشارع السياسي الإسرائيلي.
كما يتعين على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة اعضاء اللجنة الرباعية الدولية ـ التحرك بوتيرة اسرع وإصرار أكبر للعمل على تنفيذ خريطة الطريق والاستفادة من تفاصيل الحل الواردة في وثيقة جنيف وعدم ترك الوضع لأهواء شارون, إذا كانوا يريدون فعلا الخروج من الطريق المسدود الذي وضع العملية السلمية فيه. وهنا يجب التأكيد على ضرورة أن يعي المجتمع الدولي والولايات المتحدة خاصة، أن الفرصة السانحة حاليا لاستئناف مسيرة السلام يجب أن لا تقوض كما حدث في السابق، والوضع لا يحتمل التأجيل أكثر من ذلك، وأن عليهم أن يضطلعوا بمسؤولياتهم، وعلى الإدارة الأميركية أن تستعيد ثقة الرأي العام العالمي والعربي والفلسطيني خاصة، بعد أن فقدتها كراعٍ نزيه لعملية السلام بانحيازها الأعمى لإسرائيل واتباعها سياسة الكيل بمكيالين.
الشعب الفلسطيني على مختلف أطيافه أثبت دوماً أنه صامد وقوي ويمتلك الكثير من أسلحة الصمود والفعل المتنوع سياسياً وعسكرياً، وعليه الآن أن يستمر في صموده أكثر من أي وقت مضى، وأن يبدي حكمة كبيرة لتفويت الفرصة على شارون وحكومته، وذلك من خلال مواصلة الحوار الوطني والبحث عن أساليب ووسائل مقاومة سلمية وشعبية، ولا شك أن من شأن الهدنة ترسيخ التفوق الأخلاقي للنضال الوطني الفلسطيني.
كما أن تمسك الجانب الفلسطيني بالهدنة المؤقتة، من شأنه أن يزيد من الضغط السياسي للجمهور الإسرائيلي على حكومته، ويجعله يدرك أن سلاماً صعباً مع الفلسطينيين يتضمن انسحاباً من الأراضي الفلسطينية والاعتراف بدولة فلسطينية هو الضمان الوحيد لأمنهم ووقف حمام الدم النازف، وهنا لابد من ضرورة التأكيد والتشديد على دعوة جماعية عربية – فلسطينية – أوروبية – وأمريكية، لإرسال مراقبين دوليين لمراقبة الموقف على الأرض، الأمر الذي من شأنه تدويل القضية وخروجها من سيطرة الحكومة الإسرائيلية، التي تسعى جاهدة إلى أن تكون الخصم والحكم في آن واحد.