|
آلام كيركغاردية(1)
ديرار عبدالسلام
الحوار المتمدن-العدد: 2187 - 2008 / 2 / 10 - 09:00
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
-الألم الأول: حين تعلمت اللغة العربية الفصحى قراءة و كتابة، و تحت نير آلام فادحة و كأني أتعلم لغة الجن ! و ليس لغة آبائي و أجدادي، فالانتقال من الدارجة إلى الفصحى هو انتقال من عالم إلى آخر لا يمت للأول بصلة، و كان ذلك على يد معلمين أجلاء متحمسين بنشوة الاستقلال و جلاء قوات الاحتلال، و يحركهم اعتبار ذاتي رائع و فعالية ذاتية واضحة، و هما دعامة رسالة التعليم، خيل إلي باستمرار و كأني طائر في الحدائق المعلقة وأصداء الطب و الفلك و الرياضيات و الفلسفة و الشعر و الموسيقى تملأ الدنيا...دنيا العربية. و صاحبني هذا الإحساس الخادع إلى مراحل متأخرة من تعليمي الثانوي، و بالضبط إلى أن بدأ اتصالي بالدرس الفلسفي. هنا بدأت أشعر و كأني نفس ذلك الطائر القديم و لكن بين يدي فلاح خشن ينزع ريش جناحيه و يهم بوضعه في قفص. و لم يكن ذلك أبدا بسبب صعوبات في النحو أو الصرف أو البلاغة أو العروض، أو بسبب ما بات مألوفا لدي حول كون اللغة عموما هي أداة سلطوية و كل اللغات فيها حدود لما يقال و يكتب، أي أننا لا نستطيع أن نقول (باللغة) أو نكتب كل ما نستطيع قوله و كتابته و أن الأمر يبلغ في العربية حدوده القصوى ، لا بل بسبب ما تستمر اللغة العربية في إتاحته من لهو الحديث و فارغه بشكل رهيب، و من إمكانيات فوق-عادية لسلب المجتمع(باللغة) و للركوع و الخنوع و الانحناء و الانكسار و القبول بالفرز و الإقصاء و التهميش و التمييز الصارخ و الاستسلام لأدنى شروط الآدمية، للتقريد إذن...، بسبب ما تكرسه هذه اللغة من كلمات و بنيات تحتل خريطتها، وأجدها تهشم عقلي و عظامي أيضا. ف "السيد" و "الأعيان" و "الوجهاء" و"الرعية" و " المساكين"و "الهامشيين"....كلمات/وقائع تستمر في تأثيث مخيالنا بدون مشاكل، و تنتظم بناء عليها حياتنا اليومية بدون اعتراض ، لا بل حتى بدون سؤال. و "الواقعية" تستعمل بمعنى قبول الذل و الهوان، و "التسامح" بمعنى التصالح مع من يصرح و يؤكد بالفعل على الأرض أن شرط وجوده إبادتنا، و "الحكمة" و"الاعتدال" بمعنى التواطؤ و الانتهازية ...الخ، و قد يأتي الاستعمال الواسع ل "الانتحار" كمرادف للعبادة، و الصياح: "عاشت إسرائيل دولة عظمى و لينقرض العرب" كمرادف للكرم و حسن الضيافة !!، فقوى الشر تجتهد و تبدع بضراوة في آليات التسطيح و التنكيل. -الألم الثاني : أمي التي كانت شارفت التسعين قبل مغادرتها لهذا العالم، لم يكن تعليمها و مثيلاتها بالقرى المغربية النائية يدخل في حسابات المحتل، و غادرت هذا العالم على حالها ما دامت سياسة محو الأمية التي ما فتئت "الحكومات العربية" ترددها منذ رحيل الجيوش الاستعمارية (طبعا فهي عادت اليوم )، إن هي إلا شعارات زائفة للاستهلاك الداخلي و"استهلاك" المساعدات الخارجية و إغراق شعوب بكاملها في ديون مالية و سياسية تجاه المؤسسات الدولية و المراكز الامبريالية، هذه الديون التي غالبا ما يتم تحويلها إلى حسابات بنوك أجنبية ل "وجهاء" و وزراء و لصوص و أمراء...، و يكتب على الأوراق كونها صرفت لمحاربة الأمية في أوساط "المعوزين" و "المساكين"، و يتم تقديم صور على قنوات التلفزيون لدروس مكشوف زيفها إلى درجة البهتان، ثم يطوى الملف بانتظار مساعدة دولية أخرى أو قرض آخر، فصور كاذبة أخرى و درس زائف آخر...أما الحاكم الجاهل المراهن على تأبيد استهلاكه وأقربائه السفيه لخيرات الوطن ، فلا يمكن أن يفرط بأي حال من الأحوال في نصف المجتمع احتياطيا للجهل هو سكان البادية، ليبقى "اللعب" مع نصف فقط ،نصفه مقموع المقموع . أمي هذه، التي لم تكن تعرف إلا الشيء القليل في الجغرافيا فبالأحرى الجغرافيا البشرية، و التي كانت غالبا ما تخلط بين جارتنا الجزائر و وجدة (مدينة في شرق المغرب أي على الحدود مع الجزائر)، سألتني بعد الانتهاء من صلاة، و كنت في زيارتها مباشرة بعد الحرب الهمجية الأمريكية و الانجليزية ضد الشعب العراقي و تاريخه : هل هؤلاء الكويتيون الذين يساعدون الأمريكيين ضد العراق هم الآخرون يهود أم نصارى؟ و من أين جاءوا؟ أجبتها : لا هم بيهود و لا هم بنصارى، بل هم عرب، و هم و العراقيون "قبيلة" واحدة، و إن شئت قولي إنهم عائلة واحدة ! لم تفهم أمي، و سمعتها تقول بصوت خافت: مسلم يأتي بكفرة- سفلة ليقتلوا " أخاه" ! هذا مستحيل، و الله أعلم ...و ماتت أمي و في صدرها غصة من ذلك. -الألم الثالث : حين أتأمل مظاهر الحياة في بلدي المحسوب على العروبة، و حين أتفحص العديد من السلوكات و القيم الموجهة لها، و الكثير من الاستعدادات والآليات و الدسائس التي طبعتها، و حين أقرأ نفس الوقائع ببلدان عربية أخرى عديدة من خلال ما يتيحه تطور وسائل الإعلام، و بقراءتي لما يكتبه مفكرون و باحثون عرب، أخلص إلى نتيجة فظيعة و هي أنه عما قريب- إن استمر حالنا على ما هو عليه-، فحتى أشعة "فوق-أنتروبولوجية" قد لا تفيد على العثور على "ثقافة عربية" و "هوية عربية" فينا (أي على الأرض لا في لغة فادح لهوها وفي الكتب و في حكاياتنا). لا يتعلق الأمر هنا باعتقادي في هوية جامدة متحجرة غير قابلة للتغير و التطور، بعيد أنا كل البعد عن الوقوع في فخ الهوية، و لكن ما أقصده هو تلك النواة الصلبة القادرة على الصمود أمام كل الهزات و العواصف، و أمام كل محاولات التخريب و التدمير، لا، بل التي تبادر إلى الدخول إلى المعترك دون خوف و لا انكفاء ، تفاعلا مع مثيلاتها ، فاعلة فيها ، منفعلة بها. أعتقد جازما أن تلك النواة أو عناصرها الأساسية هي المستهدفة من الاحتلال الهمجي الأمريكي للعراق و التدخل السافر لهذه ال"أمريكا" في توجيه سياساتنا التعليمية و نظمنا الغذائية و...و...وبعدها آبار البترول و ضمان شروط الهيمنة الكلية لإسرائيل على المنطقة و ما يضمنه من مراقبة أمريكا لمناطق أخرى حساسة من العالم و تعميم قيم العم سام. - الألم الرابع : تشير علامات كبرى عديدة إلى كوننا نحن العرب لم نعد نشعر و نقدر- و منذ زمن بعيد (أو على الأقل منذ 1492)- ما يحدث حولنا في العالم و ما تتفاعل فيه من مستجدات على المستويات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الفكرية. و على هذا المستوى الأخير مثلا، يستطيع المتتبع للكثير مما يكتب في حقل الفلسفة و لما يدرس لأبنائنا في هذه الشعبة أن الخطاب الفلسفي التقليدي ما يزال-في العديد من الحالات- يطن في سماء مدرجاتنا و فصولنا الدراسية، و يشغل مساحات شاسعة من كتبنا و مجلاتنا المهتمة بهذا المجال. فأسئلة الوجود (بمعناها التقليدي)، و الأسئلة بدون أجوبة، و الإشكالية و الأشكلة ،و التأمل (بمعناه التقليدي) ...هي القضايا التي نستمر في اجترارها في الغالب،و الحال أن الفلسفة اليوم باتت واضحة المعالم و المهام، إنها النقد و التفكيك و الخلخلة و النبش ، ممارسة على الأفكار و الوقائع أي على ما يرتبط بالإنسان وعلاقته بالإنسان أساسا. بل إن هزات عنيفة شهدتها الفلسفة في القرن العشرين نتيجة التطور المذهل الذي حققته العلوم الإنسانية ( علم النفس و علم الاجتماع و علم الانتروبولوجيا و اللسانيات..) (و التي تعتبر شبه ممنوعة عندنا) ، هذه العلوم التي باتت تقدم أجوبة قابلة للتطبيق على الأرض..، و تبقى مهمة الفيلسوف صياغة تركيب رائع لخلاصات و نتائج " البنات النشيطات و المنتجات باستمرار" (العلوم الإنسانية) ، ذلك المعنى الذي ينطق بالعريض التركيبي و يقطع مع التأمل بالمعنى التقليدي و مع السؤال بدون جواب، و يقدم أجوبة و يفك ألغازا و لا "يؤشكل" أبدا. و طبعا لا يستسلم لنهائي وحقيقي، فالسؤال مشتغل على الدوام و نقد الحقيقة من صميم التفلسف بمعناه الجديد و النبش في كل شيء روحه. و عموما فإن الفيلسوف أو المتفلسف بالمعنى الجديد يقطع مع كل ما من شأنه أن ينفر من الفلسفة و يجعلها تبدو بدون جدوى و مرادفا للغموض و التلاعب بالألفاظ كما بات شائعا عندنا. هذا في الوقت الذي أصبح من المؤكد عند المهتمين بالفلسفة بمعناها الجديد أن اتخاذ "سقراط" و "ابن رشد" مكانة على الانترنيت ! رهين بجعل الفلسفة قادرة على دخول حلبة التواصل. و كيف للغامض و التأملي بالمعنى العقيم و المتسائل بدون أن يقدم أجوبة و "المؤشكل" أن يحقق ذلك ؟ فهل نفيق؟ - الألم الخامس: يتوهم البعض أن الجوائح و النكبات و الانكسارات المتلاحقة التي يحياها العرب، و التي توجت بعودة الاحتلال المباشر لجغرافيتهم قد تدفع حكامهم إلى إعادة النظر في سجلاتهم التي تصرخ أوراقها المرصعة و وثائقها السرية الممنوعة/وثاثق التفريط في كل إمكانيات إفلاتنا من المصير المظلم عن جهل و تخلف فظيعين،أنهم هم العلة الكبرى للداء و الورم الخبيث المهدد بالفناء. وطبعا اكتسبنا الاستعدادات للمشاركة في الجريمة تحت تأثير تقريدنا بالأمية و الفقر و المرض. إلا أن مجريات الأمور تؤكد بالمكشوف أن هؤلاء الحكام- حكامنا أصحاب الفخامة و الجلالة و السلطان و العظمة- المفتونون بالسلطة و النعيم المضمون بالقهر و الاستعباد، ماضون في غيهم بتخطيط و سبق إصرار و كأن حال لسانهم يقول بسفالة أن انقراض شعوبهم لا يساوي شيئا أمام استمرار عروشهم و أن "تضخم السلطة مرادف للتخلف" ليست أبدا مقولة علمية !. و المتتبع لأحوال أوطاننا في هذا الظرف الشديد الخطورة الذي يفترض الإسراع بشرع كل أبواب الحرية وكل إمكانيات انبثاق العقل و المواطن و وقف كل أنماط الاختلالات حتى يضمن الوطن مناعة ضد العواصف و الزلازل المحدقة به، يصدم أيما صدمة –وسط هذه الحلكة- بحرص قوى الشر وأعداء الحياة و علة الجوائح و الداء، على تنشيط الآداب السلطانية بشكل مثير، وفي أثواب خادعة، هذه الآداب الممقوتة التي تخلط في مخيال الإنسان العربي المحدود اليوم بالأمية و سوء التغذية و بكل ألوان السموم المبتكرة المحلية و المستوردة، بين "السلطان" و "النبي" و "الله". إذ يصوره "الشاعر" المأجور السلطان إلها، و يقدمه "السياسي" المتآمر نبيا، و يمارس "الصحافي" الاسمي البائع لسانه الدعاية له و يسوقه طاهرا ملاكا، و يجعله الفقيه المغشوش و المأجور إلها و نبيا معا...، و يختلط المقدس بالمدنس و الطبيعة بالميتافيزيقا ...، و تعلو السماء زغاريد مبحوحة و تكهنات يائسة بقرب الساعة ! وهي الأخرى مدفوعة الأجر أو جاهلة ( و لن تكون إلا ساعتنا نحن العرب دون غيرنا ). -الألم السادس : في قريتي بتلال مقدمة الريف التي قاسيت فيها طفولتي آلاما و آمالا، فتحت عيني على عادات و"آداب"( لنتأمل اللغة ) ! لتقديم المأكولات للضيوف خلال الحفلات العائلية كالعرس أو الختان أو العقيقة أو عودة حاج من الشرق ...، أدركت فيما بعد أنها تخص المجتمع المغربي ككل بقراه و مدنه التي إن هي من منظور تحليلي علمي سوى قرى متلاصقة و متزاحمة، بل اكتشفت أنها متغلغلة بالمدن بشكل أكبر مما هو عليه الحال في القرى. و تتمثل هذه العادات و "الآداب" في كون الفضاء الذي يستقبل الضيوف يخضع لمراتبية صارمة في نوعية التأثيث تتطابق و أصناف المدعوين.فالغرفة الأحسن تأثيثا و صاحبة أحسن موقع في البيت، يستقبل فيها "كبار القوم" و"الوجهاء" و "ذوو الشأن" و المالكون لسلطة ما ...، و بالغرفة المتوسطة التأثيث يستقبل الأقارب العاديون و المتوسطون اجتماعيا و الشبان المعتزون بدواتهم المشهورون بتمردهم الذين يفرضون بذلك احترامهم. و تخصص باقي الغرف العادية جدا للأقارب "المعوزين" و الفضوليين و النساء اللائي أزواجهن في أدنى السلم الاجتماعي مرتبين و الأطفال، بينما تخصص غرفة شبه مهجورة خارج البيت ( وإلا فخيمة) للطبالين و بعض الشبان المذلولين و العجزة المنبوذين. و في ظلمة قريبة من منزل الحفل يتربص الجائعون و المشردون، و غير بعيد منهم يتجمع كلاب القرية. و في الحالات التي يتم فيها تخصيص الغذاء أو العشاء للرجال و العكس للنساء، يتم توزيعهن هن الأخريات على الغرف حسب نفس منطق توزيع الرجال باعتبار المرأة تابعة لزوجها و حاملة لرأسماله و وزنه و سلطته... لحظة توزيع المأكولات لحظة صارخة بالتمييز و معلنة لتميز البعض و دونية البعض الآخر. فبالنسبة ل"كبار القبيلة" و "الوجهاء" و "ذوي الشأن" و المالكين لسلطة ما...، يحرص صاحب الحفل على أن يقدم لهم شخصيا أو أحد أقربائه فرصة غسل أيديهم بالماء( والصابون أيضا) بعين المكان قبل بداية الطعام، ثم تبدأ عملية تقديم المأكولات التي يحرص صاحب الحفل على أن تكون هنا زائدة، و تتشكل في الغالب من صحنين كبيرين واحد من اللحم أو الكسكس باللحم ( الوفير) ، و الثاني من الدجاج تتبعهما فواكه، فغسل للأيدي بعين المكان أيضا، ثم كؤوس الشاي و الحلويات خلال ما تبقى من الوقت. و في الغالب يحظى ضيوف الغرف المتوسطة التأثيث بنفس العناية أو أقل منها بقليل، إلا أنها لا تنزل إلى أقل من حذف بعض الشكليات الزائدة في حالة الغرفة الأولى. بالنسبة للغرف المتبقية، أي غرف المفتقدين لكل أنماط الرأسمال، و الفضوليين و الأطفال و النساء المقهورات، يتم تأخير تقديم الأطعمة لها إلى ما بعد انتهاء ضيوف الغرفتين الأولتين من الأكل، إذ تعمد النساء المكلفات بالطبخ و التقديم – و تواطئا مع صاحب الحفل- إلى إعادة تصفيف بقايا قطع اللحم أو الدجاج و إضافة قطع أخرى للتمويه دون أن يمس كل ذلك في شيء كون ما يقدم للضيوف في هذه المرحلة الثانية أقل مما يقدم بشكل مبالغ فيه لغرفتي " المتميزين" كما و كيفا، إذ كثيرا ما يتم نسيان أو بالأحرى تناسي تقديم فرصة غسل الأيدي. بالنسبة لضيوف الغرفة الشبه مهجورة خارج البيت، أي غرفة الطبالين و الشبان المذلولين و العجزة المنبوذين، يبدو هزال ما يقدم واضحا، إذ يقتصر على ما تبقى من قطع لحم بسيطة عالقة بالعظام و الشحوم (عائدة من غرف المحطة الثانية)، تضاف إليها بعض القطع الأخرى البسيطة. و حتى بالنسبة للخبز، يتم الاكتفاء بتقديم بقايا القطع المتبقية من المحطتين السابقتين معا. أما تقديم فرصة غسل الأيدي، فغير واردة هنا قطعا. إلى هذا الحد يكون انتظار الجائعين و المشردين بالظلمة قد زاد عن الحد، و بلغ بهم الجوع حدوده القصوى، مما يجعل من السهل إسكاتهم ببقايا العظام و المرق الكثير الذي يحمل نكهة اللحم ، و كثير من قطع الخبز المتبقية و التي تشبعت هي الأخرى بنكهة اللحوم من فرط الاستعمال. هنا بالضبط تغيب كل الشكليات المصاحبة لتقديم الأطعمة (بقايا الأطعمة هنا) بشكل كلي، إذ غالبا ما يتم خلط بقايا اللحم و عظام الدجاج، ويتم الاقتصار على صحون رخيصة أو مهملة... و أخيرا ترمى العظام الممسوحة و الممصوص مخها، و بعض الجلود المستعصية على المضغ و الهضم للكلاب التي غالبا ما تكون اقتربت من الجائعين و المشردين إلى حد الاختلاط بهم، مما يجعل رمي تلك الكلاب بكل عظم تم سلخه و مصه ضرورة لاتقاء هجومها، و الحال أن منها من يكون دشن النباح المنذر بالسعر... أما حين كبرت، و قدر لي أن أدرس السوسيولوجيا و أتخصص فيها، و أنجز بحوثا علمية حول ظواهر المجتمع، تبين لي أن مظاهر التراتبية و التمييز في تقديم المأكولات للضيوف التي فتحت عيني عليها، و التي تدخل في صميم "الآداب"، تصلح إلى حد بعيد كنماذج نظرية بالمعنى العلمي، لقراءة توزيع الخيرات على مستوى المجتمع ككل، طبعا إن تم الارتقاء بها إلى مستوى مفاهيم و بناءات نظرية متماسكة بالمعنى الفيبيري(نسبة إلى ماكس فيبر).
-مشاريع آلام مبرحة: أ- مشروع الآلام الأول: رجال ونساء تعليم اشتغلوا بصدق وعشق لرسالتهم رغم الفقر المفروض عليهم، اقتطعوا من قوت يومهم لشراء الكتاب و المجلة و الجريدة، و تنافس من منهم غير حاصل على شهادة التعليم الثانوي، و حصل عليها، و الغير حاصل على الإجازة و حصدها، و راهن بعضهم على الدكتوراه و نالها ، و انعكس تعلمهم على تعليمهم. كانوا بمختلف الأسلاك التعليمية أربعة أصناف: الأول بالتعليم الابتدائي و الثاني بالتعليم الإعدادي و الثالث بالثانوي و الرابع بالجامعي، و لم يكن الإحساس بالمراتبية بذي ثقل يذكر، بل الأجمل أن المعلم كان يحضا باحترام أكبر، و حتى الاهتمام بالأجور كان ثانويا أمام عشق الرسالة، فهي المبتدأ و هي الخبر. و لاحت في الأفق القريب علامات انعتاق الوطن و عودته إلى التاريخ بعد مغادرته لقرون طويلة و استسلامه للضياع. إلا أن قوى الشر المضادة للحياة في البلاد من أهل الميمنة و أهل المشملة رأت في ذلك ما يهدد بجد مستنقعاتها و الماء العكر الذي أدمنت الاصطياد فيه، بل و خطرا على الأرض و السماء ما دام من بين هؤلاء "المعلمين" من يحلم بالجنة على الأرض، فاجتمع سحرة كلا الفريقين و قرروا ما يلي: 1-الامتناع نهائيا عن تعليم ذريتهم بالمدارس التي يشتغل بها هؤلاء الحالمون، فإما أن يضمنوا تعلمهم بمدارس "الإفرنج" ليتقنوا علومهم و لغاتهم وأنماط عيشهم ، مما يسهل عليهم ممارسة السلطة عند عودتهم، أو تحدت لهم مدارس خاصة بهم هنا لا تتيح لأحد من غير شرطهم الاختلاط بهم. 2-إبعاد بعض أبنائهم ممن غررت بهم جاذبية و رومانسية رسالة المدرس-المربي عن هذا القطاع نهائيا،حتى لا تنتقل إليهم عدوى الحلم ، فيتقوى بذلك العزم و الخطر. 3-تشتيت شمل هؤلاء المدرسين بتقسيم كل صنف من أصنافهم الأربعة القديمة إلى أربعة أصناف أو أكثر، وتقرير أن لكل صنف من الأصناف الأربعة للأربعة أصناف من المدرسين (على القارئ أن يقرأ بتمعن ، فنحن بعيدون عن التلاعب بالألفاظ) أجرا لا يمت بصلة لأجر صديقه في العمل، في نفس المؤسسة، و مع نفس المتعلمين. وسيصبح عدد الأصناف هو حوالي الستين. و للانطلاق في العملية سيعتمد معيار الأقدمية لجعل الأصناف واقعا في الحين. 4- الحرص-كل الحرص- على أن يتم إيهامهم بكل الطرق الممكنة بأن هذه مكاسب تحققت لهم، لا بل انتزعوها !، و تم الاتفاق على أن أهل المشملة أقدر على النهوض بهذه المهمة. زفت الخديعة، و انطلت على المعنيين تحت وطأة الفقر و رغم تحذيرات بعض "المجانين" منهم، و منذ اليوم الأول وجد كل صنف منهم ذاته أربعة أصناف مختلفة أو أكثر ، وكل واحد من الأربعة أربعة أخر، و كل صنف من الأصناف الأربعة داخل الأصناف الأربعة يقابله سلم و رتبة ، و كل سلم و رتبة يقابلهما أجر لا يمت بصلة لآخر لصاحبه من نفس السلك بالأمس الفعلي، إذ على عكس الأجور القديمة المتقاربة، بات أجر أعلى صنف من الأصناف الأربعة أو الخمسة لصنف من أصناف المدرسين يعادل حوالي ثلاث مرات أجر أدنى صنف من نفس الصنف، وقد تبلغ العشر مرات إن نحن قارنا أعلى أجر لأعلى صنف من صنف محدد بأدنى أجر لأدنى صنف من صنف آخر، و اختلطت السلالم و الرتب، و تضخم الحديث عنها و ذكرها، واستفحل الانتظار للانتقال من سلم إلى سلم وتوهم المحظوظون الأولون أنهم باتوا أمراء بعد طول عناء و باتوا يخططون لمشاريع قادرة على استيعاب كل هذه الأموال التي ستصل كل شهر !. ومنهم من عاد إلى صباه !. بينما غرق المنتظرون في عد الفروق بين السلم و السلم و عدد السنوات المتبقية للانتقال من سلم إلى سلم ، و صارت سلالم المدرسين موضوع التاجر و الصانع و العاطل و المشرد، ودهي المدرسون عن رسالتهم و طاشوا، كرهوا الكتاب ما دامت الأقدمية هي المعيار، و لعنوا الشواهد ما دامت أقل فائدة من المعيار. تشتتوا و تفرق كل صاحب سلم عن أصحاب باقي السلالم، ثم داخوا و تاهوا بعد إشعال الأسعار حولهم و بأيدي أصحاب المشملة، وحيرة أصحاب أعلى السلالم أنفسهم. وعما قريب جدا، قد يفيقوا و يجدوا أنفسهم كلهم بالسلالم، و لكن لن يجدوا التعليم...أما القلة القليلة التي صمدت على قيد التوازن تحترق، فلم تعد تجده الآن.
ب- مشروع الآلام الثاني: كل ذي عقل سليم يرفض الإرهاب و منطقه (طبعا أقصد الإرهاب لا أشكال مقاومة الاضطهاد و الظلم و القهر كمقاومة الاحتلال و الاستبداد مثلا). و كباحث سوسيولوجي معني إلى أقصى الحدود بقضايا وطني و عمقه التاريخي، أجدني أكثر الناس كرها للإرهاب لأسباب تتعدى ما هو مشهور كقتل الأبرياء و تخريب الاقتصادات و الممتلكات، إلى ما هو أعمق و أخطر، و المتمثل أساسا في كون العمل الإرهابي الذي ينفذه أصحابه و يختفون، يخلق الأساطير و ثقافة الانتظارية و الإيمان بالخوارق و التخلي عن العمل الجماعي اليومي الجاد و الملحاح...، و هي كلها آفات حقيقية تنضاف إلى أصناف الآفات المعطلة لانبثاقنا و المكرسة لاستكانتنا. مصدر مشروع الآلام أني أجد نفسي شديد التوتر أمام أطراف تصرح بمعاداتها للإرهاب و حرصها على مواجهته، و تأتي يوميا بكل الأفعال و الممارسات التي تستدعيه و تستفزه من مغاراته، أي أنها توفر كل الشروط المواتية لانطلاقه و كل الوقود الضروري لاشتعاله. وهذه الأطراف و الأفعال هي كالآتي: 1-حكام يتفننون في الاستهلاك السفيه لخيرات الأوطان و يمنعون بذلك العيش الكريم عن شعوبهم، و يدعمون اللصوص و المنافقين و الانتهازيين، و يخنقون الأنفس و يغبنون الشرفاء، و يحاصرون إمكانيات تنشيط العقل و كل من يمكنه تلقيح مخيال الناس كي لا يضيق الأفق. 2-مشاريع أحزاب راهن عليها البسطاء و المقهورون و المغبونون لترقى إلى مستوى أحزاب بالفعل، فإذا بها تتصدع و تنكشف ولايات سياسية للمصالح و الزبونية و مسالك مقنعة للاغتناء السريع و الانضمام إلى "قبيلة" محتكري خيرات الوطن، عوض أن تشكل فضاءات للحياة / للحوار و إمكانيات للمشاركة السياسية التي تمنع انتشار اليأس الذي يدفع للبحت عن إمكانيات أخرى في الظلام و المغارات ... 3-جمعيات ثقافية و تنظيمات نقابية و مدنية و حقوقية، مركزية و محلية، تنقطع اتصالاتها بالجماهير بمجرد الإعلان عن أعضاء مكاتبها التي يتهافت الانتهازيون و المفتقدون لأي رأسمال للوصول إليها، و عندما يصلون، يوظفون كل أساليب المكر و الخبث و الدسيسة لتأبيد وجوههم اللاتخجل فيها، لا لخلق ديناميكية اجتماعية أو العمل من أجل انبثاق المواطن أو خدمة قضايا، و لكن لضمان امتيازات أو رمزية مفقودة. فيتضخم –بذلك- الشعور بالإحباط و الظلم و الزيف و البهتان...، و ضرورة البحث في الظلمة عن حلول أخرى ما دامت كل المواقع و الهياكل و الإمكانيات قي واضحة النهار زائفة و"مخدومة".
++ حكمة عملية للأطراف الثلاثة: كان لفلاح قط ظريف و جميل، يطعمه و يعتني به. و كان القط بالمقابل يتفانى في تخليص ذلك الفلاح من كل فأر سولت له نفسه المس بقمحه و شعيره و فوله...، و من كل أفعى أو حشرة تجاوزت حدود البيت. و لم يحصل و لو مرة خلال سنوات عديدة أن مس القط (الظريف) صغار أرانب الفلاح أو كتاكيت الدجاج و الحمام، بل كان يداعبها و يحميها من القطط الضالة. و ذات عام كان موسم الحصاد بات وعدا و القط ما زال على قيد الإخلاص و الوفاء، قل الخير ببيت الفلاح ، و لم يعد يقدم للقط الطعام الضروري و لا بات يعتني به، متنكرا لكل إخلاصه، فما كان أمام القط (المتشبث بالحياة) إلا أن بدأ يتلبس ليلا و يشفي نار الجوع بصغير أرانب أو فرخ حمام. و عندما شعر الفلاح بالأمر (دون أن ينتبه إلى إخلاله بواجبه تجاه القط)، فكر في الانتقام منه شر انتقام، فاستدرجه إلى غرفة و أغلق الباب، ثم أخذ عصى غليظة و بدأ يتجه صوب الركن الآخر من الغرفة حيث يقف القط. هنا كان فزع الفلاح، إذ كلما تقدم خطوة و العصا في يده، إلا و وجد أن القط الوديع ينتفخ و عيناه تتسعان و تبدوان شرستان إلى أن بات نظيرا لنمر حقيقي. ضربه الضربة الأولى و كأنه يضرب كرة ضخمة من جلد البقر، ضربه الضربة الثانية فازداد انتفاخا و جلده صلابة، فهم بضربه الضربة الثالثة بجنون، و إذا بالقط ينقض عليه كوحش و كاد أن يفتك به لو لم يساعده الحظ في الإسراع إلى فتح باب الغرفة و انسحاب القط بعد أن عاد إلى طبيعته. فهل يعقل [أيتها الأطراف المعنية] أن يرفض القط الحصار و الاختناق و يقبلها الإنسان إلى الأبد؟ لتفتح الأبواب ! و ليختف الانتهازيون و الوصوليون و المفسدون و المقنعون و كل الذئاب ! قبل أن تتحول الغزلان الوديعة إلى سباع...
--------------------------------
(1)نسبة إلى كيركغارد، و صورين كيركغاردSoeren Kierkegaard هذا هو فيلسوف دانمركي كبير، رائد المذهب الوجودي، عاش بين 1813 و 1855 ، و اشتهر ب"كلية القلق و شموله" و "كلية اليأس و شموله". و لكن شتان بين ما كان يقصده كيركغارد باليأس و بين النظرة السوقية / الساذجة "المبتذلة" التي تنظر إلى اليأس-كما يقول- "نظرة ضحلة للغاية، فتتغاضى عن أمور كثيرة جدا: فهي تتغاضى تماما عن واقعة هامة هي أن إحدى صور اليأس على وجه الدقة ألا يكون لدى الإنسان وعي صريح به...". و أضيف: و يحيا وهما كاذبا مقيتا ب "الارتياح" و"الطمأنينة" و"راحة البال"وحتى بالسعادة (لننتبه دائما للهو الكلام و فارغه)، و كل شيء حوله ينذر بالضياع، هو اليأس ذاته إذن في صورة كائن يمشي على قدمين. انظر كتابين في غاية الأهمية ضمن هذا السياق، واحد ل: كيركغارد والثاني حول روح فلسفته و المغزى العميق للقلق و اليأس عنده: 1-Soeren Kierkegaard: Traité du désespoir – traduit du danois par Knud Ferlov et Jean-J. Gateau –collection – édition Gallimard- 1949. 2-Marguerite Grimault: Kierkegaard par lui-même – collection "Ecrivains de toujours" – aux éditions du seuil-1966.
#ديرار_عبدالسلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د
...
-
كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
-
بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه
...
-
هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
-
أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال
...
-
السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا
...
-
-يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على
...
-
نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
-
مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
-
نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|