|
التعليم قد يؤدي دور أداة التقدم والديمقراطية حلقة2
سعيد مضيه
الحوار المتمدن-العدد: 2186 - 2008 / 2 / 9 - 10:48
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
2من3 ورد في تقرير للبنك الدولي صدر مؤخرا أن التعليم قد تدهور من عدة جوانب في الأقطار العربية كافة. وتدهور التعليم جزء من حالة تخلف بنيوي للمجتمعات العربية يتجلى فيها التدهور في جوانب الحياة كافة ، الاقتصادية والسياسية والتعليمية – الثقافية والاجتماعية. كان التخلف سبب علاقة التبعية التي انتظمت بين المجتمعات العربية والغرب؛ وكرست التبعية، متجسدة بنظام الكولنيالية ثم الاستعمار الجديد فالعولمة، وقائع التخلف في المجتمعات العربية.
لم تعد وظيفة العلم كقوة إنتاج رئيسة موضع تساؤل في حياة المجتمعات المعاصرة، ولم يعد التعليم مجرد تنوير. فالمدرسة والجامعة اضطلعتا وتضطلعان بدور أساس في تغيير نمط حياة المجتمع؛ كما أن بروز العلماء والباحثين والمكتشفين والمبدعين باتت مشكلة وطنية ومظهرا للتقدم الاجتماعي. تقوم علاقة جدلية بين قوة المجتمع المعنوية والمادية، الاقتصادية و العسكرية والسياسية، وبين إنتاج العلوم والتقاني، وإشاعة المنهجية العلمية في مقاربة معظم قضايا المجتمع. ومن أبرز معالم التخلف الرابض على الأرض العربية حقيقة أن إنتاج مجموع الأقطار العربية وعدد سكانها ثلاثمائة مليون، من الصناعة والزراعة ( باستثناء النفط والغاز) يعادل ما تنتج فنلندا ذات الخمسة ملايين نسمة. التفكير العلمي ركيزة أساس للتحديث والعصرنة، فهو الشرط الأولي لتعقيل مظاهر الحياة الاجتماعية كافة. وحيث ينشط العقل ويترعرع في الميدان العلمي فإن إدخال العلم في الحياة الاجتماعية، وفي الإنتاج بالدرجة الأولى، يسهل عملية إخضاع حياة الأفراد وسلوكهم لمقتضيات العلم فيتحقق التقدم. وحقا ما خلص إليه باولو فريري، أحد علماء التربية المرموقين من أمريكا اللاتينية: "الفكر يتحول إلى عملية لفظية، دون اقترانه بالعمل، والعمل بدوره يتحول إلى نشاط ساذج دون وعي لم يسترشد بالفكر". أبرز الدكتور إبراهيم بدران، من الأردن، هذه العلاقة الجدلية، وركز على أهمية تنمية العنصر البشري لتحقيق المعاصرة والتحديث في الحياة الاجتماعية. ففي كتابه " نحو استراتيجية وطنية للثقافة المجتمعية "( إصدار أمانة عمان الكبرى ، عمان 2004). يقول في المقدمة " ما لم تكن هناك استراتيجيات وسياسات وبرامج لتطوير الثقافة المجتمعية فإن تجاوب المجتمع مع متطلبات الحداثة والمعاصرة والانطلاق إلى المستقبل المبشر في القرن الحادي والعشرين سيكون تجاوبا بطيئا وضعيفا من شأنه أن يكلف المجتمع ملايين الدولارات تذهب هباءً بسبب عدم الجاهزية الفكرية والثقافية للمجتمع، أو بسبب عدم الكفاءة والفاعلية". وعقد الدكتور بدران مقارنة بين الأردن وكوريا الجنوبية، بيّن فيها أثر العلم في ترقية حياة المجتمع. فكوريا الجنوبية لم تذكر في الإعلام العالمي إلا أثناء الحرب الكورية أوائل عقد الخمسينات، وكانت محمية أمريكية لا يزيد دخل الفرد بالمعدل عن بضع مئات الدولارات في العام. وحاليا قارب معدل الدخل السنوي العشرة آلاف دولار، بينما البلدان العربية تراوح في دائرة الفقر والتردي. والجدول التالي(المصدر السابق،ص17) مؤشر ذو دلالة: كوريا الأردن ترتيب التنمية البشرية 30 90 نصيب الفرد من الناتج المحلي($) 9600 1750 الصادرات الإليكترونية( دولار لكل فرد) 3700 500 الإنفاق على الصحة ( دولار لكل فرد) 518 131 الإنفاق على التعليم ( دولار لكل فرد) 394 97 الاختراعات المسجلة 9,3 ـ ( لكل عشرة آلاف نسمة من السكان) الإنفاق على البحث والتطوير 260 3,5 ( دولار لكل فرد) المرأة في القوى العاملة( نسبة مئوية) 44 15 المرأة في القوى العاملة الماهرة (نسبة مئوية) 34% غير متوفر
ونبقى مع الدكتور بدران: في ظل الثورة العلمية التكنولوجية تتقارب ثقافات النخب مع الثقافات العامة للمجتمع، وذلك في المجتمعات المتقدمة، بينما تتسع الفجوة بين ثقافة المجتمع وثقافة النخبة في المجتمعات المحافظة. في مجتمع متقدم يتم التخلص من الأميات الست: أمية القراءة وأمية الكتابة وأمية الحاسوب والأمية العلمية والأمية الثقافية وأمية المهارات ، فتنحسر المسافة بين النخب وبين المجتمع بأسره في الحياة اليومية وفي أسلوب التفكير وفي الاحتكام إلى العلم والعقل والقانون، وفي المشاركة في هيئات المجتمع المدني، وكل النشاطات المتعلقة بالإنتاج السلعي والخدمي والمعرفي، ( المصدر نفسه ، ص19 ). وهناك العديد من المؤشرات التي تلح بالتحفظ على النظرة الوردية للدكتور بدران. ففي الولايات المتحدة، أكثر بلدان العالم إنتاجا للعلوم والتقاني وتنتج تسعين بالمائة من المكتشفات العلمي العالمية، ينتشر الشعوذة في العلاج الطبي ، إلى جانب علوم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة. العلوم الإنسانية مسرح للصراع الاجتماعي والسياسي، إن مختلف النظريات والفرضيات في علوم الاجتماع والإنسانيات إنما تستلهم مصلحة طبقية، وهي منحازة طبقيا للمصالح المهيمنة والقوى المحافظة. وقريبا جدا رفضت دور النشر الأمريكية إصدار كتب تناهض السياسة الرسمية للولايات المتحدة وتنتقد هيمنة اللوبي اليهودي داخل الولايات المتحدة. إلا أنه بوجه عام وفي مجال علوم الطبيعة في عالم اليوم تسهم الأبحاث العلمية ومختبرات البحث العلمي في الجامعات ومؤسسات الإنتاج في تطوير القدرات الاقتصادية والسياسية والثقافية، كما أن هذه القدرات تشكل العامل المحفز لعمل مراكز البحث العلمي. وهذا يلقي الضوء على دور العنصر البشري المؤهل للقيام بالأبحاث العلمية، وكذلك على رسالة المدرسة والجامعة في إعداد الباحثين والمفكرين والمبدعين، ليس فقط في مجالات العلم والتكنولوجيا، إذ المنهجية العلمية تتغلغل في ثنايا الحياة الاجتماعية كافة، في مجالات الأدب والفنون والفلسفة والنشاطات الثقافية كافة. ومن ثم تنطوي على أهمية استثنائية ترقية وظيفة المدرسة إلى إعداد العقل الباحث والمبدع، بدل التعويد على الحفظ والنقل والتلقين. ورث العالم العربي عن العصر الوسيط تقديم النقل على العقل، ولا زال هذا أحد تقاليد العملية التربوية في عصر ثورة العلوم والتكنولوجيا. المنهجية العلمية نقلة حضارية
تميز العصر الحديث بتطور علاقة دينامية متبادلة بين العلم ومنهجية النشاط الاجتماعي والنشاطات الإنتاجية، المادية والفكرية. وأثمرت هذه العلاقة الحيوية ظواهر إيجابية في الحياة الاجتماعية شملت الإنسان والثروة الوطنية وتقدم الفكر والعلاقات الاجتماعية وتعزيز سيطرة الإنسان على البيئة الاجتماعية والطبيعية. تقدم العلماء الحركة الثورية وسقط بعضهم ممن تجرأوا على دحض المفاهيم الثابتة والأفكار المقدسة، لكنها خاطئة. مرحلة احتاجت إلى قوة الطبع وسمو الأخلاق وصلابة الإرادة، بحيث تجاسرت على رفض ثوابت راسخة في القيم والمعايير والتقاليد. سقط جوردانو برونو ضحية المحكمة الكنسية، وكاد يلاقي نفس المصير غاليليو لولا انه تراجع عن نظرية كروية الأرض ودوران الكرة الأرضية حول الشمس. وسقط الكثيرون تحت التعذيب في الأنفاق الأرضية للكنائس، وفي محاكم التفتيش. نسوق هذه الوقائع الهمجية لأن التهجمات المغرضة المتجنية تلصق الإجراءات الهمجية العنيفة بالتجربة الإسلامية وحدها. تجلت الثورة العلمية الأولى شموخا على العنف الهمجي، وتحررا من سلطة السلف وانتصار النظرة النقدية التي ترفض الحقائق السرمدية وقدسية الأفكار، وأخضعت جميع الأفكار للتجربة العملية. باتت النظرية مرشدا للعمل وأداة لسبر أغوار الموضوع وبنية من الأفكار القابلة للاختبار. هكذا عبَر العصر الحديث معارج التطور التاريخي، فاكتسب التحديث مضمونه العملي المجسد وبدواته العلمية المظفرة، ورؤيته العلمية الثاقبة ومنهجيته في تحويل الواقع ، وتغيير الأوضاع الاجتماعية نحو الأفضل والأنبل. لم تقتصر المنهجية العلمية على مقاربة علوم الطبيعة، فقد انداحت على مقاربة قضايا الفكر والطبيعة والمجتمع ، حتى تعليم اللغة بات يسترشد بالمنهجية العلمية. تميزت المرحلة الأولى من الثورة العلمية بنهوض عارم في مجالات الإنتاج المادي وازدهار العلوم الطبيعية والاجتماعية. كان الإنتاج المادي قاطرة التقدم في مجال العلم الطبيعي، إذ تقدمت الصناعة لتطور الميكانيك واستدعت إنشاء الجامعات والأبحاث العلمية وتطوير مختلف العلوم. كان التطور يتم بالتفاعل الحي والخصب بين الممارسة العملية وحاجات الإنتاج وبين العلوم الطبيعية والفلسفة: وضعت أسس العلم التجريبي المنهجي، وحلت التجريبية محل التأمل الفلسفي، فانفصلت العلوم واحدة بعد الأخرى عن الفلسفة، فتطورت العلوم وازدهر الفكر الفلسفي. استدعى تطوير الإنتاج تنظيم الرحلات وتحقيق الاكتشافات الجغرافية التي عادت على طبقة الرأسماليين بأرباح مجزية ومواد جديدة للصناعة. رغم بشاعة النهب الرأسمالي لثروات الشرق ورغم الاستغلال بلا رحمة لجهود العمال المحليين. فقد حققت الرأسمالية ثورة في الإنتاج السلعي والعلمي، وحفزت حركة الرحلات الاستكشافية وصُنعت البواخر الضخمة وحفزت على إحداث ثورة المواصلات والاتصالات. في هذه الأثناء انفصلت علوم الرياضيات عن الفلسفة، فتحرر الطرفان وشرعا رحلة التطور. وفي القرن الثامن عشر انفصلت الفيزياء عن الكيمياء، إذ حول بويل الكيمياء إلى علم، واكتشف هارفي الدورة الدموية فأسس لعلم الفيزيولوجيا ، ثم حدث انفصال بين البيولوجيا والجيولوجيا ، دشن اكتشاف الخلية ظهور علم البيولوجيا. وفي القرن التاسع عشر برزت العلوم الاجتماعية. وفي أواخره مع بروز الحركات الجماهيرية ظهر علم النفس الاجتماعي بنموذجه المبسط والتأملي يبحث في آلية النفسية للجماعة البشرية على يد غوستاف لوبون. تمخضت الطبيعة عن أربعة أشكال لحركة المادة تتدرج من البسيط فالأعقد، وكل نموذج متقدم للحركة ينطوي على أشكال الحركة للنماذج الأدنى. أبسط أشكال الحركة هو الحركة الميكانيكية ثم الفيزيائية فالكيميائية ثم البيولوجية. وأخضع المجتمع البشري للبحث العلمي. أثبت علماء الجيولوجيا والفلك أن المادة في حالة تطور دائم، فدخل مبدأ التطور على علوم المجتمع والإنسان... ظهور الجديد وتلاشي القديم. كل تكوين مادي لا بد أن يرتبط بصورة مباشرة او غير مباشرة بالتكوينات المادية الأخرى. فليس في الكون أشياء معزولة مطلقا ثابتة لا تتغير. فتهيأت الأسس العلمية للتوصل إلى الفكر الجدلي، فكر الترابط والتشابك على المديين الأفقي والرأسي، المكان والزمان، ثورة فى طرائق التفكير. الجدل أو الديالكتيك هو الفكر الوحيد القادر على استكناه حياة المجتمع البشري، نظرا لما تنطوي عليه من تراكيب وتعقيدات متشابكة. في أواخر القرن التاسع عشر تحولت المنهجية العلمية من الفرز بين أشكال الحركة إلى الدمج بين تخوم العلوم المتقاربة، فظهرت الفيزياء الكيمائية، التفكك الإليكتروني ، البيولوجيا الكيميائية الخ. تجسدت المنهجية العلمية في القرنين السادس عشر والسابع عشر بالنظرية الميكانيكية الظاهرية، والتي استخلصت أولا من ظواهر الطبيعة ثم طبقت على المجتمع في نظرية العقد الاجتماعي. ومن أعلامها نيوتن وديكارت. غير أن مفهوم المنهجية العلمية يتسع ويكتسب مضامين جديدة مع كل قفزة يحرزها العلم. وهذه حقيقة يجب أن لا تغيب عن البال. ففي المنعطف الثاني جاءت النظرية التطورية للطبيعة والمجتمع، ثم نظرية آينشتين النسبية فالنظرية المنظومية التي شكلت المنعطف الرابع وتقوم على مبدأ التفاعل والتشابك." وأي من النظريات العلمية المختبرة لا تستطيع الزعم بامتلاك الحقيقة المطلقة في وصف الأشياء او الظواهر المادية أو الحيوية أو الإنسانية، وهذا يدعو بالضرورة إلى تكامل المناهج العلمية في الدراسة بطريقة متوازية توظف فيها أساليب التحليل والتركيب والترابط والتفاعل في كلية الظواهر تحت الدراسة"، وذلك ما خلص إليه الدكتور حامد عمار، الخبير المصري البارز في التربية. ومضى إلى القول غدت "الرؤية المنظومية إحدى ضرورات المعرفة العلمية في السعي للاقتراب الشامل والدينامي في مجالات العلوم الاجتماعية المختلفة، وفي العلوم البيولوجية والاقتصادية والتربوية والنفسية والطبية" . حدث انقلاب في النظريات العلمية وفي الفلسفة، إذ تزامنت الثورتان العلمية والفلسفية. في نسيج المجتمع الصناعي ينشأ الإنسان المفكر والعلاقات الاجتماعية المتقدمة والوعي العلمي ويتم تجاوز التقاليد البالية من اجل متطلبات العقل والحرية وشيوع المنهجية العلمية في تناول مشكلات المجتمع وحاجاته. فقد تميزت المجتمعات الصناعية بتغلب الذهنية العلمية، وأوجدت استراتيجية البحث العلمي، المتكأ للمعالجة العقلانية والناجعة لمختلف القضايا الاجتماعية. "الفلسفة تلازم العلم في مسيرته بمعنى أن كل ثورة علمية تلازمها ثورة فلسفية وتتزامن معها. لكنها لا تتطور بالوتيرة التي يتطور فيها العلم. فالفلسفة معركة دائمة فيها كر وفر متواصلان، أما العلم فهو في تقدم دائم، في وضع ثوري دائم. فهو إما أن يتقدم بوتيرة متسارعة وإما أن يندثر تماما. أما الفلسفة فهي انعكاس جلي للصراع الاجتماعي التاريخي، ومن ثم فهي تشهد ثورات وثورات مضادة تكون في العادة متشابكة معا حتى في الفيلسوف الواحد وفي الفلسفة الواحدة. وتبين أن الثورة والثورة المضادة تتشابكان معا حتى في فلسفة ديكارت، أبي الفلسفة الحديثة، وإن كان عنصر الثورة هو المهيمن فيها وفي فلسفة عصر الثورة العلمية الكبرى ( القرن السابع عشر) بصورة عامة".(د.هشام غصيب/الثورة العلمية الكبرى / مجلة الطريق، العدد الأول 2001. ص9 ). كل ما اجترح من تطورات في أوروبا صعد على رافعة العلم ومبتكراته، وانطلق بقوته الدافعة. كان استحداث معدات حربية جديدة حافزا لتحرير الأقنان من عبودية الإقطاع كي يمكنهم استخدام معداته. كما أن حاجة الصناعة المتطورة إلى الأيدي العاملة شجع على تحرير الأقنان وانتقالهم إلى المدن. وعلينا ان نرى أهمية الدور الذي أعطته الكنيسة البروتستنتية لنشوء العهد الرأسمالي الذي كان حينئذ نظام المستقبل وتجاوز النظام الإقطاعي الراكد المتخلف. وعلينا أن نرى مدى أهمية الدور الذي أعطته الكنيسة البروتستانتية للعمل الذي هو منشأ القيمة الزائدة في النظام الرأسمالي. ونرى هنا بوضوح البروتستانتيين عادوا إلى بعض مفاهيم الماضي ليشقّوا غمار المستقبل. لم يتوفر للثقافة العربية ما وفرته للثقافات الأوروبية الثورات العلمية – التقانية المتعاقبة عبر القرون الأخيرة: نهضة التنوير الأولى وما واكبها من انتصارات لقضية التحرر من غيبيات العصر الوسيط واستلاب الإنسان وقهره، وما تولد عن ذلك كله من جمود فكري. أنهت روح القوانين والثورة الفرنسية الحكم المطلق والكنيسة والإقطاع؛ وفي القرن التاسع عشر تم الانتقال الى الفلسفة الوضعية والأفكار الاشتراكية، الطوباوية والعلمية، والجدل المادي والمادية التاريخية.. وانتقالا الى الثورة الاشتراكية والثورة التكنولوجية والعلمية وفكرة التطور وفكرة النسبية وفكرة اللاوعي واستكشاف الفضاء .. إبان القرن العشرين .. فكل من المنجزات التي نتداولها يستند إلى كم هائل من المخترعات والاكتشافات العلمية. وكذلك المفاهيم الفكرية مثل الجدل ( الديالكتيك)والطاقة والتجريب والمادية والمثالية الخ مفردات دخلت في جوهر الحياة الاجتماعية للغرب، مقرونة بكم زاخم من المعارف والخبرات العملية، وما استتبعته من القيم والمعايير ثم النظرات الجمالية المنطوية في الفنون والآداب. من الطبيعي ان تستوعب هذه المفاهيم في مجتمعات الغرب المتقدم على نحو أغنى وأشمل وأكثر عيانية وواقعية مما نفهمه ، نحن الذين لم نعايش مكتسبات العلم ولم نكابد تطبيقاتها في مجالات العمل والإنتاج. ترددت شعوب الشرق في اجتياز الحواجز وبقيت تراوح عند تخوم التحديث وتتلقط بعض ثماره دون أن تكابد التجربة . خلال هذه المسيرة كان إعمال العقل طريق المعرفة، "ومن لا يعمل عقله لا يمكنه أن ينقد شيئاً، ومن لا ينقد شيئاً فانه مغترب وسيظل على اغترابه". كيف يتأتى إنتاج ثقافة حرة متطورة، حسب ما يطالبنا واقع التخلف، ونحن مكبلون بمختلف القيود؟ وكيف لنا أن نلبي مطالبته المتكررة "بإعمال العقل المودع بأجسادنا" إذا ما ألغيت حرية العقل وحقه المقدس بالنقد وإذا ما سلب قدراته على النقد والابتكار والإبداع والتجديد وأرداه جثة هامدة لا حراك فيها. خلاصة القول انطلق الفكر الأوربي بجملة إبداعاته وحداثاته وفعالياته بسبب الخميرة الفكرية التي ترّكب عليها، فهو نتاج تاريخ رائع من تطور العلوم وتوالد المعرفة. هيمنة الغرب
يضاف إلى ما سبق من معيقات هيمنة الغرب اقتصاديا وسياسيا وثقاقيا وعسكريا على مقدرات المجتمعات المتخلفة. باتت سالة جوهرية، تلك التي لاحظها روحي الخالدي في زمن مبكر وتطورت إلى ظاهرة مقلقة تشكل خطرا جاثما على البشرية جمعاء. فالرأسمالية ليست كلها شر ولا تخلو من الشرور. والتقدم العلمي المسخر لتطوير الإنتاج من أجل حصد أقصى الأرباح تورط في مثالب وسلبيات: في بلدانها عمدت الرأسمالية إلى الحط من القيم الإنسانية، واستثمرت طرائق العلم في تشويه إنسانية البشر. إن المصالح الأنانية المركزة حول الربح الأقصى عمدت في كثير من الحالات إلى عزل الباحثين عن المجتمع وعن نتائج أبحاثهم، ما سهل تكريس نتائج البحث العلمي في صناعة الموت وتحقيق الهيمنة الكونية على حساب حريات الأمم وحقها في التقدم والعيش الكريم. قوضت الرأسمالية الكثير من القيم الإنسانية. فتطوير العلوم دون أهداف تلتزم بتطور الإنسان أخذ يولد مشاكل جمة للبشرية، وعلى رأسها الحروب المدمرة. كما أن إهمال الإنسان يمسخ العقل ويربي العنصرية، ويدفع إلى التطرف. ويلقي الضوء هنا ما قاله أحد العلماء الحائزين على جائزة نوبل، جورج فالد، أستاذ العلوم البيولوجية، في محاضرة له عام 1969 أثناء زيارة قام بها لمعهد ماساشوسيتش للتكنولوجيا، أضخم المعا هد الأكاديمية التي تعمل بعقود مع البنتاغون. فقد قال ،" باتت حكومتنا مشغولة بالموت ، مشغولة بعالم أعمال القتل ، تقتل وتُقتل" . شاء مكر التاريخ أن يحرز قصب السبق في التطور العلمي والإنتاجي منطقة جغرافية جنت لنفسها ثمار الثورات العلمية والتقانية المتوالدة. والنتيجة حرمان منطقة أو مناطق جغرافية شاسعة تضم القسم الأعظم من البشرية، في ما بات يسمى البلدان النامية من ثماره، الأمر الذي قسم العالم بين مهيمن وتابع، وعمق التفاوت في القوة المادية والمعنوية بين طرف متقدم وآخر متخلف وفي الصدارة منه الأقطار العربية والإسلامية. تمخض التفاوت عن علاقات غير متكافئة في النظام الدولي جوهرها الاستغلال و الاستتباع والإكراه. أفضى إجهاض مشروع النهضة العربية على مشارف القرن العشرين إلى تبعية فرضت مراوحة عملية التنمية العلمية وولوج درب التنمية الاقتصادية في دائرة العجز والقعود ضمن الحالة المتردية التي تعاني منها للمجتمعات العربية، حيث تستنزف ثرواتها الوطنية وكذلك عقولها الواعدة. اندفع سيل ازداد تدفقه من المواهب العلمية والعقول في هجرة جماعية للعمل والإنتاج في البلدان المتقدمة. خسرت الأقطار العربية طاقات بشرية مبدعة كان بمقدورها أن تسهم في تطور أقطارها اقتصاديا وثقافيا وسياسيا. مضت دائرة الشر من محسوبية وفساد تغلغل في نشاط البيروقراطيات المحلية سعت لاستبعاد الكفاءات وتضييق مجالات العيش الكريم أمامها، مستندة إلى القهر والفساد الإداري والمحسوبية. سدت سبل العمل بوجه العقول المبدعة في مواطنها، ذلك أن الكفاءة في الموضع المناسب تفضح عدم كفاءة العناصر المستندة إلى المحسوبية والفساد لدى البيروقراطية المتنفذة، فاضطرتها للهجرة. وتلقفتها البلدان المتقدمة التي ساندت الاستبداد والمحسوبية والفساد في مواطن الفقر. وهناك متغربون لم يدركوا القيمة الوطنية لمواهبهم فقصروا الرؤية على المصلحة الذاتية. فالعلم في مجتمع يمجد الربح قد يناقض المبادئ الخلقية، إذ يفاقم المخاطر على حياة البشر ويزيد احتمالات تدمير البيئة أو تدمير الحياة. ولمواجهة هذه الأخطار تشكلت هيئات دولية ومحلية وإقليمية لتنظيم شئون البحث العلمي، وإدخاله عنصرا أساساً في الثقافة وتضافره مع الروح الإنسانية والوطنية. وبظهور العولمة المتوحشة أداة استنزاف الحد الأقصى من ثروات الشعوب وكفاءاتها الإنتاجية ومواقعها الاستراتيجية تنمو حاليا عولمة إنسانية تسعى لتجيير مكتسبات العلم والثورة العلمية لمصالح البشرية جمعاء. ففي عصر العولمة لا يمكن العودة إلى الوراء بل استبدال هدف الربح الأقصى بهدف إسعاد البشر. وتعاظمت شرور الرأسمالية بدخولها مرحلة العولمة. عملية موضوعية طرأت على العالم في عصر السطوة المطلقة للاحتكارات عابرة القارات ونزوعها الجارف للأرباح الاحتكارية. اقتحمت العولمة دنيا البشر على شكل احتكارات نهمة تخترق الحدود مزودة بطاقة العلم وسرعته الرهيبة في إنتاج المعرفة وتطبيقها، وإدخال ما سمي "علم التكنولوجيا ". لم يعد العلم سابقا للتطبيق التكنولوجي على الدوام، بل أصبحت مطالب التكنولوجيا توجه أنواع البحوث العلمية. انتهى عصر ختم العلم بشهادة أو إجازة علمية، وبات مصير البشر في مهب إعصار متدفق من المعلومات والتقاني ليس لتراكم رصيده نهاية. شعوب العالم مكرهة على التعامل، إما بوعي وتقصد وإدارة واعية، أو الانجراف مع التيار المتدفق لمنجزات العولمة في لجج مجهولة المسار. مقابل التقدم العلمي الكاسح وبالارتباط معه حملت العولمة الحروب وتلوث البيئة وانتشار الفساد والتفسخ الاجتماعي والصراعات العرقية والطائفية والقبلية. إنها مظاهر التوحش الرأسمالي. والإشكالية الماثلة بوجه شعوبنا إنما تتجسد في أسلوب إدارة المواجهة، وأمامها طريقان: فإما الاندفاع في لججها بغير تبصر فتغرق في لججها أو تقذف بها إلى حيث لا تدري من أسماك القرش أو الشطئان البرية. والبديل الآخر يعمل التبصر الذكي لفهم خلفيات العولمة وعوامل إنتاجها، والإدارة الواعية في توظيفها. يتطلب الأمر الفهم والتوظيف والفعل ورد الفعل لوجهي عملة العولمة، وما يترتب على ذلك من تنمية وتطوير للخصوصية وشحذ الإرادة لتطوير الفكر والقيم والقدرة الإنتاجية، وما تستلزمه من تطوير وتجديد لتنظيماتها المجتمعية. فتحدي نزوع العولمة لمحو الحدود وشطب الخصوصيات الثقافية من اجل صياغة إنسان نمطي تسيره إيحاءات العولمة، إن هذا التحدي يصب في تنمية الهوية القومية ، حيث الهوية كيان ينمو ويتطور عن طريق ما تصنعه الشعوب وتكتسبه بالممارسة . الخصوصية الحضارية ليست معطى جامدا ينقل عبر الأجيال، إنما هو كائن حي يتطور ويغتني. الخصوصية الثقافية، وتعني الهوية، لا تعطى مرة واحدة وإلى الأبد، بل هي معطى متطور يغتني بالقيم والمهارات والأفكار. فقضية العلم واستخداماته لا تخص العلماء ومختبرات البحث العلمي فقط، إنما هي قضية المجتمع والإنسانية، إحدى قضايا التقدم والديمقراطية.. يتبع
#سعيد_مضيه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التعليم قد يؤدي دور أداة التقدم والديمقراطية
-
دلالات سياسية لتقرير فينوغراد
-
إسرائيل لا تتازم وخياراتها مفتوحة
-
غطاء لجرائم الحرب بتفويض أمريكي
-
مشاكل التقدم في المجتمعات التابعة
-
حكم الشوكة والأمن القومي
-
صوت التوحش المتقحم من أدغال الليبرالية الجديدة
-
هل تدشن زيارة بوش مرحلة تفكيك المستوطنات؟
-
فهلوة مرتجلة
-
جردة حساب عام ينقضي
-
بؤرة التخلف الاجتماعي
-
العجز عن الارتقاء
-
منبرللتنوير والديمقراطية ومناهضة العولمة
-
أخلاقية النضال التحرري وتحديث الحياة العربية
-
إشهار أخلاقية النضال التحرري وتحديث الحياة العربية
-
بعض ظاهرات الإعاقة في الحياة العربية
-
إسرائيل : وقائع التاريخ تنقض الإيديولوجيا
-
نظام شمولي محكم يسود الولايات المتحدة الأمريكية
-
المحافظون الجدد ينتهكون حرمة الحياة الأكاديمية
-
تمويه سياسات التوحش بالتبذل الإيديولوجي
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|