|
كلاب بافلوف والكلاب العراقية-الحلقة 5- الأخيرة
علي ثويني
الحوار المتمدن-العدد: 2184 - 2008 / 2 / 7 - 03:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حلول بافلوف وعراق اليوم لم يكن بافلوف مقتصرا في تجاربه على كلبه الذي سال لعابه عندما دق جرس حضور الطعام، بل تعداه الى أكبر وأصغر الحيوانات بحسب الحاجة والطبيعة. وثمة الكثير من تلك التجارب التي يمكن تطبيقها باعتداد على نفوس العراقيين اليوم. ومنها مثلا تجربته على الفئران، التي وضعها على صفيح ساخن وبدأ يرفع درجة الحرارة تدريجيا ،حتى بدا عليها اضطراب وهاجت وماجت عشوائيا ، وتعالى قلقها تبعا لزيادة حرارة الصفيح من تحتها، حتى تداعى أن بعضها شرع ينهش لحم البعض الآخر ، والأمر يوحي بأن غرائزها جعلتها تعتقد أن سخونة الأحوال تردها من محيطها ومن أقرانها من الفئران،وليس من الصفيح الذي تحتها. وهذا ما ينطبق على العراقيين اليوم،حيث أن حالة المخاض والاحتلال والإنكسار واحتدام الصراعات والطمع والتكالب الخارجي على الوطن العراقي وفساد الحكام وحمى الفرهود،جعله يوجه نقمته لأقرانه وأهله،وليس على مصادر القتل التي أشاعها المحتل أو الدواب المفخخة والأموال المقنطرة القادمة من أصقاع العرب أو أسلحة ووسائل الدمار الواردة من أصقاع العجم ، كي لايرتقي هذا البلد. تغربت عن العراق لثلاثة عقود ،و رصدت حين زيارتي بعيد سقوط البعث عام 2003 ، بأن الإنسان العراقي لم يعد مبادرا ومتفتق البديهة مثلما عهدته، ورصدت أنه يخشى التصريح عن أفكاره وفك شفرات نفسه ، وينتظر من محدثه إبداء الرأي أولا والتأكد من سلامة نواياه، كأن لايكون مندس وتابع لأجهزة المخابرات التي هي الوحيدة التي تطورت في عراق البعث. وبعد ذلك يبادر العراقي أن يتفق معه أو يسكت مجاملة تنم عن أدب إجتماعي جم بعدم الرغبة في التجريح والإحراج،ولم ألتمس رأي يروم صاحبه الإعلان عن توجه مكامل أو مفاضل لما طرح في الحوار. و ينطبق هذا الأمر على تجربة بافلوف التي أجراها على البراغيث،حينما تركها تعبث وتقفز على فطرتها في صندوق زجاجي دون حدود، لكنه أعاد وضعها في صندوق أوطأ ووضع فوقها غطاء من الزجاج، فقفزت البراغيث على سجيتها،لكنها أصطدمت كل مرة بالسقف الزجاجي ثم سقطت. وريثما ألفت البراغيث حدود السقف الجديد بعد فترة وتحاشت التصادم معه، أعادها لصندوقها الأول، فرصد بأنها تقفز الى حدود مستوى السقف الزجاجي الآخر الذي تعودت عليه،ولم يعد لديها القدرة على إجتياز حدوده ، وهذا ما حصل مع العراقيين ،حينما حدد البعث سقف تفكيرهم، وأحصى عليهم أنفاسهم، وأشاع التوجس والريبة بينهم ،وشجع التجسس وحث على كتابة التقارير الكيدية على بعضهم.وبذلك عانى العراقي من خشية قول أو كتابة شئ يؤول سلبا لدى (القائد) أو توجهاته التي يطبقها كلابه المبثوثين في المجتمع بعناية ،وبذلك يذهب برجليه الى الموت كما حدث مع وزراء مثل راجي التكريتي وغيره التي لم يشفع له مؤهله ولا تكريتيته.وبسبب ذلك أنحسرت جذوة المبادرة في النفس العراقية، وسطحت مفاهيم الناس،وسفهت ملكاتهم ، بعدما وضع لهم سقف للتفكير والمبادرة أو (القفز)، فأمسوا بالنتيجة مثل براغيث بافلوف. واليوم نلمس الهروب الجماعي للعراقيين ،بالرغم من أن العراقي مسجى على نبذ الهجرة، وأعتبرت بيئته مستقبلة وغير نابذة للبشر وان العراق كان دائما بلد مقر وليس ممر(ترانزيت) كما يراد له ولاسيما من قبل أصحاب النزعات الذيلية والدونية كما القوميين بألوانهم من عرب وكرد والأممين الذين أنحسروا والحمد لله ،والطائفيين الذين تصاعدوا اليوم ونهايتهم وخيمة وقريبة. وتنطبق تلك الشجون مع إحدى تجارب بافلوف،حينما جلب دبة انثى ،وأختارها عنوة كون الدبة تعتبر من أكثر الحيوانات الحاملة لغريزة الأمومة والشغوفة بجرائها. فوضعها في قفص مع صغيرها وسخن تحتها صفيح كما فعل مع الفئران،وبدا يصعد من حرارته، فطفقت الدبة تلوذ بابنها متلظية حامية له . لكنها وبعد أن أمست حرارة الصفيح تشكل خطرا حقيقيا على حياتها نفسها، اضطرت مكرهة أن تضع وليدها تحت قدميها لتحمي نفسها، وجعلته قربانا لبقائها على مبدأ (ياروح ياما بعدك روح). وهكذا فان العراقيين اليوم يتركون نفيس ما جمعوا في حياتهم،وحتى ديارهم واولادهم،أو حتى منهم من باع إبنه كما هو شائع من قصص اليوم، وكل ذلك تحت سطوة غريزة البقاء، بعدما أشاع الجوع والعوز و الموت سطوته وقانونه.وجدير أن نذكر هنا أن غريزة الأمان تأتي بعد غريزة الأكل والبقاء في سلم الغرائز. ويبدو أن عزة النفس والإعتداد بالذات فروع لغرائز لم يثبت نصابها لكن تطبيقات ترويضها قد تجسدت لدى الجماعات والأفراد. وأضرب المثل في أن لو كان الإحتلال الأمريكي حدث عام 1960 لهب الناس ضده ولكان للأمريكان مصاعب جمة فيه وربما كانت هزيمتهم مجلجلة وأكبر من هزيمتهم في فيتنام التي تؤرق هناء عيشهم حتى اليوم. بيد أن الاحتلال أجل الأمر صابرا صاغرا 40 عام ، تم خلالها ترويض العراقيين ورفع فتيل الإعتداد من طباعهم، حتى أمسى الأمر مقبولا لديهم، فمن إذلال بعثي مقيت الى أمريكي دموي إبليسي يقتل القتيل ويمشي بجنازته كما حدث قبل أيام في تفجير الزنجيلي في الموصل. ولمن لايصدق الأمر فليحكي له أحد العراقيين الذي عاشو الإذلال البعثي خلال عقدي الثمانينات والتسعينات ليتيقن أن ثمة خطة أمريكية طبقت على أيديهم للتحضير للإنقضاض على العراق دون تقديم خسائر وأضاحي لذلك الصيد الثمين، وهو ما يحدث اليوم، فقد تعامل العراقيون مع الأمر على مبدأ لا يضير الشاه سلخها بعد نحرها. كان طرقنا للنفس وعلومها في المقدمات لسبين أحدهما كون 90% من العراقيين اليوم يعانون من أمراض نفسية، ويجدر من الوعي العراقي والنخب الحث على وضع خطط للعلاج الجماعي والفردي ، وإذ نعده أولى من البنية التحتية وإعادة الأوابد والمعالم ، فبناء النفس أولى وأبقى. والأمر الثاني هو علاقة علم النفس بالإجتماع البشري والذي هو محك ساخن في أحوال العراق اليوم ، فإشكاليتنا تكمن في أننا شعب من أرومات أصلها بدوي سواء كانت عربية أو كردية أو تركية أو فارسية أو تترية أوقوقاسية، وكلها شعوب هاجمت العراق وسكنته وتهاجنت دمائها في سكانه، وشكلت جوهر الصراع الأزلي بين البداوة والحضارة أو الرمل والطين، وهو جوهر إشكاليات العقد الاجتماعي بالأمس واليوم وغد. فإذا كان المرحوم علي الوردي قد أستل شعرة أو خصلة من فروة ، فأن على علماء النفس والإجتماع اليوم مهام جسام في فلّيها، وتكملة مشوار طويل النفس .، وإذ أعد أن وجود مختصين بهذين المجالين(الإجتماع –النفس) أهم للعراق من الأطباء والمهندسين في شتى المجالات، واللذين يأتي دور بنيانهم مكملا للأساس النفسي والاجتماعي الذي يكتسي أولوية اليوم. أن مشكلة العراق الأزلية هو مكوث البداوة في ثنايا الحضارة مثل الجرثوم المدمر لها وغير المكسب للمناعة لجسمها، فهو تناقض فضيع بين بيئة حضرية جوهرها الطين والفلاحة والإستقرار وأرومات تحمل عقليات رعوية بدوية مراهقة نزقة تتبع لسطوة غرائزها السلبية. وبالرغم من إقرارنا اليقيني بأن العراق يمكث مقبرة للبداوة فأنه سيعاني الكثير لحين ترويضها وإقحامها متوائمة مع بيئتها الجديدة. فصراع عقلية البداوة من أجل البقاء حتى لو أن الله مّن عليها بغلة وافرة وطين وماء جار فأن في بواطنها تمكث نزعة للإستحواذ ونخوة للتناحر والمغالبة وعدوانية متجذرة وغرور يحاكي غرائز الخروف حينما يحل في بيوتنا مسكينا ثم نعلفه(الجت) لنجده بعد أن يشبع يصبح نطوحا عدوانيا نخشى منه على سلامتنا. أن تلك الروحية العدوانية المتقلبة قد التقت مع سجية محلية متسامحة مهادنة وقابلة بالآخر ،وبمحل ما تنخرط في عوالمه وتنصاع له فأنها لجأت الى نزعة الإستحواذ والإغتنام والإحتياز مثلما حدث بين السومريين والأكديين واليوم بين البداوة الكردية والعربية والمجتمع العراقي. وهنا يجب التفريق بين مصالح آنية وأنانية يقودها سدنة البداوة حفاظا على ديمومة مصالحهم وبين رعاع تابعين صاغرين ينقادون كالقطيع من أجل مآرب الإستحواذ والغنائم والإمتيازات، وكل ذلك يبرقع بحجج الحقوق القومية والمذهبية أوالمظلومية أو الحق التاريخي..الخ.وهذا في رأينا جوهر الصراع بين الوعي والغرائز في قادم أيام العراق. نختم قولنا بتساؤل حركته فينا سجية الشك المتجذرة ، بأن ثمة من يتعمد تجويع "الكلاب" البشرية، من خلال أزمات مفتعلة تطوف العالم وتسحق الجموع دون رحمة. وغيرها بأن هؤلاء يرمون "لكلاب الشعوب" العظام ،بغرض إلهائهم بها وإبتلائهم ببعضهم . ثمة أشباح نحس بوجودها من خلال أفعالها لكن يتكتم عليها الكل. ولحين اكتشاف قمقمها وقتلها كما المارد خمبابا في أسطورة كلكامش، يجدر بنا ترويض الغرائز إيجابا من خلال إشاعة المكارم والجمال وتجسيد روح الإنتماء، فأن العراقي اليوم محوج للنصح والأمر مرهون برجاحة النخب التي يفترض أن تكون السد المنيع الأخير قبل الانهيار الأخير الذي يخشاه الجميع. (أنتهى) د.علي ثويني
#علي_ثويني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كلاب بافلوف والكلاب العراقية-الجزء4
-
كلاب بافلوف والكلاب العراقية.الجزء الثالث
-
كلاب بافلوف والكلاب العراقية- الجزء 2-5
-
كلاب بافلوف والكلاب العراقية- الجزء15
-
عمارة البيوت في سياق الثقافة الكردية
-
حينما غنوا القوميين الأكراد: يا أهلا بالمعارك
-
العمارتان العراقية و الفارسية..مدخل مقارن في الريادة والإقتب
...
-
ماذا جنى العراقيون من التشيع والتسنن؟ الجزء3- الأخير
-
ماذا جنى العراقيون من التشيع والتسنن؟الجزء3- الأخير
-
ماذا جنى العراقيون من التشيع والتسنن؟ الجزء2- من ثلاثة أجزاء
-
ماذا جنى العراقيون من التشيع والتسنن؟ الجزء1- من ثلاثة أجزاء
-
بلاد مابين الفدرلة والفرهدة
-
30 تموز..الأمريكان والبعث وصدام.. خصام أم وئام
-
ثورة تموز... رؤية متروية بعد الحول التاسع والأربعين
-
وزراء البيشمركة وعودة الى لعبة الحرب بالنيابة
-
خان مرجان وعمارة الرمق الأخير في بغداد الجزء22
-
خان مرجان وعمارة الرمق الأخير في بغداد-الجزء 1-2
-
دهمائنا ومخراطيونا والديمقراطية الأمريكية
-
فرنسا الجديدة والعراق الجديد
-
تقسيم بغداد و-...خط البرغل-
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق
...
-
جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
-
فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم
...
-
رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
-
وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل
...
-
برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية
...
-
الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في
...
-
الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر
...
-
سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة
...
المزيد.....
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
المزيد.....
|