|
الخطاب الأسطوري.. والتديّن العقلاني
فاخر السلطان
الحوار المتمدن-العدد: 2182 - 2008 / 2 / 5 - 10:35
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في المقال السابق تطرقنا لموضوع تعددية طرق الإيمان والتديّن، وبينّا أن الخطاب الشيعي الأسطوري ينتمي إلى مدرسة التديّن المعيشي الحياتي التي تهتم بظاهر حياة الإنسان، وأوضحنا أن منهج هذه المدرسة يقوم على استغلال قضايا الدين من أجل تحقيق مصالحها في الحياة من خلال سعي رجال الدين فيها للسيطرة على أمور الناس وربطها بالتفسيرات الغيبية الأسطورية. أما في هذا المقال فسنسلط الضوء على تصوّر هذه المدرسة ورؤيتها تجاه الله، باعتبار أن ذلك سيحدد علاقة تلك المدرسة بالأسطورة، ويوضح كيفية استنادها إلى الغيب، وكيف يرتبط الإيمان والتديّن فيها بظاهر الحياة وقشرها. ثم سنلقي نظرة على مدرسة أخرى تقف في المقابل منها، وهي مدرسة التديّن المعرفي العقلاني. ففي ضوء تعدد واختلاف تفسيرات النص الديني الإسلامي، وبقَدَر حجم ذلك التعدّد، ظهرت رؤى متباينة بشأن التعريف بالله. وفي الخطاب الأسطوري المنتمي إلى مدرسة التدين المعيشي الحياتي، يختلف التعريف بالله عن ذلك الموجود في مدارس دينية أخرى. فالله في الخطاب الأسطوري ليس سوى "الآمر والناهي"، هو جل وعلا "القوة المطلقة" التي تلزم البشر على التقيد بقوانينه فحسب من خلال طرح تشريعات الحلال والحرام والإلتزام بما يجب أن ينفذ وما يجب ألاّ ينفذ، وتلك التشريعات تبدو في غالب الأحيان ذات طابع قشري ومتشدد. فالقوانين الإلهية في الخطاب الأسطوري تسلط الضوء على قضايا التديّن الظاهرية في الحياة أكثر من تركيزها على القضايا الأخلاقية والحقوقية التي تهيئ الإنسان لمواجهة الظلم والخيانة. فمثلا نجد أن الأوامر والنواهي الدينية المتعلقة بقضايا اللباس والطعام تحظى بنصيب وافر من الاهتمام يفوق ذلك الذي يجب أن يعطى لقضايا حقوق الإنسان. كما أن أوامرها ونواهيها هي من نوع الجبر لا الاختيار، من النوع الذي لا يحظى بأي هامش يسمح للإنسان أن يمارس تجاهه حرية البحث والتفكّر والاقتناع. فإما الالتزام بتلك الأوامر والنواهي، وإما فقدان صفة التديّن في الحياة الدنيا والخسران في الآخرة. في حين نجد أن توصيف الله عند الفلاسفة يختلف عن التعريف به في الخطاب الأسطوري، الذي يختلف عنه أيضا عند مدارس أخرى كالمدرسة الصوفية، وبالتالي لا يوجد هناك أي حظر ديني يمنع اختلاف التوصيف من مدرسة إلى أخرى. فالتعريف يساهم في طرح تفسير معيّن وتحديد النظرة إلى الدين، وعلى هذا الأساس يختلف تفسير الدين من مدرسة إلى أخرى انطلاقا من اختلاف التعريف بالله عز وجل وتوصيفه. فمثلما هناك من يعرّف الله بأنه مؤسس لأوامر ونواه وقوانين تنظّم حياة البشر، هناك من يعرف الله بأنه ليس إلا انعكاسا لحالة العشق التي تولدت بين عاشق (وهو الإنسان) ومعشوق (أي الله)، فيما هناك من يعرّف الله بأنه مجموعة من الأسرار التي يجب على البشر الغوص فيها من خلال تشغيل ماكينة العقل. وبالنسبة للإنسان المنتمي إلى مدرسة التديّن المعيشي الحياتي فالله هو الآمر والناهي، هو الجبار القوي المقتدر، لا علاقة له بالأسرار أو بحالة العاشق والمعشوق، هو بانتظار كل مطيع أو عاص ليسلمه شهادة أعماله في الآخرة، وبالتالي كل نبي أو وَلي ليس إلا ناقل لتلك الأوامر والنواهي. وبما أن ماهية وجود الأنبياء والأولياء في الحياة الدنيا لدى هذه المدرسة متعلق بالأسطورة والغيب لا بالعقل، فإن تفسير الدين يعتمد على ما يقولونه ويفعلونه، وهو بدوره يفوق في فهمه العقل البشري، وبالتالي لابد من التقيد بصرامة بكل ما يصدر عن هؤلاء من أوامر ونواهي وبكل ما يقولون أو يمارسون أو تقليد مفسري أقوالهم وأفعالهم، الذي هو في الواقع تقليد مستند إلى نهج الأسطورة والغيب، فأنصار تلك المدرسة يضعون أمامهم طريقا واحدا للهداية لاغير، ويتعين عليهم الالتزام بذلك بصورة صارمة وجازمة غير قابلة للنقاش (لذلك لا يمكن مناقشة المقلِِِّد لأنه لا رأي له، فكل ما يصدر عنه ليس سوى رأي مقلَّده وزعيمه الديني). لذلك لا مجال أمام المنتمين لمدرسة التديّن المعيشي الحياتي لقبول نهج تعددية التفسير الديني وتعددية التعريف بالله. فتفسير الدين عندهم واحد صارم ينطلق من الغيب والأسطورة، لا من العقل الذي بدوره يحاجج الرأي المختلف معه. فتفسير الحق عندهم واحد بحكم التعريف بالله الواحد. في المقابل لا يستطيع أنصار التفسير العلمي العقلي أن يقنعوا أنصار الخطاب الأسطوري الغيبي بقبول التباين في التفسير، فإما سيطرة الأسطورة والغيبيات وإما سيطرة العلم والعقل. وفي حالة الخطاب الديني الأسطوري لا يمكن بأي حال من الأحوال اختيار النهج العلمي العقلي لتفسير قضايا الدين والحياة مقابل التخلي عن نهج الأسطورة والغيب. إن مدرسة التدين العقلاني تعتقد ان الله هو مجموعة من الأسرار التي يجب على البشر أن يغوصوا فيها ويكتشفوها عن طريق البحث والتفكّر. وبتعبير أحد الفلاسفة "إنه الأسرار التي لا نستطيع أن نكتشفها بسهولة. هو كالبحر يحيط بنا من كل جانب، ونحن لا نستطيع أن نحيط به. نسبح في بحر تلك الأسرار، وكلما سبحنا أكثر تعمقنا في الأسرار أكثر". لذلك نجد أن تصور الفيلسوف، المنتمي إلى مدرسة التديّن العقلاني، عن الله والوحي والنبوة والمعاد، يختلف عن تصور الشخص المنتمي لمدرسة التدين المعيشي الحياتي الأسطوري. أي أن هناك فارقا كبيرا بين تفسير يطرح إلها يأمر وينهي فحسب، وتفسير يطرح إلها يسمح بحرية التفكّر فيه ومعرفته وفهمه. فالدين بالنسبة لمدرسة التديّن العقلاني يمثّل "معرفة" الله ونبيّه وأوليائه والوحي والآخرة، هو سعي علمي عقلي لإنتاج تعريفات فكرية وفلسفية دقيقة حول تلك الأمور لكي نستطيع هضمها ومن ثم الإلتزام بها. لذلك تبدو هذه المدرسة قادرة على هضم وقبول التعددية في التفسير الديني، لأن نهجها لا يقوم على التقليد الأعمى وإنما على التفكّر والفهم والبحث العلمي. فلكي يصبح شخص صاحب رأي علمي حول أمر ما – ولو كان متعلقا بالدين – عليه قبول الآراء العلمية الأخرى المختلفة التي تتنازع فكريا معه. فالمنتمي لمدرسة التديّن العقلاني لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقلِد، وإنما عليه أن يتفكّر ويبحث ويطرح أدلته ويقتنع فكريا. لذلك لا يوجد تقليد في هذه المدرسة، ولا صفة رجل دين، ولايوجد من يرتزق ماديا من خلال الدعاية الدينية، وإنما هناك مفكرون وباحثون وأدلة وبحث وتحقيق. فمن السهولة بمكان تمرير أي حديث نبوي على الشخص المقلِد المنتمي للخطاب الأسطوري في مدرسة التدين المعيشي، لكن لا يمكن ذلك عند أنصار التديّن العقلاني المعرفي. كاتب كويتي
#فاخر_السلطان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التفسير الأسطوري.. ومفهوم التعددية الإيمانية
-
التفسير الأسطوري.. وكربلاء.. والحياة الحديثة
-
في نقد التفسير الأسطوري لحادثة عاشوراء
-
أعداء المرأة
-
الخطاب الديني.. والأخلاق.. وحقوق الإنسان
-
قضايا الأمة أهم من حقوق الإنسان
-
العلمانية والأخلاق:رفض تدخل الدين
-
المعتزلة والأخلاق:النص يتبع العقل
-
مبدعون كويتيون.. ومجزرة معرض الكتاب
-
الأشاعرة والأخلاق: النص يغلب العقل
-
في العلاقة بين الدين والأخلاق
-
من هو المثقف الديني..؟.
-
في دلالات إقالة قائد الحرس الثوري الإيراني
-
هل الديموقراطية العربية تعرقل التنمية؟
-
الفقه.. والحرية والحداثة
-
القانون المعيب لعمل المرأة.. كيف نغيّره؟
-
بين المقدس.. وفهم المقدس
-
مفاهيم دينية لا تتوافق مع الديموقراطية
-
الدين.. والحداثة
-
هل انتهت معركة المرأة؟
المزيد.....
-
خلال لقائه المشهداني.. بزشكيان يؤكد على ضرورة تعزيز الوحدة ب
...
-
قائد -قسد- مظلوم عبدي: رؤيتنا لسوريا دولة لامركزية وعلمانية
...
-
من مؤيد إلى ناقد قاس.. كاتب يهودي يكشف كيف غيرت معاناة الفلس
...
-
الرئيس الايراني يدعولتعزيز العلاقات بين الدول الاسلامية وقوة
...
-
اللجوء.. هل تراجع الحزب المسيحي الديمقراطي عن رفضه حزب البدي
...
-
بيان الهيئة العلمائية الإسلامية حول أحداث سوريا الأخيرة بأتب
...
-
مستوطنون متطرفون يقتحمون المسجد الأقصى المبارك
-
التردد الجديد لقناة طيور الجنة على النايل سات.. لا تفوتوا أج
...
-
“سلى طفلك طول اليوم”.. تردد قناة طيور الجنة على الأقمار الصن
...
-
الحزب المسيحي الديمقراطي -مطالب- بـ-جدار حماية لحقوق الإنسان
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|