كامل هادي الجباري
الحوار المتمدن-العدد: 2179 - 2008 / 2 / 2 - 10:46
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
(( لقد جاؤوا . كانوا يملكون الإنجيل, إما نحن فكنا نملك الأرض. قالوا لنا أغلقوا عيونكم وصلوا لله, وعندما فتحنا عيوننا كانوا هم الذين يمتلكون الأرض ونحن الذين نمتلك الإنجيل. )) القس الجنوب إفريقي
توتو (1)
مداخلتي هذه تأتي تفاعلا مع البيان التأسيسي لحركة اليسار الديمقراطي العراقي في دعوتها إلى ( ضرورة قيام حركة يسارية مناضلة على ارض الواقع العراقي ) لافي اعتبار المتداخلين ( ضيوف مسار بل أصحاب قضية وقرار فاعل في قيام تنظيم جديد يتجاوز قصور ما هو موجود نحو ما هو أفضل وأكمل ) بعد أن أتخمتنا أحزاب وقوى اليسار والتحرر الوطني , ومن ثم قوى التدين السياسي , ببرامجها الإيديولوجية ورسالاتها الخالدة المسقطة قسرا على الواقع , رغم كل ما قيل ويقال عن استلهامها الواقع والتطبيق الخلاق . الأهداف الكبرى وتياراتها وأحزابها وأبطالها المنقذون , الذين سيزرعون في عقول الجماهير الخاملة الجاحدة حقن الخلاص الأيديولوجي , المعد سلفا في مختبرات الأحزاب والتيارات ودهاليزها .
كي لا تقع هذه الحركة الوليدة في (( الفخ الأيديولوجي )) معيدة استنساخ التجارب النظرية والعملية والتنظيمية , للتنظيمات الطليعية المنقذة بشكل جديد يوهمنا بالتغيير والتجديد , وحتى (( نسعى إلى بناء حركة اجتماعية مناضلة يتبناها الأفراد كمنهج حياة متجدد )) فاني أتمنى على الحركة عدم التسرع في ( انجاز ) برنامجها ونظامها الداخلي , وتركه يتفاعل مع صيرورة الحركة ضمن فقرات بيانها , في تفعيل الذات الفردية والجمعية لخلق ذات حرة فاعلة وجمع حر فاعل . فكل ماهو منجز نص , والنصوص البرنامجية بصيغتها الطلائعية كما بينت لنا التجربة , قد صارت قيدا على الواقع وكما أشار هيغل إلى إن كل ما هو منجز شائخ(2) , إلى حين التوصل إلى أساليب ومناهج حركة التغيير الاجتماعية المناضلة . إنها الدعوة إلى حل إشكالية تادلج الفكر وتحوله إلى نصوص معيقة , تحرير الفكر من الدوغماتية , بادراك الحالة التناقضية في بنية الفكر و علاقتها الجدلية بالحالة التناقضية لحركة الواقع , تناغم مسارها في صيرورة متغيرة ومتجددة دوما . أتمنى على المثقفين والناشطين اليساريين أن يتداخلوا مع بيان الحركة , سيما إنها تعرف نفسها كحركة غير محددة بقيود وحدود ضيقة , أي إنها تمنح حقوق العضوية كاملة فهي خطوة مهمة لكسر قيود التنظيم الطليعي الحديدية نحو تأسيس حركة اجتماعية مناضلة .
إن كل أيديولوجيا تستلزم أن يكون لها رسالتها الخالدة الواحدة , ثوابتها وطقوسها , جمهورها المتعصب والمتزمت . هي منتج إنساني متغلب على منتجه ومستعمر له , جاعلة من الإنسان موضوعا لها , وبذلك تكون سلبا للواقع المتغير ومرضا بنيويا لطبيعة التجريد التي تميل إلى الإطلاق والتعميم . إنها خلق الإنسان العمومي (3).
الذات الفاعلة في الواقع الأيديولوجي, المتقاطعة مع الذات الحرة الفاعلة في مسارات الاحتياج الواقعي , الفردي والجمعي , تستمد ديمومتها من حالة الركود والتخلف أو التأزم الناتج من عدم القدرة على إنتاج الحلول من ذات البنية الراهنة . لذا تكون نزعة رجعية أو محافظة تبرر ما هو قائم أو نزعة تعطى قيما ومبررات أخلاقية لمشاريع امبريالية أو استغلالية مهيمنة . الايدولوجيا تجعل من ذاتها كونا مستقلا صالحا لكل زمان ومكان مؤثرا غير متأثر لا يفسده تعاقب الزمن ولا ينقضه تغير الواقع , يتلقفها الإنسان العمومي فيجعلها هدفه وغايته , أفيونه الخرافي يخوض من اجلها حروبه . وبتعدد النصوص وانفلاقها الذري , تتقاتل هذه المجاميع بالنيابة عن النصوص متخلية عن همومها الواقعية, الذاتية والجمعية واحتياجات مجتمعاتها للنهوض والتطور . مجتمعنا العراقي يتصف بكونه مجتمع متأدلج تتقاتل فيه النصوص دون أن يصيبها خدش بسيط بل تتعافى وتتضخم بينما تسيل الدماء انهارا بين المتقاتلين بالنيابة عن النصوص ويقتل الناس البسطاء في تجمعات العمل وفي الشوارع وفي أماكن أخرى وهم لا يفقهون سر موتهم ولا سر قاتلهم ألشبحي, العفريت ( إرهاب ) سليل أبو طبر(4) . المشاريع الأيديولوجية وصراعاتها قد حولت المجتمع إلى مجموعات دائرية مغلقة متطيفة أو متعنصرة, عشائرية أو مناطقية سلالات عائلية وفئوية متحزبة . مجموعات ذات لون فاشي لا يرى سوى الأسود والأبيض عدوه الأكبر الاختلاف والتنوع, الفرد فيه عضو مستنسخ في القطيع بدلا من العضو الفاعل الحر في الطبقة أو الشريحة الاجتماعية والمجتمع. مجتمعنا المتأدلج يحد من التطور الواقعي ويمنع تشكيل المجتمع المدني الحديث والدولة الحديثة حيث معيار المواطنة هو المعيار القانوني الذي يعتبر المواطنين سواسية في الحقوق والمعيار الديمقراطي الذي يقر بتباين المصالح وشرائح ومكونات المجتمع الأخرى وحقها في المطالبة والمدافعة والاعتراض بالطرق السليمة . لقد ولدت دولة الصهر(5) الفاشي ألبعثي الاختزالية, المجتمعات الصهرية في داخل النسيج العراقي, وجاءت سلطة الاحتلال البريمرية لترعاها وتغذيها بالمنشطات فتتضخم في صراعها الدموي مع الآخر المختلف, وصراعها مع الوالد المخلوع الذي نزل تحت الأرض وما زال يطرح نفسه بديلا عن الفوضى التي أنتجها وسببها وما زال يسعرها باسم الأمن والوطن والشعارات الخادعة ذاتها للعودة إلى السلطة والتسلط , مزيدا المشهد الدموي دموية اكبر ووحشيته وحشية اشد . بين صراع ممثلي المجتمع ألصهري الواحد وممثلي المجتمعات المتطيفة والمتعنصرة وما تولده من دوائر متصارعة اصغر فاصغر , يدفع الوطن والمواطن ثمنا باهظا يمس مصائره بل وجوده ويجعله واقفا على كف عفريت .في ظل الاقتصاد الهامشي الراكد , الاستهلاكي والطفيلي ووهمه المجتمع الأيديولوجي .ينتج الإنسان العمومي الذائب في الجماعة, الممسوخ, وفي الوقت ذاته ينتج الإنسان الأناني, المتوحش, الذي يقتل من دون رحمة, ويتصارع بوحشية في زحمة المنافسة التي تسحقه.
إن ما يجمع بين هذه الجماعات المتخندقة في الذات الساكنة ,كره وإنكار الآخر وتخوينه , أدعاء العصمة والتفضيل على الآخرين ,نزعة الشك المرضية . إلقاء اللوم في كل مصائبنا وتخلفنا على العامل الخارجي .
أن الامبريالية اللعينة هي السبب في كل شيء والمؤامرة وراء كل حدث ,فهي محرك التاريخ والجغرافية (6) أما نحن فأبرياء تماما من دنس الخطأ والخلل , ملائكة صالحون ,بريئون براءة الذئب من دم يوسف .فقط لو تتركنا هذه الامبريالية اللعينة لحالنا , لعشنا في وئام وسلام ,عندها سيختفي حكامنا الديكتاتوريون وسوف يزدهر الاقتصاد وتتوب عندنا القطط عن أكل الفئران . أذا فلنصرخ بأعلى أصواتنا:تسقط الامبريالية ؟ عندها سنمتلئ بالحمية وتهتز الشوارب ونهتز معها على أنغام الانفجارات , نموت موتا غير منتج مانحين الدراكولا الامبريالية الدماء التي ستديم وجودها مجانا وننشد لقد أنجزنا مهامنا ولم يبق إلا النصر.
بهذه الادلوجات المحكمة يضع نسق الأنساق الايدولوجية خطوطه الدفاعية والهجومية ليتحكم في مجتمعنا, معيدا أنتاج مآسينا بشكل دوري,وبذلك يمنع أي مشروع نهضوي يقارب فهم الموضوع الداخلي المعيق للتطور لغرض تفكيك قيوده المعيقة , فبيض الدجاج لاينتج سوى الدجاج وان أحتضنه طير العنقاء.
أنه المنطق المقلوب الذي يخفي وراءه كل العيوب منطق حامي الجراد الذي شهر قوسه بوجه الناس ليحمي الجراد الذي لجأ إلى حائطه ورفض الاحتياج لإبادة الجراد الذي يأكل قوت الناس لصالح دوغما حماية المستجير.
تتمترس خلف هذا الوهم مصالح مجتمعات ما قبل الدولة الحديثة وما قبل المجتمع الحديث ,فالبلطجي حاكما فذا , والديماغوجي زعيما وخطيبا مفوها والقتل العشوائي الإجرامي جهادا, والرأي ألقطيعي رأيا عاما , ومبدد المال العام اقتصاديا عبقريا,...... والقائمة مفتوحة للإضافات .
يقابل أيديولوجية التخلف المحلي هذه أيديولوجية العولمة(7) , النيوليبرالية ,رسالة السيد بوش , الذي يخاف الله , في تحرير العالم من " البرابرة الإرهابيين " كما حرر أسلافه العالم من " البرابرة الهنود الحمر الوثنيين " بتحويل مجتمعاتنا إلى سماسرة ووكلاء إلى الشركات المتعددة الجنسيات , ومستهلكين لمنتجاتها السلعية والثقافية. منحنا وهم التقدم والتطور, إسقاط أدلوجاتها الليبرالية والديمقراطية وفرضها مع إعاقتها لأساسها المادي وبنائها التحتي الذي يمثل الشرط الموضوعي لنموها ووجودها لتأتي عاجزة وواهنة عجز الشرائح الكومبرادورية الطفيلية المحلية المرتبطة عضويا باقتصاد وسياسة العولمة, كما هو عجز سياسة الفوضى البناءة لأميركا التي لاتنتج سوى الهدم والعدم , معبرة عن العجز البنيوي للرأسمال المعولم في بناء عالم متقارب في مستوى التطور وستارا يختفي خلفه مشروع الهيمنة على العالم وجعله الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأميركية .
التناقض القاتل لمشروع العولمة بإنتاجه تطورا ثوريا في التكنولوجية والعلوم والاتصالات الحديثة , وفي الوقت ذاته يعيد أنتاج آيدولوجية قروسطية بالصراع الدموي بين " الحضارات " مما يؤدي إلى "أستنقاع " التناقض وتشرنقه في صراعات تستبعد الخروج من النفق المظلم .
جناحا المشروع الايدولوجيا ينتجان التخلف المستدام والحركة الدائرية , تهميش المليارات من البشر وموت الملايين جوعا وقتلا ومرضا , الاختلال الخطير بالميزان بين الأمم , البربرية المستعادة كحلول للعجز . الإنسانية ترتهن لمنتجاتها وتستعبد في اغتراب متطرف .
بعد انهيار اليسار الايدولوجي وفشل تجاربه وتجارب حركات التحرر الوطني التي أنتجت أنظمة ديكتاتورية بائسة , يتحمل العراق وطنا وإنسانا تناقضات المشروع المعولم , خرابا ودمارا وموتا يوميا , الصراع الرهيب بين مشروع العولمة الرأسمالية وأنصاره المحليين وبين المشاريع الايدولوجية المتناقضة, والماضوية والفاشية , الشوفينية المتطيفة والعنصرية القومانية وإفرازاتها المحلية والإقليمية والعالمية , يتطلب منا أعادة قراءة المشهد الراهن قراءة تستوعب إشكالاته وتستنهض القوى الحية ببناء يسار جديد يقرأ الإحداث قراءة واقعية ويكون فاعلا في التغيير وبناء اصطفاف واسع في المجتمع العراقي لمقاومة الخراب والدمار واكتشاف مراكز المقاومة ضد العولمة الرأسمالية محليا وإقليميا وعالميا والاندماج فيها .
5-11-2006
هوامش: .
1) في رؤية كاثوليكية لاكتشاف أميركا(أن اكتشاف أميركا قدم للمسيحية فرصة كبيرة وفريدة لكي تقرب ملايين البرابرة الملحدين من جادة الإيمان الصحيح بالرب المسيحي الحق. وبذلك بررت الرؤية الأيدلوجية للغزو الهمجي ولنأخذ بعض الأرقام والوقائع :
_إبادة 90% من السكان الأصليين خلال قرن ونصف يقدرون بمائة مليون إنسان .
_ من أصل 22 مليون من سكان المكسيك الأصليين بقي مليون واحد خلال أقل من قرن
_ اغتصاب ارض السكان الأصليين والاستيلاء على ثرواتهم كما أن ثقافات وشعوبا قد محيت من الوجود
(هذه المعلومات من النظام العالمي الجديد ومشاكل العالم الثالث. هارالد نويبرت.دار الطليعة بيروت)
2) أن الفلسفة تأتي متأخرة جدا لكي تقدم وصفات حول الكيفية التي يجب أن يكون عليها العالم ,أنها تفهم ما هو في الحين(( الذي يكون فيه شكل الحياة قد شاخ )) هيغل.
3) الإنسان العمومي هو الإنسان الذي وصفه وليم رايش بالرجل الصغير أنه يجد قيمته وجدواه في حياة القطيع , أنه مشغول عن التفكير بنفسه بالتصفيق للزعيم وعقلية القطيع . غوغائي , مفتون بالقوة أكثر من فتنته بالعقل . مادة وقاعدة التطرف الأيديولوجي ومشاريعه.
4) (أبو طبر) الاسم الذي أطلق في العراق على قاتل متوحش أثار الرعب في صفوف العراقيين و كان ستارا للصراع على السلطة بين أقطاب النظام والتصفيات المتبادلة في السبعينيات من القرن الماضي .
5) الصهر تعبير أكثر قربا من سياسة (تبعيث)المجتمع والدولة وأكثر أشكال الفاشية تطرفا كما هي إلغاء عدائي استفزازي لأي شكل من أشكال الحرية والتمايز .
6) نظرية المؤامرة هي نظرية تخضع كل ما يحدث لكونه تآمرا وبذلك تعطي للأحداث بعدا غائما وغير مفهوم لا يضع التآمر ضمن سياقه الطبيعي في الصراع.
7) عندما نتحدث عن العولمة فإننا لا نلغي الانجازات الموضوعية لها والتطور العلمي والتكنولوجي الذي تنتجه إضافة إلى ذلك فأنها تنتج الظرف الموضوعي لتوحد الإنسانية عبر العالم في مجابهة المخاطر والتحديات الناجمة عن العولمة الرأسمالية.
بقلم : كامل هادي الجباري(كريم هاشم)
حركة اليسار الديمقراطي العراقي
#كامل_هادي_الجباري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟