محاولة مسبقة للتتر لاحتلال بغداد
يقول إبن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة أن التتر دخلت الى المدينة المعروفة بقيسارية ففعلوا فيها أفاعيل منكرة من القتل و النهب و التحريق، و كذلك بالمدينة المعروفة بسيواس و غيرها من كبار المدن الرومية و بَـخَـعَ لهم صاحب الروم بالطاعة و أرسل إليهم يسألهم قبول المال و المصانعة، فضربوا عليه ضريبة يؤديها إليهم كل سنة و رجعوا الى بلادهم.
و أقاموا على جملة السكون و الموادعة للبلاد الإسلامية كلها الى أن دخلت سنة ثلاث و أربعين و ستمائة (1245 م). فاتفق أن بعض أمراء بغداد، وهو سليمان بن برجم، و هو مقدم الطائفة المعروفة بالإيواء و هي من التركمان قتل شحنة من شحنهم في بعض قلاع الجبل يُعرف بخليل بن بدر. فأثار قتله أن سار من تبريز عشرة آلاف غلام منهم -أي من التتر- يطوون المنازل و يسبقون خبرهم و مقدمهم المعروف بجتكاي الصغير، فلم يشعر الناس ببغداد إلاّ و هم على البلد. و ذلك في شهر ربيع الآخر من هذه السنة في فصل الخريف.
و قد كان الخليفة المستعصم بالله أخرج عسكره الى ظاهر سور بغداد على سبيل الإحتياط و كان التتر قد بلغهم ذلك، الاّ أن جواسيسهم غرَّتهم و أوقعت في أذهانهم أنه ليس خارج السور إلاّ خيام مضروبة و فساطيط لا رجال تحتها، و أنكم متى أشرفتم عليهم ملكتم سوادهم و ثقلهم و يكون قصارى أمر قوم قليلين تحتها، أن ينهزموا الى البلد و يعتصموا بجدرانه. فأقبلت التتر على هذا الظن و سارت على هذا الوهم. فلما قربوا من بغداد و شارفوا الوصول الى المعسكر أخرج المستعصم بالله الخليفة مملوكه و قائد جيوشه إقبالا الشرابي الى ظاهر السور و كان خروجه في ذلك اليوم من لطف الله تعالى بالمسلمين، فإن التتار لو وصلوا و هو بعد لم يخرج لأضطرب العسكر لأنهم يكونون بغير قائد و لا زعيم بل كل واحد منهم أمير نفسه و آراؤهم مختلفة لا يجمعهم رأي واحد و لا يحكم عليها حاكم واحد. فكانوا في مظنة الإختلاف و التفرق و الإضطراب و التشتت. فكان خروج شرف الدين إقبال الشرابي في اليوم السادس عشر من هذا الشهر المذكور و وصلت التتار الى سور البلد في اليوم السابع عشر، فوقفوا بإزاء عساكر بغداد صفا واحدا و ترتب العسكر البغدادي ترتيبا منتظما. و رأى التتار من كثرتهم و جودة سلاحهم و عددهم و خيولهم ما لم يكونوا يظنونه و لا يحسبونه و انكشف ذلك الوهم الذي أوهمهم جواسيسهم.
و كان مدير أمن الدولة و الوزارة في هذا الوقت الوزير مؤيد الدين محمد بن أحمد بن العلقمي و لم يحضر الحرب بل كان ملازما ديوان الخلافة بالحضرة لكنه كان يمد العسكر من آرائه و تدبيراته بما ينتهون إليه و يقفون عنده.
فحملت التتار على عسكر بغداد حملات متتابعة ظنُّوا أن واحدة منها تهزمهم لأنهم قد اعتادوا أنه لا يقف عسكر من العساكر بين أيديهم و أن الرعب و الخوف منهم يكفي و يغني عن مباشرتهم. فثبت لهم عسكر بغداد أحسن ثبوت و رشقوهم بالسهام ورشقت التتار أيضا بسهامها، وأنزل الله السكينة على عسكر بغداد، و أنزل بعد السكينة نصره. فما زال العسكر البغدادي تظهر عليه إمارات القوة و تظهر على التتار إمارات الضعف و الخذلان الى أن حجز الليل بين الفريقين و لم يزل يصطدم الفريقان.
فلما أظلم الليل أوقد التتار نيرانا عظيمة و أوهموا أنهم مقيمون عندها و ارتحلوا في الليل راجعين الى جهة بلادهم. فأصبح العسكر البغدادي فلم ير منهم عينا و لا أثرا.
أواخر أيام المستعصم
يذكر إبن العبري في (تاريخ مختصر الدول) أن هولاكو كان في أيام محاصرته قلاع الملاحدة قد سير رسولاً إلى الخليفة المستعصم يطلب منه نجدة فأراد أن يسير و لم يقدر و لم يمكنه الوزراء و الأمراء و قالوا: إن هولاكو رجل صاحب احتيال و خديعة و ليس محتاجاً إلى نجدتنا و إنما غرضه إخلاء بغداد عن الرجال فيملكها بسهولة.
فتقاعدوا بسبب هذا الخيال عن إرسال الرجال. و لما فتح هولاكو تلك القلاع أرسل رسولاً آخر إلى الخليفة و عاتبه على إهماله تسيير النجدة. فشاوروا الوزير -إبن العلقمي- فيما يجب أن يفعلوه فقال: لا وجه غير إرضاء هذا الملك الجبار ببذل الأموال و الهدايا و التحف له و لخواصه.
إن موقف أبن العلقمي بمحاولة ارضاء هولاكو لإبعاده عن بغداد بواسطة الهدايا و الأموال، يذكرنا بموقف عبد الملك بن مروان من ملك الروم، إذ يذكر إبن الأثير في تاريخه أنه في سنة 70 هـ اجتمعت الروم و استجاشوا على من بالشام، فصالحهم عبد الملك على أن يؤدي اليهم كل جمعة ألف دينار خوفا منه على المسلمين.
كان اقتراح إبن العلقمي هو اقتراح شخص سياسي حكيم يعرف إمكانية الدولة. لقد كان رجل يعرف ما هي السياسة، إذ أن السياسة هي فن الممكن. لم يكن ابن العلقمي انسانا لا مباليا و مجازفا و لا انتحاريا.
و يذكر إبن كثير، أيضا، أن الوزير مؤيد الدين إبن العلقمي قد أشار على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سنية ليكون ذلك مداراة عما يريده من قصد بلادهم. فخذل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير أيبك و غيره، و قالوا: إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك التتر بما يبعثه إليه من الأموال و أشاروا بأن يبعث بشيء يسير، فأرسل شيئا من الهدايا، فاحتقرها هولاكوقان.
و يذكر إبن العبري و عندما أخذوا في تجهيز ما يسيرونه من الجواهر و المرصعات و الثياب و الذهب و الفضة و المماليك و الجواري و الخيل و البغال و الجمال قال الدويدار الصغير و أصحابه: إن الوزير يدبر شأن نفسه مع التتار و هو يروم تسليمنا إليهم فلا نمكنه من ذلك.
فبطل الخليفة بهذا السبب تنفيذ الهدايا الكثيرة و اقتصر على شيءٍ نزر لا قدر له. فغضب هولاكو و قال: لا بد من مجيئه هو بنفسه أو يسير أحد ثلاثة نفر إما الوزير و إما الدويدار و إما سليمان شاه.
أما إبن كثير فيحذف إسم إبن العلقمي مما طلبه هولاكو فيذكر أن هولاكو أرسل الى الخليفة - بعد رفضه الهدايا القليلة- يطلب منه دويداره الصغير و سليمان شاه.
فتقدم الخليفة إليهم بالمضي فلم يركنوا إلى قوله فسير غيرهم مثل ابن الجوزي و ابن محيي الدين فلم يجديا عنه.
و أمر هولاكو بايجو نوين و سونجاق نوين ليتوجها في مقدمته على طريق اربل و توجه هو على طريق حلوان. وخرج الدويدار من بغداد و نزل بجانب باعقوبا. ولما بلغه أن بايجو نوين عبر دجلة و نزل بالجانب الغربي ظن أن هولاكو قد نزل هناك فرحل عن باعقوبا و نزل بحيال بايجو.
و لقي المغول أميراً من أمراء الخليفة يقال له ايبك الحلبي فحملوه إلى هولاكو فأمنه أن تكلم بالصحيح، و طيب قلبه فصار يسير أمام العسكر و يهديهم. و كتب كتاباً إلى بعض أصحابه يقول لهم: ارحموا أرواحكم و اطلبوا الأمان لأن لا طاقة لكم بهذه الجيوش الكثيفة. فأجابوه بكتاب يقولون فيه: من يكون هولاكو و ما قدرته ببيت عباس، من الله مُلكهم و لا يفلح من يعاندهم و لو أراد هولاكو الصلح لما داس أرض الخليفة و لما أفسد فيها. و الآن إن كان يختار المصالحة فليعد إلى همذان و نحن نتوسل بالدويدار ليخضع لأمير المؤمنين متخشعاً في هذا الأمر لعله يعفو عن هفوة هولاكو.
ثم يستمر إبن العبري: فلما عرض ايبك الكتاب على هولاكو ضحك و استدل به على غباوتهم .
أما الطقطقي في (الفخري في الآداب السلطانية) فيذكر أنه في آخر أيام المستعصم قويت الأراجيف بوصول عسكر المغول صحبة السلطان هولاكو، فلم يحرك ذلك منه -أي المستعصم- عزماً ولا نبه منه همة ً ولا أحدث عنده هماً، وكان كلما سمع عن السلطان من الاحتياط والاستعداد شيئا ظهر من الخليفة نقيضه من التفريط و الإهمال، ولم يكن يتصور حقيقة الحال في ذلك. وكان وزيره مؤيد الدين بن العلقمي يعرف حقيقة الحال في ذلك ويكاتبه بالتحذير والتنبيه ويشير عليه بالتيقظ والاحتياط والاستعداد وهو لا يزداد إلا غفولاً، وكان خواصه يوهمونه أنه ليس في هذا كبير خطر ولا هناك محذور، وأن الوزير إنما يعظم هذا لينفق سوقه ولتبرز إليه الأموال ليجند بها العساكر فيقتطع منها لنفسه.
و هنا يبرأ الطقطقي ساحة إبن العلقمي إذ أن هذا كان يريد تجنيد العساكر و الآخرون المعادون لابن العلقمي يعارضون و لا يريدون تجنيد العساكر.
و يستمر الطقطقي : وما زالت غفلة الخليفة تنمى ويقظة الجانب الآخر تتضاعف حتى وصل العسكر السلطاني إلى همذان وأقام بها مديدة. ثم تواترت الرسل السلطانية - الهولاكية- إلى الديوان المستعصمي فوقع التعيين من ديوان الخليفة على ولد أستاذ الدار، وهو شرف الدين عبد الله بن الجوزي، فبعث رسولاً إلى خدمة الدركاه السلطانية بهمذان. فلما وصل وسمع جوابه علم أنه جواب مغالطة ومدافعة. فحينئذ وقع الشروع في قصد بغداد وبث العساكر إليها.
فتوجه عسكر كثيف من المغول، والمقدم عليهم باجو، إلى تكريت ليعبروا من هناك إلى الجانب الغربي ويقصدوا بغداد من غربيها ويقصدها العسكر السلطاني من شرقيها. فلما عبر عسكر باجو من تكريت وانحدر إلى أعمال بغداد أجفل الناس من دجيل والاسحاقي ونهر ملك ونهر عيسى ودخلوا إلى المدينة بنسائهم وأولادهم، حتى كان الرجل، أو المرأة، يقذف بنفسه في الماء، وكان الملاح إذا عبر أحداً في سفينة من جانب إلى جانب يأخذ أجرته سواراً من ذهب أو طرازاً من زركش أو عدة من الدنانير.
يتبع