مدخل
دعوني اليوم اعالج جملة من الافكار التي استعرتها في الحقيقة من كتابي الموسوم " انتلجينسيا العراق : النخب المثقفة في القرن العشرين " ، واعتقد ان ثمة حاجة ماسة لتقديم تحليلات موسّعة لها اليوم وانا انشرها بتوسع بعد ان كنت قد جازفت ونشرتها على عهد النظام السابق وهي تتحدث عن الخلل البالغ الذي اصاب المجتمع العراقي في الاربعين سنة الاخيرة 1963 – 2003 على ايدي الحكومات الجمهورية العسكرية والسلطويات الحزبية السابقة والتي تبدو مشاهدها واضحة تمام الوضوح وكان لنتائجها السيئة اثارا بالغة الخطورة على مستقبل العراق وسيرورته عند بدايات القرن الواحد والعشرين .
ان التمدن العراقي قديم قدم العراق الذي وجدت اولى الحضارات البشرية فيه دون منازع ، والتمدن متلازم مع أبناء المدن العراقية العريقة ، وان الذي يميزه وجود الدولة سياسيا ووجود المصالح اقتصاديا ووجود الثقافة تاريخيا ، بينما البداوة يميزها وجود العصبية ونوازعها ، في حين ان الريف يميزه وجود الأرض وزراعتها . ولقد تمكنت كل من العصبية وملاكي الأرض في مرات كثيرة ان تهزم المدينة والدولة والنظام والقانون والمؤسسات والاجهزة .. وان يحل بدلها الارباك الاقتصادي والفوضى الاجتماعية وتدمير المأثور الديني ومصالح القوى الاهلية المنتجة فضلا عن تدمير المنتجات الصناعية والعلاقات التجارية وتراث الثقافة المستقرة .. وبشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ بفعل عوامل الاتصالات وبفعل قوانين الدولة المدنية والعسكرية وبفعل تزايد السكان وبفعل وضوح التقسيمات الجغرافية من مسالك تجارية في صحراوات وبوادي غربا ، وبفعل منتجات السهل الرسوبي الزراعية جنوبا ، وبفعل غنى المرتفعات والجبال شمالا .. والمعلوم ان جميعها لا تطل على اي بحر ، ولا تملك أي شواطىء او سواحل او موانىء تتعامل من خلالها مع العالم الخارجي وخصوصا منذ عام 1869 م عندما خبا تأثير القوافل التجارية الدولية البرية عبر المدن العراقية بعد فتح قناة السويس وتحول تجارة العالم بين الشرق والغرب اثر هذا التاريخ . وللعلم ، فلقد مرت المدن العراقية على امتداد التاريخ بعهود ضارية ونالت الكثير من قسوة الحكام الجهلة وارتباكات الاطراف التي دوما ما كانت تزحف بكل قيمها نحو الدواخل والمراكز وتسبب احراجات لا حد لها .
عقم التناقضات وزحف الصراعات
لقد حدثت تداخلات اجتماعية مريعة في العراق المعاصر ، فاختلطت قيما كالكرم والشجاعة والمروءة والشهامة والجيرة والسماحة ونبل التعامل وتقّبل الاخر .. كمظاهر عاطفية جماعية لا تحكمها ضوابط أو قواعد او قوانين بل تسّيرها اعراف اجتماعية مشتركة ، فبدت اما مسرفة في غلوائها أو هزيلة في ضعفها ، وعلى نقيضها نمت القسوة وتداخلت مع قيم أخرى مضادة كالانتقام والثأر والعصبية والعزلة والغلو والغزو والاحقاد الاجتماعية كوسائل معبرة عن رابطة الفرد بقبيلته أو عشيرته في البوادي او الارياف ، وحتى في تنظيمات دواخل المدن وخصوصا ضد الموظفين او الملاكين او قوى التجار او الصناع من الاهلين او نخب المثقفين الذين تحتويهم تلك المدن .. وزحف الصراع من أطراف المدن الى دواخلها ، لكي تغدو شوارعها فسيفساء غرائب وعجائب من الالوان المتناقضة والتصرفات المتداخلة . ولم تعد المدن والمراكز الحضرية والثقافية العراقية مقتصرة على من يغلب الاخر أو يهب ما ليس له ، او يرفض السطوة والهوان ، او يمقت عطف الاخرين .. أو يفخر عندما يقدم فضلا او حماية .. بل زادت واستفحلت ظواهر المنسوبية والمحسوبية وبعض التصرفات السيئة ، وتغلغلت في اللهجات المحلية مؤثرات الخارج على الداخل . وبتأثير القوى الجاذبة لا الطاردة في المدن العراقية ، تغلغلت القيم المختلطة من البداوة والترييف في الاوساط السياسية والخنادق الحزبية ، فغدت الشخصية العراقية كالتي وصفها البعض من العلماء والدارسين ، وهي تسعى دوما الى تمثيل تناقضات الواقع الاجتماعي الذي استمر الصراع في دواخله بحيث افقدت المجتمع العراقي توازنه في مواجهة التعامل مع التجديد ! واستفحل التناقض في التعامل مع كل من هو غير عراقي سواء كان عربيا او ( اجنبيا ) ـ كما أصطلح عليه ـ ، اذ ترى الشخصية العراقية وقد غدت مستأسدة على نفسها وذواتها من مواطنيها بتأثير أي عامل للقوة سواء كان ماديا او سلطويا من طرف ، ولكنها ضعيفة جدا في داخل البلاد امام الاخرين من غير العراقيين حتى لو كانوا في اقصى حالات الغباء من طرف آخر ! وكثر الايذاء العلني والمستتر خصوصا عندما تألبت كل الامراض الاجتماعية لتصبح منجما تستخرج منه كل الخطايا والكل يعلم كم كانت سطوة الايذاء تفعل فعلها من الناحية السياسية خصوصا .. بحيث استفحلت في العقدين الاخيرين بشكل لا يمكن تصديقه ابدا .. وكان ذلك لوحده سببا في ان يهاجر الالاف من العراقيين خلاصا من الترصد والخوف والملاحقات والتقارير السرية ويفرّوا بجلدهم الى خارج حدود العراق !
وماذا ايضا ؟
الانغلاق وبعثرة القيم
لقد كان معروفا عن الشخصية العراقية ولما تزل انها عاشقة للحياة والارض والتاريخ وانها مغرمة بالاقوال الجميلة والمآثر الاصيلة وحب العمل والالتزام بالمواعيد وبمتطلبات العمل وبساعات الدوام الرسمي وطاعة المدراء .. وكانت الاجيال السابقة رائعة في منتجاتها وتشيؤاتها ومعانيها .. ولكن اربعين سنة من عقم التجارب والاحكام والتداخلات والحروب والانقسامات والتسلط والقهر والرعب واتقاء الاذى وبلادة التربية وعهر الاعلام .. كلها كافية لتقلب الامور عاليها سافلها .. وبعد ان كانت الحياة العراقية في السابق شديدة الحرص في احترام الزمن والعمل والارض والقانون وخصوصا عند ابناء المدن تغيرّت الاحوال الى اسوئها .. وافتقدت المدن العديد من المهن والصناعات والاسواق عندما ضعفت فاعلية القوى الاهلية المدينية المنتجة . اذ كان ابن المدينة ملتزما بثوابته المدينية ونظامه الاجتماعي وقيمه الدينية والاخلاقية ، لكنه بدأ يهتز شيئا فشيئا ، وأخذت القيم المدينية تخبو وتغيب حتى على مستوى الثقافة العامة ، وتخلخلت الفولكلوريات الرائعة ، واضطربت القيم الاجتماعية الموروثة القديمة .. وبدأ المجتمع ينغلق على نفسه شيئا فشيئا ، علما بأن لا حياة للعراق والعراقيين مطلقا الا من خلال انفتاحه وانطلاق سكانه بكل حرياتهم على العالم كونه من البلاد المغلقة جغرافيا .
وقد ساعدت الانظمة السياسية التي حكمته في القرن العشرين ، وخصوصا في العهود الجمهورية على انغلاقه أكثر فأكثر ، فتقوقع على نفسه مع المزيد من استفحال تناقضاته المريعة ! ولعل أقسى حالات القسوة الاجتماعية العراقية هي التي كانت تبدو واضحة تمام الوضوح في قسمات الجيش العراقي التي تجتمع فيها كل ألوان الطيف الاجتماعي المضطرب بنوازعه وقيمه ومرجعياته وتناقضاته وسلوكياته المختلفة ، فتحل قسوة ذلك الاضطراب واضحة تمام الوضوح وهي محكومة بتنفيذ الاوامر العسكرية القاطعة الى جانب الاوامر السياسية والحزبية المرعبة ! كما وتترجم الاحقاد الاجتماعية في المدن الى واقع ملموس من خلال اضطهاد بعض الرؤساء والمديرين والضباط الذين كانوا قد تشبعوا نفسيا وتربويا في الصغر ضد من هم اعلى مكانة اجتماعية او أثرى حالة مادية ممن يأتي من هؤلاء فيصبح تحت سطوتهم وقهرهم من مرؤسين وموظفين ومعلمين واطباء ومهندسين مدنيين .. أو سلسلة المراتب العسكرية الدنيا في الجيش والشرطة .. الخ وعليه ، فان مرحلة الخدمة العسكرية لدى أي عراقي هي أقسى فترة من حياته يجد فيه كل الهوان والاذلال والكلمات الجارحة التي قد يصل بعضها الى حد الضراوة في سحق الكرامة واهانة الذات عند الانسان ، وخصوصا اذا كانت له عزته وانفته وحقوقه وقوة شكيمته ومحتد اصله في العيش والحياة والوجود .
ثقافة أبناء المدن
لقد اضطربت ثقافة العراقيين ايضا نتيجة تفاعل هذه العوامل المعقدة والمشكلات الصعبة خصوصا وان التداخلات والتناقضات الاجتماعية قد فعلت فعلها ثقافيا على امتداد عقود القرن العشرين ، وان امتداد الزمن لم يكن في صالح انتاج ثقافة عراقية حديثة ومدينية لها ثوابتها الوطنية التي أخذت تغيب شيئا فشييئا لصالح انتاج ثقافة فسيفسائية مشوهة بعد تسلل القيم المضطربة البدوية والريفية ( مع احترامي لايجابيات الريف والبادية في العراق كله ) بعيدا عن تطور الثقافات المحلية للعراقيين القدماء الذين أخذوا يتهمشون على الحافات ، واصطرعت الاتجاهات والميول ضمن اختلاطات لا حصر لها بين العرب والاكراد والتركمان والاثوريين والصابئة والمعدان والشبك واليزيدية وبقية الاقوام المنتشرة من سكان السهول الوسطى او سكان الاهوار الجنوبية او سكان الجبال الشمالية او سكان البساتين الشرقية .. فضلا عن ابناء ضفاف الانهار من المتريفين الاشد ضراوة على المدن وابنائها من ابناء الجزيرة الفراتية والاشد ضراوة على المدن من ابناء العشائر في الجنوب بفعل قربهم الجغرافي من المدن الاساسية ، وتعقيداتهم النفسية من شعورهم بالنقص ، اذ كانوا وما زالوا يعتقدون بالتهميش .. وهذا ما أضر بالعاصمة المركزية بغداد ، وبشكل كبير أيضا بالحاضرة الشمالية الموصل أكثر بكثير من البصرة في الجنوب او النجف الاشرف وكربلاء في الوسط .
لقد تلونت ثقافة المدن العراقية الاساسية ، وأخص بالذكر : بغداد والموصل والبصرة وكركوك والنجف وكربلاء والكوفة وسامراء والسليمانية .. تلونات عجيبة في الاربعين سنة الماضية . وكانت لكل واحدة منها خصوصيتها ليس كما كانت كل مدينة تعرفها على امتداد تاريخ اجتماعي ثقافي طويل ، بل لأن عوامل الاضطراب الاجتماعي قد أكسب كل مدينة لونا خاصا بها .
مسؤولية الدولة في تحطيم المجتمع
وكان حريا بالدولة العراقية ومؤسساتها أن تسعى لتطوير هذا التشكيل الاجتماعي العراقي العجيب لخلق بودقة وطنية تنصهر فيها كل عوامل التأخر لصالح بناء ثقافة عراقية متنوعة ومتقدمة ومنفتحة وراقية ، خصوصا وقد عرف العراق منذ القدم بولادة نسيج هائل من اقوى واعظم المبدعين والمتميزين والنخب المثقفة المنتجة .. ولكن هذا لم يحدث لأنها غلبت المصالح الفردية والجهوية والمحلية والسلطوية والعشائرية والحزبية الضيقة على حساب المصالح الوطنية الحيوية .. كما انها عزفت بين حين وآخر معزوفات ايديولوجية وشعاراتية وطوباوية لا تستقيم وطبيعة تطوير النزعة الوطنية العراقية ، فضلا عن المحافظة والانغلاق على كل ما هو متخلف بحجة التراث مرة وبحجة القيم والعادات الاصيلة مرة اخرى . وكان على السلطة في العهود العسكرية والحزبية ( أية سلطة حكمت العراق ) أن ترتفع وتتسامى فوق كل النعرات مهما كانت درجتها من العلاقة وفوق كل الاختلافات والتنوعات والتباينات والطوائف والاديان والملل الاجتماعية باستثناء تلك التقاليد المدينية التي تعتبر معلما على طريق التقدم والانتاج .. كان عليها ان تتعلم من روح المدينة من أجل ان تستحوذ على ولاء الجميع سلما لا بفرض الارادة الضيقة بالقوة والعنف والاساليب القهرية .. ومن اجل ان تقوم بتطوير قيم التحديث في عموم جهات العراق بعيدا عن المركزية الصارمة التي زحف نحوها الملايين ! لقد بدأت الهجرة من الريف الى المدينة بشكل أولي في العشر السنوات الاخيرة من الحكم الملكي ، اذ يظهر ذلك بوضوح في زيادة سكان المدن على مدى عشر سنوات 1947-1957م ، فبينما كانت نسبة سكان المدن 31 بالمئة من مجموع السكان لسنة 1947 ، نراها ترتفع الى 38 بالمئة في العام 1957 . وبلغ سكان القرى والارياف في السنة نفسها ، أي حسب تعداد 1957 نسبة 61 بالمئة بما فيهم القبائل المتوطنة . وبلغ سكان البادية الرحل 1 بالمئة . ولنا أن نتساءل : اذا كانت هذه النسبة على ايام العهد الملكي ، فكم ستبلغ اذن على ايام العهود الجمهورية ؟ انها من دون شك اضعاف مضاعفة !
مقارنات
ولست مع الاستاذ الراحل علي الوردي الذي عزل مدينية البصرة عن بقية المنطقة الرسوبية ، تلك المنطقة التي أعطت للعراق طابعه الاجتماعي الذي اشتهر به وادي الرافدين وتراثه الباقي حتى اليوم ، معتبرا البصرة أكثر مدنية من غيرها بسبب طبيعتها وبساتينها ، ولكنني أعتقد بأن العراق يتكون من ثلاث قسمات اجتماعية كبرى : الشمالية ومركزيتها الموصل . والوسيطة ومركزيتها بغداد ، والجنوبية ومركزيتها البصرة . وقد كان لكل من هذه القسمات الثلاث خصوصياتها المدينية الثقافية المتميزة بجملة من الخصائص التاريخية . فالتنوع العرقي والديني والمذهبي والجغرافي والاقتصادي قد أكسب الموصل خصوصية متميزة باتجاهات مختلفة ازاء الجبال الكردستانية شمالا والبوادي الجزيرية الفراتية غربا ، وضفاف الانهر الاساسية شرقا وجنوبا .. أما بغداد ، فقد استقطبت مركزيتها طبيعة خصوصيتها في اضيق منطقة جغرافية يتجاور فيها كل من النهرين العظيمين دجلة والفرات ، وتنوع ثقافتها الدينية والاجتماعية المزدوجة باعتباره مركزا حيويا للعراق كله .. أما البصرة ، فقد كانت بيئة جغرافية برية ونهرية وبحرية منفتحة على امتداد التاريخ الحديث على العالم كله باعتبارها ـ كما سماها الرحالة من الاوربيين ـ بـ " فينيسيا الشرق " . واذا كانت الموصل مركزا تجاريا وحضريا للزراعات الكبرى في شمالي العراق ، فقد كانت بغداد مركز حيويا للصناعات والتجارة والصيرفة .. في حين غدت البصرة ميناء تجاريا دوليا للعراق كله فضلا عن كونها من المعابر الاقليمية الممتازة .
" للحديث صلة "