لن يصل الدكتاتور إلا إذا استدعيناه
" الروائي البيروفي ماريا فارغاس يوسا"
قد تسقط الحروب والانقلابات والموت والاغتيال الدكتاتور لكن الدكتاتورية كنسق من القيم والمقاييس يظل عمرها أطول لسنوات وربما لقرون ما لم يقم المجتمع ونخبه الفكرية ـ وليست السياسية ـ بحربه الأخرى الأكثر عمقا وإنسانية ومنفعة وهي: حرب تصفية جذور الفكر الدكتاتوري، فالدكتاتورية كنسق قيم تصفى بالثقافة وليست بالرصاص وحده.
والدكتاتور العراقي ظاهرة ثقافية وسياسية وأخلاقية عراقية على مر العصور ـ كما جاء في نص رسالة من المرحوم المفكر هادي العلوي بخط اليد إلى كاتب هذه السطور في سجن "كويتة" الباكستاني المركزي على إثر عبور الحدود قادما من إيران في كانون الأول عام 89.
والدكتاتور العراقي اليوم رغم تصفيته كمؤسسة حاكمة، إلا أن سجونه الأخرى، الذهنية والعقلية والنفسية والسياسية، قائمة ومستمرة في ممارسة ذات الدور القديم.
ويمكن القول بكل طمأنينة أن الدكتاتور العراقي كان قد سجن ثلاثة أنواع من الضحايا ورمى المفتاح في بئر الأيام وهرب بجلده:
النوع الأول: سجناء القضبان الحديدية والأنفاق والأقبية وهؤلاء مصيرهم إما القتل أو الخروج مشوهين نفسيا وعاطفيا.
النوع الثاني: وهم سجناء الأقبية أيضا الذين خرجوا من تلك السراديب معجزة أو سهوا لكن لم يعلق في أرواحهم الكثير من نفق الفحم والإقامة المحزنة وهؤلاء ندرة لا تشكل مشهدا واسعا.
النوع الثالث: وهؤلاء هم الأغلبية الساحقة من السجناء الذين يشكلون المشهد العام، السياسي والثقافي والاجتماعي، رغم أنهم لم يدخلوا تلك الأقبية أبدا التي تشيخ وتهرم وتنهار ولكنهم دخلوا أقبية ومعتقلات أشد ضراوة وشراسة وهي أقبية معايير الدكتاتورية ونظرتها للحياة.
إن فترة طويلة من الإرهاب العام والضاري خلقت داخل النفس العراقية سراديب خاصة وحفرت أنفاقا نفسية من أجل الحماية والوقاية من الموت وبربرية المؤسسة الحاكمة وهذه السراديب ليست قضبانا أو أقبية أو جدرانا يمكن هدمها بسهولة كما حصل مع الأخرى، بل هي شبكة واسعة من القيم والمعايير والمقاييس والأنساق الفكرية والاجتماعية تداخلت مع بضعها ومع قيم الفرد الشخصية وصار من المستحيل الفصل بين هذه وتلك.
وهذا الصهر تم عبر حقب طويلة ومستمرة كما أن هذا الاندماج بين قيم الضحية وقيم جلادها كان نوعا من السلوك الوقائي الاجتنابي تمارسه الضحية كنوع من التماهي مع الوحش كي تنجو بجلدها غير عابئة بالنتائج المستقبلية فلا مستقبل في عاطفة الضحية غير الفرار اليومي المتواصل.
لكن المعضلة تبدأ ـ ولا تنتهي ـ من لحظة سقوط الدكتاتور واكتشاف الجروح النفسية العميقة والغائرة إذا تم اكتشفاها مع أن الضحايا لا يحتفلون عادة بالنجاة الداخلية من سراديب الدكتاتور كما يحتفلون بالخروج من الأقبية الحديدية.
لذلك يمكن القول بثقة أن الدكتاتور قد سجن ضحاياه في أقبية سرية وسجون نفسية وعقلية وسمم حياتهم بصرف النظر عن مصيره الفردي النهائي.
فنحن لا ننجو من الدكتاتور بمجرد سقوطه، بل تبدأ رحلة البحث عن الحرية الداخلية، أولا وأخيرا، من هذه اللحظة التاريخية بالذات وهذه مهمة النخب الفكرية وليست مهمة النخب السياسية التي لا يتجاوز خطابها السياسي سوى الوصف الإنشائي والاحتيال على القارئ من خلال منظومة لغوية فارغة أو خطابات لا تحمل أي مضمون فكري عدا نصب الفخاخ للخصم وسلوك التنكيل.
إن هذا هو بالضبط خطاب الدكتاتور وهذه هي أقبيته: ثقافة وصفية، ولغة افتراسية، وحيل، ومكائد، ورؤية للحياة بوعي أو بدون وعي من خلال عين الدكتاتور.
والحياة اليومية زاخرة بالكثير من الأمثلة على أن هذا الدكتاتور قد سجن ضحاياه في أنفاق نفسية وعقلية محكمة وفر بجلده وترك ضحاياه يرفلون بقيود غير مرئية لكنها أكثر قسوة من القيود الخارجية المرئية.
وقبل أيام كنت في زيارة عائلية لمثقف عراقي محترم وقد طلبت مني ابنته الكبرى أن تتحدث معي على إنفراد وقالت لي شاحبة الوجه محرجة أن أباها قد سجن العائلة كلها في سجون الطاغية.
وكنت أعرف ماذا تعني لكني طلبت توضيحا فأضافت: نحن لا نخرج إلى حديقة في يوم مشمس إلا وصرخ أبي هذا البط يشبه مشية الدكتاتور، ولا نجلس لرؤية فيلم بما في ذلك صور الأطفال المتحركة حتى صرخ أن هذا يشبهه أيضا، ولا نجلس على مائدة طعام إلا وكان الدكتاتور حاضرا بيننا. إن أبي مسجون على نحو أبدي. هل من حل؟
ولم يكن عندي أي حل وخفت أن أقول لها أنني أيضا أعيش مع أبيك في نفس الزنزانة مع فارق واحد هو أني اعي سجني وأناقشه يوميا مخافة أن تشعر بجسامة الوضع وهو فعلا مؤلم جدا.
وهذه المثال ليس نادرا بل هو يتكرر كل يوم تقريبا على شاشات التلفزيون أو الصحف أو المواقع. فما أن يقول كاتب أو محاور بوجهة نظر ما حتى يرفع الآخر في وجهه راية تسلل :ـ هذا الرأي هو رأي الدكتاتور أو أنه دفاع عنه.
ليس غير ثنائية (مع أو ضد) الدكتاتور. بهذه الصورة تم اختزال الحياة برجل واحد مشوه حبس الجميع في قبو داخلي عميق الهوة وفر بجلده.
لم تعد في العالم غير فكرة واحدة تلح على الجميع هي فكرة الدكتاتور، وليست هناك فلسفة أو صورة أو وجهة نظر أو قضية غير قضية الدكتاتور وتلاشت كل العلوم والثقافات والمعارف والأفكار البشرية حتى صرنا لا نرى الحياة، أو الأطفال، أو الحقول، إلا بعين مشوهة هي عين الدكتاتور الشاحبة الزعفرانية.
هل تحل هذه( العاهة) حلا فكريا أو سياسيا؟ قد يكون الجواب السهل الآني نعم تحل لكن هذا الحل طويل ويحتاج إلى خلق مؤسسات نقيضة وإلى جهود مضنية وإلى مجتمع مدني يتمتع بحريات واسعة فردية وعامة.
لكن هذا الحل لوحده لا يكفي إذ أن المسألة ملحة ومنهكة ومدمرة على مستوى العيش الفردي وتشكل مغصا ينغص صميم الحياة ويقلل من استمتاع الإنسان بمباهج الحياة الشحيحة هنا أو هناك.
وحسب علم النفس السلوكي فإن هذا النوع من العقد المرضية يحتاج إلى أعادة صوغ للأفكار تغرس بهدوء وعلى مدى طويل( منظومة لغوية وفكرية بديلة) لأن برمجة العقل تمت على نحو غير سوي ومشوه ولمرحلة طويلة.
إن هذه التشوهات الفكرية والسياسية والاجتماعية شكلت بالقوة والخوف، أنظمة متماسكة وصلبة من العادات السلوكية والذهنية والفكرية التي أخذت مظهرا خداعا على شكل قناعات سياسية أو فكرية وهي في واقع الحال أنساق فكرية مرضية تعيش على سطح العقل كطفيلي وتشكل ( ذاتا) أخرى بديلة تتحرك لحسابها الخاص خارج العقل نفسه وتشكل( أنا) منفصلة.
وإذا عرفنا أن الضحايا يحفرون أنفاقا داخلية بقدر عدد الناس الذين يتعاملون معهم في تلك الفترة الدموية، أي يشكلون( مجموعة ذوات ) حسب المناخ والوسط الاجتماعي الذي يتواجدون فيه، لعرفنا حجم الانشطار النفسي والعقلي الذي يعانون منه.
فهذه( الذوات) المصنوعة خوفا، أو تهربا، تحمل شحنة انفعالية وتشكيلة من القيم والأفكار المصاحبة، تشكل مع الذات الأصلية ( تابعا) نفسيا يتحرك لحسابه الخاص، حسب التفسير الدقيق لعالم النفس بيير داكو، وهذه الذوات التوابع تعيش على هامش الذات الشخصية الحقيقية وتزيحها بقوة ولا شعور وتشكل بدلها وجودا خاصا مستقلا يفكر به الضحية وهو يظن نفسه حرا وهو في الواقع محبوس داخل (أنوات) قهرية تشكلت في غفلة عنه وبالرغم منه وصارت تفكر وكالة عنه.
بهذه الانوات نعيش اليوم.
وبها نفكر.
وداخلها نقيم في قبو نفسي محكم بعد أن أغلقه الدكتاتور وهرب. ومنها تخرج ثنائية ( مع أو ضد) الدكتاتور أو غيره، لأن الثنائية، أي رؤية الحياة عبر مفهومين فقط في عالم وكون هائل التنوع هو نوع من حذف الذات، أو الكيان الفردي، وهو أفظع شكل بشري في احتقار النفس حتى لو تم ذلك في حالة زهو مزيف ومضحك.
وعن يقين شخصي دقيق أقول أن الدكتاتور الحقيقي لم يعد له من وجود خارج وجودنا العقلي، لكنه مقيم في داخلنا، ونحن سجناء بلا قضبان.
بلا زيارة.
ولا تصلنا رسائل العالم الخارجي
ولا علومه
ولا قيمه
ولا تجاربه
لأننا صرنا سجناء من الشمع في متحف قبو قديم!