|
المؤلف/ الراوي/ البطل في القصة العراقية القصيرة في المنفى*
عبد جاسم الساعدي
الحوار المتمدن-العدد: 2179 - 2008 / 2 / 2 - 08:17
المحور:
الادب والفن
مقدمــة: نقلني ضجر السياسة وغثيانها، للبحث عن زاوية، نافذة، أطل منها على عالم آخر، يأخذني خارج المحيط وأسواره الملغومة بالمفردات... دخلت فضاءات القص العراقي في المنفى، محمولاً بهاجس النظر في الإبداع والأطياف، لأجدد الحركة، أقارن بين زمن الكتابة وزمن الأصوات. المجموعات القصصية تنتمي إلى حقبة تاريخية واحدة، يجمع بينها النفي والتشرد وفاجعة الحرب والموت ودوائر الذاكرة والاستذكار، أقلبها، أعيد الصلة بها، هي النص والمرجع... أحاول اكتشاف علاماتها الثقافية في الكلمة والحوار والحرية والفكرة وامتدادها بالمجتمع والايديولوجية ونخبة المثقفين والمنتمين إلى «اليسار» إلى جانب مجموعات قصصية أخرى، خرجت من حطام الأزمة في الداخل ونفذت لجماليتها الفنية في استخدام الرمز والأسطورة والحكايات الشعبية لـ «التقية» من مساءلات السلطة. أحسست بنكهة الكلمة وجرسها ومناخات صياغتها، وضجيج أصواتها وطراوة ملمسها، أكثر من فضاءات الماضي وايديولوجيته التي تفيض بالحزن والنحيب وانكسار الأصوات، في تجارب شديدة الوطأة مغروزة في ذاكرة الكتابة والتاريخ والجماعة. ركزت الدراسة على قراءة النص القصصي، لعدد كبير من القصاصين، كانت لبعضه تجارب قصصية تمتد إلى الستينيات والسبعينيات في العراق، وبدأ آخرون الكتابة لاحقاً، بعد رحلة اغتراب شاقة فأخفقت «نصوص» في التحرر من كوابيسها القديمة في الشعارات والانتماء، ما يعني وجود «سلطات» معنوية، تفرض شروطها في الكتابة غير سلطة الدولة. ونهضت أخرى، تطالع الطبيعة والحياة، تغذي خصوبة المخيلة للنفاذ من ثقل التجربة ومرارتها، مأخوذة بهم الإبداع والمعرفة والتجديد في الفن القصصي، غير منفصل عن دائرة القص العربي، ومستفيداً من التجارب القصصية في العالم. فظهرت قصص قصيرة ذات دلالات مميزة في التكثيف والإيجاز وإيحاءات اللغة التي تسري في الكتابة وتنسج مكوناتها من حميمية التواصل ومناخاته بوصفه علامة تفصل بين لغة الإنشاء ولغة الإبداع. فاجتمعت لدينا أسباب المقارنة والتحليل، ووقفنا طويلاً عند العلاقة الفنية بين البطل والراوي والمؤلف التي تحتاج إلى مزيد من الدرس، للفصل بين السيرة الذاتية وعناصر البناء القصصي التي تحتاج إلى إدخال القارئ في متعة الكتابة المتحركة في تقاطع الأصوات والحوار والتخييل والحرية.
مرجعية القص العراقي في المنفى: ينشأ سؤال، هل أن القصّ العراقي في الخارج مؤهل لتأسيس رؤية فكرية أو فنية، تغني الأدب والإبداع في الداخل، أم أنه لم يزل أسير «الايديولوجيات» المتحصنة في مواقعها، تجترّ خيبة أبطاله؟ ينفتح السؤال على أسئلة أخرى، تتصل بمدى استجابة وتفاعل القراء والباحثين والنقاد مع كل نصوص الإبداع، وخلق حركة نقدية تنفض الكمّ المتراكم من «ترسبات» الماضي وسلبياته وتدخل في علاقة جدلية حرة، تنبع من الوعي بضرورة التفاعل مع «النصّ» القصصي، باعتباره يجمع بين الواقع والمتخيل، ويحتوي على نماذج اجتماعية مختلفة ومتناقضة إلى حدّ الصراع. فالوعي بالنصّ الإبداعي واستقلاليته النسبية، واتساع دائرة المشاركة الفعلية به، يهيئ أسباب تحريره من استبداد السياسي وهيمنته، ويجنبه السقوط في «مطبات» الشعارات والعقلية الايديولوجية «المبرمجة» التي غالباً ما تورث المبدعين والكتاب الندم، لوقوعهم تحت قبضة السياسي وانسياقهم إلى مفرداته والنمط الواحد في لغته. وفي العراق عدد من المبدعين الذين جروا خلف السياسي، يقلدونه ويقتفون خطاه في شعارات سياسية، تجاوزهم فيها الحسّ الشعبي، فسقطت في أعمالهم «نصوص» هجينة، لابدّ أنهم يشعرون بالحرج عند النظر إليها. أما النصّ القصصي، موضوع دراستنا، مختلف من وجوه عدة، أهمها: توفره على مساحة كاملة من الحرية، لأنه يكتب في غير «موطنه» الأصلي، ويستمد مقوماته من تجربة الامتداد والتواصل ولغة السرد، التي لم تنضب بعد، روافده الأولى. ويمكن إثارة سؤال آخر، ترى، هل حرية الكتابة بقادرة على خلق إبداع مختلف ومتميز عن الإبداع في الداخل؟ وإن كان كذلك فما سماته وأيّ جديد أبدعه؟ وهل يحملنا على إطلاق صفة «المنفى» عليه؟ تحاول الدراسة الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها، في بابين إثنين، أحدهما نظري وثانيهما تطبيقي، يعتمد على قراءة لنصوص، لا تدعي أنها محايدة، أو موضوعية، كما يسميها البعض بل تؤثر في التجربة والانتماء الاجتماعي، كما أنها تطمح أن تكون حوارية فاعلة، لا متلقية ساكنة. لعلّ ظاهرة «الحزن»، إحدى العلامات المميزة والمشتركة لأي قراءة، ما تبعث على التأمل في تفكيك عناصرها، بوصفها ظاهرة عضوية وبنيوية في تشكيل النص، تحمل دلالات اجتماعية غائرة العمق، متجذرة في المجتمع. فاعتمدت بنية النصّ القصصي في بعض أنساقها على الدخول في أجواء الموروث الديني لما تحمله من ذاكرة جماعية وحركات تجدّد مشاهد الموت والحرب والتضحية لوقعة «كربلاء»، في فضاءات مفتوحة ذات طقوس وإيقاعات حادة متحركة، ترنّ أصداؤها في «ذاكرة» المؤلف/ الراوي/ البطل. فيتشبع النصّ من تلك المناخات المعبأة بالحزن والدموع والدم ويتفاعل مع «المكان». فتتداعى التفاصيل، وتأخذ أبعادها في نشأة الطفولة، من زاوية الإحساس بتراكمات الحزن التي يفجّرها النصّ. فتتوارد الأضرحة والمقامات والأبواب والحارات ومغسل الموتى والرجاءات بعودة «الغائب»، الذي طال إنتظاره، والسلاسل السوداء التي تنزل على ظهور الرجال في إيقاعات منظمة تصاحب حركة صوتية في المواكب الجماعية المثيرة، في ذكرى استشهاد "الحسين"... وتتشكل صورة قاتمة، تجري في الأفق نفسه، ترتبط فنياً بالحاضر، والشعور بالإنحسار والضيق وطغيان الألوان الداكنة، فلا مهرب من مفردات اللغة وإيحاءاتها البالغة في تكوين الأجواء النفسية المستمدة من تلك الفضاءات. ويلاحظ أنّ النصّ تتجاذبه حركات في داخله، تمنعه من الإنسياق نحو «الحزن» بمعانيه السلبية. وهذا ما يفسر إشتغال النص بمجموعة عناصر متضادة، لها إيقاعات أخرى في الحياة، لعلّ أبرزها، الإنشداد والإنتماء إلى الوطن كأفعال تقاوم الإغتراب والإنسلاخ رغم شيوع اللون الأسود. وللشعرية في نصوص محيي الأشيقر أهمية في تكثيف اللغة وإختزالها ما يجعلها، تميل إلى «حوارية» داخلية، تتصل بتجربة الكاتب وإحساسه، أكثر منه، بأبطاله القصصيين. ويقصّ البطل/ الراوي/ المؤلف في «وداعاً أيها الطفل» لجبار ياسين حكايته الحزينة، مذ كان طفلاً يرافق أمه في «كربلاء» ليلة عاشوراء، تضرب صداها في ذاكرته، يستعيد مشاهدها الثقيلة المحملة بالأصوات والدم واللون الأسود والمواكب الحاشدة المنتظمة في صفوف طويلة، تردد "وا حسين..." ... تضرب أمه صدرها على إيقاع نشيد يأتي من خلف الحشد. يفعل مثل أمه، ويصغى لإيقاع الضرب على الصدر. يسمع أمه تردد إسم أخيه الذي غاب منذ شهور... ترتفع الأيدي من جديد وتضرب على الصدور بإيقاع آخر أكثر بطأ... تقترب أمه وتردد معه الأبيات القصيرة التي يرددها الحشد. لم يفهم حينها لماذا طلبت أمه، أن يكتب لها القصيدة وهي لا تعرف القراءة... يرد الموروث الديني الكربلائي، بطابعه الإحتفالي في النصّ القصصي، إستجابة لذاكرة الطفولة في الروي والحكاية الشعبية وصدى الأيام والمشاهد المؤثرة، في الحركة والمواكب الجماعية ومجالس القراءات الحسينية المنظمة في فضاءات مفتوحة للرجال ومنغلقة للنساء... فتخزن الذاكرة العراقية كماً هائلاً ومتحركاً من صور الخوف وأصوات الرعب والحرب والحرائق والموت والمقابر والسجن والجلادين والتهجير والمقاومة والشعر ورنين الإيقاعات الأخرى... فغلبت الحكاية السياسية على الحكايات الأخرى المألوفة في تشكيل بنية النصّ القصصي، وصرفت النظر عن الموروث التاريخي والشعبي والتفاعل مع المجتمع وعناصر تكوينه. فافتقد النصّ إلى النكتة واللقطة الساخرة، ما حرم القارئ من متعة القراءة. كما ظلّ يتحرك في مساحة سياسية محدودة في إطارها التاريخي، دون أن ينفذ إلى مساحات أخرى مجاورة في حركة التاريخ الحديث والصراعات المتعددة الأوجه. فأثقلت السياسة والذاكرة المضمخة بها، النصّ، وجردته من التطلع إلى الآفاق والطبيعة والسمّو في الفن والتخييل والإبداع في التخلص من سقوط الماضي الثقيل على الورق. ولعلّ ذلك يعود إلى أن الكثرة الكاثرة من القصاصين العراقيين، كانت لهم إنتماءات سياسية يسارية وماركسية، تناولوا تجربتهم أولاً في هذا الميدان، وأنّ عدداً منهم إشتغل في الصحافة الحكومية والحزبية، فكانوا الواجهة السياسية المباشرة لأي طارئ، أو حركة إنقلابية في البلاد، فتبدأ بهم حملات الإعتقال والمطاردة والتعذيب، بخلاف «المحترفين والقادة»، فلهم حاسة شمّ خاصة يميزون بها الطوارئ قبل وقوعها!. سنرى أنّ عدداً من القصاصين، إستطاع بمهارة فنية، تجاوز مرحلته الأولى في الكتابة، بتكوين رؤية فكرية ذات نسق معرفي حضاري، ينفتح على معارف إنسانية وعلمية، ليتحرر من ضغوط السياسي وهمومه اليومية. وسيظل الأدب القصصي في العراق والوطن العربي محمولاً بالبنية التاريخية الحديثة، خصوصاً جانبها السياسي لعقود قادمة، ما دامت الأحوال مضطربة في كل الوجوه، وبهذا الصدد يعطي، لوكاتش تفسيراً للعلاقة بين الرواية والتاريخ، بقوله: «إنّ ما يهمّ في الرواية التاريخية، ليس إعادة سرد الأحداث السابقة بل الإيقاظ الشعري للناس الذين برزوا في تلك الأحداث، وما يهمّ هو أن نعيش مرة أخرى الدوافع الاجتماعية والإنسانية التي أدّت بهم إلى أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا، كما فعلوا ذلك تماماً في الواقع التاريخي»(1) وكان لإنقلاب شباط 1963، في قصص المنفى، صدى واضح الدلالة في التعبير عن نمطين من الروي، يعتمد أحدهما على سرد تجربة البطل ومشاهداته التي تحمل قدراً كبيراً من الصدق والواقعية، كما يرسم الأب في رواية «المرتجى والمؤجل» لغائب طعمة فرمان، لإبنه صورة لجانب من مآسي الانقلاب، يحصرها في ما سميت بـ «قطار الموت» الذي يحمل المعتقلين السياسيين من بغداد إلى السجن الصحراوي في يوم شديد الحرارة، أريد بهم «الموت» في داخله، فينتفض سائق القطار، ليضاعف السرعة وينقذهم من الهلاك. «... ولكنك كنت لي كالنجم الهادي تبدد لي ظلام عربات الحمولة لذلك القطار المنحدر خلسة كالأفعى إلى صحراء الجنوب... كنا مكدسين في العربة كالأكياس. وكان من المفروض أن ينقلونا إلى السماوة والمسافة بينها وبين بغداد تستغرق عشر ساعات تكفي لأن تخنق أكثرنا قوة وشباباً، ليصلوا إلى السماوة جثثاً هامدة... ولكن سائق القطار قرر بسليقته الخاصة أن يضاعف سرعة القطار، وأن يقطع المسافة بخمس ساعات... وسار قدماً حتى وصل إلى السماوة، فقفز من قاطرته، وصرخ بالناس: يا ناس، يا عالم، عندي ألف وخمسمائة رجل سيموتون من العطش بعد ساعة، إذا لم تهرعوا إليهم بالماء والغذاء. وهرع الناس الطيبون إليهم، كلّ بما في بيته، ونجا الركاب من الموت المخطط لهم، وإن لم ينجوا من التعذيب. ذلك تاريخ بشع لا أريد أن أسوقه إليك وعندما ستكبر ستعرف، وتأخذ العبرة. لقد ولدت في سنة من أبشع السنين»(2) نعود إلى السؤال الذي أثاره النصّ في رواية «المرتجى والمؤجل»، الذي يقودنا إلى تقديم أسئلة أخرى تتصل بمدى إنجازات الكتابة في ظل الحرية، بمعنى، هل تمنح الحرية الإبداع طاقة خاصة في الخلق والتخييل والتجاوز؟ أم أن هناك عوامل أخرى ذاتية وايديولوجية واجتماعية، تقيد حرية الإبداع وتحجره في فضاءات محددة؟ يبدو أنّ الإنجازات الكبيرة في الإبداع، هي التي إخترقت الحواجز والمحرمات وكسرت مجموعة قيود عارضة، تحوم عند لحظة الإبداع، لصرفها عن التواصل الحميمي في القبض على الأشياء السائبة والمفقودة. والايديولوجيات المحنطة، القائمة على «التقليد» والتبعية، شكل من القيود العارضة التي تحرم المبدع لحظة إكتشاف الجديد في إبداعه، ليقدم إضافة في الفن والمعرفة والثقافة. لذلك، يمكن تلمس العثرات في الإبداع، التي تحيل النصّ إلى وثيقة ايديولوجية جامدة، خالية من العناصر الحيوية المؤثرة فيه. ويسرد البطل/ الراوي في قصة «الآخر» لمحمود البياتي تجربته السياسية، وبخاصة، فاجعة إنقلاب شباط 1963، وإفرازاته الاجتماعية والثقافية على المجتمع، بمثابة جانب من سيرة ذاتية تبين حجم الإنكسار والخيبة التي بدأت وقتئذ... «... بعد الإنقلاب هربت إلى الخارج، تشردت اربع سنوات في شوارع بيروت، دمشق، براغ، برلين... وعندما رجعت لم أعد أنسجم مع أصدقائي القدامى، لم أجد أهم رموزنا الثقافية التي إختفت قتلاً أو إعتزلت المجتمع، أو تحول بعضها إلى تجار أو رجال دين، أو انغمروا في حياة العربدة والسكر، كما أفعل الآن تماماً. وها نحن نحاول عبثاً إختراع تقليعات أدبية متمردة في الكتابة والرسم والشعر خاصة...»(3) ولذاكرة الطفولة هواجسها المحملة منذ الصغر، بصخب الأيام وضجيجها. تستقبل مشاهد القتل والحزن والموت، ودويّ الرصاص في الشوارع، وتراكم الحكايات والروي. فتشكلت في ذهنه معالم السجن ومعسكرات الإعتقال وملامح الجلادين وتظاهرات المقاومة. واستمدت «الأمهات» و«الجدات» حكاياتهنّ من تلك المناخات، يروين قصصاً عن الإنقلاب بدل القصص التقليدية التي تمتع مخيلة الأطفال وتوسع مداركهم. فكان لهذا النمط من السرد، تأثيره على البناء القصصي، في رسم صورة متوترة حزينة، تجعل الأطفال يبحثون عن أسرار الإنقلاب، الذي أودى بحياة آبائهم، ونشر الرعب في نفوسهم. في قصة «كابوس أخضر»، لأحمد ناهد يلحّ بطلها على أمه لمعرفة أسباب موت أبيه «... إقتادوه من البيت. كانوا أربعة أو خمسة يصحبهم المختار. ثم قالوا مات بعد أيام... لقد كنت صغيراً صغيراً جداً. تركتك ولحقت بهم، ساعتان ثلاث ثم تذكرتك فعدت. لكن هل كان أبي بطلاً؟ جاء المختار وقال إن أباك رجل مستهتر، فلاح أحمق، ثم شتمه معرضاً بشرفه... فركضت خلف السيارة... وركضت لكن أباك... وهل كان أبي (بطل)؟...» وتجتمع في ذاكرة الطفل في قصة «وداعاً أيها الطفل» لجبار ياسين، صور متنوعة من العنف السياسي يوحد بينها القتل ووحشية الإنتقام. «... يعود إلى الدار برفقة أمه المرتعبة. ستروي ما حدث وستردد مراراً: ساحة النسور، اللواء العشرين، جسر الخر، أبو غريب، المرسلات، كلّ هذه الكلمات يسمعها. سنوات طويلة بعد ذلك سيعيد ترتيب الأوضاع وسيعرف ما الذي حدث. لن يفهم المزيد... لكنه سيخاف أكثر في مساء ذلك اليوم حينما سيرى صورة الزعيم تتكرر في التلفزيون. سيرى القتلى المعدومين في الشاشة الصغيرة...» وتتفاعل الذاكرة والتجربة لدى عدد من القصاصين العراقيين في الخارج، بإتجاه البحث في الماضي المحدّد في فضائه الجغرافي لصلته الحيوية بنشأة الكاتب وأبطاله ومناخاته الاجتماعية، خصوصاً، في البيئات الشعبية المهملة ثقافياً. وسنرى أنّ المجموعات القصصية للكتّاب عبد الله صخي وحسين الموزاني وسعيد فرحان وأحمد ناهد وجبار ياسين، خرجت من أجوائها، من أسواقها ومساربها الضيقة وبيوتها الطينية الواطئة، تصرخ على الظلم والهوان الذي أصاب الناس فيها. تتشكل الحكاية والسرد القصصي من «المكان»، نفسه ومن وعي أفراده، إذ تنغمر لحظة الكتابة في استرجاع «الماضي» بتفاصيله والدخول إليه بإتجاه ربط الأجزاء المبعثرة والغامضة فيه، من دون الحنين إليه. ويلاحظ، أن التجربة السياسية في القصة القصيرة، تأخذ مداراتها الكافية في أنماط متنوعة من التعبير عن أبعاد أزمة الإنتماء والايديولوجيا، التي تنتهي في العراق، إلى السجن والتعذيب والتصفيات الجسدية والإعتكاف والتهجير والهروب إلى كردستان العراق للإلتحاق بفصائل الحركات المسلحة والخروج إلى المنافي المجاورة والبعيدة... فصارت كل القصص العراقية في الخارج تئن من وطأة السرد، عن العسف والقمع المتجذر في بنية النظام ومؤسساته. ولعلّ ظاهرة السجن وما يتصل بها، إحدى العلامات البارزة في الأدب القصصي، التي حملت "هيفاء زنكنة"، إلى جمع قصصها في كتاب بعنوان «في أروقة الذاكرة». يروي تجربتها وهواجسها الإنسانية، بالإمتداد إلى «المكان» وعناصره في «قصر النهاية»، إلى وحشية التعذيب والإذلال، إلى نزعة المقاومة، إلى الجلادين. ترسم الكاتبة في قصصها صوراً عن الإضطهاد والخوف والموت ومعاناة النساء السجينات لأسباب عادية، بعد أن نقلت مؤقتاً إلى سجنهنّ في بغداد، فأضافت التجربة إليها بعداً آخر في الكشف عن هموم المرأة في السجن والرياء السياسي في ظلّ التحالف مع الحزب الحاكم. وكانت قصص الكاتب فائز الزبيدي في مجموعته «جذور الحجارة»، وبخاصة بقعة ضوء، ذات بعد فني، يكتسب أهميته في أفعال المقاومة والخروج على حال التعذيب الجسدي والنفسي. وكتب القاص كريم عبد قصة «عزف عود بغدادي» و«وليالي السيد سلمان» ولشاكر الأنباري قصة «الزنزانة» وللقاص رحيم كريم «ذاكرة الجدران» وللقاص عبد الله صخي قصة «الشاحنة»... وغيرهم. وعلى الرغم من أهمية قصص «السجن»، وما تثيره من قضايا تخترق أسواره وتفكك بنيته، كـ «مكان» لتعذيب الإنسان وإضطهاده وسحق معنوياته، إلا أن القارئ يبحث عن رؤية فنية مغايرة للأنماط الوصفية والتجربة الذاتية، التي تحوم حول نفسها ولا تتعدى الفضاء المغلق فقصص هذا النوع جديرة بالتحرر من السجن والنفاذ من أسره فنياً، بالتمرد الداخلي على قيوده وضغوطه في إبداع أفعال مضادة وسرد قصصي ذي نكهة ساخرة، يغير مجرى الأحداث ويردّها إلى خلفية الجلادين وتكوينهم الثقافي وإرتباط ذلك بسلطة «الدولة» أو «الحزب» ومؤسساته. ولعلّ قضية «الأنفاق» في العراق، أحد أهم مؤشرات الإبداع في التحرر من السجن، كما حدث في نفق سجن الحلة الشهير وسجن بغداد والكوت والفضيلية وسجن «نقرة السلمان» الصحراوي. فلهذه السجون وأنفاقها قصص مثيرة في المخيلة الشعبية لطريقة حفرها وتنفيذها وسرية الاحتفاظ بها إلى حين ساعة الخروج، كما عرف عن نفق سجن الحلة، الذي غادره عشرات السجناء عام 1967. فالفنّ القصصي بطبيعته الإبداعية حريّ أن ينأى بأبطاله ومناخاته من الوقوع كضحايا يستحقون الشفقة. ويطور بعض القصاصين بنية السرد في هذا المجال نحو آفاق أخرى، بخلق فضاءات ورؤى فكرية ونفسية، أوسع مداراً، تتحرك في أسلوبية ساخرة، تميل إلى الإيهام والتقاطع واللعب، وهو الأجدى في التخلص من عبء السياسي المثقل بالحقائق والتجارب المتراكمة. يلاحظ هذا النوع من السرد الفني في قصتي «عزف عود بغدادي» و«ليالي السيد سلمان» لعبد كريم. وخطا شاكر الأنباري في قصة «شبح المدينة» لتعميق الرؤية ودلالاتها المتصلة بالنظام ومؤسساته، وهي ذات بعد سردي، تضيق بها مساحة القصة القصيرة، ولعلها تحمله نحو السرد الروائي في التخييل ورسم أبعاد «الدكتاتور» وطغيانه في أعمال روائية. وفرضت الحرب العراقية ـ الإيرانية، ايقاعاتها التدميرية على «نصوص» الحرب، المستمدة من تجربة عدد كبير من القصاصين الذين أرغموا على الإنقياد إليها والدخول في حرائقها. فلا تزال أهوال الحرب وبشاعتها، تلوح في أفق الذاكرة والكتابة، تهبط بظلالها المعتمة ودويّ أصواتها وتناثر الجثث وتمزقها والتحصينات العسكرية وحواجزها في المدن، التي تحولت إلى أنقاض، وكذلك مشاهد «التابوت» ونحيب الأمهات... على لحظة الإبداع. تحيله إلى فضاءات ممتلئة بالإضطرابات النفسية والاجتماعية والخوف، يطاردها شبح «الموت» يرابط في الروح والقرية والمدينة، ليل نهار، طوال سني الحرب اللعينة. يهرب الجنود الكتاب من أتونها. سترافقهم أينما حلّوا. لابدّ أنهم سيدخلون عالم الحرب والموت والجنود والفقراء وأنظمة الإستبداد والطغيان وإصرار القرارات الفردية الظالمة في إشعال الحروب وإطفائها وتجاهل صفحاتها المروعة، بطريقة مغايرة، يتعلمون من تجارب الشعوب والإبداع والكتابة ذات النزعات الإنسانية المعادية أصلاً لحروب الطغاة والقهر والإحتلال. فتنهض من ركام الحرب والذاكرة وخراب النفس قصص قصيرة، لكتّاب دخلوا الحرب وشاهدوا جوانب من فصولها مثل: نجم والي وجنان جاسم حلاوي وطالب الرماحي. وتكاد لا تسلم مجموعة قصصية من نصّ أو أكثر عن الحرب. وشملت «ظلال الطيور الهاربة»، لجنان جاسم «نصوص» الحرب والموت والدم. ويبدو أنّ بعض قصص المجموعة وقعت تحت التأثير المباشر للحرب، فلم تقدم بنية فنية متماسكة، ويمكن ملاحظة التفكك في نمطية الحوار التقليدي الذي لا يفضي إلى شيء، وكأنه موضوع من الكاتب لا علاقة له بعملية الإبداع، كما في قصة «غابة في غرفة» و«أقواس الحدأة». فالحرب لدى عدد من القصاصين العراقيين في الخارج، ذات بحث متواصل، يمثل إضافات معرفية وفنية، غير التي استجابت سريعاً لأصداء الحرب. فلم تغادر الحرب ومناخاتها فضاءات الكتابة عند نجم والي والأنباري وكريم عبد وعبد الإله عبد القادر وإبراهيم أحمد. والحرب في العراق، ليست واحدة، إنها حروب متداخلة... متناسلة... دائمة. لا يستطيع غير الإبداع المحمل بطاقات من التخيل والمعرفة والتفاعل مع لحظات التاريخ والجغرافيا والقصص الشعبية والناس، أن يكشف الأبعاد الأخرى الكامنة وراء إشتعالها والتصورات الاجتماعية والإنسانية منها. وتتسم القصص العراقية في الخارج، بتجربة التعبير عن الحرب وصدق المكابدة المنبثقة من المجتمع، فهي الوجه الآخر لأزمات الحرب وآثارها وإنعكاساتها المغيبة في «قصص» الدولة وإعلامها، والدراسات «النقدية» التي ظهرت عنها. فيمكن قراءة نصين متقاطعين في الرؤية الفكرية والبناء الفني. يخرج النص الرسمي الصادر من دائرة الدولة وقنواتها الثقافية معبئاً في التحريض على الحرب، يغرس الأفكار العنصرية، ويؤجج الكراهية بين الشعوب، ويضع اللغة والحكايات الشعبية في أدنى مستوياتها من «السوقية» والإبتذال، لأنها تنحدر من لغة إبداع إلى مفردات مفككة هجينة، تحاول الإمساك بعجلة الدولة ومؤسساتها، ولا فرق في ذلك بين القصة والقصيدة. وتشجع تلك الأحداث على التزلف والنفاق لأسباب كثيرة، لعلّ بعضها يعود إلى الخوف والتهديد من السلطة وأدواتها، إلا أنّ الدخول السهل في فلك الدولة، يظل أكثرها وضوحاً في وجود عشرات الأسماء من «القصاصين» و«الشعراء» و«النقاد»، الذين لا عهد لهم بالكتابة، فتدعمهم وتقدم لهم العطايا السخية في النشر والمكافآت المادية والمعنوية. فظهرت دراسات تشيد بقصص الحرب، وبالأجواء الثقافية، التي وصفها الكاتب «محسن جاسم الموسوي» في كتابه «المرئي والمتخيل»/ أدب الحرب القصصي في العراق، بقوله: «نرى أن الحرب أوجدت نشاطاً ذهنياً خلاقاً، أو أنها بوطأتها وشدتها وسعة تحدياتها حركت هذا الذهن أو حققت فيه النقلة التي يستلزمها الموقف نفسه... وجدنا أن عدداً كبيراً من المثقفين العرب والأجانب وجدوا العراق يمتلئ بنزوع ثقافي حيوي وبعمق موضوعي في رؤيته الكلية، إزاء واقع الأمور في داخل القطر وخارجه...»(4) وتأتي المرأة في بنية النصّ ومناخاته المشبعة بالحزن والكدر، تتلقى الصدمات بأنواعها الاجتماعية والسياسية، فينتابها قلق، يؤرقها ركام من الخوف. تشتغل النصوص على الاقتراب من هواجسها الإنسانية، وحضورها في خضم الأحداث وإنعكاسات الحروب والسجن وغياب «الأبناء». «ومنذ ذلك اليوم عرفنا ماذا تعني كلمة حرب، عرفناها ورحنا نتذكرها كلما رأينا الأم مجللة بالسواد تقضي مساءاتها تحت شجر الصفصاف، منتظرة عودة فيصل من الجبهة، ولم يدهش أي شخص من قصة عينيها اللتين راحتا تصغران شهراً بعد شهر، ولقد خيم شبح الموت على البيوت والأشجار والسواقي وشعر الصبايا وأعراف الديوك وحافات التنانير وخيوط الأفق...»(5) وفي قصة «أسرار الحجر» لعبد الله صخي، تتمثل معاناة الأم، المتحدرة من فئات اجتماعية كادحة، تصاب بفقدان إبنها. «ها هي امرأة مكللة بالسواد تجتاز الساحة كل يوم، صامتة كحجر، صنعت أقدامها جادة ناعمة، تمتد من البيوت المتلاصقة في طرف المقبرة إلى البستان... تلك الليلة غيرت الأم ملابسها، وارتدت السواد، خلعت حجل الفضة، رمت المحبس على الحصير، راحت تبكي، تدور في الأزقة والطرقات المغبرة، أما النسوة الأخريات فحبسن أولادهن داخل البيوت. جلسوا القرفصاء مرتعدين من الخوف والهلع...»(6) وتطغى الألوان الداكنة، خصوصاً، «الأسود» على وصف المرأة، للتعبير عن الإختناق والحزن من داخل محيطها، فلا تجد متنفساً للخروج من الأجواء الكئيبة التي تسوّرها. في قصة «المساء الأول» لكاظم ثامر الشاهري... «صرّ الباب وخرجت أم حسين إلى فناء الباحة بعد ظهيرة كاوية، تركت جدران الغرفة تزفر لهباً... كانت ترتدي ثوباً أسود طويلاً حتى أخمص قدميها ذا أكمام طويلة وشالاً أسود تلفّ به رأسها تحت عصابة سوداء، تتناثر على وشاحها الأسود بقع دهنية دكناء...» وفي لغة شعرية مكثفة رسم الراوي/ المؤلف في قصة «جدة المنزل» لسعيد فرحان، لوحة متخيلة عن ماضي الطفولة، تكتنفها الألوان الرمادية المثيرة للفزع. «... في كل مرة عندما كان الموسم يقترب، كان ثمة شيء ما، خفيّ يتحرك في المنزل، أشبه بغيمة صغيرة أو ضباب رمادي يتحرك خلف قصبات المنزل. شيء خفي ينهض، يجعلنا ننظر إلى بعضنا دون أن نتكلم، ذلك لأن الكلام غالباً ما يسقط على سطح تلك الغيمة أو بين طيات ذلك الضباب». وفي قصص هيفاء زنكنة، صور متنوعة عن المرأة «الأم» والسجينة السياسية، والمحكومة بقضايا اجتماعية والمثقفة التي تشعر بالإغتراب والقلق... «في محاولة عقيمة للتخلص من رمادية الجو والجدران والأثاث ومعاطف النساء والرجال وحقائب العمل، أعدت طلاء الغرفة بالونين الأحمر والأسود، فجاءت النتيجة كآبة من نوع آخر...»(7) وتؤكد عناوين المجموعات القصصية ولوحاتها الفنية وعناوين قصصها، الأبعاد النفسية والسياسية والثقافية لمحيط الكتابة وعناصرها الكامنة في مخزون الذاكرة، الذي لم تغلق مدارجه بعد لدى غالبية القصاصين العراقيين في الخارج، رغم توفر فضاءات ثقافية أخرى، يمكن الإستزادة منها وتنويع الكتابة برفدها والتفاعل مع القضايا الجديدة في الفن والإبداع. رسمت هيفاء زنكنة لوحة غلاف كتابها «في أروقة الذاكرة» بنفسها، فشكلته من قضبان متقاطعة، مختلفة الأحجام والمسافات، يكسوها اللون الرمادي، مع بقعة صفراء في الزاوية العليا من الجهة اليسرى وأخرى حمراء في مربع يقع أسفل اللوحة. تظهر صورة واضحة لطفلة من خللها، وفي نهاية الجهة اليسرى دائرة كروية، كأنها نافذة الكاتبة ورؤيتها إلى الماضي والعالم. واختار جبار ياسين لمجموعته «وداعاً أيها الطفل»، لوحة الفنان الإسباني «بارتولومي موريليو». تصور حال طفل مشرد، يجلس وحده، تجتمع في ملامحه الخيبة وإنكسار الطفولة. تلوح في الجهة اليسرى نافذة. يضفي اللون الأسود بعده التراجيدي على اللوحة. وتظهر في لوحة «الهواء... يوشك على الوجوم» لكريم عبد، صورة شاب معلّق بطريقة بشعة، مكورة أطرافه، يعاني من تعذيب الجلادين. وتتشابه لوحات أغلفة مجموعة سمير أنيس «ما لا يعرفه أحد سواي» و«هموم علوان الأحدب» لعبد الإله عبد القادر، ولوحة «ثمن الصمت» لطالب الرماحي، في التعبير عن الإنحسار والإنكسار النفسي، لأشخاص يكتنفهم اليأس والعزلة والقلق... ولم يكن إتفاقاً أو مصادفة، ذلك الذي تحمله لوحة غلاف «مقتل علي بن ظاهر ومتاهته» لعلي عبد العال، و«رؤيا اليقين» لسلام إبراهيم، فكلا الكاتبين خاضا تجربة الكفاح المسلح في كردستان العراق في وقت مبكر، وعايشا الأحداث عن كثب وبحسّ مرهف، فتركت الأيام مرارة في صدى ذكراها. تلتقي اللوحة وتتفاعل مع المتن القصصي، في الموت والخيبة وسقوط الحلم، وإنهيار «المثل» الايديولوجية، في إمتحانات «القادة» وغطرسة «السلطة»، والقرار «الحزبي» ودكتاتورية «القائد» في جبهة القتال!، كما في كتاب عبد العال. تظهر في لوحته ثلاث جثث ممددة، ملقاة، ينبعث منها الخزف والصمت، تكتسي باللون الرمادي، إلا واحدة يغطيها اللون الأحمر، وكأنها ذبحت توّاً! وفي لوحة «رؤيا اليقين»، شاهد قبر، كتبت كلمة «الله» عليه بوضوح.
تداعيات الماضي بين تجربة الإنتماء والمنفى: تأخذ تجربة «الإنتماء»، بأبعادها الحزبية والسياسية نصيبها من الإمتداد المتنوع الأشكال بين أبطال القصة، فتقترب المسافات بين الراوي والبطل والمؤلف، وتكاد تنعدم في بعضها، لغياب الحوار وتعدد الأصوات من جهة وهيمنة الصوت الواحد، المعبر عن إنتماء المؤلف، من جهة أخرى. يواجه الدارس كمّاً كبيراً من القصّ العراقي، الذي عالج أبطاله قضية الإنتماء. غير أنّ السؤال، هو مدى العلاقة بينه وبين الثقافي بوصفه بعداً إنسانياً، وإنجازاً حضارياً، تكون القصة، أحدى روافده الإبداعية، ويهمنا قراءة النص القصصي، بإعتباره مجموعة إشارات، ينتج المتكلم فيه «ايديولوجيا»، وكلمات ـ حسب باختين ـ هي دائماً عينة ايديولوجية. ولعل السؤال الذي يضعنا على طريق البحث الجاد في القصة العراقية في المنفى، هو لماذا يعيش أبطال القصص، «الماضي»، بتفاصيله ومن دون النظر إلى الحاضر الذي أصبح زمناً قائماً له مكوناته في محطات الغربة منذ عشرين عاماً؟ والسؤال الآخر، هل في الماضي إضافة نقدية ومعرفية، أم إجترار ونواح؟ سنعرض قراءة للماضي في نصوص ايديولوجية، يمكن ملاحظة أبعادها وأنماط التفكير والرؤية الفنية فيها. ولعلّ مجموعة الكاتب إبراهيم أحمد القصصية «بعد مجيء الطير» إحدى العلامات الأيديولوجية الواضحة في مقاصدها وإنتماءات الأبطال القصصيين وأحلامهم في بناء عالم آخر. إنهم يعيشون ماضيهم، يتذكرون مراحل حياتهم ووعيهم وعلاقاتهم الاجتماعية، التي هيأت لهم أسباب الإنتماء والنشاط السياسي. فالحاضر، لا يمثل سوى لمحة سريعة، تعيد البطل إلى ماضيه، وتربطه بتلك العلاقات، كما في قصة «تمثيل». «كان جليل الواسطي في غرفته المؤجرة في بيت قرب محطة «النيوكتي» في بودابست، عندما رآهم في التلفزيون يحتفلون بيوم المسرح العالمي. تذكر أنه التمثيل، شاغل عمره... أحسّ بنشوة حزينة وهو يستعيد أدواره ووجوه زملائه وأدوارهم المتألقة...» وفي قصة «المعلمون يتجولون في الليل»، يتذكر البطل معلم اللغة الإنكليزية، الذي علمه إياها في وطنه قبل ثلاثين عاماً من دون أن تسعفه في إدارة حوار مع سائح أراد الحديث عن الوضع في العراق. فينسلّ نحو الماضي إلى درجة الإنقطاع التام مع الحاضر، تصبح «المدرسة»، فضاء مكانياً، يستعيد به جانباً من الصراع الاجتماعي والسياسي من خلال سلوك المعلمين. كان معلم الإنكليزية النموذج السيئ في ذاكرة البطل فهو «... لم يعلمنا الإنكليزية... بقدر ما علمنا الحقد عليه وعلى المدرسة». ومعلم الرياضة، الذي كان يعزل التلاميذ الفقراء من اللعب مع أبناء الأغنياء «كيف أضع أجسادكم الهزيلة مع أجساد هؤلاء الأصحاء»، ويمثل معلم العربية النموذج الآخر في الوطنية والتحريض على الإستعمار، باستخدام مفردات، الحرية، والإستقلال والنضال والجماهير والنفط في تعليم اللغة. ولا أظنّ أنّ أدباً عربياً قديماً وحديثاً، حمل مفردات ومعاني الخوف المتأصلة في روح الإنسان والجماعة، مثلما حمله ويجري التعبير عنه في الأدب العراقي. فالإبداع العراقي ثقيل بوطأة الإحساس بالخوف، المتأتي من الصراع وعنفه، وإمتداداته التاريخية والاجتماعية القديمة. فتحفل القصة العراقية القصيرة بذاكرة موشومة بالخوف، بمعناه السياسي والاجتماعي، معبأة بمواصفات «المكان» السجن وما يتصل به، من أدوات ووسائل إعتقال وجلادين. فسيارة «الفولكس فاغن»، لا تغادر مخيلة الأبطال القصصيين الذين وقعوا في اسر الإعتقال، فالبطل في قصة «الطرطور» عنوان المجموعة القصصية لصلاح عبد اللطيف... من شباك المطبخ لمح سيارة فولكس واغن بيضاء، فطاش عقله، كان بحاجة ماسة لتكذيب وجودها... هي نفس السيارة التي نقلت أصدقاء له إلى بوابة الجحيم... وصارت الشرطة كالظلّ تتابعه، يميز مراتب أفرادها في قصة «ما قالته الشجرة» لسمير أنيس «وأستطيع أن أميز بين المخبر وسائق التاكسي...». ويتذكر سيارة «البونتياك السوداء»، التي تقف كالعادة، تتابع حركات الناس، وتنقضّ على من يشتبه في عدم «ولائهم» للنظام. ويصير الخوف، كما يقول بطل قصة «الخوف» في مجموعة النافذة لسعيد فرحان «هو الشيء الوحيد الذي يجعلنا نتذكر...»... لقد تعلمت الخوف كحرفة النجار، وكنت أستعمل ذات المسامير التي يستعملها النجار ليصنع منضدة، في دقّ خشبات الخوف على ذراعي، كان الخوف يقف عند حدود ملكتنا البشرية...». وتكون «المقهى»، مكاناً مفتوحاً، تخترقه أجهزة السلطة متى شاءت، فتبث الرعب في داخله لأنها تخشى التجمعات البشرية الواقعة خارج دائرة هيمنتها، وتهدف إلى إفراغ «المقاهي» من وظائفها الاجتماعية والثقافية المعروفة، وتحويلها إلى مكامن سرية للإعتقال والقتل... وتظهر قصة «القتلة» لكريم عبد في مجموعته «الهواء يوشك على الوجوم» عمليات رصد ومراقبة الناس، بقصد إدخال الفزع في نفوسهم، فيقتحم ثلاثة منهم المقهى، يحيطون أحد الجالسين، ويقف الرابع في باب المقهى، يراقب النادل حركاتهم، تذكر «زبونه الذي كان يتردد على المقهى متوجساً من نظرات الآخرين. كان المطر ينهمر في الخارج، وثمة دماء تسيل وتنتشر من الرصيف إلى الشارع...». وبأسلوب فني، يجمع بين الواقع والمتخيل القريب الإدراك من القارئ العراقي والبعيد على غيره. تدخل قصة «م.أ.ر.ع.س» للكاتب المبدع فؤاد التكرلي في مجموعته القصصية «موعد النار» عالم «الخوف» من دون إثقالها بوقائع سياسية مباشرة أو بطولة المواجهة والإنتماء السياسي كما أنها لا تكتفي في التعبير عن الضجر والإنتقام والإدانة... إنها تضفي على الخوف بعده النفسي والاجتماعي، بمعنى «تعميمه» في المجتمع، فيصبح جزءاً من مقومات السلطة وأدواتها الخفية في قهر الإنسان، التي هي أكثر تأثيراً من أدواتها العلنية. فيكتسح الفضاءات كلها، بل يتسرب تدريجاً إلى أعماق الإنسان ودواخله الدفينة لتشيع في التردد والهزيمة، وتلغي «التلقائية» الإنسانية، حتى تخرجه من دائرة الوحدات الاجتماعية الفاعلة، فيثير فيه الخوف المنظم أزمات عصبية وعقلية، يعجز عن تجاوزها، أو إيجاد الحلول المناسبة لها.
إغتراب البطولة إغتراب « البطل» القصصي، بمفهومه الشعري، إذا صحّ التعبير، نعني به قلقه الداخلي وإضطرابه وصعوبة تآلفه مع محيطه الاجتماعي، بخاصة، حينما تسري فيه أسباب تهميش الإنسان وإنتزاع جماليات وجوده وتمرده. فالإغتراب بهذا المعنى، يمثل لحظة إبداع، يخرج النصّ عن الأطر الموصوفة أو الموضوعة سلفاً، ويأخذ أبعاده النفسية لتوافر شروط الحرية ومحاورة الذات، بقصد إستجلاء العناصر الفاعلة فيها، بما في ذلك إستدعاء الماضي، من خلال الأسئلة. فالعودة إلى الإبداع، حصانة، وحماية موقتة من «النمل» والديدان المتكومة خلف الأبواب! فالإبداع عندئذ ملاذ شخصي، يمكن أن يتعرض للإهتزاز، لأنّ الخارج موبوء، يدفع بإتجاه النكوص والإنكفاء على الذات، ما يؤكد نوعية العلاقة بين الإبداع والمجتمع. فالأدب القصصي، يتنفس ملء رئتيه من الحياة والمجتمع والنشاطات الإنسانية وفاعلية المنظمات وطموح التغيير والإرتقاء نحو آفاق التحرر من العبودية والإستبداد والإستغلال وتحقيق الوجود الإنساني بعيداً عن الهيمنة والتسلط السياسي والايديولوجي. تنتعش البطولة عندئذ وتخرج من شرنقتها، وتقدم إضافات فنية جديدة، خصوصاً، إذا توافرت عناصر الحرية في الإبداع ومنها، حرية الحوار وحق الإختلاف والتضاد بين شخوص النصّ القصصي، وإن تعارض مع رأي المؤلف. لذلك يصبح وجود المسافات الفنية بين الراوي والبطل والمؤلف، ضرورة لا مناص منها، تعكس مدى تطور عملية الإبداع من جهة وتحرر المؤلف من ضغوط الإنتماءات الايديولوجية والذاتية وبالتالي تمثل نوعية العلاقات الاجتماعية والحضارية في المجتمع. نحاول تفكيك نصوص الإغتراب في البطولة، لأنها ذات مناخات متنوعة في جوانبها الفنية والاجتماعية، وسنعرض في قسم منها، معاناة الإغتراب المتعددة الأشكال، وبخاصة ما يتصل منها بالنفي والموت والتهجير الجماعي والتشرد... ولعلّ الصمت والشعور بالوحدة والعزلة والخوف وإهمال الضرورات اليومية في الحياة، أكثر المعاني تعبيراً في إغتراب البطولة، يمكن قراءتها في كتابات الأنباري ومحي الأشيقر وعلي عبد العال وعبد الإله عبد القادر... إنها تراكمات طويلة تتصل بالإحباط، وتراجع المشروعات الكبيرة والطموح في إنجاز الأهداف والشعارات الوطنية والقومية وسقوط البناءات الكبيرة، والنماذج العالمية في السياسة الدولية. وجد البطل القصصي نفسه محاصراً في ديار الغربة، يلاحظ الإنهيارات، يمتحن ذاته، مثلما يمتحن أفكاره ورؤاه، ويضح تجربته وإنتماءاته على المحك. يقدم الأسئلة، يحاول إكتشاف العالم من حوله، والتعرف من جديد على رفاقه، يقارن... توافرت له فرص المحاورة مع الذات والآخر، حتى صار يتحرر تدريجاً، من عبء «الإنتماء» وقيوده وهيمنة الإتجاه الواحد في حياته، ومن إمتثال «النموذج» ومماهاة «القائد» الحزبي والسياسي، بالإضافة، إلى سقوط الموانع الأخرى التي كانت تحجب إمتداد الرؤية. فالإغتراب، ليس حالة فردية موقتة، أو هامشية، يمكن، أن تزول بإنتفاء أسبابها، إنها معقدة ومركبة في دواعيها، ينظر إليها في بعدها الإنساني في القصّ، بوصفه أحد أشكال التعبير في المواجهة والمعاناة الداخلية والإضطراب النفسي والاجتماعي. لهذا يصحّ قراءته في إقتراب المسافات الفنية أو إنعدامها بين الراوي والبطل والمؤلف، ووضوح ضمير المتكلم «أنا» في السرد القصصي. ما يشير إلى تجربة «المؤلف» نفسه، الذي يجمع بين الثقافة والإنتماء، ولا يلغي إستخدام ضمير «الغائب» تجربة الكاتب، كما في قصص الأشيقر وعبد الإله عبد القادر. فالإغتراب، ليس الإنزواء والإنسحاب التدريجي من المجتمع والحياة، كالذي عند الصوفية والخوارج، لعله إغتراب الذات المجاورة لقلق الكاتب في الإبداع الذي يمثل عنصر الإستجابة لتشكيل الأشياء والقبض عليها، لئلا يزحف المحيط الغثّ للسطو عليها وتهميشها، وتلك سمة الإبداع وأحدى وظائفه الاجتماعية والإنسانية في مقاومة الحصار والإختناق الرامية إلى تهميش الإنسان و«تقزيمه» ونزع جماليات وجوده. فمجموعة ـ أصوات محذوفة ـ للكاتب محي الأشيقر، هي أصوات الغرباء والمنسيين الذين يكاد الزمن الطويل المعبأ بالخوف والقلق يطويهم لولا نبض الحياة والصراع الذي يسري فيهم. يشتغل «القصّ» من خلال «الراوي» على الدخول في محيطهم، يصف تفاصيل حياتهم، يتوفر على قدر كبير من المعرفة بتفاصيل «المكان» الجغرافي، بل هو مأخوذ بالأمثال الهندسية والرسم والألوان ومسألة «الفراغ» كما في قصة عنوان المجموعة: «مستطيل حديدي أزرق يتعامد بصمت عال. المستطيل الحديدي هذا يعلوه فراغ ترابي اللون في الضحى، ويتكدس الليل في أوانه بهدوء ويسر، أعلى بقعة الفراغ العالية هذا هو باب بيت، بيت من بيوت الغرباء والمنسيين، باب أزرق صامت، حزين، يعلوه صمت عش مهجور في الضحى...» يتحول «المكان»، إلى علامة من علامات القلق بمفهومه «الشعري» في إغتراب الإنسان، بما يؤدي بالضرورة إلى إستدعاء المكان الآخر، ذي الفضاءات المفتوحة، تطوّف المخيلة والذاكرة والحنين في معالمه، وتكون مدينة «الحسينيات والأضرحة والمواكب والشموع...» عالمه الآخر، ينسلّ إليه «لوجه أبيه» الذي نسيه لأسيجة الحدائق المبلّلة بأيلول، لخطوات البنات وهن يغادرن المدارس بنشاط وردي. «لطبول ليلة العاشر من محرم وهي تدوي في أنحاء القلب...»، كي يعادل عالم العزلة والوحدة والشعور الطاغي بالإنحسار، الذي يعبر عنه هذا «المكان» القصي من المدينة الذي لا يكون سوى «غرفة»، تثير الأسئلة والحوار في داخله، يغادرها بصمت ويعود إليها مثقلاً به، تحيطه أجواء الحزن والألوان القاتمة كأنها «زنزانة» حبس. «كان المكان مشمولاً بصمت أبيض، فثمة مشفى قريب ومنعزل. وكانت الخشخشة متقطعة في مكبرة صوت أحد المساجد، الصباح لم يبدأ بعد...» فالمكان في قصص المجموعة يأخذ بعداً رمزياً، لا يمكن تأطيره في مواصفات جغرافية بحتة، بل يدخل في صلب بنائها الفني ويشكل محوراً من محاور السرد فيها. في قصة «أمطار أخيرة»، يبدأ الراوي القول: «بصمت تام قد غادر غرفته على حافة المغرب. وهذا وقت يشبه الماء، أي أنه غادر الغرفة على حافة الماء...» والغرفة «الرمز»، ذات الفضاء المنغلق، تشعرك بمدى نفور الشخص المقيم منها، وسعيه إلى التحرر من «سلطتها»، فالعلاقة بينهما علاقة إغتراب نفسي متأصل «كان عائداً إلى غرفته بأطراف دمشق، وكان يطرق باب غرفته. ضغط على جرس الباب لفترة بإبهامه ثم راح يضرب واجهة الباب بباطن كفه لفترة من الوقت. وفجأة إنتبه إلى أنه وحده من يسكنها، فلماذا كلّ هذا الطرق؟ ويهجر بطل القصة «الغرفة» في مسعى لكسر نمط حياته الرتيب والتمرد على ظروفها الباهتة، فينتقل «السرد»، إلى مرحلة أخرى ذات فضاءات مغايرة، يتخلص فيها من وحدته «من جيب بدلته الخاكي، أخرج مفتاحاً فضيّاً، وضعه في قفل الباب... ثمة إرتخاء في أسفل الباب... كان هناك «غصناً ناحلاً» قد إشرأب برأسه من إرتخاء الباب»... تطلع إلى المفتاح الفضي المستقر في قفل الغرفة، فكر في إنتزاعه، لكنه سرعان ما ترك المكان، خاطفاً السلم بقفزات سريعة، لم يجد نفسه إلا بين جموع المقاتلين المبلّلة بالدمع ورائحة البارود والنحاس... فالبطل في قصصه، يراجع الذات، يفجر الساكن، لا يريد أن يتجاهل أو يلغي «الماضي»، إنها أسئلة القلق الدائمة التي تحاصره وتبحث عن جواب، فالرغبة بالتمرد على التعايش مع المحيط، صفة تلازمه، فيهرب منه إلى مدينته إلى محيطه «الكلي» «وفي تلك الليلة ظلت فتاته تبحث وتدور من شارع إلى آخر، ومن مرقد إلى مرقد ومن زقاق لزقاق، نشدت الأرصفة والمقاهي والحسينيات وأطراف المدينة، حتى موعد موكب العزاء الوحيد في تلك الليلة، جاء الموكب، تتقدمه الرايات، والجواد الشبيه المطرق، المراش بعشرات الأسهم. لقد إختفى من دون أن تدركه في تلك الليلة». فقصص المجموعة، تحاول أن تقدم تجربة فكرية إنسانية شاملة على البحث في الخلاف السياسي والايديولوجي الذي عرف به القصّ العربي وبخاصة «العراق»، لعمق الخيبة والإنكسارات التي تطفو على السطح، لكن ذلك لا يبرر ضعف عنصر «الحوار»، مع الآخر، فيه تتوسع دائرة الأصوات المتعددة الرأي من جهة وتنقل «النص» من صفته النثرية البحتة إلى الفنّ القصصي. لقد أضفى الإستخدام المكثف للغة ميزة على النصّ القصصي، جعلته يبتعد عن التكرار ويميل إلى التداخل مع الشعر لشدة العناية بإنتقاء المفردات الدالة التي توحي إلى الرمز أكثر منه إلى المباشرة والوضوح، حتى يخيل إلى القارئ، أن «الكاتب»، يرسم صوراً ذهنية عند لحظة الكتابة، لذلك تبدو مفردات «الرسم» والألوان التي تحمل سمات الحزن والوحدة والإرهاب. ولعلّ قصة «ضوء وظل»، تعبر بوضوح عن تلك السمات. «... الذراع الحجرية العمياء التي تمسك بخناق رجل، تمسك بروحه، أمام جمهرة من الناس... ها هو منكمش بحركة جسده إلى الحائط. الحائط يمتد من المقهى حتى آخره. هذا الإمتداد يفضي إلى فراغ فسيح... تقترب العربة إلى حيث يتضافر الناس وهم يتحلقون ويتطلعون إلى الذراع الضاربة المنشوبة بعنق الرجل الشاحب. ... راحوا يتوزعون ويتراكضون في إتجاهات البركة الملونة... هنا تمتد قبضة الذراع العمياء في عنق الرجل الوسيم وتعبث بمنبت تفاحته... والناس لا تزال تتراكض إثر الفاكهة المبعثرة بإتجاهات إنتشارها... يسدّد صاحب العربة ضربة سكين أخرى... » هذه واحدة من تجارب الكتابة القصصية في المجموعة التي لا تريد أن تعبر عن الموقف الفكري والسياسي مباشرة، فلجأت إلى «الفانتازيا» في القصّ ويمكن تصوّر لوحة تتشكل من الكتابة. وفي المجال نفسه، تقدم قصص المجموعة العلاقة بين الكتابة الفنية والتقطيع السينمائي، من خلال لقطات فنية سريعة تمثل الإنتقال من مشهد إلى آخر، من دون الوقوف فيه كثيراً وتأمل تفاصيله وهي مشاهد مأسوية يغلب عليها هاجس الخوف والقلق الذي تشترك فيه قصص المجموعة، حتى يمكن نعته بنصّ «الصمت» في دلالاته الإنسانية. وتدخل قصة «مساءات شامية»، للأنباري في مجموعته «شجرة العائلة»، عالم الإغتراب وتسبر أغواره ودلالاته النفسية والاجتماعية. تقلّب أوجه «البطولة» فيه، تضع فاصلاً فنياً في المسافة بين الراوي والبطل، من خلال المكان والحركة والأسئلة. يتوزع السرد القصصي فيه إلى جزءين إثنين، تتولى الروي في الأول صاحبة الدار، وفي الثاني، يتحدث البطل بضمير «المتكلم»، وكأنه «تكرار» للأول، يمكن الإستغناء عنه. تنغمر الرواية في وصف «البطل» يداخلها هاجس الإقتراب منه لمحاورته وإختراق عالمه لكشف أسرار هروبه الداخلي وصمته وإهمال شؤون حياته اليومية. تتوافر فرص الوثوب إليه في «حجرته»، تشتهيه «لفتوته وشبابه» تراقبه، تختلس النظر إلى «مكانه»، ترهف السمع إليه. «لقد إجتاحتني رغبة طاغية كادت أن تدفعني إلى الإستلقاء على سريره... أنا أعرف الرجال من عيونهم، وعيناه كانتا خائفتين، عيناه حرب شرسة...» تحاول إغراءه في البقاء، فتطلب من زوجها إعفاءه من بدل الإيجار، لأنه من دون عمل ثابت، يشتغل قطافاً في موسم، قطف الفواكه، إنه يختلف عن الآخرين في سلوكه. طردت مؤجراً من بلده، لأنه جلب إلى «البيت امرأة غير محتشمة» فقال إنه «لاجئ سياسي». أما هو «شبح في مقبرة، شجرة جافة، نهر ناشف، غيمة بلا مطر، لا نأمة لا صوت لا آهة، إن كان فيه موضع يشفّ عن مكامن روحه فهو عيناه». تبدو ملامح إغترابه الروحي وهروبه، قلقه وخوفه في مظهره وإهماله وإعتكافه على نفسه في إستهلال النصّ وفي رمزيته الدالة على تكثيف مشاعر الإغتراب. غير أن طغيان هموم الإغتراب والشعور بهامشية المكان وعدم إمكان التعايش معه والإندماج به، حالت دون الدخول فنياً في أعماق المجتمع والإستفادة من تراثه وتفاصيل حياته. يمكن أن يلحظ القارئ الغطاء الخارجي للمدن العربية والأجنبية في القصّ، مثل: دمشق وعدن وبيروت والجزائر ووهران والشارقة وطهران وموسكو ولندن وبودابست ومالمو وغيرها...، كأنها محطات عابرة، تثير الذاكرة وتشكل عامل تحفيز على الكتابة، لا تنفصل عن الماضي ولا تتقاطع معه، بل، تتداخل «الأزمنة» وتتفاعل في التعبير عن القضايا المشتركة للإغتراب، إلا أن الماضي، مهما تكن وطأة تأثيره وحضوره، يأخذ في الإنزياح التدريجي، فيترك فضاء لحاضر المنفى، لأزماته، لذاكرة التهجير القسري والموت والعنصرية والخوف والشعور بالإنحسار. ويصاب البطل القصصي في قصة «طريبيل» للكاتب حسين الموزاني، من مجموعته القصصية «خريف المدن» بالدهشة والإغتراب المركب حين يلتقي أمه في عمان بعد غيبة طويلة في المنفى. يكتشف أمه ونفسه، تظهر علامات الفتور مع عالمه القديم، تتوالى الأسئلة من داخله، تتحول إلى بنية سردية متعددة «ربما أنا مصاب بمرض غريب مجهول دون أن أعلم به. مرض الدهشة؟ مرض الخوف؟ ما الذي تغير بي إذاً؟ قد تكون الوالدة نفسها هي التي تغيرت...»
الهوامش: * الورقة النقدية عن القصة العراقية في الخارج، قُدمت في الندوة الثقافية التي عنوانها "الإبداع القصصي: شهادات ودراسات" والتي نظمها قسم اللغة العربية في الجامعة المستنصرية بتاريخ 11ـ12/12/2007. 1) الرواية التاريخية، جورج لوكاتش، ص16 2) رواية «المرتجى والمؤجل»، غالب طعمة فرمان ص 78. 3) جغرافية الروح، محمود البياتي ص132. 4) المرئي والمتخيل، محسن جاسم الموسوي، ج1، ص69، بغداد 1986. 5) «أنا والمجنون»، شاكر الأنباري، قصة «دقات ساعة الجامع»، ص91. 6) حقول دائمة الخضرة، عبد الله صخي. 7) في أروقة الذاكرة، هيفاء زنكنة، قصة «وإلا ما معنى الحوار».
#عبد_جاسم_الساعدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كتاب (الحركة الوطنية في العراق وإضراب عمال الزيوت النباتية)
-
العراق بين ثقافتين...ثقافة المجتمع المدني وثقافة العنف
-
منصور حكمت: قراءة جديدة للماركسية الشيوعية فقدت معناها وارتب
...
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|