|
فوضى المفاهيم في العلاقات الدولية الراهنة
إسماعيل وساك
الحوار المتمدن-العدد: 2177 - 2008 / 1 / 31 - 11:05
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
كان العالم خلال فترة الحرب الباردة قائما على نماذج وقواعد استطاعت التحكم في مختلف التغيرات الدولية، حيث كانت الثنائية القطبية تضمن التوازن الاستراتيجي على مستوى المفاهيم المؤطرة للنظام الدولي، الشيء الذي انعكس على وضوح المفاهيم والقيم الأساسية لتلك المرحلة. لكن مع نهاية الحرب الباردة بدأ كثير من المنظرين يشيرون الى بداية عصر الفوضى Le chaos واللانظام le désordré في العلاقات الدولية، فالبعض يسميها بالفوضى "الخلاقة" فيما يعتبرها البعض الآخر بفوضى عارمة، وبذلك تغيرت كل التوازنات التي صنعتها الحرب العالمية الثانية، وأصبح العالم في مرحلة اضطراب وبحث مستمر عن ترتيبات جديدة في ظل الفراغ الاستراتيجي الذي يعيشه ([1]). أولا: فوضى في المفاهيم والقيم نتاج إختلال الموازين الاستراتيجية شكل الاختفاء المفاجئ للاتحاد السوفياتي بداية التسعينات اختلال في تركيبة المجتمع الدولي الشيء الذي أدى الى انفلات للأوضاع عن مسارها الطبيعي وتحول شامل لمجموعة من القيم والمفاهيم التي تضبط العلاقات الدولية، وفتح المجال لتأويلات متباينة لهذه القيم والمفاهيم (السيادة، حقوق الانسان، الديمقراطية والأمن). 1 ـ السيادة وحقوق الإنسان بين التوافق والتعارض مع قيام النظام الدولي الجديد بدأ يعاد النظر في مفهوم السيادة فالرؤية الجديدة للمفهوم أخذت تنطلق من أن السيادة يمكن أن تتخذ أكثر من شكل وأن تؤدي أكثر من وظيفة، وترى هذه الرؤية أن حقوق الفرد وحقوق الشعوب يمكن أن تستند الى أبعد من السيادة العالمية. فالمسألة المهمة التي تجدر الإشارة إليها هي أن هذه الأفكار أصبحت مجالا لتبرير سياسات لم تكن مقبولة سابقا من قبل المجتمع الدولي، وتتمثل في تبرير فكرة التدخل الدولي لحماية حقوق الإنسان ([2]). لكن هذه الفكرة تعرضت لانتقادات من الدول النامية باعتبارها فكرة مرتبطة بالاستعمار الذي عانت منه البلدان النامية، ففي الوقت الذي يرى الغرب في الديمقراطية وحقوق الانسان قيما عالمية وأساسية اعتمدتها الأسرة الدولية من خلال مواثيق واتفاقيات دولية، فإن العالم الثالث يعتبر هذه المسألة من صميم سيادة الدولة واختياراتها الوطنية، وبالتالي لا يحق لدولة ما أن تفرض مفاهيمها وقيمها باسم النظام العالمي الجديد. وترى وجهة نظر العالم الثالث بأنه ليس من المناسب أن يطلب كل بلد من بلدان العالم التكيف مع معايير ونماذج لبلد معين أو لبلدان معينة في هذا المجال. هكذا أصبحت مسألة حقوق الانسان سلاحا بيد الغرب ضد العالم الثالث، الذي بدأ يشعر بخيبة أمل اتجاه دول الغرب التي أخذت تحتكر تفسير مبادئ العلاقات الدولية والمواثيق الدولية ([3]) كما اعتبرت حقوق الانسان بالمفهوم الغربي ما هي إلا ذر للرماد في العيون وأداة بيد الدول الغربية تستعملها لاختراق سيادة الدول والتدخل في شؤونها الداخلية. ولعل ما يجسد غموض وفوضى المفهومين هو أن الإدارة الأمريكية تبرر اختراقها لسيادة الدول بمبرر الدفاع عن حقوق الانسان في نفس الوقت الذي تبرر انتهاكها لحقوق الانسان بحجة حماية سيادتها الوطنية. 2 ـ أوهام الديمقراطية الغربية: لقد تأكد بشكل واضح في مجال الديمقراطية مدى غموض وفوضوية المفاهيم لدى الغرب وبصفة خاصة لدى الإدارة الأمريكية، فالديمقراطية التي كثيرا ما نادى الغرب بتطبيقها في دول العالم الثالث، تم تجاوزها من طرف الإدارة الأمريكية سواء عن طريق قلب أنظمة الحكم في كثير من الدول أو عن طريق محاربة حركات وطنية وشعبية مناهضة لأنظمة ديكتاتورية، وبهذا الصدد يقول الكاتب الأمريكي وليام بلوم، William Blum في كتابه الدولة السوقية L Etat voyou أن الولايات المتحدة الأمريكية حاولت منذ 1945 قلب الحكم في 40 دولة أجنبية وسعت الى سحق أكثر من 30 حركة وطنية أو شعبية مناهضة لأنظمة استبدادية. وهو ما تأكد مع بداية ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، حين عبر الغرب عن ارتياحه بعد وقف المسار الديمقراطي في الجزائر سنة 1992. ومن جهة أخرى تولد لدى الغرب شعورا بأن انتخابات نزيهة في الدول غير الغربية ستهدد المصالح الغربية، لهذا فإن المسؤولين الغربيين أصبحوا يحاولون التأثير على هذه الانتخابات، ولم يعودوا متحمسين للدفاع عن الديمقراطية (حالة إيران، فيزويلا، بوليفيا، العراق، وما حالة حركة حماس المنتخبة من طرف الشعب الفلسطيني بشكل ديمقراطي وبحضور مراقبين دوليين على أساس برنامج انتخابي تشكل المقاومة أحد أهم بنوده، إلا دليل على وهم الديمقراطية الغربية وغموضها، بل أكثرمن ذلك عمل الغرب على معاقبة الشعب الفلسطيني بفرض حصار اقتصادي عليه لا لشيء إلا لأنه مارس حقه في الديمقراطية. وبين فلسطين ولبنان يتضح أكثر مدى فوضوية مفهوم الديمقراطية المتغنى بها من طرف الغرب، ففي الوقت الذي يعاقب ويحاصر فيه الحكومة الفلسطينية المنتخبة من طرف الشعب، يعلن عن دعمه ومساندته للحكومة اللبنانية الفاقدة للشرعية والسند الشعبي. مما يؤكد أن المعيار ليس هو الديمقراطية، بل الأمر يتعلق بمدى انصياع الحكومات للاوامر الغربية. وشاءت الصدف أن يتزامن هذا الصراع مع انعقاد الدورة الثالثة لما يسمى بمنتدى المستقبل بالبحر الميت يوم 1 دجنبر 2006 والذي يأتي في إطار ما يسمى بمبادرة الشرق الأوسط الكبير التي تهدف الى تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح، فأي ديمقراطية هذه التي تدعم الأنظمة الفاسدة وتناهض الأنظمة الوطنية المنبثقة من الشعوب. 3 ـ مفهوم الأمن: غموض في النظرية وفوضى في الممارسة يعتبر مفهوم الأمن من المفاهيم التي تتميز بالغموض والفوضى وبغياب الإجماع بين الدارسين والمختصين، حول معناه، الذي عرف تحولا منذ نهاية الحرب الباردة. فإذا كان تعريف أرنولد ولفرز Arnold wefers للأمن قد نال نوعا من الإجماع بين الدارسين وفقا للمنظور التقليدي للأمن، حين عرف الأمن، بأنه موضوعيا يرتبط بغياب التهديدات ضد القيم المركزية، وذاتيا يعني غياب الخوف من أن يتم المساس بتلك القيم. لكن تعريف باري بوزان Barry Buzan باعتباره أحدث تعريف لسنة 1991، والذي يعتبر الأمن بأنه العمل على التحرر من التهديد، قد تعرض للنقد من طرف بعض المختصين كالجامعي الفرنسي داريو باتيستيلا Dario Battistella الذي اعتبر تعريف بوزان للأمن تبسيطا لمعنى تعريف أرنولد ولفرز، وكذلك من طرف مكائيل ديلون M. DILLOn الذي يرى من وجهة نظره أن الأمن مفهوم مزدوج ولا يعني فقط وسيلة للتحرر من الخطر، بل يعني أيضا وسيلة لإرغامه وجعله محدودا ([4]). هكذا ظهرت مع بداية النظام العالمي الجديد دراسات نقدية حاولت تغطية نقائص التصور السابق ورفضت ربط الأمن بالحرب ودعت الى الارتكاز على مفهوم أكثر إيجابية. مما حدى بستيفن وولت الى وصف هذه المرحلة بمرحلة النهضة للدراسات الأمنية. وقد كان لهذا الجدال الفقهي حول مفهوم الأمن تأثير على الاختلاف النظري لمقاربة مفهوم الأمن في نظرية العلاقات الدولية وخاصة بين الواقعيين والليبراليين، في هذا الصدد يقول الواقعيون بما أن الهدف الأول الذي تسعى إليه الدول هو البقاء، فإن الأمن وفق هذا التصور يندرج ضمن الأهداف الأبدية. وفي نموذج وحدات سياسية مستقلة، يمكن أن يؤسس الأمن على ضعف المنافسين (نزع تسلح شامل أو جزئي)، أو على القوة التي يتمتع بها الطرف المعني، وهو ما ينطبق على الاستراتيجية الأمنية الغربية اليوم، القائمة على نزع تسلح أحادي يستهدف الدول الغير المتعاونة معه ويسلح الدول الحليفة. وعليه فإن التصور الواقعي للأمن يركز على الدولة القومية في حماية نفسها من الدول الأخرى وذلك بامتلاكها القوة العسكرية الكفيلة بحماية مصالحها ([5]). وبالمقابل يعتمد الليبراليون تصورا للأمن مخالفا للواقعيون، يتمثل في الأمن الجماعي، الذي يسعى الرد على أي عدوان أو أية محاولة لفرض الهيمنة عبر إشراك كل الدول الأعضاء في دراسة الخيار الملائم للتصدي له، وغالبا ما يكون نظام الأمن الجماعي حيادي في حكمه، بعيد عن تعريف معنى التهديد، ومضطر للانتظار ريثما يظهر التهديد، وقد تم إنشاء العديد من منظمات الأمن الجماعي كالأمم المتحدة التي تعتبر نظام أمن جماعي. لكن الممارسة العملية أبانت عن خلل في دور الأمم المتحدة الأمني، بحيث أنه إذا كان المعتدي أحد الأعضاء دائمي العضوية في مجلس الأمن، فله حق الاعتراض على تحديد الطرف المذنب أو الاعتراض على اتخاذ إجراءات جماعية. ولهذا السبب فشلت الأمم المتحدة في التصدي للتهديدات الرئيسية ([6]) وبالاضافة الى التصورين السابقين هناك من ينادي بتبني مفهوم أوسع للأمن يأخذ بعين الاعتبار مخاطر وتهديدات غير عسكرية، كالمشاكل الاقتصادية، الكوارث الطبيعية، المخاطر البيئية وحتى الثقافية. مما سبق يتضح أن هناك تباين وصعوبة في وضع مقاربة شمولية وحقيقية لمفهوم الأمن تحضى بإجماع أغلب الفاعلين الدوليين وهذا مرده الى إصرار الدول الغربية على تغليب الأمن في شقه العسكري على المجالات الأخرى. ثانيا: ما بعد 11 سبتمبر: مفاهيم قديمة جديدة سمتها الفوضى والغموض يكاد يتفق كل الدارسين والمحللين للسياسة الدولية، سواء الذين يعتبرون أن هجمات 11 سبتمبر 2001 تمثل تاريخا مفصليا في العلاقات الدولية الراهنة، أو الذين ينظرون الى الحادث باعتباره سرع في تكريس الهيمنة الأمريكية على العالم، أن هذه الهجمات أعطت الإدارة الامريكية فرصة ومبرر أوسع لممارسة استراتيجيتها وأسلوبها الأحادي في تعاطيها مع القضايا الدولية، أي إنفرادها بمقاليد الأمور. 1 ـ الإرهاب في الاستراتيجية الأمريكية يثير مصطلح الإرهاب العديد من الاشكاليات لا من حيث تعريفه وتحديد مفهومه ولا من حيث أسبابه وتداعياته. فعلى مستوى المفهوم، يلاحظ من خلال المحاولات العديدة لمقاربة مفهوم الإرهاب، أنها محل خلاف وجدال فقهي نتيجة اختلاف وتباين التعريفات بين الفاعلين الدوليين، فالولايات المتحدة الامريكية مثلا تصر على عدم تحديد تعريف واحد ومحدد ومتفق عليه للإرهاب، وتعتبر تفسيرها للإرهاب هو الذي يجب أن يسود في التطبيق العملي، كما تسعى الى حصره في الإرهاب الفردي دون إرهاب الدول بما يعنيه من خلط بين أعمال المقاومة التي تخوضها الشعوب المستعمرة وبين أعمال العنف التي تقوم بها بعض الجماعات أو الأفراد. ومن جهة أخرى تحاول هذه الدول القوية (أمريكا وحليفتها إسرائيل...) تبرير أعمالها العدوانية بأنها "إرهاب مضاد" ([7]). رغم أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أقرت في دجنبر من عام 1987 قرار هام حول الإرهاب، والذي ينص في إحدى فقراته على أنه لاشيء في القرار "الحالي" قد يضر بأي شكل حق أي أمة في تقرير مصيرها أو حريتها أو استقلالها ـ كما نص عليها ميثاق الأمم المتحدة ـ وخصوصا الشعوب المحرومة بالقوة من هذا الحق والأمم الخاضعة للاحتلال أو الأنظمة العنصرية أو أي شكل من أشكال السيطرة الاستعمارية، كما لا يحرم القرار هذه الشعوب من حقها في الكفاح لتحقيق تلك الغاية ولطلب الدعم وقبوله. لكن أمريكا وإسرائيل لم تقبل بهذه الحقوق، وعملت على صياغة اتفاقية شاملة ضد الإرهاب تكون مطابقة للتعريف الأمريكي أو كتب الجيش التعليمية، وتستبعد إرهاب الأقوياء وأتباعهم ([8]). وبالمقابل تصر دول العالم الثالث على ضرورة تحديد المفهوم الحقيقي للإرهاب قبل التفكير في وسائل محاربته، وعدم خلطه بأعمال المقاومة التي تخوضها الشعوب المستعمرة ضد قوات الاحتلال، كما تؤكد على أن الإرهاب ليس "سلاح الضعفاء" كما تدعي غالبا الدول القوية. والتاريخ يبين أن الحروب التي خاضتها وتخوضها هذه الدول وخاصة الولايات المتحدة ليست حروب على الإرهاب، بل تستعمله كأداة لشرعنة تدخلاتها وعدوانها على الدول وقد سبق لإدارة ريغان أن قالت منذ عشرين عاما بأن الإرهاب الدولي المدعوم عالميا من الاتحاد السوفياتي هو التهديد الأكثر الذي تواجهه الولايات المتحدة الأمريكية ([9]). وهو نفس النهج الذي صارت عليه إدارة بوش الإبن بعد هجمات 11 سبتمبر، فباسم الحرب على الإرهاب تدخلت في العديد من الدول عسكريا (شن حروب استباقية) وسياسيا (مبادرة الشرق الأوسط الكبير). 2 ـ الحرب الاستباقية:اختزال الأمن الدولي في أمن أمريكا لعل أهم مفهوم أصبح تتداوله الأوساط الرسمية الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر هو مفهوم الحرب الاستباقية أو الوقائية التي شكلت عقيدة جديدة تبنتها الإدارة الأمريكية عقب هذه الأحداث. من خلال هذه العقيدة استطاعت الإدارة الأمريكية أن تتجاوز المفاهيم التي كانت سائدة إبان الحرب الباردة (مبادئ الاحتواء والردع)([10])، حيث تقوم هذه الحرب الوقائية على استخدام القوة العسكرية للقضاء على تهديد محتمل أو متخيل (مواجهة المخاطر قبل بروزها)، وهذا ما تأكد بعدما أعلن الرئيس بوش الإبن عما وصفته الفينانشل تايمز بأنه مبدأ جديد للتحرك الاستباقي وذلك في خطابه أمام الأكاديمية العسكرية في وست بوينت West Paint في يوينو 2002 الذي قال فيه: لفترة طويلة من القرن الماضي اعتمد الدفاع الامريكي على مبادئ الحرب الباردة ... الردع والاحتواء في بعض الحالات ما تزال هذه الاستراتيجيات صالحة للتنفيذ إلا أن التهديدات الجديدة تتطلب أيضا تفكيرا جديدا، فالردع (وهو التوعد بثأر هائل ضد الدول) لا يعني شيئا في التعامل مع شبكات إرهابية خفية ليست لها دولة أو مواطنين تريد حمايتهم، ولا يصبح الاحتواء ممكنا حين نتعامل مع دكتاتورين موتورين لديهم أسلحة دمار شامل قادرين على توصيلها بالصواريخ إلينا أو على توفيرها لحلفائهم من الارهابيين بشكل سري. لا نستطيع أن نحمي أمريكا وأصدقائها بتمني الأفضل ... لو انتظرنا حتى تتجسد التهديدات أمامنا تماما سنكون قد انتظرنا أكثر من اللازم، قوات الدفاع الموجودة للحفاظ على الأمن الداخلي وقوات الدفاع المضادة للصواريخ هما جزءا من أمن أقوى ... انهما أولويتان جوهريتان لأمريكا لكننا لن نفوز في حربنا ضد الارهاب باتباع نهج الدفاع، علينا أن نأخذ المعركة الى أرض العدو ... أن نفسد خططه ونواجه أسوأ التهديدات قبل أن تظهر ... في العالم الذي دخلناه يعد الطريق الوحيد للأمان هو طريق الفعل والتحرك ... وهذه الأمة سوف تتحرك ([11]). إن مبدأ بوش هذا القائم على الحرب الاستباقية والمسجل في استراتيجية الأمن القومي أثار مشكلتين أساسيتين الاولى ذات طابع قانوني والثانية ذات طابع عملي ([12]). فبالنسبة للمشكلة القانونية، فإذا كان العرف الدولي السابق على الأمم المتحدة قد وضع شروط وضوابط لممارسة الدفاع الوقائي وهو ما عززته الأمم المتحدة، وخاصة توفر شرطي اللزوم والتناسب فإن الولايات المتحدة الامريكية في حربها الحالية على أفغانستان والعراق لم تتقيد بهذه الشروط ولا بأية شرعية أو مشروعية دولية. وأما بالنسبة للمشكلة العملية التي تطرحها العقيدة الأمريكية الجديدة فتكمن في مدى فعالية الضربات العسكرية الوقائية، إذ من المشكوك فيه أن تنجح الإدارة الامريكية عن طريق ضربة أو حرب وقائية في إزالة ما تسميه بالخطر الإرهابي. وهو ما يتضح من خلال حربها على أفغانستان والعراق والذي تورطت في مستنقعهما الجيوش الامريكية وجيوش حلفائها لحد الآن نتيجة تصاعد أعمال المقاومة ولم تعد تعرف هذه الجيوش كيف تخرج منها. 3 ـ ديبلوماسية القوة الناعمةاوالاختيار الاخير نتيجة فشل سياسة القوة العسكرية المنتهجة من طرف إدارة الولايات المتحدة الامريكية في إطار حربها الوقائية، لجئت الى تبني استراتيجية جديدة تعتمد على الإقناع والثقافة كوسيلة لجعل الآخرين يثيقون ويدعمون سياساتها، أوما يسميه جزيف ناي Josef Nye بالقوة الناعمة soft power أي عكس القوة الصلبة hard power التي تمثلها القوة العسكرية والاقتصادية، وقد أكد ناي Nye في مقال بمجلة شؤون خارجية FOreign Affairs خلال شهر يوينو من سنة 2004 بأن القوة الناعمة هي الوسيلة الناجحة لتحقيق المصالح الامريكية، وأنها أقل تكلفة من القوة العسكرية ([13]). لقد جاءت هذه الاستراتيجية الامريكية الجديدة بعد نقاش حاد بين الفاعلين الرسميين في السياسة الامريكية، وخاصة بين التيار المحافظ الذي يؤمن بفلسفة القوة العسكرية والاقتصادية لتحقيق المصالح الأمريكية وبين التيار الليبرالي المتمثل في أجنحة الحزب الديمقراطي الذي يرى أن المصالح الامريكية يمكن حمايتها من خلال تبني القيم الامريكية ونشرها مثل الدمقراطية وحقوق الانسان. انتهى النقاش أو الجدال بتبني هذه الاستراتيجية الجديدة، التي أعلن عنها الرئيس جورج دابليو بوش في خطاب له أمام المجلس الوطني لتنمية الديمقراطية خلال شهر نوفمبر 2003، والذي قال فيه: إن السياسة الامريكية التي امتدت لنحو 60 عاما في تأييد حكومات لا تلتزم بالحرية السياسية قد فشلت وأضاف أن واشنطن قد تبنت استراتيجية مستقبلية جديدة للحرية في الشرق الأوسط الكبير. كما تم تبني هذه الاستراتيجية من قبل الدول الثماني الكبرى في قمة سي أيلاند التي عقدت بولاية جورجيا الامريكية يونيو 2004. إن محتوى هذه المبادرة هو تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح وبناء المجتمع المعرفي في عالم الجنوب ([14]). يتضح من خلال ما سبق أن الإدارة الأمريكية اقتنعت أخيرا بجدوى الأخذ بدبلوماسية الرأي العام، بل أكثر من ذلك ابتكرت نهجا جديدا، يتمثل فيما أسمته وزارة خارجيتها ب "الدبلوماسية التحويلية" التي تعني نقل وتحويل الفعل السياسي الدبلوماسي الامريكي من المكاتب والغرف المغلقة الى شوارع الدول المستهدفة قصد التأثير المباشر على الأحداث وتأسيس التواصل المباشر بين الدبلوماسيين الامريكيين والمواطنين وذلك تحت شعارات براقة ([15]) كالديمقراطية وحقوق الانسان وحرية الرأي والتعبير. ونظرا لما للإعلام من دور فعال في إيصال الأفكار وترسيخ المفاهيم فقد سارعت الإدارة الامريكية الى إنشاء محطات إعلامية، "إذاعة سوا" والفضائية التفلزية "الحرة"، من أجل الدعاية لتحسين صورتها، وبالتالي تغيير الأفكار السائدة التي أدت الى كراهية سياسة الولايات المتحدة، وفي نفس الاتجاه قدم تقرير للكونجرس الامريكي لمعالجة هذه الكراهية تحت عنوان غسل الأدمغة من أجل السلام الامريكي ([16]). وكخلاصة لهذا الموضوع قد يبدو للبعض مما استعرضناه من سياسات القوى العظمى وخاصة الولايات المتحدة الامريكية، أنها تتناقض في نظرتها للمفاهيم الأساسية المؤطرة للعلاقات الدولية، لكن الحقيقة أنها تتعمد في ذلك لأن هذه الفوضى التي يسمونها "بالخلاقة" هي استراتيجية جديدة للعمل الدولي الراهن، فهي تحاول استثمار هذه الفوضى للالتفاف على القانون والمؤسسات الدولية، تحقيقا وحماية لمصالحها.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - محمد سعدي: أطروحات لفهم العالم الجديد، دار السلام للطباعة، الرباط 2001، ص 7. [2] - سعد حقي توفيق: النظام الدولي الجديد، منشورات الأهلية لعام 1999، عمان، ص 53. [3] - سعد حقي توفيق، نفس المرجع، ص 58. [4] - عبد النور بن عنتر، تطور مفهوم الأمن في العلاقات الدولية، السياسة الدولية، عدد 160 أبريل 2005، ص 56-57. [5] - عبد النور بن عنتر: نفس المرجع، ص56 [6] - هنري كيسنجر: هل تحتاج أمريكا الى سياسة خارجية، ترجمة عمر الايوبي، دار الكتاب العربي بيروت، الطبعة الثانية 2003، ص 35. [7] - نعوم تشومسكي: الإرهاب حالة 11 سبتمبر، النجاح الجديدة الدار البيضاء 2003، ص 66. [8] - بعوم تشومسكي: نفس المرجع، ص 66. [9] - نعوم تشومسكي: نفس المرجع، ص 60. [10] - عبد الواحد الناصر: العلاقات الدولية الراهنة، النجاح الجديدة الدار البيضاء، 2003 ص 147. [11] - أليكس كالينوكس: الاستراتيجية الكبرى للامبراطورية الامريكية، نشرت هذه الدراسة في العدد 97 من انترناشونال سوشيالزم، شتاء 2002. [12] - عبد الواحد الناصر، مرجع سابق ص 149. [13] - أحمد سليم البرصان: مبادرة الشرق الاوسط الكبير، الابعاد السياسية والاستراتيجية، السياسة الدولية عدد 158 أكتوبر 2004، ص 42. [14] - أحمد سليم البرصان، مرجع سابق ص 42-44. [15] - الديبلوماسية التحويلية وباعة الأوطان، كلمة الوفاق، الوفاق العربي، العدد 80 فبراير 2006. [16] - أحمد سليم البرصان، نفس المرجع ص 45.
#إسماعيل_وساك (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
-
-استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله-
...
-
-التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن
...
-
مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا
المزيد.....
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
/ حاتم الجوهرى
-
الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن
/ مرزوق الحلالي
-
أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال
...
/ ياسر سعد السلوم
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
/ حامد فضل الله
-
إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية
/ حامد فضل الله
-
دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل
...
/ بشار سلوت
-
أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث
/ الاء ناصر باكير
-
اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم
/ علاء هادي الحطاب
-
اطروحة التقاطع والالتقاء بين الواقعية البنيوية والهجومية الد
...
/ علاء هادي الحطاب
المزيد.....
|