أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - كاظم حبيب - الهمُّ العراقي وهموم العالم!















المزيد.....


الهمُّ العراقي وهموم العالم!


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 675 - 2003 / 12 / 7 - 01:40
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


كانت الغالبية العظمى من الشعب العراقي تعيش في هم ثقيل دائم أفسد عليها حياتها وتطلعاتها وأحلامها في حياة حرة كريمة وعمل نافع لها ولشعوب المنطقة والعالم. كانت هذه الغالبية مستباحة من النظام الدكتاتوري الدموي السابق, وبالتالي لم تجد هذه الغالبية العظمى من الشعب فرصة التفكير بهموم العالم التي تثقل كاهل الغالبية العظمى من البشرية في المرحلة الراهنة. والغريب أن الذي يخلق يومياً الهموم الأساسية لهذه البشرية ويشعرها بالخشية من المستقبل هو نفسه الذي قدر له أن يزيح الهم الأساسي الكبير من على كاهل الغالبية العظمى من الشعب العراقي. ومع أن هذا الهمّ الأساسي قد أزيح بسقوط النظام الاستبدادي, فإن بقاياه وتداعيات سقوطه لم تنته بعد, إذ ما يزال يحتاج الأمر إلى فترة زمنية غير قصيرة لكي يمكن القول بأن هم هذا الشعب قد ولى وإلى الأبد. عندها يمكن أن يبدأ الشعب العراقي بالتفكير السوي والموضوعي مع بقية شعوب العالم بالهموم المشتركة التي تواجه البشرية جمعاء.
لقد كانت الفترة السابقة في ظل النظام الدكتاتوري بمثابة مستنقع نتن مريع كلف الشعب العراقي ليس الهموم وغياب الحرية والديمقراطية وتحول العراق إلى سجن كبير ودائم وإلى طاحونة موت مستمر ومقابر جماعية فحسب, بل وإلى غوص الناس في متاهات غير محسوبة العواقب من حيث الفكر والتفكير والرؤية الضبابية لاتجاهات تطور الأوضاع في العراق وللوجهة التي يسعى إليها الشعب وإلى تراجع الإحساس بهموم العالم الكبيرة. لقد كانت فترة مظلمة حقاً وصدقاً في تاريخ العراق الحديث, فهي ما تزال أشبه بكابوس مسيطر على عقول وأفئدة الناس يصعب الخلاص منه في وقت قصير.
والشعب العراقي اليوم أمام مهمة استكمال معالجة الهَّم الأساسي, همًّ مواجهة مقاومة بقايا قوى النظام المخلوع للتغييرات التي حصلت في العراق ومحاولة إعاقة المسيرة الجديدة بكل تعقيداتها وتشابكاتها, مهمة الخلاص من الإرهاب والتخريب والقتل الذي يتربص بالناس في منعطفات الشوارع والأزقة المختلفة من قبل خفافيش النظام, تلك الخفافيش التي ما اكتفت بما امتصته من دماء العراقيين خلال العقود المنصرمة, بل تسعى إلى مواصلة ذلك حتى بعد إزاحتها عن السلطة, تلك الخفافيش التي يصعب عليها رؤية النور وتلمس الطريق السوي.
وسبب وجود عمليات الإرهاب والتخريب ما تزال القوات الأمريكية وغيرها من قوى التحالف المحتلة تلعب دوراً إيجابياً, شئنا ذلك أم أبيناه بالرغم من كل الأخطاء التي ترتكبها في نشاطها الراهن, في رفع ذلك الهم الأساسي من على صدور الناس, كل الناس في العراق, حتى من على صدور وعقول تلك القوى التي تساهم في النشاط الإرهابي والتخريبي, والتي ما تزال تعتقد لأي سبب كان, بذلك النظام الدموي وبذلك الدكتاتور السفاح.
ولكن هذه القوى التي تلعب اليوم في العراق دور المخلَّص من قوى النظام السابق تكمن في داخلها تلك القوى الفاعلة التي تخلق الهموم للعالم, والعراق جزء منه. فنحن أمام معضلة معقدة علينا أن نلم بأطرافها, وإلا انفصلنا في تفكيرنا عن العالم المحيط بنا, كما انفصل العالم عنا قبل ذاك ونسى لعقود طويلة همَّنا الأساسي, وتغافل عن وجود نظام استبدادي يفرض سيطرته على البشر في العراق ويفرض خيمته الفكرية والسياسية الخانقة لأنفاس الناس. إنها معادلة صعبة الاستيعاب بالنسبة لبعض الناس أحياناً, إذ كيف يمكن أن نقول بأن مخلًص العراق من النظام السابق يعتبر الهمَّ الأساسي للبشرية وبالتالي يعتبر همًّنا اللاحق أيضاً. كما أنه صعب للبعض الآخر من الناس, إذ كيف يمكن أن نقبل بدعم هذا المخلَّص الذي سيكون همنا اللاحق في فترة ربما غير بعيدة. وهي في كل الأحوال تحفظات غير خاطئة من الجانبين. ولكن الحياة ذاتها أغنى منا جميعاً في ما تقدمه لنا من حلول وما تفرضه علينا من إشكاليات تستوجب منا التفكير الهادئ والمتمعن بها بهدف الوصول إلى رؤية واقعية للأحداث الجارية ومحاولة فهم المنطق الذي يسيرها أو القوانين التي تقف وراء حركتها وفعلها لنستطيع التعامل الواعي والموضوعي معها والتحري عن المعالجات السليمة لها لصالح الشعب العراقي من جهة, مع إدراكنا لأهمية التلازم العضوي بين مصلحة العراق ومصلحة البشر عموماً في ضمان الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي والسلام, إضافة إلى العدالة الاجتماعية المنسوفة حالياً في هذا العالم الرأسمالي الواحد من جهة أخرى.
همُّنا العراقي ما يزال ثقيلاًُ علينا, لأنه ما يزال يسكن فينا ويحرك مشاعرنا باتجاهات متضاربة, لأنه نتاج تركة رعب طويل وليل أسود وحرمان مؤرق وتشتيت وحدة الشعب وتمزيق نسيجه الوطني. نحن أمام إشكاليات كبيرة وكثيرة تحتاج إلى جرأة في المعالجة, ولكنها تحتاج في الوقت نفسه إلى رؤية صادقة لإرساء دعائم الديمقراطية باعتبارها الحل الوحيد لمشكلات المجتمع والتخلص النهائي من الاستبداد أياً كان نوعه ومنطلقه الفكري والسياسي أو الأرضية التي يقف عليها أو الحزب الذي يستند إليه. والساكن فينا غير هذا وذلك, لا لأننا نريد ذلك أو اخترناه لأنفسنا, بل لأنه فرض علينا واستقر فينا قروناً كثيرة جداً وتوارثه المجتمع من جيل إلى جيل, وبدأ يعيد إنتاج نفسه, ونحن أدواته وضحاياه في آن, وهو أخطر ما في الأمر. كل منا يشكل عالماً بذاته ويريد أن يخلق حوله عالمه الخاص, وهذا من حقه ما دام يرتبط بحريته الذاتية التي يفترض أن لا تتجاوز على حرية الآخرين بأي حال. ولكن ما يحصل في العراق هو غير ذلك, إذ يعيش في كل منا شيطان الاستبداد, سواء أكان ذلك في البيت أو المدرسة أو الجامعة أو المعمل أو الحقل, شيطان الاستبداد الذي تلبس صدام حسين بشكل كامل ومطلق, فينا جزء منه وعلينا الخلاص منه كأفراد, وتزداد مخاطر هذا الأمر عندما تنتقل هذه اللوحة إلى هذا الحزب أو ذاك. من القوى السياسية العراقية, التي ما يزال أغلبها إن لم نقل كلها بعيداً عن الديمقراطية المنشودة. ينبغي لأحزابنا السياسية أن تبذل أقصى الجهد وتسعى إلى خلق عالم ديمقراطي رحب فيها ولها وما حولها وللآخرين. والديمقراطية هي خلاصنا الحقيقي مما عانينا منه وما يمكن أن نعانيه, وهي جزء من تراث البشرية كلها, وليس جزء منها. والديمقراطية لا يمكن إلا أن تمر عبرنا وتمارس من خلالنا وتمسنا بنتائجها, وعلى مدى وعينا بها ومعرفتنا الفعلية لمضامينها والتزامنا بالثوابت فيها يمكن أن تكون الحصيلة.
العالم الذي نعيش فيه, توصل إلى رؤية واقعية لما ينبغي أن تكون عليه مجتمعاتنا وعالمنا الراهن, وعلينا أن نستقر على  قرار بشأن ذلك وأن ندفع بالعملية السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى أمام. فالحضارة البشرية أثمرت عبر ألاف السنين قيماً أساسية ذات مضمون عام وشمولي, قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام حقوق الشعوب والقوميات, بما في ذلك حرية وحق تقرير المصير, وحرية الأديان والمذاهب المختلفة وضمان العدالة الاجتماعية والسلام, فليس أمامنا من طريق آخر غير هذا الطريق, إذ أن غير ذلك يقود إلى متاهات جديدة, إلى الاحتراب, وإلى ضياع وهلاك المزيد من البشر. ولهذا يبدو لي بأن المهمة الكبيرة التي تقع على عاتق المثقفين العراقيين والقوى الواعية في الأحزاب والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني الجديدة أن تلتزم بهذه القيم وأن تعتبرها القواسم المشتركة في ما بينها وعلى ضوئها تتحرى عن الحلول المناسبة لمشكلاتنا العراقية. لا نملك بديلاً عنها, إذ أن غيرها ليس سوى الاحتراب والموت, والاحتراب جربناه على مدى قرون وليست سنوات القرن العشرين وحدها أو السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين سوى شواهد على ذلك.
أدرك تماماً بأن القول بهذه المبادئ سهل للغاية, ولكن العمل بها هو الأكثر صعوبة, إذ أن العمل بها يتطلب منا جميعاً تغيير ما في أنفسنا, وتغيير ما في النفس هو الأصعب والأكثر تعقيداً. ولكن لا نملك بديلاً عن تغيير ما في النفس, فهي ليست بالضرورة أمارة بالسوء, بل هي بالأساس أمارة بالخير, ويفترض أن تكون تلك المبادئ وعملية تغيير النفس المنطلق السليم والواقعي لحياتنا الجديدة. ليست هذه نصائح ولا إرشادات أقدمها لأحد, بل هي خبرة الشعب العراقي ودروس الماضي وخبرة الشعوب الأخرى أيضاً التي هي تحت تصرفي وتصرف الآخرين في كل مكان. وهي ليست موعظة بأي حال, بل هي خبرة الحياة ذاتها, وما نحتاجه في هذا الصدد بصيرة جديدة وثاقبة لنرى كل ذلك ونتعامل معه بوعي ومسؤولية, والإنسان يمتلك هذه البصيرة وعليه استخدامها, وإلا فالعمى هو الأسهل, لا عين تشوف ولا قلب يحزن, كما كان يردد المونولوجست العراقي المبدع والراحل عزيز علي.

نحن أمام معالجة لمشكلاتنا الداخلية, أمام همومنا الخاصة التي بدا وكأنها قد تقاطعت إلى حدود غير قليلة مع هموم شعوب العالم. ففي الوقت الذي تعتبر الولايات المتحدة محررة للعراق من ظلم واضطهاد الدكتاتورية اللعينة, رغم سقوط العراق تحت الاحتلال, وجدت الغالبية العظمى في العالم, شعوباً ودولاً, بأن هذا ليس تحريراً بل احتلالاً للعراق, وأن هذه الحرب الاستباقية أو الوقائية التي قادت إلى احتلال العراق, يمكن أن تكون سابقة خطيرة وتفتح الطريق على حروب مماثلة في مناطق أخرى من العالم, وبالتالي فهو طريق الحرب والعدوان, طريق الهيمنة على العالم وفرض السياسات التي تريدها الولايات المتحدة باعتبارها القطب الأوحد في العالم أو الإمبراطورية الجديدة, إمبراطورية القرن الحادي والعشرين. وفي الوقت الذي تطالب الولايات المتحدة من جميع بلدان العالم أن تنزع سلاحها النووي, وهو أم سليم, وقع الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في الأيام القليلة الماضية قانوناً جديداً يقضي بتخصيص الموارد المالية الكافية لإنتاج جيل جديد من أسلحة الدمار الشامل, سلاح نووي جديد, أو قنبلة نووية جديدة أكثر تطوراً وقادرة على إصابة وتدمير هدف محدد, إصابة ترسانات الأسلحة النووية المخبأة تحت الأرض, دون أي اعتبار لما يمكن أن تنشأ عن ذلك من كوارث إنسانية وبيئية, وهو قرار خاطئ وخطير سيدفع بالعالم إلى سباق تسلح جديد وإشاعة حرب باردة من نوع جديد. كما وقع قراراً بالبدء بتهيئة مستلزمات إجراء التجارب على الأسلحة النووية الجديدة في وقت يطالب العالم بالكف عن إجراء مثل تلك التجارب. وفي الوقت الذي تدعو الولايات المتحدة العالم إلى عدم بيع الأسلحة التقليدية الحديثة إلى بلدان العالم الثالث, وهو أمر سليم, تزداد مبيعاتها من الأسلحة التقليدية الحديثة إلى بلدان العالم الثالث لتحتل منذ سنوات المرتبة الأولى في العالم, وبشكل خاص مبيعاتها في, ومساعداتها من الأسلحة إلى, دول منطقة الشرق الأوسط. وفي الوقت الذي تطالب بإيقاف الإرهاب المنطلق من الجماعات الانتحارية في فلسطين ضد المدنيين الإسرائيليين, وهو موقف أؤيده, تسمح للحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة باستخدام أبشع أشكال الإرهاب ضد الشعب الفلسطيني وموسعةً مستعمراتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة ومستمرةً على احتلال الجولان ومزارع شبعة العربية منذ عقود. وهو موقف خاطئ وخطير يفتقد إلى المصداقية بشكل كامل. إنها سياسة الكيل بمكيالين التي ترفضها الشعوب وتفقد الولايات المتحدة بسببها تأييد العالم وتحصد كراهيته.
وترفض الولايات المتحدة أن تعتبر واقع وجود الفقر المدقع في بلدان العالم الثالث والتخلف الشديد والاستغلال المتواصل لثرواته شعوب هذه البلدان من جانب الدول الرأسمالية المتقدمة وتزايد عدد الشعوب, وخاصة الأفريقية, الذي تحول إلى مستقبل للصدقات حيث يقل معدل حصة الفرد الواحد من الدخل القومي سنوياً عن دولار أو دولارين أمريكي, أحد أهم الأسباب الأساسية المشجعة والدافعة للإرهاب في العالم. فالمعلومات الموثقة تشير إلى أن عدد السكان في العالم الذين لا يزيد متوسط حصة القرد الواحد منهم في السنة عن دولار أمريكي أو دولارين قد وصل إلى حدود ثلاث مليارات نسمة, كما ترفض الولايات المتحدة أن ترى في سياساتها العولمية, وليست العولمة كعملية موضوعية في التطور الرأسمالي, سبباً مباشراً للكراهية المتفاقمة في العالم للولايات المتحدة الأمريكية وللكثير من الدول الرأسمالية المتقدمة التي تغتني باستمرار على حساب الشعوب الأخرى والتي تصر على ممارسة سياسة اللبرالية الجديدة التي لا تجلب سوى المزيد من الشقاء لفقراء العالم وشعوب البلدان النامية. كما أنها ترفض الأخذ بيد هذه الشعوب صوب التخلص من التخلف وتحقيق التقدم في بلدانها. هذه إشكالية كبيرة على الصعيد العالمي وينبغي أن لا نخفي رؤوسنا في الرمال لكي نتجنب رؤية الواقع القائم الذي قسم العالم الواحد على عالمين, بل يفترض مواجهة هذه الحقيقة والسعي لمعالجتها.   

وحسب تقديري, ارتكبت القوى المحبة للسلام في العالم والدول المناهضة للحرب والعدوان والجامعة العربية والأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والكثير من المنظمات الدولية التي تعمل في مجال السلام وحقوق الإنسان خطأً فادحاً عندما نست أو تناست لسنوات طويلة بأن الشعب العراقي يعيش تحت وطأة حراب صدام حسين ودكتاتوريته المقيتة ولم تحرك ساكناً لمساعدة هذا الشعب في محنته ونضاله ضد الدكتاتورية وفي سبيل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, بل أن جماعات ودولاً غير قليلة قدمت لهذا النظام الدعم المتنوع في حروبه المختلفة وفي مواقفه وسياساته إزاء الشعب في الداخل. ولكنها تحركت فقط عندما بدأت الولايات المتحدة تتحرك لشن الحرب, وابتعدت عن الإشارة إلى دور النظام في دفع الأمور إلى هذه الحافة الحادة. وحتى في هذه الحالة ورغم التنبيهات على أهمية شجب نظام الحكم العراقي ونشر الرسائل المفتوحة لقوى السلام في العالم, فإنها لم تتحرك لتشجب نظام الحكم الدكتاتوري بسبب سياساته التي أوصلت المنطقة إلى حافة الحرب وزجت العراق بعدة حروب, بل تحركت لتؤكد أنها ضد الحرب وبدا وكأنها تتضامن مع صدام حسين وطغمته الفاشية. وهذا يعني أنها ما كانت لتتحرك لولا بروز خطر شن الحرب. وهو الأمر الذي خلق فجوة بين الغالبية العظمى من الرأي العام العراقي في الداخل والخارج وبين القوى المحبة للسلام في العالم.
إن تجارب السنوات الأخيرة وكذلك الحرب الأخيرة تشير بأن ليس من حق قوى السلام في العالم أن تفصل بين النضال في سبيل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وبين النضال في سبيل السلام ونزع السلاح ومنع الحروب, إذ أن تحقيق تلك القيم يبعد احتمال الحروب. كما أن نشوب الحرب يبعد إمكانية تحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وممارسة حقوق الإنسان. إنه الدرس الثمين الذي يفترض استخلاصه والتعامل معه الآن وفي المستقبل.

علينا نحن العراقيات والعراقيين أثناء نضالنا من أجل إزالة بقايا الهم العراقي وبناء المجتمع الجديد والتخلص من الاحتلال الأجنبي, أن ندرك بأن مصلحة شعبنا العراقي ترتبط بمصلحة شعوب العالم بالدرجة الأساسية, وأن هموم العالم هي همومنا بغض النظر عن التقصير الذي وقع به الرأي العام العالمي والقوى المحبة للسلام في الوقوف إلى جانبنا في النضال من أجل الخلاص من الدكتاتورية التي استباحت العراق طيلة عقود. علينا أن نجد طريقاً للمصالحة مع الرأي العام العالمي وقوى السلام في العالم لا من خلال غض النظر عن قوى السلام التي نعتقد بأنها ترتكب الأخطاء وما تزال ترتكبها حتى الآن في هذا المجال, بل من خلال توضيح وجهات نظرنا ونقد وجهات النظر الخاطئة بكل صرامة وبأسلوب حواري حضاري سليم. إننا جزء من شعوب العالم ونقف في معسكر واحد معها وعلينا أن لا ننسى ذلك ولو للحظة واحدة, وهي ضمانتنا للمستقبل.    
توجد في العالم اليوم مواقد كثيرة للحرب المحتملة, وهي ناشئة عن واقع مرير يرتبط بعدم الإنصاف والتجاوز على حقوق الشعوب والقوميات المختلفة التي تناضل في سبيل الحصول على حقوقها كاملة غير منقوصة. وإذ عجزت قوى السلام في العالم عن مساندة هذه الشعوب للحصول على تلك الحقوق, فأنها ستكون تربة صالحة لحروب قادمة, سواء أكانت تلك الحروب أهلية أم إستباقية وقائية. ويمكن إيراد عشرات الأمثلة في هذا الصدد, وبشكل خاص في منطقة الشرق الأوسط..
إن دعوات الولايات المتحدة لإشاعة الديمقراطية في بلدان منطقة الشرق الأوسط قد طرحت في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001, ولم تكن قبل ذاك تفكر بهذا الأمر ولم يكن جزء من أجندتها للعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ولكن دمقرطة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية في بلدان العالم الثالث, ومنها بلدان الشرق الأوسط وكذلك العراق, كان مطلباً أساسياً من مطالب شعوب المنطقة التي كانت وما تزال تحكم بواسطة نظم غير ديمقراطية أو استبدادية تحت ستر مهلهلة مختلفة, بما فيها ستار الدين أو الادعاء بزرق الديمقراطية شيئاً فشيئا. وكانت وما تزال الولايات المتحدة تقف إلى جانب تلك النظم الاستبدادية وغير الديمقراطية, رغم دعوتها الجديدة لدمقرطة الحياة السياسية في هذه البلدان, وليس أدل على ذلك من واقع الحياة في بلدين هما السعودية وتركيا, وكلاهما حليف للولايات المتحدة, وتركيا عضو في الحلف الأطلسي والآخر محمي بالقوات الأمريكية. فالدولة السعودية تنتهك يومياً الحريات الديمقراطية بشكل كامل وتدوس بالإقدام على حقوق الإنسان وتمارس كل ذلك باسم الشريعة, بما فيه نحر الرؤوس بالسيف و قطع الأيدي وبقية أصناف التعذيب النفسي والجسدي وسجن أصحاب الرأي الآخر. وخلقت من خلال تلك السياسات والطريقة التي تمارسها في التربية الدينية اتجاهات التطرف والإرهاب المبثوث في السعودية وفي العديد من دول العالم.
علينا أن نعرف بأن مصادرة الحريات الديمقراطية وابتلاع حقوق الإنسان وممارسة العنف من جانب الدولة سوف لن تخلق سوى الإرهاب والتطرف ومواجهة العنف بالعنف والقوة بالقوة. وأن الطريق الوحيد لتغييب التطرف والإرهاب هو في إطلاق الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وإيقاف نهب العائلة المالكة للثروة الوطنية السعودية من خلال توزيع حصص النفط على الأميرات والأمراء والشيوخ والحاشية الملكية وكأنها ثروتهم الخاصة وليست ثروة الشعب كله. والشريك المباشر في هذا النهب هو الولايات المتحدة الأمريكية, سواء كان ذلك عبر شراء النفط الخام وتحقيق أقصى الأرباح, أم من خلال بيع أجيال جديدة من الأسلحة التقليدية الحديثة للسعودية التي تتقادم بسرعة ويتطلب التخلص منها صرف مبالغ جديدة بهدف شراء أجيال جديدة أخرى ... وهلمجرا.
أما الدولة الثانية فهي تركيا التي تنتهك حكومتها منذ مئات السنين حقوق الشعب الكردي وتضطهده وترفض الاعتراف بوجود شعب كردي أصلاً يعيش على أرضه كردستان تركيا, وترفض الاستجابة لحقوقه المشروعة بما في ذلك حقه في تقرير مصيره وإقامة فيدرالية كردستان تركيا ضمن الدولة التركية. وقائمة ضحايا الإرهاب التركي ضد الشعب الكردي كطويلة جداً وغير متوقفة حتى الآن, إضافة إلى غياب الحريات الديمقراطية للشعب التركي ذاته واستمرار ممارسة اشد أنواع التعذيب ضد المناضلين في سبيل انتهاج سياسات ديمقراطية في البلاد. كما تعاني الأقليات الدينية والمذهبية من ظلم وجور وتمييز النظام التركي حتى الوقت الحاضر.

إن الدعوة الأمريكية للديمقراطية هي الأخرى تقاس بمكيالين, وعلينا إدراك ذلك, وهي مرتبطة أساساً بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية على الصعد المحلية والإقليمية والدولية وعلينا أن نرى ذلك بوضوح. في حين يفترض أن تتركز دعوتنا للديمقراطية نحو إحلال المصالحة الوطنية على أسس من الحرية والديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان والاعتراف الكامل بحقوق القوميات والأقليات القومية والدينية والمذهبية والفكرية والسياسية في العراق الجديد الذي نطمح إليه, وهو طريق طويل ومشوار بعيد, ولكن سنصل إليه وإن طال الزمان. وكلما وصلنا إليه بفترة اقصر, كلما استطعنا تقليص الضحايا البشرية والخسائر المادية والحضارية. إننا أمام تحدٍ جديد وعلينا خوضه بثقة بالنفس وبالشعب العراقي, عرباً وأكراداً وتركماناً وآشوريين وكلدان, وبقواه وأحزابه الواعية التي تقر وتلتزم بالديمقراطية قولاً وفعلاً.  
برلين في 4/12/2003                                                           



#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القوميون العراقيون العرب والأوضاع الجديدة في البلاد!
- سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني والوضع في العراق!
- موضوعات للتفكير والحوار!
- هل الديمقراطية هي السائدة حقاً في العراق, أم حرية الفوضى؟
- ما المخرج من همجية فلول صدام والقوى الظلامية والسياسات الخاط ...
- نص إجابة الدكتور كاظم حبيب عن استفتاء الزمان بشأن الدستور ال ...
- الاحتلال والصراع على السلطة والمصالح في العراق 3-4 & 4-4
- مرة أخرى مع المهمات المباشرة والأساسية لقوى اليسار الديمقراط ...
- تصحيح لخطاً وقع في الحلقة الثانية من سلسلة 1-4 حول -الاحتلال ...
- الاحتلال والصراع على السلطة في العراق وسبل معالجته 2-4 حلقات
- الاحتلال والصراع على السلطة في العراق وسبل معالجتها!1-4 حلقا ...
- من أجل التحويل الديمقراطي الحقيقي في السعودية!
- كيف يمكن التعامل مع أقطاب النظام السابق لتعميق التجربة الديم ...
- لِمَ هذا الهلع المفتعل للحكومة التركية من الشعب الكردي في كر ...
- العراق ليس فيتنام, ولكن ...!
- نحو مواجهة الإشاعات بمواقف شفافة وصريحة من جانب مجلس الحكم ا ...
- من أجل تعامل صارم وعقلاني مع العناصر التي خانت أحزابها الوطن ...
- المأساة والمحنة المستديمة لأطفال العراق!
- رسالة مفتوحة إلى مجلس الحكم الانتقالي والإدارة الأمريكية - م ...
- ضرورة الشفافية والمجاهرة بين مجلس الحكم الانتقالي والشعب!


المزيد.....




- رصدتهما الكاميرا.. مراهقان يسرقان سيارة سيدة ويركلان كلبها ق ...
- محاولة انقلاب وقتل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا.. تهم من ا ...
- ارتفاع قياسي للبيتكوين: ما أسباب دعم ترامب للعملات المشفرة، ...
- الكربون: انبعاثات حقيقية.. اعتمادات وهمية، تحقيق حول إزالة ا ...
- قائد القوات الصواريخ الاستراتيجية يؤكد لبوتين قدرة -أوريشنيك ...
- روسيا تهاجم أوكرانيا بصاروخ جديد و تصعد ضد الغرب
- بيع لحوم الحمير في ليبيا
- توقيف المدون المغربي -ولد الشينوية- والتحقيق معه بتهمة السب ...
- بعد أيام من التصعيد، ماذا سيفعل بوتين؟
- هجوم بطائرات مسيّرة روسية على سومي: مقتل شخصين وإصابة 12 آخر ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - كاظم حبيب - الهمُّ العراقي وهموم العالم!