كلمات-34-
صحافة التسلية ردا على مقال* سمير عطاالله ((البحث عن الدوري))
الشرق الأوسط العدد(9137 الصادر في 4 ديسمبر /كانون الثاني 2003)
في لعبة الكريات الزجاجية رواية الكاتب الألماني هيرمان هسَّه الشهيرة، يتحدث يوسف كنشت بطل الرواية ( يقول عنه النقاد أنه هسَّه نفسه) بمرارة وسخرية عن صحافة زمانه، فيسميها صحافة التسلية، ونقد الصحافة هو نقد الأخلاق السائدة، حيث تشكل الصحافة، باعتبارها سلطة رابعة، ركنا أساسيا في عملية التنوير والنقد والكشف، لاالتزوير والبهتان والنفاق، والصحافة لاتعني بالمرة - سواء كانت في عصر كنشت أو في عصرنا الحالي- حلول الكلمات المتقاطعة أو جرب حظك تربح أوغيرهما، بل إن كنشت ينتقد تلك الصحافة (نهاية القرن التاسع عشر) والأخلاقيات التي أرستها، والعادات التي كرستها في المجتمع الألماني، وفي رأيي الشخصي فإن تناول الصحافيين لموضوعات عبر مقالات يومية، تصبح عادة في عمود ثابت، قد لاتنفذ كلها إلى لب المشكلة، فتحللها بتجرد وتكشفها بالوقائع والأحداث والوثائق، إن صحافتنا العربية –للأسف- بمافيها المتحررة بعض الشيء من سطوة الحكام العرب وتصدر في لندن وغيرها، بحاجة إلى المتابعة والمساءلة، والصحفيين إلى النقد والتصويب مهما علا كعبهم وتراكمت خبرتهم.
ثم لماذا يتناول الصحافيون العرب الشأن العراقي (من فوق لفوق!)، بحسن نية أو بسوء طوية!!؟ دون اللجوء إلى الأحداث الحقيقة على الأرض، وإنصاف الشعب العراقي والتأريخ، لاسيما وأن شعبنا اليوم يمر في دور النقاهة من طاعون الطغيان الصدامي.
ان مقالة سمير عطا الله تتعرض لشخصية عزت الدوري، وكأنها تتأسف على سقوط النظام العراقي، وتتحسر على أيامه الخوالي!، لكنه تأسف يجعلنا نتساءل مرات بمرارة : إلى متى خلط الأوراق وعدم التدقيق في الوقائع.
دعونا نقرأ فقرة من مقال عطا الله: ((كتبت عن عزت الدوري منذ ثلاثة اسابيع انه تحول من رقيب اول الى نائب اول. وبعد ايام صحح لي الدكتور محمد الدوري المعلومات. لم يكن رقيباً اول. كان عزت الدوري من منشأ شديد التواضع. ولم يكن من بلدة الدورة التي نسب اليها، وانما من قرية صغيرة في الجوار. ترك المدرسة طفلاً لكي يعمل في رعاية الغنم، مثل نيكيتا خروشوف. ثم عاد الى مدرسة الدورة ليجلس الى جانب رفاق اصغر منه بسنوات، بينهم السفير الدوري.
وعندما جاء الى بغداد افتتح محلاً لبيع الثلج. وكان بين اوائل من انتسبوا الى حزب البعث، ولذلك كلفه صدام حسين الشؤون الحزبية فيما بعد طوال سنوات. وكان يخاف صدام حسين خوفاً شديداً ويفضل ان يمضي معظم الوقت في مزرعته. ولم يكن يأتي الى العاصمة الا في استدعاء، او لتمثيل الرئيس السابق في مؤتمرات القمة. وكان آخرها في الدوحة حيث خاطب رئيس وزراء الكويت الشيخ صباح الاحمد، بأسلوب الرعاة. وبلهجتهم ايضاً.
وعرف عن الرجل المطارد الآن انه شديد التدين. وكان مزواجاً ايضاً!
لقد شعرتُ أنا العراقي بالغبن حقيقة من قلم كاتب عربي جعلني بلامرجعية، اي من يد الدوري ليد الدوري الآخر!، فالكاتب استعرض لنا حياة الدوري، وكأنه رجل مكافح مثالي في سوق العمل، زاهد متدين ومزواج وانتهى الأمر، وغفل الكاتب عن عمد قسوة كان يمكن لقلمه، بقليل من الحيادية أن يكتب أفضل الصفحات، ينتصر فيها للمظلوم على الظالم، ويعالج المأساة العراقية على يد الدوري وصدام وكيمياوي وغيرهم، بطريقة أشمل وأوسع للوصول إلى نتائج وتحليلات للماساة أكثر إنصافا، لكن الكاتب أراد أن يسحب القارىء إلى منطقته، ليملي عليه ضربا من الأسى على مصير حاكم عربي مناضل!، أو زعيم عربي -يشبه خروشوف- نهض من قاع المجتمع العراقي بالإجتهاد والعمل، أوراعي غنم مثل السيد المسيح، وهو وصف يثير السخرية والحنق لأن قضيتنا العراقية، التي ساهم الدوري بما وصلت إليه من مأساة، قد شُطبت من تفكير كاتب، يدبج مقالا يوميا ومنذ سنين طويلة، في واحدة من أكبر الصحف العربية وأوسعها انتشارا، ويطالع مقاله مئات الآلاف من القراء العرب في بقاع مختلفة من العالم، لقد جهد عطا في تقديم الدوري باعتباره ضحية، ليس من ضحايا صدام حسين -وهو أراد أن يوحي إلى ذلك لكنه لم يستطع-، لكنه ضحية لأن الزمان أو القدرلم يمهله، ليبقى في سدة الحكم الطاغي أكثر ممابقي، ولا يخلو المقال من لهجة الندب والأسف مبطنة على النظام كله!
خطفا من يد الدوري إلى يد الدوري الثاني، نقلني الكاتب بخفة الحواة، دون أن يكلف نفسه عناء معرفة الحقيقة من مرجعيتي الوطنية: مرجعية شعبي العراقي الذي اكتوى بنيران الطغيان، وكان الدوري على رأس سلطة الطغيان عقودا، وبمعنى من المعاني فإن الكاتب لم ينتصر لشعبي ووطني، فلفظ الحقيقة كلها، القائلة بان العراقيين شعب اضطهده نظام فاسد متجبر، عدواني دكتاتوري جمع كل أوساخ الدنيا، وكان حريا بالكاتب أن يسأل الشعب العراقي- إن لم يكن اطلع بعد عن المأساة العراقية الرهيبة!!- عما اقترفته يد الدوري الآثمة، في المشاركة الفاعلة بخراب وطن كامل!
من جهة ثانية فقد رجَّح الكاتب كفة محمد الدوري على كفة شعبي وياله خسران!!
وكأن مايقوله محمد الدوري هو القول الفصل، مادام الأخير كان يمثل النظام المخلوع في الامم المتحدة، وأحد رموز النظام وصديق طفولة الرفيق عزت الدوري!!، إن الأخير هو أحد همج العوجه لم يتورع عن قتل العراقيين في الإنتفاضة سنة 1991، وبمايحمل على كتفيه من نجوم خلعها عليه الطاغية، وأطفأتها ريح الله العادلة، كان قائدا عسكريا ساهم في أعمال إجرامية ضد شعبنا الكردي والعربي، ومثل العراق للتحاور مع شيوخ الكويت قبل الغزو، أي أنه كان على علم مع المقبورحسين كامل بجريمة الغزو وتشريد الكويتيين، ناهيك بإغتصاب نسائهم ونهب ثرواتهم وحرق بيوتهم وسرقة سياراتهم ومؤسساتهم، وكان الدوري يد الطاغية اليمنى والمدافع عنه في وسائل الإعلام ومؤتمرات القمة العربية، وغير ذلك كثير مما سيظهر من جرائم، بعد تشكيل لجنة وطنية ندعو إليها، لإحصاء جرائم وآثام رعاع العوجة وسقط متاعها.
من جهة ثانية هل إن تدين الدوري هو لب المأساة العراقية!؟، كما حاول كاتب المقال الإلتفاف على جروح شعبنا!!؟ وهل مأساتنا واقعة في حلقات الذكر التي كان يقيمها الدوري في الحضرة الكيلانية والرفاعية!؟
كان يمكن تجاوز هذه الفقرة بالذات دون التعليق عليها، لكنها تثير الألم في نفس أي عراقي مزواج ومتدين أو أي إنسان!!؟، فالطهرانية المعروفة لدى العراقيين لاسيما لدى المتدينين منهم، حادة وصريحة، والمتدين كما هو معروف إنسان يخاف من الله سبحانه وتعالى ويزهد بالفانية ويتوجه إلى السماء أكثر مما يتوجه الى الأرض، تاركا مؤونة الحياة الدنيا لطالبيها مفكرا بالآخرة، وعزت الدوري خلو من قلب المؤمن، بل ليس له قلب على الإطلاق، ودليلنا على ذلك هو اجرامه بحق الشعب العراقي، وبقاءه عقودا طويلة متسلطا على رقبة شعبنا.
ثم هل أن لب المأساة العراقية، أن الدوري رجل مزواج!!؟
بالضرب على الوتر العاطفي لدى القارىء العربي، يجد القارىء لمقال عطاالله تغييبا واضحا لطبيعة الحكم الشوفيني الطائفي المجرم في العراق، عبر الحديث عن زوجات الدوري أو قوة الباه لديه!،ولربما بسبب هذا المقال يجد البعيدون عن طبيعة الحكم الطاغي في العراق، وكذلك القراء المحايدون وبعض العرب الذين غسل صدام أدمغتهم بخطابه القومي الشوفيني، يجد هؤلاء متعة في استرداد صور المكنوسين المجرمين عن سدة الحكم في العراق، بعدما اختزل كاتب المقال شكل الماساة العراقية إلى كفاح الدوري في الحياة وتنقله بين مهن متعددة، أي أن الكاتب عزل الدواء عن الداء فاختلط الأمر على القراء من غير العراقيين!
كان علي الكيمياوي على سبيل المثال يرتاد المواخير باستمرار، وعرضت مؤخرا أشرطة مسجلة لجلسات طرب، بدا فيها منتشيا مع مجموعة من الغجريات في العراق، لكن علي كيمياوي هو علي كيمياوي!!
فأي قلب وأية عاطفة لدى رموز النظام الجائر!؟
ان طبيعة النظام القمعي- أي نظام قمعي في التأريخ - هي طبيعة غير سوية بالمرة وبالتالي غير إنسانية، وطغيان نظام همج العوجة كان الأبشع بين تلك الأنظمة في منطقتنا وعصرنا، ويمثل الدوري أحد رموزه الرئيسيين، فالأخير لم يكن حسب مقال عطاالله المغرض: إلا خائفا من صدام، ويقيم في مزرعته ولايأتي إلى العاصمة إلا لماما، وهو كلام فيه تدليس ومغلوط جملة وتفصيلا، فإذا صح أن للدوري مزرعة هنا وأخرى هناك، فإنه يصح كذلك أن لصدام مئات البيوت المنتشرة في أرض العراق، من الأهوار إلى شمال العراق، لكن هل هذا يعني أن الإثنين لايقيمان في العاصمة، ولايقودان الشعب والوطن منها إلى الموت والخراب!؟
اين مصلحة شعبنا العراقي في مقال سمير عطا الله، وأين قلمه من إنصاف التأريخ والشعوب المغلوبة بحكامها!؟
*ثلث المقال مكرس لعزت الدوري وثلثاه الآخران مديح لحكام الكويت، ولم نشأ التعليق على الثلثين الأخيرين لأن مايهمنا هو كلام كاتب المقال على رمز العذاب الثاني في العراق.
http://home.chello.no/~harbi/