أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - وديع العبيدي - بعقوبا .. سيرة مكان)















المزيد.....



بعقوبا .. سيرة مكان)


وديع العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 2170 - 2008 / 1 / 24 - 09:11
المحور: سيرة ذاتية
    


بعقوبا .. سيرة مكان (1-7)
" مدينة عشت فيها أعواماً قليلة، وعاشت فيّ كلّ أعوامي، تاركة بصماتها على صيرورتي."
باع أهلي البيت في (محلة اللوكه) قره غان (جلولاء) بمائتين وسبعين ديناراً لعائلة من نفس المحلة [أرملة جسّو(جاسم)] في الصف المقابل وانتقلنا إلى مدينة بعقوبا. الفضاء المنفتح من كل الأطراف لا تحده تضاريس طبيعية أو عوامل مانعة سوى نهري خريسان وديالى وعلى كل منهما جسور وقناطر مريحة. كنت في أول عقدي الثاني، وقد حملت معي هواياتي الأولية في القراءة والرسم، لتتبلور وتتعمق وتتأكد في مدينة بعقوبا التي شهدت أول كتاباتي ونشرياتي ومشاركاتي الثقافية وفوزي بأول جائزة أدبية، في منتصف عقد السبعينيات، الذي موضع تحولات جذرية متناقضة هيأت لأبشع دكتاتورية مأجورة في تاريخ بلاد ما بين النهرين، صادرت كل ما هو جميل وحقيقي وجدير.
[القسم الأول]
بعقوبا.. الغابة والبستان..
أراضي بعقوبا مثل بقية الأراضي التي يمرّ فيها نهر ديالى ، كانت قبل استيطانها غابة كثيفة عامرة بأنواع الأشجار والثمار المطمئنة إلى وحدتها ، يخترقها مجرى نهر ديالى بخريره الصائت، كأنه يأتي من أعماق التاريخ أو قرارة البئر الذي تحدث عنه بدر شاكر السياب في إنشودة المطر. وربما كان موقع بعقوبا أو ديالى الغابة التي ورد ذكرها في ملحمة جلجامش عندما قدم إليها مع صديقه انكيدو لمصارعة خمبابا والتي يقدرها بعض الدارسين في فارس أو لبنان. من جهة أخرى دلت المكتشفات الأثرية على وجود آثار سحيقة في القدم في المنطقة، يعود قسم منها إلى مملكة [أشنونا] المعاصرة للسومريين أو أنها كانت جزء منهم عند توحيدها على يد سرجون. وهي واحدة من الممالك القديمة التي يعود تاريخها إلى ( فجر السلالات ونظام دويلات المدن وما تبعها، حيث أفرزت لنا شرائع عدّة منها: شريعة أرتمو، وشريعة لبت عشتار، شريعة أيشنونا، وشريعة أوركاجينا.) ويستعرض الأب سهيل قاشا بعض المفاصل التاريخية في كتابه [مقتبسات شريعة موسى من شريعة حمورابي] المتعلقة بهذا الأخير وصراعه مع الملك " شمشي أدد" الذي (كان قد ضيّق الخناق على بلاد بابل، وكان نفوذه في زمن حمورابي يمتدّ حتى شمالي بابل بقليل والتي كان يشرف على إدارتها ابنه " يشمع أدد" ثم مملكة أشنوناك، وبلاد ياموتيل وعيلام، والدول التابعة لها، ثم مملكة لارسا التي كان ملكها آنذاك " ريمسن" القويّ،..) وقد نجح حمورابي في التغلب على أعدائه (وهرب " ريمسن" من عاصمته لارسا التي سقطت بيد حمورابي وبذلك استولى على جنوب العراق وبلاد عيلام وأشنوناك وياموتيل. ثم التفت إلى مملكة ماري وغزاها وقضى على ملكها " زبري لم" وتقدم نحو بلاد آشور واحتل جزء منها وكذلك احتل بلاد سوربارتو الواقعة شمال كركوك الحالية وشرقيها وبذلك أصبح " ملك الجهات الأربع"). ويتضح من هذا أمران رئيسان: أولهما اعتماد نصوص شريعة حمورابي على جملة الشرائع القديمة السابقة لعهده والتي منها شريعة مملكة أشنونا أو أشنوناك المجاورة لمملكة عيلام شرقي النهر [دجلة]. والأمر الثاني الوزن السياسي لمملكة أشنونا ودورها في العلاقات الاقليمية عبر الاحلاف المشاركة فيها. وقد كشفت ندوة عالمية عقدتها دائرة الآثار العامة في التسعينيات عن تفاصيل ومعلومات كثيرة عن التقدم الحضاري والسياسي لمملكة أشنونا وأهميتها في التاريخ القديم.
تشكل بساتين الفاكهة والحمضيات القسم الأعظم المحاذي للأنهار، بينما تتسع غابات الأشجار الجافة والنخيل مع الابتعاد عن ضفاف الأنهار داخل العمق. وحتى أوائل سبعينيات القرن الماضي كانت آثار غابات النخيل واضحة في الجانب الشرقي لطريق بغداد – شهربان الرئيسي، الموقع الذي تشغله اليوم منطقة (مدينة) التحرير خلف محطة القطار. وكان سكننا في بعقوبا في المنطقة المسماة (أم النوه)، و [النُّوَهْ ] هي النواة داخل التمرة، ثمرة النخيل. وكانت مدرسة (ساحة) الأمين هي نهاية (أحد أركان) المدينة يومئذ، وإلى الخلف منها باتجاه (المبزل) طريق مندلي نخلات متناثرة مختلية بنفسها أو كما يقال (أعجاز نخل خاوية) وبداية انشاء بعض دور سكنية خلالها مثل (المستوصف البيطري) يومئذ.
يصف الاستاذ علاوي عبد الرزاق الخشالي في كتابه (لمحات من تاريخ بعقوبا القديم) بعقوبة بأنها ، تحاط بحزام أخضر من البساتين الغنية بأشجار الحمضيات، وأشهرها البرتقال والليمون بنوعيه الحلو والحامض، بالاضافة إلى انتشار أشجار النخيل الباسقة فيها، حيث تقع على الجهة اليسرى من نهر ديالى (ص5). والأشجار المثمرة هي صفة المدينة في كتابات الرحالة الذين مروا بها عير التاريخ ، وأطلق عليها نعت (محافظة الحمضيات) وإقامة مهرجان الحمضيات السنوي في أول عامين له إبان السبعينيات. بيد أن انتشار المستوطنات البشرية وارتفاع درجات الحرارة قضم ملامح غاباتها الطبيعية وأتى على كثير من بساتينها التي التصقت بها المناطق السكنية حتى كادت تحاذي الانهار في بعض النقاط، في دالة على قصور الوعي البيئي للسكان والحكومة على حدّ سواء. ففي البلاد الأوربية التي تبدأ ملامح الطبيعة الخضراء فيها مع عبور البوسفور تجاه بلغاريا حتى شواطئ المتوسط والأطلسي والبلطيق، تحظى الطبيعة والغابات بأهمية ورعاية استثنائية، تقرّه قوانينها ويقع المتجاوز تحت طائلة العقاب القانوني، بما في ذلك الصيد أو قطع الاشجار أو تغيير صفة الأرض دون موافقة السلطات، وتشكل الحدائق والباركات (Park) والبحيرات أجزاء رئيسية من قلب كل مدينة يقضي فيها السكان أوقات فراغهم، وهو أمر مفتقد في تخطيط خريطة المدينة العراقية ما عدا حديقتي الزوراء والأمة في مدينة بغداد والتي كان للصدفة دور في وجودها. والتي تحولت في ظل الاحتلال إلى مواقع كريهة ومجمعات لرمي القاذةرات، شأنها شأن ضفاف الانهار (الكورنيش) والحدائق والمنتجعات الطبيعية في المدن. ولا يستبعد أن يأتي يوم قريب تتحول فيه البساتين مجرد ذكرى عراقية إسوة بأشياء عراقية كثيرة من مسلسل الفقدان، نجهد للاحتفاظ بها في الذاكرة بعد أن اختزلها الواقع اليومي ومنطق اللامعقول. وما يقال هنا ينطبق على بقية مدن ديالى مثل الهويدر وخرنابات وهبهب وكَصيرين وبهرز وشهربان وقزلرباط التي اكتسحت التغيرات السكنية الأخيرة مظاهر الطبيعة الغناء فيها. وربما جاء عنوان [بعقوبا.. ذاكرة البساتين] للروائي سعد محمد رحيم إشارة مبطنة لسيرورة الاخنزال، بينما يبقى عنوان [البصرة جنة البستان] للشاعر مهدي محمد علي صورة ذاكراتية إزاء راهن البصرة الذي قضمته قصوفات الحروب والطيران الأمريتاني المستمر خلال التسعينيات، ورثاء مبكراً لمعطيات عهد الاحتلال الراهن منذ 2003. وهنا لابدّ من دعوة مخلصة للجميع للالتفات لمظاهر أمنا الطبيعة ووقف الاعتداءات الصارخة عليها، فاختزال الطبيعة اختزال للجمال، في زمن لا تنقصه القباحة والبشاعة. وكأن الطبيعة العراقية كتب عليها مشاركة الانسان في تحمل آثار تعملات القدر التدميرية ، فتفقد البلاد نكهتها وخاصتها وتختزل خصائص الطيبة والأريحية والتسامح من الخصائص الاجتماعية والنفسية لأهلها، لتسود بدلاً عنها القسوة والمادية والاحتيال والغدر. فجمال الطبيعة منعكس في جمال النفس الانسانية وجمال البيئة الاجتماعية منعكس في جمال القيم الخلقية والفكرية لأبنائها. فلا غرو أن تنعكس التغيرات المادية السياسية والاقتصادية سلباً على الانسان، وتمنح الماضي وأهله وخصائصه الاجتماعية والقيمية ذلك السحر الذي يمسّ شغافنا ويجعلنا نحلق في سحب من أحلام ماضوية.
وعوداً إلى ذكريات الماضي، يوم كانت النزهات تنطلق في حنايا البساتين أو دروبها الظليلة الدافئة سيما أيام الصيف. وهي نزهات صارت نادرة وغير معروفة للأجيال الجديدة ولا يمكن اسشعار عذوبتها وطلاوتها وطراوتها. نجد من الضرورة أن تستصدر الجهات المختصة قانوناً يلزم يترك مسافة نصف كيلومتر على الأقل عن ضفاف الأنهار وأكثر من ذلك في مناطق الغابات والبساتين والتضاريس الطبيعية بعيداً عن البلدوزرات ويد الانسان لتلطيف المناخ والحياة والطبيعة، واعتبار ذلك جزء رئيسا من المسؤولية الوطنية والقومية لكل فرد ومسؤول. وذلك لوقف التدهور والتخريب والدمار واستعادة ما يمكن استعادته لعودة الحياة في العراق لمناسيبها الطبيعية.
بساتين ديالى.. وقف الحكومة
(وقد جذبت خصوبة نهر ديالى وكثرة بساتينه رجالات الحكم والمتنفذين، لاقتطاع مساحات واسعة من الأراضي، بعد أن وضعوا عليها أتباعهم وأذنابهم يستغلونها ويستثمرون غلاتها.) ص25 من كتاب "يوسف عزالدين شعره وتجديده". ويروي أهالينا أن الملك وحاشيته كانوا يمرون خلال المدينة في مواعيد محددة من العام.. ماضين نحو أعالي ديالى.. حيث يقضون أوقاتاً في منتجعاتهم وإقطاعاتهم خلال الصيف.. والمعروف أن حكومة ياسين الهاشمي الأولى في الثلاثينيات هي التي أقرت قانوناً لتمليك أعضاء الحكومة والبلاط والبرلمان اقطاعات من أراضي العراق، وكانت أراضي ديالى الزراعية وبساتينها المحاذية لمجرى النهر تحديداً من حصة البلاط، وقد استمر العمل بهذا القانون طيلة العهد الملكي. وهو من القوانين التي أعاد الحكم البعثي الشوفوني إحياءها وأعيد تسجيل أراضي وبساتين ديالى الملكية بأسماء أعضاء القيادة (مجلس قيادة الثورة والقيادتين القطرية والقومية والحكومة وأعضاء الفروع والمكتب العسكري وكبار الضباط). كانت أجود الأراضي هي التي في أعالي المجرى توزع بالتسلسل حسب المواقع القيادية للمسؤولين. ومن ظلال هذا القانون البيوت أو القصور الرئاسية في كل محافظة والقريبة الشبه بتقليد الدوتشات [Dutch] التي أجره أحد ملوك فرنسا في القرن العاشر الميلادي قبل أن تنفصل أراضي ألمانيا عن فرنسا، وهو أول من اتبع نوعاً من الحكم اللامركزي يتمتع فيه حكام الأقاليم بسلطة كاملة، بينما هو يتفقد الأقاليم وفق جداول شهرية ويراقب سياسات الحكم. ذلك ما لم يكن له أثر في سياسات الدكتاتور المعروفة غير نزعة امتلاك القصور الفارهة تمثلاً بزعيم أوربي آخر هو أدولف هتلر الذي تحولت قصوره (الشخصية) إلى متاحف وآثار. ويذكر في هذا المجال، أن أقدم وأرفه المباني في مدينة السعدية (قزلرباط) المعروف بقصر "علي بيك" عندما أراد ورثته بيعه أوصى صدام بشرائه وترميمه والمحافظة عليه، ولا يعرف مصيره اليوم. وعندما هاجر بعض أهالي خانقين خلال حرب الثمانينيات نتيجة وقوعها تحت مدى المدفعية المضادة استصدر قرار بتمليك دورهم وأراضيهم لأعضاء حزب البعث والمسؤولين في المدينة مما حرم أهاليها من العودة إليها بعد ذلك. ناهيك عن بيوت المهجرين والأملاك المصادرة وتبعات التعريب وغير ذلك.
ان من آثار هذا القانون ليس إضعاف صلة الفرد بأرضه ومدينته ووطنه عندما يرى مسؤولي الدولة يلعبون دور الاقطاع الكريه ويتناوبون بمصادرة أفضل الأراضي التي ليست لهم حاجة بها إضافة لبعدها عن مراكز إقامتهم الدائمية في العاصمة، وما يلحق تلك الأراضي والبساتين من الاهمال والتردي والتسيب . وقد أصيبت بعض البساتين بالجفاف وتحولت إلى أراض جرداء نتيجة الاهمال وعدم مراجعة المسؤول أو متابعة القائمين عليها. ان طبيعة الظروف السياسية والعسكرية خلال الحكم البعثي شغل الكثير من الوزراء عن التفكير في تلك الأراضي والأملاك الملحقة بهم قانوناً أو التجرؤ على مغادرة العاصمة خشية سوء تأويل ذلك. وأضافت امتيازات الحرب (حرب الخليج الأولى) إدخال قوائم الضباط الكبار في الفيالق والفرق إلى جانب المسؤولين في حيازة الأراضي الزراعية الجيدة والبساتين الجميلة، ولم يكن من الغريب أن يرى المواطن الغرباء عن مدينته أباطرة وسادة مستعلين على الأهلين. ومن الطرف في هذا المجال، أن إدارات الضباط والمراتب في ديوان وزارة الدفاع خلال فترة الحرب كانت تطلب بمسوحات دورية للخريجين. وحدث أن جاء قرار بانتداب وتسريح خريجين معاهد فنية معينة في أواسط الثمانينيات، وإلحاقهم بمنشأة معينة (لا أذكر اسمها بالضبط) كانت ملحقة بالقصر الحاكم. وقد تسرح من وحدتنا أحد المشمولين بالقرار. وبعد سنوات التقيت به في بغداد وجرى حديث عن وضعه وطبيعة عمله فإذا به يضحك ويصف ظروف عمله الصعبة، فقلت له كيف؟.. قال المنشأة الفنية التي أعمل فيها هي مزرعة (منشأة) غزلان عزة الدوري، وجميع العاملين والحراس فيها من المصريين وأنا العراقي الوحيد بينهم أحضر ساعات الدوام فقط وأخرج دون أن ألتفت أو أتكلم. والمنطقة كلها حقول ومزارع متواصلة للمسؤولين الكبار. ولا يعرف مصير تلك الاقطاعيات وأسرارها ووثائقها والعاملين فيها أو ملاكيها الجدد بعد سقوط الدكتاتورية.
ان مشكلة الأراضي وتأثر صكوك الحيازة والملكية بالتغيرات السياسية وتدخل مراكز النفوذ واحدة من أكثر المشاكل العويصة في العراق وأبرز العوامل المزعزعة لاستقرار بيئة الاستيطان والتوطن ، سواء في جانب السكنى والاقامة أو الزراعة والرعي أو الصناعة والمسطحات المائية وصولاً إلى اقتسام مياه الأنهار ومناطق الصيد المائي. ويذكر في هذا المجال قانون الاصلاح الزراعي رقم 80 لعام 1958 الذي حدد الحدّ الأعلى المسموح للملكية وما ترتب على محاولات تطبيقاته من آثار دراماتيكية انعكست على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مختلف انحاء البلاد، كان من أبرزها التأسيس لهجرة الرأسمال الوطني [العوائل الرأسمالية والاقطاعية] خارج البلاد من جهة، وعودة الكرد لحمل السلاح ضد الحكومة في أيلول 1961 جراء رفض الاقطاع الكرد لبنود قانون الاصلاح الزراعي. وفي عام 1970 حاول العهد البعثي الأول في حمأة بعض [التطبيقات الاشتراكية] إستصدار قانون الاصلاح الزراعي رقم 117 والذي ساعد على كسر شوكة كبار الاقطاع والحدّ من نفوذهم لصالح تقوية سلطة الحكم الجديد وبما هيّأ له بسط الهيمنة المطلقة واسئصال أية مصادر لسلطة القوى التقليدية والتيارات السياسية في البلاد، مصطنعاً فراغاً سياسياً ظهرت مخاطره عقب الاحتلال الأمريتاني وعدم وجود بدائل مؤهلة لقيادة المجتمع والدولة. ويبدو أن الإدراك المتأخر لهذه الحقيقة، هو ما حداً بزعماء العشائر ورموز الاقطاع للمطالبة بمعالجة آثار تطبيقات فوانين الاصلاح الزراعي السابقة وتعويض المتضررين في محاولة (!!) لتنبيت مراكز نفوذ تقليدية عشائرية إقطاعية من جهة، ورأسمالية برجوازية من جهة مقابلة. ضاربين عرض الحائط مصالح الطبقات الشعبية الكادحة وهي تتنقل بين تنين مصطنع وعفاريت مزيفة.
ان غلبة خصائص المدينة (من التمدن والتحضر) على المستوطنات السكانية في ديالى نجم عنه تحدد في حجم ملكيات الأراضي، رغم كون محافظة ديالى تتمتع بمساحات أراضي واسعة ومعدل دون المتوسط في الكثافة السكانية، فيما تتنوع جغرافيا التضاريس بين الجبال والتلال والهضاب والسهول والوديان والأنهار. وكان من نتيجة كل هاتيك العوامل والخصائص انعكاسها على طبيعة النسيج الاجتماعي والتفكير الفردي. فـ [الملكية الإقطاعية تكرس التعصب الديني و التبعية غير العقلانية لرجال الدين و تحالف الاقطاع مع رجال الدين ، على الضد من الملكية الصغيرة لمالكين أحرار ذوي مستوى حضاري و ثقافي.] ويضيف الاستاذ منير العبيدي في مداخلته في هذا الصدد، قائلاً أنه: [في المدينة و الاطراف امتداداً الى ضفاف نهر ديالى حتى المقدادية نحو الشمال الشرقي و حتى الخالص و زنبور شمالا في الحدود مع محافظة صلاح الدين ـ تكريت و كركوك عند منطقة الدوجمة ، ثم باتجاه بغداد ـ مناطق جديدة الشط ، الكصيرين ، على ضفاف دجلة حتى الراشدية ـ و كذلك منطقة الوجيهية و بعض اطراف المقدادية، كل هذه المناطق تحدّدت ملامحها الاجتماعية و النفسية بالملكية الصغيرة، أي ملكية البساتين التي لا يزيد معدلها في بهرز مثلا عن 1 ـ 2 دونم تزيد قليلا في الهويدر أو تنقص في مكان آخر .
توجد ملكيات بساتين في جلولاء و السعدية و خانقين ، و سابقا طبعا بساتين مندلي المشهورة قبل أن يحول نظام الشاه في إيران مجرى نهر مشهور - لا أتذكر اسمه-، مما أدى إلى خراب البساتين هناك .
وفي بهرز و الهويدر و أطراف بعقوبة المركز أعتقد أن ملكية البساتين الصغيرة كانت موجودة لدى اكثر من 70% من السكان أما الحرف و المهن الأخرى فهي مرتبطة بقدر أو آخر بالمداخيل التي تدرها البساتين . الملمح الآخر المرتبط بسيادة الملكية الصغيرة هو وجود ملكيات اقطاعية أو كبيرة على نطاق ضيق جداً و لا يقارن بما موجود في الجنوب أو كردستان . في بلدروز أو كنعان حتى اطراف مندلي و بعض المناطق الضيقة في الطريق الى المقدادية والتي تسكنها عشائر بني تميم و شيوخهم، ترتب على ذلك عدم وجود فلاحين فقراء معدمين على غرار ما موجود في مناطق الجنوب و بالتالي وجود فلاحين غير أحرار عملياً أو نصف أقنان .]
***********************
بعقوبا .. سيرة مكان (القسم الثالث)
مدينة عشت فيها أعواماً قليلة، وعاشت فيّ كلّ أعوامي، تاركة بصماتها على صيرورتي."
بين النهر والجدول..
لمسافة معينة يتخذ مجرى نهر ديالى وجدول خريسان خطين متوازيين مترافقين تاركين بينهما مسافة متفاوتة بحدود كيلومتر واحد. ويمكن تصور البقعة المحصورة بين النهر والجدول غابة غناء مثمرة حفية برائحة الطبيعة الأولى وبكارة الوجود الأزلية حيث يلقي لديها الانسان عناءه ويتنفس رحيق الحياة المحمل بعبق الأيام والسنين والعصور. ان طبيعة الأرض المحصورة في هذه البقعة متدرجة في الارتفاع من ضفة نهر ديالى صعوداً نحو مجرى خريسان. وقرب نهر (جدول) خريسان من نهر ديالى الكبير يقلل من أهميته الاقتصادية كقناة للارواء الزراعي تمّ إنشاؤها إبان العهد العثماني، والأرجح أنها أنشئت أو روعيَ في إنشائها خزن مياه الفيضانات ووقف اندفاعها في باطن المدينة. ويذكر أن البقعة بين النهرين هذه كانت تغرق بالمياه أثناء الفيضان الذي تصل تمدداته الدور القريبة من خريسان وتطفو المياه في دور الادارة المحلية القديمة سيما القريبة من طريق بغداد الرئيسي ما يقع خلف بناية النشاط المدرسي ومنزل المحافظ أيام السبعينيات . والحديث هنا عن فيضان عام 1976 الذي استمر تهديده للمدينة قرابة اسبوعين. استنفر خلالها الأهالي في بناء حواجز أكياس رملية لوقف زحف الماء. لا شك أن الفيضانات التي تكررت خلال التاريخ كبدت الأهالي كثيراً من الخسائر والدمار، التي كان يمكن تجاوزها لو ابتعد الانسان في تحديد سكناه عن المجرى وبالتالي حقق فائدتين، بدل خسارتين. وتبقى فكرة تحويل ما بين النهرين (ديالى وخريسان) إلى متنزه وبارك للطبيعة أحد المشاريع الحيوية لاحياء بعقوبا ومنحها ميزة عملية لاجتماعها على نعمة النهرين. وقد شهدت شواطئ النهرين تعليات ترابية مستمرة وتم تحويلها إلى متنزهات طولية تربط بينها شوارع متوازية حديثة تتوزعها بعض المنشآت السياحية والخدمية، لكن تلك المشاريع على نهر ديالى تحولت إلى مناطق أشباح مع اندلاع حرب الثمانينيات واختفاء الشباب [18 – 45 عاماً] من حياة المدينة، أما ضفتي خريسان التي رصفت بالحجر والاسمنت وأضيفت لها حدائق مسيجة من الجانبين تحدها شوارع حديثة بالاتجاهين فقد وفرت فرصة لنزهات المدينة في عصاري الصيف والأعطال المدرسية بين قنطرة خليل باشا حتى بداية كراج سيارات بغداد أو ما بعدها نحو بهرز وشفته أو خلل بساتين المدينة وشارع عمر عبد العزيز. ويعتبر قضاء أوقات الفراغ وعدم وجود أماكن للتسلية أو الرياضة أو مكتبات عامة واسعة أو مقاهي ونوادي حديثة تستجيب لتطور الحاجات المتزايدة جانب من معاناة أبناء المدينة، وهو أمر لم يؤخذ بنظر الاعتبار في تخطيط المدن انعكست سلبياته على الجانب الاجتماعي للمدينة. أما الحال اليوم فحدث ولا حرج كما يقال.
مدينة بين نهرين..
يمثل اجتماع نهري ديالى وخريسان في مكان واحد أبرز ملامح ومميزات مدينة بعقوبا. وما بين النهرين ولدت المدينة وكبرت وانتشرت، حيث السراي (العثماني) الذي ما زالت آثاره وبقايا أبنيته لليوم. ومنها بناية مصلحة البريد والبرق القديمة ومبنى مصلحة نقل الركاب ودائرة الماء والكهرباء ومدارس ابتدائية وغير ذلك. وإذا كانت ضفتا ديالى عامرتين بالبساتين المنخفضة، فعلى جانبي خريسان (كانت) حدائق منبسطة وشوارع مستقيمة متوازية تربط أطراف المدينة المتفاصية. ينتهي الشارع المحاذي لخريسان عند قنطرة خليل باشا في ركن المدينة بينما يمتد من الجهة المقابلة (عكس مجراه) حتى مدينة بهرز وقرية شفته. وتمثل القنطرة حدود بساتين الفاكهة والحمضيات. وامتداد قنطرة خليل باشا هي ساحة الوثبة ومنها يتفرع شارع تحفه البساتين إلى خرنابات والهويدر. أما امتداده الآخر فهو شارع عمر بن عبد العزيز الذي ينتهي في ساحة الأمين (أم النوه)، أحد أربعة نقاط تشكل جسد المدينة المترامية. ومن الجهة الأخرى عكس مجرى المياه وصولاً إلى جسر السابلة الرئيسي الذي ابتناه الانجليز عام 1920 مع جسر مرور السكك الحديد. ويربط الجسر طرفي طريق المواصلات الرئيس الذي يأتي من بغداد مخترقاً جانب المدينة باتجاه شمال الشرق إلى مدن شهربان والمنصورية والسعدية إلى دربندخان والسليمانية.
قلب مربّع.. وأذرع أخطبوط...
يمثل مركز شباب ديالى (مفترق طريق بهرز وامتداد نهر خريسان) على شارع بغداد الرئيسي (كما يدعى) أحد أركان مربع، تقابله نقطة موقع معسكر سعد (على طريق بغداد - شهربان)- يقابلها في عمق المدينة ساحة (مدرسة الأمين) المربوطة بشارع مستقيم تجاه قنطرة خليل باشا ومدرسة الوثبة. وترتبط النقاط الأربعة بشوارع مستقيمة على محيط المربع وشبكة شوارع داخلية حديثة فيما بينها. وتتميز مراكز بعقوبة والمقدادية (شهربان) والخالص (دلتاوه) بشمولها بالتخطيط العمراني في توزيع أحيائها وتنظيم شوارعها وتمفصلاتها. وعلى غرار الأضلاع الأخرى يمتد شارع من ساحة الأمين يشكل زاوية قائمة مع شارع السوق (النعمان) باتجاه طريق بغداد ويلتقيه مع بدء بيوت الادارة المحلية ومبنى مديرية التربية القديم . وهكذا يتخذ مركز مدينة بعقوبة الذي يمتاز بالعمران والتنظيم والتخطيط، شكل مربع محصور بين مجرى النهرين وطريق بغداد وأم النوه وخط البساتين من جانبيها الآخرين. وقد كانت منطقة (أم النوه) - كما يستدل من إسمها – غابة نخيل كبيرة تستمر حتى طريق بغداد في الجانب المقابل لدوائر المحافظة والاعدادية المركزية. بينما تشكل بساتين الفاكهة والحمضيات جانبيها الآخرين على امتداد طريق (السادة) وشارع عمر عبد العزيز حيث كانت ماكنة ثلج برهان الديري باتجاه مجرى النهرين الحافلة بالبساتين والظلال الباردة في لظى تموز وآب. اطلق على طريق السادة هذا الاسم لمروره بقريتي (السادة) الكبيرة والسادة الصغيرة التي ينحدر منها السياسي المخضرم ورئيس وزراء العهد الملكي رشيد عالي الكيلاني أحد أقطاب حركة 1941 الشهيرة ضد الانجليز. يقابلها على الجهة الأخرى في معسكر موقع سعد مقرات إدارة وميرة ووحدات حماية وأشغال تابعة لقيادة الفيلق الثاني الذي مركزه في موقع (منصورية الجبل). ومن معسكر سعد في بعقوبة تحرك العقيد عبد السلام عارف ولواؤه صبيحة الرابع من تموز 1958 لمحاصرة القصر الملكي واحتلال دار الإذاعة وقراءة بيان الثورة رقم واحد ويلحق به بعد ساعتين اللواء التاسع عشر الزاحف من جلولاء بقيادة عبد الكريم قاسم ليضعا نهاية حقبة سياسية ويضعا حجر الأساس لحقبة تجرى الرياح بها عكس ما أراده لها أصحابها. لقد حملت اربعتعش تموز العراق كل خير وكل شؤم اربعتعش تموز الأولى (1798) منطلق الثورة الفرنسية التي قيل فيها: الثورة يخطط لها الفلاسفة وينفذها الغوغاء ويجني ثمارها الانتهازيون، ومقولة[الثورة تأكل أبناءها] فبعد جملة المحاكمات الصورية لمحكمة (المهداوي) الشهيرة واصدار عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء العفو (عما سلف) دقّ المسمار الأول في نعشه الشخصي عندما جمع (القدر) أي [كارتل شركات النفط بقيادة السي آي أي] رفيقه ونائبه عبد السلام مع زمرة علي صالح السعدي (البعثية) والضباط القوميين والناصريين للاطاحة به في الثامن من شباط 1963 وقتله في دار الإذاعة العراقية في الصالحية وترك جثته معلقة في باب وزارة الدفاع عدة أيام.
مداخلة حول تسميات المدن
ويمكن اتخاذ اسم المدينة دالة تاريخية للاستدلال على قدها وزمن تأسيسها أو ازدهارها، فكلمة [بعقوبا] تنتمي للغات القديمة وأقرب إلى الاشورية أو الآرامية ، وثمة سلسلة من أسماء مدن قريبة البنية والايحاء مثل: بابل، باصيدا، باجسره، باعشيقه، برطله، بعبدا. والصحيح في اللفظ هو (باعقوبا)، ولكن الأحرف الهوائية اختزلت وخففت بما يجعلها أقرب للصرف العربي مع بقاء أصلها غير العربي. ويلحظ أن هذا البناء اللغوي استمر في مرحلة تالية مع تغيير بسيط لمواءمة التغاير اللغوي ممثلة في وضوح لفظة (بيت) الارامية القديمة في بداية الكلمة مثل بيت حانون. ويمكن الاستناد إلى هذه الظاهرة ومثارباتها في اللغات والثقافات المختلفة لاستنتاج قاعدة سادت حتى عهد قريب في تسميات المدن في الشرق الغرب. فكلمة (شهر) الساسانية معناها مدينة وقد وردت في عديد تسميات المدن مثل خرمشهر، شهرزور، شهربان. أو ورود لفظة (خان) مثل دربندخان، قره خان، خان بني سعد. أو دخول كلمة (آباد) في أسماء مدن في ايران وباكستان مثل بندر آباد، اسلام آباد، مهاباد. وتقابلها كلمة (غراد) السلافية مثل ليننغراد، أو (بوليس) الاغريقية القديمة في تسميات بعض المدن مثل هليوبوليس ، أكروبوليس، تريبوليس (طرابلس). ان استعراض الأسماء الأصلية القديمة للأماكن والمواقع والمدن والبلدان يكشف كثيراً من الحقائق التاريخية التي تساعد في ترسيم وصياغة ثقافة المكان والسكان، ويدعم عناصر ثبات الشخصية والاستقرار النفسي والفكري للفرد ويوثق صلته بالبيئة. ان الدلالات اللغوية التاريخية والاجتماعية لأسماء المدن وعلاقتها بنشأة المستوطنات وأهميتها من السمات والخصائص الذاتية للمكان الذي يمنحها نكهة خاصة وترددات عميقة في نفوس الأهلين، وما لذلك من تعالقات ومقاربات بنيوية مع مفهوم الاستقرار الروحي والنفسي والهوية الوطنية. أن أكبر أسباب قلق الشخصية العربية وتذبذبها هو عدم استقرار الصلة بالمكان واضطراب عملية الاشباع النفسي والروحي للبيئة بأثر التغيرات السياسية والعسكرية العنيفة المتواصلة وتدخلها في تغيير خصائص المكان الجغرافي والاجتماعي وتحريف صورها وأسمائها، ومن مهازل التاريخ أن غير قليل من الناس ولدوا في أماكن وهمية لا يمكن تحديدها في الخرائط الجغرافية، جراء تغيير أسماء المدن والاستمرار في إطلاق تسميات جديدة متعلقة بالظرف السياسي التي ما يني ظرف سياسي آخر يلغيها ويلقي عليها بصبغته، وهذا من علائم خيانة المكان والانسان على السواء. ومما يقتضي تقليداً أخلاقياً وطنياً أصيلاً وتشريعاً قانونياً يمنع تغيير المعالم التاريخية والآثارية ومعالمها اللغوية والاجتماعية والأثنية. ان هذا السلوك يرتبط غالباً بالحملات الغازية الغريبة عن السكان فتحاول تزوير المعالم وإعادة ترسيم المكان بما يمنحها جذوراً تاريخية هشة (في المكان)، بيد أنها بذلك تزيد من هوة علاقتها بالأهلين وتبقى منبوذة حتى زوالها، وهي ما وسم كثير من الحكومات والحكام المتناوبين على العراق. ولابدّ للأخطاء من نهاية والانحراف والضلال من نقطة عودة للوعي والاخلاق والعقل والحقيقة.
تاريخ المدينة..
لا توجد معلومات مؤكدة عن تاريخ مدينة بعقوبا وتطورها عبر القرون. ولكن الثابت أنّ تاريخها يرجع لما قبل التاريخ ، حيث تعاقبت على أرضها مراكز حضارية قديمة أشهرها مملكة (أشنونا) المعاصرة لسومر وبابل وآشور، وكان وقوعها شرق نهر دجلة منحها أهمية استراتيجية وجيبولوليتيكية سياسية في الصراع بين ممالك ما بين النهرين (دجلة والفرات) والممالك الفارسية مثل عيلام وساسان. ناهيك عن مرجعيتها الحضارية والثقافية لحضارات وادي الرافدين القديمة والآثار المتبادلة بينها كما لوحظ (في المبحث الأول) في مجال التشريع.
أن وفرة المياه وتعدد مصادرها ومجاريها وخصوبة أرضها أغرى الأقوام القديمة باستيطانها. كما كشفت أعمال الحفريات والتنقيب الأثرية عن ممالك ومراكز حضرية أخرى على ضفاف نهر ديالى خارج مدينة بعقوبا. ويرى المؤرخون الأجانب أن بعقوبا - أسوة بمناطق العراق الأخرى- استمدت أهميتها من وقوعها على جانب من طريق الحرير الذي كان يمتد من روما إلى الصين. وهو الجزء الذي يربط بين بغداد والنهروان. بينما يرى مؤرخ مدينة بعقوبا المحامي (طه هاشم الدليمي) أن بعقوبا اكتسبت أهميتها بعد خراب طريق النهروان، دون ذكر للتواريخ والأحداث. ان هذه الاشارات تربط أهمية بعقوبا بوجود مدينة بغداد. بيد أن طريق الحرير ومدينة بعقوبا أقدم من العهد العباسي وتأسيس بغداد على يد أبي جعفر المنصور. ولا ينكر أن المدينة شهدت ازدهاراً لا مثيل له في تاريخها أيام العباسيين، مع تحول بغداد إلى أبرز مدينة في العالم وعاصمة الدنيا طيلة (أربعة قرون). فقد توسعت الدولة العباسية إلى أقصى حدودها المحاذية للصين شرقاً وجنوبي أوربا غرباً، وصارت عاصمتها قبلة طلاب العلم والتجارة والطامحين في حياة أفضل. ويورد المؤرخون بعض البيانات عن بغداد أقرب للخرافة منها للتصديق مثل وجود أربعين ألف حمام وعشرين ألف مدرسة فيها. ولكن مهما تكن نسبة المبالغة في ذلك، تبقى دالة على الكثرة، وتؤكد ذلك أخبار غزو المغول للعراق (1258م) وما ألقوه من كتب في دجلة حتى انقلب لون الماء أسود. ويستنتج منه أن حدود بغداد كانت مترامية وبصورة أقرب لحال هذا اليوم حيث تصل امتدادات المدينة الأفقية لتلتصق بالتوسع الأفقي للمدن المجاورة لها مثل بعقوبا والحلة وغيرها. ويورد البعض أن مطابخ الخليفة كانت في بعقوبا. ومن جهة أخرى تفيد هذه الأخبار كعوامل استقطاب سكاني متعددة أيام الازدهار والاستقرار السياسي والعكس بالعكس.
ان قرب مدينة بعقوبا من العاصمة السياسية والتاريخية جعل منها مدينة ظلّ، وحرمها من إمكانيات النمو والازدهار. فطلبتها يدرسون في بغداد وكثير من أبنائها يعملون في العاصمة وهو ما كان يلحظ من ازدحام حركة المواصلات بين المدينتين خلال بدء الدوام الرسمي وانتهائه. بل أن خطوط باصات مصلحة نقل الركاب كانت تربط المدينتين حتى عهد قريب قبل خصخصة المواصلات. وكان الموقف الرئيسي لباصات المصلحة مقابل نادي الضباط بجوار مبنى المحطة أو مقدمة كراج بغداد الحالي على نهر خريسان. ويرى الاستاذ منير العبيدي بهذا الصدد [هناك من يعتبر قرب بعقوبة الى بغداد قد لعب دورا سلبيا في نمو اقتصاديات سوقها ، خصوصا ان المئات من الموظفين كانوا غير مضطرين للمبيت و انما كانوا بدلا من ذلك يغادرون الى مكان اقامتهم في بغداد يوميا، و لكنهم طبعا كانوا تبعا لذلك يصرفون دخولهم في بغداد التي يقيمون فيها ، و قد قام أحد المحافظين في الستينات بمنع موظفي الدولة المقيمين في بغداد من العودة و قامت نقاط السيطرة بالتقصي عن وجودهم في وسائط النقل. و قد أثار هذا الاجراء ضجة مما حدا بالمحافظ الى التراجع عنه.]. وحسب تقديرات الرحالة الذين زاروا المنطقة في القرن التاسع عشر لم يكن عدد سكانها يتجاوز الألفين*. بينما تذكر التقديرات الأمريكية عدد سكانها بمائتين وسبعين ألفاً عام 2003، ومائتين وأربعين ألفاً عام 2005 أي بعد عامين من الاحتلال وسقوط النظام السابق.
*************
بعقوبا.. سيرة مكان ( القسم الرابع )
مدينة عشت فيها أعواماً قليلة، وعاشت فيّ كلّ أعوامي، تاركة بصماتها على صيرورتي."
بعقوبة في ثورة العشرين
عندما اندلعت الثورة العراقية (1920) شرعت القبائل من ألبو هيازع في تخريب السكة الحديدية، فتعطلت المواصلات بين العراق وايران، وهو ما أراده زعماء الثورة وانقطع سير القطار فوراً. وشعر الحاكم السياسي في بعقوبة بالخطر يحيط به فخرج هارباً منها فاحتلها الأهلون وأقاموا السيد محمود المتولي حاكما عليها، واتخذوا دار الحكومة مقراً للحكومة، ورفع الضابط الكركوكي حسين علي العلم العراقي عليها. وأما في دلتاوة، فأن حاكمها الكابتن لويد الذي ناب مناب الميجر - هايس- في حاكمية بعقوبا ، ما كاد يعود إلى مقر عمله حتى قبض عليه الشيخ حبيب الخيزران وعلى مهندس الري – المستر أستراخن- وموظف آخر يدعى –المستر ديكان- وأعتقلهم جميعاً في (دلي عباس) بعد أن وفّر لهم أسباب الراحة والعيش الهنئ، وما لبث أن احتل دلتاوة.
وعلى الضفة الأخرى من نهر ديالى على مسافة (2 كم) من الجسر كانت معسكرات الآشوريين الذي نزحوا من (أورمية/ تركيا) فأنزلهم الانجليز في هذا المحل، فاستخدمهم الجيش البريطاني في مكافحة الثوار في هذا اللواء. وكان الطريق بين بغداد وبعقوبا فدلتاوة تحت سيطرة الانجليز، وقد سخروا النساطرة التياريين - المعروفين اليوم بالآشوريين والأرمن- اللاجئين للحفاظ على الطريق وقطعه على الثوار ومحاربتهم. ولما لم تكن الأسلحة المتيسرة بين أيديهم كافية للاستمرار في القتال بعثت القيادة من بغداد قطاراً خاصاً يحمل العتاد والسلاح والأرزاق فاستطاع الثوار أن ينسفوا هذا القطار على مسافة (6 كم) من بعقوبا. بيد أن الانجليز قد جمعوا جراميزهم وأعوانهم وأعادوا الكرة على بعقوبا فاسترجعوها. حيث تمكنت حامية الجسر من احتلال المدينة في [29 أوغست 1920] وصدر البلاغ التالي (عدنا فاحتللنا بعقوبة بدون صعوبة وقد خرجت قوة للاستطلاع في (تورة) فوصلت قزلرباط). وبعد احتلال مدينة بعقوبا من قبل الانجليز انضم الثوار إلى منطقة دلتاوة فأخذ الانجليز يرسلون عليها وعلى الثوار طيارات ثلاث مرات يومياً تلقي عليهم القنابل وترهب وتخيف الأهلين تمهيداً للهجوم عليها. وفي اليوم العاشر من محرم سنة 1339 هـ الموافق 25 أيلول/ سبتمبر 1920 وكانت الأكثرية من أهل دلتاوة مشغولة بالاحتفال الحسيني احتل الانجليز دلتاوة وقاموا بتصفية الثورة. وقد أحرقت بيوت جميع الذين اشتركوا في الثورة في دلتاوة وصودرت أموالهم ثم انتقل الجيش إلى السندية تسنده الطائرات من الجوّ والمدافع من البرّ، وفي 28 أيلول/ سبتمبر 1920 احتل الجيش قرية قزلرباط دون مقاومة وبذلك انتهت الثورة في لواء ديالى.
لقد نبّهت عمليات ثورة العشرين في (محافظة) ديالى الانجليز إلى الأهمية الستراتيجية لموقع مدينة بعقوبا فسعوا إلى تكثيف الوجود العسكري وتعزيز الحامية فيها وفي جلولاء، تينك المدينتان اللتان أسهمتا فيما بعد إسهاماً مباشراً في الأحداث السياسية والعسكرية في العراق بدء من انقلاب بكر صدقي (1936) وحركة رشيد عالي الكيلاني التحريرية (1941) حتى تنظيمات الضباط الأحرار التي فجرت ثورة (14 تموز 1958) وتأسيس الجمهورية في العراق.
[عن.. المبحث الأول من الفصل الثاني- الباب الأول من كتابنا عن (يوسف عزالدين.. شعره وتجديده) الصادر عام 1993 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.]
ان أحد معطيات القرب الجغرافي من العاصمة السياسية يمنح المدينة دوراً أكبر في التأثير في الحياة السياسية للعاصمة. وهو ما يمكن الركون إليه في الحياة السياسية للعراق الملكي وفجر الجمهورية بشكل أو آخر، عبر المشاركة في أحداث ثورة العشرين في الاحتلال الانجليزي الأول وما ترتب عليها، أو أحداث حركة مايس عام 1941 التحررية بقيادة رشيد عالي الكيلاني ضد الانجليز، والتي تبلورت في 14 تموز 1958 بحركة عسكرية للقوات المتجحفلة في مدينتي جلولاء ومعسكر سعد في بعقوبة واعلان الجمهورية. ويشخص الباحث منير العبيدي عدداً من الملامح والمؤشرات السياسية في المدينة، ومنها:[نوادي ثقافية بدائية مقرها المقاهي، رابطة لمكافحة الصهيونية في بهرز، أول تنظيم للحزب الشيوعي أواخر الثلاثينات، أول مكتبة حزبية تابعة للحزب الشيوعي كانت في بهرز كما سمعت من المرحوم عبد الوهاب الرحبي .
و الأمور على نفس المنوال بهذا القدر أو ذاك في الهويدر مثلاً، فمرشح البرلمان في انتخابات 56 كان د . طلعت الشيباني الذي استوزر بعد ذلك في زمن قاسم. (بينما) الشخصيات السياسية المتحدرة من الجنوب كانت تعتمد على أسس اجتماعية مختلفة.]. ويروي الدكتور قاسم بريسم في كتابه (الشرارة والرماد) عن أحداث انتفاضة مارس 1991 في مدينة البصرة أن بدايتها كانت في منطقة التنومة عندما وقف أحد الجنود أمام دار مسؤول حزبي بعثي وصرخ بعلو صوته معلنا مقتل صدام، فانطلقت رصاصات من البيت المذكور وأردته قتيلاً. وقد تعارف السكان على هوية القتيل وبطاقته بأنّه أحد جنود الجيش العراقي من أهالي ديالى (ص91). بالاضافة إلى بعض الرموز السياسية والعسكرية مثل علي صالح السعدي الأمين القطري الثاني لحزب البعث بعد فؤاد الركابي والذي أبعده عساكر 1963 عن القيادة في تموز من ذلك العام مع غيره من الجناح المدني ليكون بذلك نهاية التيار المدني في حزب البعث الذي اندرج تحت سلطة العسكر أولاً ثم انزاح للتكارتة، حيث (التكارتة غدوا قلب الدائرة، يحيطهم إطار من تكارتة غير بعثيين، وبعثيين غير تكارتة.) ص57- كتاب بعث العراق. ولم تكن مناطق ديالى ضمن [المثلث الذهبي] الذي شكل دعامة القوة الأمنية والعسكرية للدكتاتورية، وهي المتعارفة بتكريت والموصل والرمادي. وعلى غرار ما عرف بقضية الدجيل (1982) التي كانت أولى لوائح اتهام محاكمة أركان النظام السابق بعد سقوطه تعرضت منطقة (جيزاني الشطّ) في قضاء الخالص لعملية استئصال أمني بنفس الظروف والمبررات.
وباجتماع خاصة القرب من الحدود الشرقية، الذي ميّز مملكة أشنوناك، أو القرب الجغرافي من العاصمة السياسية في أحداث القرن العشرين، يمكن فهم سبب اتخاذ هذه المدينة أحد المعاقل الرئيسة لأحداث العنف الأهلي والسياسي منذ اكتوبر 2003 في ظل الاحتلال الثالث لعراق.
صورة مخطط المدينة
فيما سبق توصيف مركز مدينة بعقوبا الأصلي بالشكل المربع أو الرباعي محدداً أركانه بقنطرة خليل باشا (أو مدرسة الوثبة إلى الخلف منها) ومركز شباب بعقوبة على تقاطع طريق بهرز مع طريق بغداد الرئيسي وموقع معسكر سعد على امتداد طريق بغداد قبل تقاطع مندلي، إلى مدرسة الأمين في العمق (أم النوه). وموقعها على الجانب الأيسر من طريق بغداد- شهربان على جانب بناية المحافظة والأعدادية المركزية ونادي الضباط (حسب التوصيف القديم).
لتوصيف أجزاء المدينة نجد أن علامة صليب (+) تقسم المربع الكبير إلى أربعة مربعات أساسية ثم مربعات ومضلعات أصغر. نجد أن شارع النصر الممتد من ضفة خريسان يستمر حتى نهاية المدينة (سابقاً) حيث المستشفى الجمهوري القديم ومبنى السجن عبر الشارع الواصل بين ساحة الأمين وطريق بغداد الرئيسي. بينما يقطعه شارع متعامد معه في ساحة المكتبة العامة وفي الجهة الأخرى منها مدرسة التطبيقات الابتدائية. يمتد هذا الشارع في الجهتين، جهة السوق متقاطعاً مع شارع الحسينية وشارع النعمان وصولاً إلى شارع عمر عبد العزيز. وفي الجهة المقابلة بعد ساحة المكتبة تجاه المحافظة ولكنه ينتهي في الساحة التالية التي يقطعها شارعان أفقيان يصلان خريسان من جهة وفي الاتجاه المعاكس نحو كراج سيارات شهربان وجلولاء الجديد.
لدى الأهلين يعتبر شارع الحسينية هو الشارع الرئيسي في المدينة الذي يقع على جانبيه أسواق المدينة المختلفة بدء من الكهربائيات والألبسة والأحذية والأقمشة والعطور والمصوغات حتى أسواق الخضر والفواكه قرب تقاطعه وبعدها قرب جامع الفاروق. يمثل جانب السوق المحصور بين شارع الحسينية وشارع عمر عبد العزيز من جهة وبين مجرى خريسان والشارع الموازي له داخل السوق بين ساحة المكتبة وشارع عمر، الجانب الرئيس والنواة الأقدم في كيان مدينة بعقوبا وفيها البيوتات الأثرية القديمة، وهي تقابل بيوتات منطقة السراي الصخرية عبر مجرى نهر خريسان. وتتسم محلات هذا السوق بصغر حجمها وضيق درابينها ومسقفاتها لكنها تفتقد الرعاية العامة من البلدية والأهلين. وفي قلب هذا السوق حيث تنتشر الدور السكنية القديمة كانت دارة طبيب يهودي كبير السن، قدمنا إليه ذات ستينياتئذ، لمعالجة نزيف أنف أخي المتكرر، وقد نصح بوضعه على فراش كان على الأرض وأحرق قطعة من القطن ونحن ننظر إليه منتظرين أن يوقف نزيف الدم أو يصف لنا دواء مختبرياً. أطفأ قطعة القطن وهي نصف محترقة وقطعها قسمين ثم لفّ كلا منها في شكل لولب ودسّه في منخري أنف أخي وطلب أن يبقى ساكنا مدة. بعد قليل توقف نزف الدم وبقينا ننتظر، فابتسم وكانت زوجته إلى جانبه، أعطانا كمية من القطن وشرح كيفية العمل إذا تكرر النزيف، والأهم في ذلك أن يستلقي الشخص لتخفيف النزيف. خرجنا من دارة الطبيب ونحن نشعر بامتنان عميق كأننا حصلنا على سرّ الحياة. بعد ذلك لم نعد نتخوف من تكرار النزف في حرارة القيظ أو حدوث طارئ. وبعد سنوات قليلة اختفت الحالة نهائياً. الطريف أن مستوى هذه المنطقة مرتفع بحدود المترين عن مستوى الشارع المحاذي لخريسان، وهذه الواجهة كلها محلات ودور سكنية، وهناك افتتحت الأسواق المركزية (أورزدي باك) في السبعينيات وكان الصعود إليها من جانب خريسان بسلم. ومن المحتمل انها موقع قلعة قديمة شأن القلاع القديمة التي كانت في عديد من مدن العراق القديم مثل قلعة كركوك وقلعة أربل والتي تدور حولها بعض أغنيات المطرب التركماني الراحل أكرم دوزلو. وقد تم تحديث الجانب المحاذي منه لشارع الحسينية بمنظومة أسواق داخلية حديثة مثل أسواق الذهب. وفي الجهة الداخلية منه كان موقع (كراج) نقليات الداخل. ومبنى مدرسة ديالى الابتدائية وثانوية الانتصار. أما القسم المقابل له فهو الواقع أمام مدرسة ديالى / الانتصار والمحصور بين شارعي النعمان وعمر عبد العزيز امتداداً نحو ساحة الأمين في صورة مثلث طويل الساقين. في نهاية المثلث كانت (سكلّه) كبيرة وماكنة ثلج بيت الديري التي كانت تزود المدينة بالثلج قبل انتشار البرادات والمجمدات وازدادت أهميتها أيام حرب الثمانينيات لتزويد القواطع العسكرية القريبة في مندلي والقاطع الأوسط بالثلج.
ينتهي شارع الحسينية بقنطرة فوق نهر خريسان للضفة المقابلة. ولكن قبل القنطرة وفي نقطة الزاوية ثمة مبنى مصرف الرافدين وبجانبه مقهى لانتظار المراجعين. وهذا القسم المحصور بين شارعي الحسينية والنصر له شكل مستطيل وعلى جانبي شارع النصر محلات وأسواق عديدة. ولعل أشهر نقاط الشارع كانت بناية السنما والمكتبة العامة ومحلات التصوير. وفي بداية الشارع من جهة خريسان افتتحت مكتبة الدار الوطنية للكتب والمطبوعات بداية السبعينيات وكانت متميزة بالتنظيم وطريقة عرض الكتب والموظفات العاملات في البيع حسب وصولات رسمية. ومع بيعها للقطاع الخاص فقدت الدار أهميتها وتميزها. ونسبة الدور السكنية أكثر نسبياً من عدد المحلات هنا. وهكذا تستمر صورة مركز المدينة في هيئة مستطيلات أو مضلعات ومثلثات محاطة بشوارع مسفلتة عريضة تتقدم واجهاتها محلات ودوائر وخلفها الدور السكنية.
ويلحظ المتتبع اضطراد توسع مساحة السوق وامتداداته وزحفه على كثير من المناطق السكنية، وبينما كان السوق محصورا بشكل رئيس حتى السبعينيات بين جانبي شارع الحسينية، ازداد عدد الأسواق وتعددت أماكنها خلل الأحياء السكنية وفي كل الاتجاهات.
النمو الديمغرافي والتوسع الأفقي في السكن..
كانت أطراف بعقوبا الخارجية شبه خالية حتى بداية السبعينيات. ثم نمت نمواً سريعاً مع الزمن وفي ثلاث اتجاهات أو مناطق رئيسة. أولها منطقة (مدينة) التحرير المقابلة لمبنى المحافظة أو جهة محطة القطار والتي تبدأ من ضفة نهر خريسان أي كراج بغداد الكبير على امتداد جانب طريق بغداد حتى بيوت الادارة المحلية والمعسكر. والمنطقة الثانية هي الضفة الثانية من نهر ديالى المسماة (بعقوبة الجديدة). والتوسع العمراني في كل من هاتين المنطقتين (التحرير وبعقوبة الجديدة) خضع للتنظيم والتخطيط العمراني وحسب تصاميم أساسية تحدد خرائط الشوارع والمنشآت الحكومية والأحياء السكنية، وكانت عرصات الأراضي معروضة للبيع أضافة إلى تحديد تصاميم البيوت ومادة البناء (الطابوق أو البلوك). ويمكن الملاحظة أن أثر التنظيم بقي منسجما مع بقية أجزاء بعقوبا الأقدم. مع الاشارة إلى انتشار النخيل في هاتين المنطقتين وقيام السلطات بتفطيعها لتكون مراكز للسكن. أما المنطقة الثالثة فهي أمتداد (أم النوه) المحصور بين طريق السادة خلف مدرسة الأمين وبين معسكر سعد. ولكن سرعة التوسع فيها لم تكن بمستواها في التحرير وبعقوبا الجديدة.
ان إطار هذا الموضوع لا يتجاوز فترة السبعينيات، بيد أن التوسع الدمغرافي والسكني لم يتوقف عند هذه الحدود بعد السبعينيات، فالانفجار السكني حصل في الثمانينيات وبالشكل الذي استمرت بعقوبا الجديدة تجاه بغداد على الطريقين القديم والجديد بحيث ارتبطت المدينتان من جانب مدينة الشعب أو تل محمد. وفي هذه الحالة يلعب انتشار وسائل النقل وتوسع شبكاتها دوراً في الابتعاد عن مراكز المدن إلى الأطراف، أو بمعنى آخر، إلى مراكز أخرى، فطريق بغداد يتوسط ثلاثة مراكز هي بعقوبا – الخالص – بغداد، حسب التقسيمات البلدية للتوسع السكني بينها.

*****************************
بعقوبا .. سيرة مكان ( القسم الخامس)
" مدينة عشت فيها أعواماً قليلة، وعاشت فيّ كلّ أعوامي، تاركة بصماتها على صيرورتي."
الخصائص الاجتماعية والعلاقات العامة ان قرب مدينة بعقوبا من العاصمة قد وسمها بكثير من الملامح الاجتماعية والحضارية للعاصمة نتيجة عوامل عدة، أولها تعاطيها المباشر معها على مختلف الصعد والميادين أكثر من أي مدينة أخرى. وقد انعكس ذلك على المظاهرالاجتماعية فيها عبر عدة نقاط، هيمنة الطابع الحضري رغم بيئتها وتوسطها منطقة زراعية. وأهلها عرب رغم قربها من الحدود الايرانية شرقاً، ومناطق التعددية الثقافية شمالاً. وتمتاز بالتعددية الدينية وحرية ممارسة الشعائر والطقوس. ويذكر الكاتب منير العبيدي وجود معبد للبهائية في منطقة "العواشق" قبل صدور قرار حكومي منعها وتجريمها. وكانت فسيفساء النسيج الاجتماعي لحواضر ديالى ملونة ومتنوعة في انسجام وتناسق، قبل الحكم العسكري والقومي الشوفوني الذي جعل وتيرة هجرة الطوائف الأخرى نحو الخارج في تصاعد مستمر مع تقادم العهد ، ليبلغ أوجّه خلال التسعينيات ثم في عهد الاحتلال، شاملاً أبناء الأكثرية ضمن رؤية لتفريغ البلاد من غير الموالين للحكم السائد. ان استخدام أو تسويغ مصطلح الأقلية أو الطائفة يستند إلى مرجعية إحصائية علمية، وليس إلى أي خلفية عنصرية أو شوفونية استعلائية، ولا يجوز إغفال ما لهذه الطوائف والأقليات من جذور عريقة وصلات تاريخية بسكان البلاد الأصليين من آلاف السنين كالمندائيين والآراميين والسريان واليهود الذين لم ينص أي دستور عراقي على الاعتراف بوجود غير العرب والكرد وضمان الحماية والرعاية لهم إزاء السياسات العامة وممارسات المجموعات العرقية الأكبر والأكثر نفوذاً في البلاد. وأذكر هنا مقولة غربية - لا يحضرني إسم قائلها-، ترى أن مجرد وجود (أكثرية) في بلد ما يشكل تهديداً (ضمنياً) للأقليات المجاورة، حتى لو لم يصدر من الأكثرية شيء مباشر ضدّها. وهذا يشدّد من ضرورة النص والتحديد القانوني ووضع ضمانات إضافية تحمي الاقليات. وهو ما يبرر بعض المطالب الكردية الاضافية على العهد الجديد رغم نص القانون العراقي منذ فجر الجمهورية على شراكة العرب والكرد في [الوطن العراقي]. بالمقابل واجه وضع القانون الجديد (عام 2005) جملة مطالب واحتجاجات من الأقليات الأخرى للاعتراف النصي بوجودهم وحمايتهم وحقوقهم مما قوبل بأذن صماء، رغم حصول الموافقة البرلمانية على القانون. ولعل المنطق هنا يتساءل عن مدى شرعنة برلمان ما، يخضع لطغيان الأكثريات بينما توجد فئات سكانية لا تؤهلها نسبتها العددية لايصال عضو واحد تحت قبة البرلمان، وماذا يساوي عضو واحد مقابل ما يزيد على مائة عضو أو سبعين عضو للأكثريات. وهو ما يؤكد حقيقة التهديد المباشر وغير المباشر، وفي الاطار الرسمي والبرلماني والأهلي ضدّ الأقليات، ولعل سياسة التطهير العرقي والطائفي المستفحلة منذ سنوات، بغض النظر عن أغطيتها وشعاراتها، تتكشف يوماً بعد يوماً، ليس على صعيد القتل والتهجير القسري، وانما تصفية التوزيع الدمغرافي داخل المستوطنات العراقية على أسس طائفية وعرقية بغيضة. ويذكر الكاتب حازم صاغية أن الطائفة اليهودية [التي تعود إلى ماضٍ يرقى إلى 2700 سنة، شكّل أفرادها، مطالع القرن الماضي، 20 في المائة من مجموع سكان بغداد،.. (ص68) ..، إلى أقلّ من خمسين مسناً اليوم.(ص69)]. بالمقابل ليس من الصحيح واقعياً أو منطقياً فرز بعقوبا أو مناطقها وفق لوائح التشكيل السني - الشيعي أو العربي – الكردي، كما جرى عليه واقع الصراع والتوسع الطائفي والمذهبي في ظلّ الاحتلال. ليس لخصوصية الموقع الجغرافي لمناطق ديالى التي تتماثل أو تعكس خصوصية موقع العراق داخل مثلث قومي طائفي [عرب- ترك- فرس]، بشكل يميزه عن البلاد الأخرى؛ وانما بشكل أدقّ وأكثر موضوعية، هو عدم صلاحية الأسس المتبعة في تقسيم البشر في خانات القومية والدين والطائفة، والتي تخضع لعوامل الجغرافيا والتاريخ ومعادلات النفوذ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المتغيرة تبع الظروف البيئية وحاجات الانسان وطبيعة الأنظمة الشمولية. ففي كتابه الموسوم (الرصافي يروي سيرة حياته) يتحدث عن عشيرة والده قائلاً [وعشيرة الجباريين عشيرة كردية تقع منازلها فيما بين كركوكوبلدة السليمانية، والجباريين قوم سادة برزنجية يلبسون العمائم الخضر شعار الهاشميين، فأنا سيد في الأصل من بني هاشم. وعلى ذكر الجباريين نقول أن هناك عشائر عربية كثيرة في كردستان مستكردة منها:

1- الدراجيين: وهم عرب فمنهم قسم في كردستان يتكلمون الكردية ولا يعرفون العربية، وقسم في سامراء، وفي لواء الدليم ويتكلمون العربية.
2- الخوالد: وهم حمل عشيرة شمّر جربة الآن، ويستوطن كردستان منهم أقوام كثيرة، والشارة العامة عند الطرفين (العركات) وهو الخشب الذي يحمل الدلو وشكله صليب متوازن.
3- البرزنجية: وهم سادة من النعيم يستوطنون كردستان ويتكلمون الكردية.
4- العبيد: الذين يسكنون كركوك الآن، مستكردين مع أنهم من صميم العبيد.] المصدر / ص63- 64 .

وقد أيَّد ذلك الاستاذ الشاعر المعروف مكي عزيز [1911- 1999] صاحب جريدتي العرب والنذير في العهد الملكي في لقاءاتنا المشتركة في مقهى الزهاوي –أواخر الثمانينيات- لدى سؤالي عن سيرته وحياته مؤكداً كونه من مواليد منطقة برزنجة الكردية وعشيرته البرزنجي فرع من النعيم السادة. مع كونه علمانياً ناصراً للهاشميين وقف عليهم معظم شعره المنشور في دواوين. على صعيد مقابل، فأن اتباع طقوس الشيعة للقاطنين في بيئة شيعية ، مثل اتباع طقوس سنية للقاطنين في بيئة سنية، عند انتقال بعض الأشخاص بحكم العمل أو المصاهرة أو الاضطهاد. والذاكرة الاجتماعية الشفاهية غنية بالأمثلة، بينما يورد الباحث اسحق نقاش في كتابه القيم (الشيعة) أن ظروف النزاع العثماني الفارسي كانت تترك آثارها على المجتمع العراقي شدّاً وجذباً إلى هذه الجهة أو تلك. وقد ازدادت ظاهرة (التشيع) بين القرن الثامن عشر والتاسع عشر، للتخلص من دفع الضريبة لولاة العثمانيين ومن الخدمة العسكرية في حروب آل عثمان الكثيرة. وقد وقع قسم من هؤلاء في فخ التبعية (الفارسية) في قوائم النظام البعثي السابق ممن لم يحصلوا على وثائق ثبوتية عثمانية المعتمدة أساساً للحصول على الجنسية العراقية. ومعروف أن التشيع الايراني ارتبط بقيام الدولة الصفوية وخلفيات صراعها مع الدولة العثمانية المتبعة للمذهب السني. وأخيراً.. لا بدّمن الاشارة إلى أثر (التقليد) و(العادات الاجتماعية) أو ما يضاهي الموضة ليس في الأزياء والسلوك واللغة وانما مظاهر التعبّد والقناعات، وهو ما رآه الرازي في تعليله ظاهرة التدين أو انتشار الدين بالتقليد وطول الألفة الذي يحول العادة إلى طبيعة!/ أدونيس- الثابت والمتحول. ومراجعة التاريخ البشري قائمة على تحول الأفراد والجماعات من دين إلى دين ولغة إلى لغة ومن بلد إلى بلد وعصبية إلى عصبية، مما يدعة للتأني والتأمل والتخفف من حمأة العصبيات الدينية والطائفية والعرقية، رحمة بالنفس والحياة والبشر.
وكما سبقت الاشارة كان في المدينة مسجدان قريبان من بعضهما لكل من المذهبين، وكانت طقوس احتفالات عاشوراء تقام في المدينة حتى تاريخ منعها عام 1977. وكان الجميع يشتركون في تلك الطقوس في مودة وانسجام، لا تتناسب مع ما أشيع في ظل الغزو ووصف المصادر الأميركية لها ضمن مصطلح [المثلث أو المربع السني] في خطوة فاشية لتقسيم النسيج الاجتماعي والدمغرافي للبلاد حسب وصفات طائفية عرقية مغرضة، وهو الأمر الذي فشل الانجليز فيه قبل ذلك بقرن. وهذا ما يراه الاستاذ منير العبيدي في مداخلته قائلاً [أثني على كلامك من أن مواكب العزاءات الحسينية كانت أشبه بالكرنفالات و كان يشارك فيها الشيعة و السنة، و يروي لي طيب الذكر كريم حسن علو أن أحد أعمامه و هو من السنة كان يتبرع بتزويدهم بمولدة كهرباء متنقلة تسير مع الموكب.] وقد أوردت مصادر أمريكية أن عدد سكان بعقوبا انخفض من 280 ألفاً عام 2003 (بدء الاحتلال) إلى 240 ألفاً أوائل 2006 أي خلال ثلاث سنوات، بينما تذكر إحصائيات دورية مستمرة لوزارة المهجرين والمهاجرين أن عدد العوائل (وليس الأفراد) وصل إلى 26858 عائلة مطلع شهر يوليو 2006. والملاحظ أن البيانات الأخيرة، تتجنب ذكر أسباب التهجير والخلفيات والمرجعيات الطائفية والعرقية للطارد والمطرود، ليس تعففاً، وانما تفادياً لاحراج مراكز النفوذ، سواء كانت في السلطة أو الشارع. وهذا ما يزيد نسبة خطورة مصير الأقليات غير المسنودة سياسياً ودولياً أو داخلياً كالتركمان والصابئة واليهود والأيزيدية والشبك والمسيحيين والأرمن والبهائية والعلىاللهية والعلوية وغيرهم ممن قد لا تتوفر معلومات وإحصاءات كافية عنهم. بينما يشير وجود مقبرة لليهود في بداية المدينة، كما يذكر الاستاذ منير العبيدي، أزيلت وأقيم على أنقاشها مركز شباب بعقوبة، إلى نسبة السكان من اليهود في المدينة، هذه المقبرة القديمة، لا تبعد سوى خمسمائة متر من مقبرة ثانية على طريق بهرز حيث مقام رجل صالح، في إشارة لمدى الانسجام الاجتماعي والروحي، ومن يدري، ربما كانت مقبرة واحدة كبيرة، تخذ اليهود جانبها الأيمن والمسلمون جانبها الأيسر، وموقعها في الجزرة (من / جزيرة) بين شطّ ديالى وجدول خريسان. كما كانت المدينة ملجأ للجماعات المضطهَدة حسب قول الدكتور مصطفى جواد عن الأرمن المهجرين من بلاد تركيا والذين استغلهم الانجليز لخدمة أغراضهم، وتأسيس قواعد شقّ نسيج التسامح الاجتماعي والأثني في البلاد.
وعلى العموم، يتشكل التكوين الاجتماعي للمدينة من جملة الهجرات التاريخية المتعاقبة منذ آلاف السنين حتى اليوم. ولا بدّ أن الانسان الأول كان مهاجراً قبل أن يجد الظروف المشجعة على الاستيطان والاستقرار والتعلق بالمكان والهوية. وحرية حركة الأفراد والتنقل واختيار المسكن والعمل من النصوص التي ضمنتها التشاريع القديمة وميثاق الأمم المتحدة لحقوق الانسان. طبيعة الهجرات الوافدة إلى ديالى تشي بأن مستهدفيها من المناطق الغربية والشمالية للبلاد هم النسبة الغالبة. ولعشائر العزة والعبيد والدليم والتميم والقيسية والسوامرة أثر بين في المنطقة أكثر من سواهم. دون انعكاس الطابع القروي والعشائري على السمة الحضرية . ويؤيد الباحث منير العبيدي ذلك بقوله [ ما ذكرته كان صحيحا حول ضعف الروابط العشائرية ففي الخمسينات كان الكثيرون في بهرز وبعقوبا لا يعرفون ما هي عشائرهم و لا يهتمون بها ، و لكنها ازدهرت بالمعني السلبي المقيت للكلمة في ايام النظام السابق و اكتسبت قوة اضافية في الظرف الراهن بسبب ضعف الدولة و فوضى ما بعد الاحتلال.] [فالباحث في أصول العوائل سيجد أن بهرز مثلا كان ملاذا للأرمن و اليهود و هنود و أكراد و أتراك و لا تزال هناك محلة في بهرز تحمل اسم محلة الهنود ، و بعض عوائلها لا تزال تحمل ملامح هؤلاء الاقوام و كان هناك جالية يهودية كبيرة نسبياً.]. وعموماً [و ضمن نفس السياق فان التركيبة السكانية للمحافظة تشبه الى حد كبير تركيبة العراق و اعتقد ان الشيعة اغلبية ، و هي تضم اكرادا و تركمان و فرس و عرب شيعة و سنة ، و فيها سابقاً يهود و هناك أيضاً مسيحيين و صابئة و كانت مركزاً لانتشار البهائية حتى صدور قانون بمطارتهم و الحكم عليهم بالموت من قبل السلطة السابقة و بعض هؤلاء كانوا قياديين في حزب البعث فصلوا بسبب الشك في ولائهم . و أنا أعتقد أن هذه الطائفة لا تزال مستمرة في طقوسها بشكل مستتر.] منير العبيدي (م. س)
يتكون مجتمع بعقوبة من ثلاث فئات اقتصادية، أهالي البساتين والأراضي – الحرفيين والتجار – الموظفين في الأجهزة والدوائر الرسمية. واستقرار هذه القطاعات وعدم تعرضها للتغيرات الطارئة أو التأثيرات الخارجية ساعد على إشاعة الاستقرار والسلام والأمن داخل المدينة واستمرار وتيرة الحياة بعيداً عن التغيرات السياسية في العاصمة، أو المظاهر العسكرية في المناطق الشمالية والحدودية، أو الهزات الاقتصادية والكوارث الزراعية ما خلا الفيضانات التي تشدّ النسيج الاجتماعي لمواجهتها ووضع الموانع والتعليات الترابية لتقليل من آثار ها التدميرية. وكانت الملابس المدنية العصرية هي السمة السائدة تليها الملابس العراقية التقليدية [صايه وزبون مع عقال و كوفية] وهي سمة أهل البساتين وبعض الحرفيين بينما الملابس العصرية سمة للعاملين في وظائف رسمية أو طلبة المدارس والجامعات. أما أزياء النساء فكانت متشابهة وهي الثياب العصرية أما العباءة (السوداء) فكانت تمثل دالة على مستوى التعليم. فالطالبة والمعلمة والموظفة في السلك الرسمي لا ترتدي العباءة، بينما معظم ربات البيوت سيما من كبار السن والأقل تعليما يتمسكن بها ولا يخرجن بدونها. ومثلما كان الاستقرار والأمان والتوازن صفة الحياة في المدينة فقد كان الاعتدال واللياقة صفة عامة للمظاهر السلوكية والأزياء الخارجية.
ان العلاقة بالأرض أو العمل والوظيفة كانت قاعدة الارتباطات والعلائق الاجتماعية، أما العلاقات القرابية العائلية أو العشائرية فهي أقل نفوذاً. ولم يعرف تركز أو تمركز فئة عشائرية معينة في زقاق أو محلة كما في مدن أخرى جنوب العراق. فالتركز العشائري أو النفوذ القبلي صفة للقرية والمجتمع القروي. بالمقابل ، قد يشعر الزائر أو الطارئ على المدينة شيئاً من الجفاف في العلاقات الاجتماعية القائمة على أسس العمل والحياة المشتركة وإشباع الحاجات الذي يضمنه النظام الاقتصادي والاداري للمدينة، لكن انعدام (الحميمية) كان بالمقابل ركيزة لمزيد من الاستقرار النفسي والاجتماعي لابتعادها عن التغيرات الانفعالية والانقلابات العاطفية والمزاجية. فمعرفة الشخص والعائلة لحدودها الشخصية والتزامها بها واحترام حدود المقابل وعدم الانجرار في المجاملة والعاطفية سمة من سمات الحياة والوعي المدني الأساسية، أنقذ المدينة من كثير من الخلافات الاجتماعية والاشكالات التي كانت غالباً تتخذ طابعاً مسلحاً وتهديداً مستمراً في المناطق ذات المرجعية العشائرية حتى الوصول إلى وساطة وهدنة (فصلية) بين الطرفين.
كان الاحترام العام رسالة عامة بين قطعات المجتمع. بين كل فئة من الفئات وبينها وبين أبناء الفئات الأخرى. ولم تجد فئة نفسها أفضل من غيرها أو أرقى مرتبة. وكان زوار المدينة من الأطراف لأعراض تجارية أو مراجعات صحية يحظون باحترام ومساعدة، فـ(للغريب) على جو المدينة مكانة ورعاية خاصة باعتباره (صاحب حاجة إنسانية)، وهي صفة عامة في طبيعة المجتمع العراقي. وفي نفس الوقت كانت العشائر والقرى ومنظوماتها القيمية والاجتماعية تحظى باحترام وعدم منابزة لدى أهل المدينة. ان الخصائص والتقاليد الاجتماعية التي لمستها ودرجت عليها في المدن التي عشت فيها، كانت سبباً في اختلافي مع رأي فئة ذات مرجعية جنوبية تحدثت عن نوع من التفاوت والتنابز الاجتماعي والطبقي بين الفئات الاجتماعية حسب اختلافها العشائري أو الطائفي أو مستواها الوظيفي والمادي.
ضمن هذا المنظور كانت بعقوبة بيئة حاضنة آمنة. وهذا أغرى بعض من لديهم (إشكالات) معقدة - سياسية أو عشائرية- في مناطقهم القديمة أو (العاصمة) للالتجاء والانضواء في جو هذه المدينة . ورغم معرفة بعض السكان بقصص هؤلاء (النفر)، لم يكونوا يميزونهم في المعاملة أو يستثيرونهم. فكنت تجد الحرس القومي والشيوعي والكردي والتركماني وعوائل من مناطق سامراء أو الموصل أو الرمادي أو البصرة في نسيج يوميات هذه المدينة بدون أية إشكالات أو منغصات . من جهة أخرى، قرب بعقوبة من العاصمة لم يجعل منها مدينة ظل أو امتصاص واستقطاب أو انعكاس لما يجري هناك من صراعات وصرعات ومظاهر سياسية أو عسكرية أو اجتماعية. ورغم الأحداث المؤسية والانقلابات السياسية الحادة فقد استمرت وتيرة الحياة دون اضطراب واهتزاز رغم أن بعض الهاربين من تلك الأجواء يلتجئ إليها. وفي هذه النقطة، لعبت ظاهرة البساتين نفس الدور الذي مثلته (أهوار) الجنوب. فقد كان بعض (المعارضين) أو (المطلوبين) يختبئون في البساتين. ويستطيعون الانتقال من بستان لأخرى ومن مدينة لأخرى خلالها أو استخدام مجرى نهر ديالى الواقعة على ضفافه إذا تطلب الأمر. وقد عثر على أنفاق وكهوف داخل بعضها، ومن الطريف أن الحكومة (السابقة) لم تفعل مع بساتين ديالى ما فعلته مع (تجفيف) أهوار الجنوب لوضع حدّ للمعارضة المسلحة المتخفية في أحراشها وقصبها. ومن أشهر الحوادث التاريخية المعاصرة القاء القبض على رئيس وزراء العراق في حركة واحد وأربعين التحررية ضد (الانجليز) وهو يحاول عبور الحدود إلى ايران، وبعد خمسين عاماً على ذلك، في خضم الهجوم الأمريكي على العراق في يناير 1991، كان طاقم الحكومة السياسي والاداري مع حاشيتهم يتوزعون مناطق ديالى القريبة من الحدود للافلات إذا سقطت بغداد. وقد تراجعت هذه الأهمية بعد فتح الحدود والعلاقات مع سوريا، وعادت لاكتساب أهمية أكثر خطورة بعد الغزو الأمريتاني (مارس 2003) لاختراق حدود ديالى الشرقية المستمر من قبل المخربين الوافدين من جانب ايران وأفغانستان وبالتواطؤ والاتفاق مع الحكومة والمخابرات الايرانية، فتغيرت صورة المدينة من السلام الآمن إلى واحدة من مدن الجحيم والأشباح، واشتهرت أسماء (بعقوبا) و (بهرز) و (مندلي)، كمدن عالمية أشهر من كثير من دول لا ترد في الأخبار. ولا يتردد التقرير الأمريكي في الاعتراف بانخفاض عدد سكان المدينة قبل الغزو (280000) نسمة في بداية 2003 إلى (240000) نسمة عام 2005 أي بعد عامين من الغزو، جراء سيطرة الأمريكان وأعوانهم من الأرهاب وتدمير مناسيب الحياة في المدينة.
********************
بعقوبا .. سيرة مكان ( القسم السادس)
" مدينة عشت فيها أعواماً قليلة، وعاشت فيّ كلّ أعوامي، تاركة بصماتها على صيرورتي."
الحياة الثقافية والاجتماعية في بعقوبة

تدين الحياة الثقافية في بعقوبة لأجيال من الأدباء والمثقفين الرواد والعصاميين الذي نبغوا بين بساتينها ومقاهيها وانتقلوا إلى العاصمة ليكونوا جزء من حياتها ويطبعوا بصماتهم العميقة في ثقافتها. فالعلامة اللغوي المشهور مصطفى جواد صاحب (قلْ ولا تقلْ)، والأساتذة يوسف عزالدين السامرائي ويوسف عبد المسيح ثروت وعبد المجيد حسيب القيسي ومحمد جميل شلش وخضر العزاوي وحسين مردان وعبد الرزاق الخالدي ومحي الدين زنكنه وغيرهم. وفي السبعينيات كان للفنانين المسرحيين سالم الزيدي وموسى الخالصي فرقة بعقوبا للتمثيل، والرسام علي الطائي والموسيقيين خالد العزاوي وكامل متي وعباس الدوري والشعراء حميد الخفاجي وأديب البكري ووديع العبيدي. لقد كانت العاصمة مركز استقطاب الأدباء والطامحين، فلم تتنشط الحياة الثقافية أو تبرز مراكز وتجمعات أو مقاهي أدبية فيها حتى التسعينيات تحديداً، حيث تنامت الحركة الثقافية بشكل مميز مع تأسيس الكلية الجامعة فيها ثم جامعة ديالى وازدياد عدد أدبائها والناشطين الثقافيين فيها وتأسيس اتحاد أدباء ديالى واصدار مجلة وجريدة في المحافظة وبروز الكثير من أسمائها في الصحافة العراقية والعربية والمهجر.
في السبعينيات كانت هناك بناية المكتبة العامة في بعقوبا في شارع النصر، والتي يروي الدكتور يوسف عزالدين قصة إنشائها بعد انتدابه من قبل مديرية التربية أيام عمله معلماً في مدارسها، وتأمين مصادر تزويدها بالكتب والاصدارات الجديدة والتي توقفت أو تعثرت منذ السبعينيات. أما المكتبات الخاصة فكانت اثنتان، احداهما في شارع الحسينية وهي الأكبر والأغنى والأكثر تنوعاً، مقابل مبنى الحسينية تماماً، وكانت تغير اسمها بين مدة وأخرى حسب توجهات قومية أو دينية [الطليعة، الامام الصادق]، ومكتبة أخرى أقل مستوى من الثانية وأكثر تقليدية خاصة بالتجهيزات المدرسية ومستلزماتها. وكان موقعها في بداية السوق على رأس شارع النعمان ثم انتقلت في الثمانينيات إلى شارع النصر. أما المكتبة الأخرى فكانت الدار الوطنية للكتاب من منشآت وزارة الثقافة والاعلام وكانت متميزة بمعروضاتها وطرق عرضها للكتب الذي يتيح التمشي بين ممرات الرفوف والاطلاع على الكتب وتصفحها ولكن هذه الظاهرة الحضارية انقرضت مع موجة (الخصخصة) وبيعها للقطاع الخاص لتفقد رونقها وأهميتها. وبينما لجأت المكتبة الأهلية التقليدية لعرض المزيد من القصص والروايات المصرية واللبنانية الصادرة قبل عقد وعقدين أيام الثمانينيات، فقد مالت المكتبة الأولى لمزيد من التخصص في الكتب والمصادر الدينية بعد أن كنا نبتاع منها الاصدارات الأجنبية والوجودية والدوريات العربية والفلسطينية المختلفة في السبعينيات. بيد أن المهتمين بالثقافة كانوا أكثر اتصالاً بالعاصمة ومكتباتها ومقاهيها الأدبية، وأذكر هنا صديقي وزميلي في الدراسة القاص الراحل مؤيد سامي، الذي كان يتردد على مكتبات العاصمة في الأعطال وجمع مكتبة منزلية عامرة، كانت نواة لمكتبة مؤيد سامي التي افتتحها في بعقوبا عام 1995، وكان لها دور في تنشيط الحركة الأدبية والثقافية واستقطاب الأدباء الشباب حتى مقتله بيد الظلاميين في يناير 2005. وكانت معارض الدار الوطنية ومعرض بغداد الدولي للكتاب من الأعراس الثقافية التي لا يفوت الأديب والمثقف زياراتها تكراراً وحمل أكداس يومية من عينات الكتب والمعروضات التي لا تتيسر في غير ذلك وبأسعار رمزية. وقد بلغت محتويات مكتبة الصديق مؤيد المنزلية الآلاف، مما حدا به في خضم أزمة حصار التسعينيات الخانقة، بدلاً من بيعها وتدمير قيمتها بثمن بخس إلى جعلها نواة مكتبة لبيع الكتب والاستعارة وتقديم خدمات الكتاب والنشر وكان مراسلاً لعدد من صحف العاصمة. وكانت مكتبته الوحيدة التي تتعامل بالاعارة وتتميز بنوعية كتبها الفكرية والفلسفية غير التقليدية مقارنة بالسائد. وقد تحولت هذه المكتبة الأثيرة بعد اغتيال مؤسسها الأديب والناشط الثقافي مؤيد سامي يوم 13 يناير 2005 إلى ممتلكات اتحاد أدباء ديالى. أما المكتبة العامة التابعة لمديرية تربية ديالى التي شكل نواتها الاستاذ يوسف عزالدين أيام كان معلماً في قرى المحافظة، فكانت مشكلتها عدم وجود آلية متحركة ومستمرة للحصول على الاصدارات الجديدة وتجديد رفوفها بالطبعات الحديثة من الكتب القديمة، ففقدت قيمتها وتحولت إلى مشهد أثري بائس بعد أن كنت أقضي فيها أيام الأعطال كاملة. أما دور السينما في بعقوبا فكانت ثمة اثنتان، [دار السينما الاولى في شارع النصر هي سينما النصر و سميت بهذا الاسم بعد ثورة تموز كما اعتقد وأظن ان اسمها السابق كان عبد الأله ، اما دار السينما الثانية و التي تقع على نهر خريسان فقد تأسست عام 1949 و اسمها سينما ديالى و مؤسسها يهودي الاصل و لا زالت الواجهة قائمة حتى مغادرتي و تتميز بريازة جميلة ، و كان مرفقا بها سينما صيفي أنيق.]/ م.ع. وموقع سينما النصر في وسط المدينة قريباً من المكتبة العامة وفي ظهر شارع الحسينية (السوق الرئيسي)، وكانت تعمل بوجبتين صباحية ومسائية وتتعثر أحياناً فتقتصر على وجبة واحدة وتقوم بإدارتها عائلة مسيحية (بيت أدمون)، وثمة سينما ديالى على نهر خريسان باتجاه كراج بغداد حيث مقر نادي الشطرنج، فهي بعيدة عن مركز المدينة، وقد رأيت فيها فيلم العصفور ليوسف شاهين الذي تردد يومها أنه منع عرضه في بلد الانتاج، وهو حول عبد الناصر وحرب 1967. وكانت هذه السينمات أحد ضحايا انحسار الحريات في العهد الجديد ضمن أشياء أخرى كثيرة. ولم يكن في بعقوبة رغم سعتها غير بار واحد صغير على ضفة خريسان قريباً من كراج بغداد الرئيسي وقريب من النادي العسكري وقد أغلق منذئذ وتحول إلى متجر لبيع المشروبات الروحية ثم أغلق نهائياً.
من العلامات المهمة والجديرة في ثقافة المحافظة نشاطها المسرحي ممثلاً في شخصي الفنانين المخرجين موسى الخالصي وسعدي الزيدي وفرقة ديالى للتمثيل. كانت [هناك فرقتان مسرحيتان احداهما فرقة مسرح بعقوبة و الثانية فرقة مسرح ديالى ، واحدة اصبحت موالية للبعث و التيار القومي و الثانية كانت لها سمعة يسارية و أعتقد ان مسؤولها ثامر الزيدي و هو غير سالم الزيدي وكانت تضم الفنانين صباح الانباري و هو مسرحي و كاتب معروف و بارز و مجيد مبارك ...] ، وقد عملت على تقديم مجموعة من الأعمال الجادة التي كان لها صدى طيب في المدينة، تخرج منها نخبة من فنانين استقطبتهم العاصمة والدراسة الأكادمية فانقطعوا عن النشاط المسرحي في بعقوبة، وأذكر من الممثلين حسين عجينة وحسين الأنصاري وسعد خليفة ووليد العبيدي. وكانت هناك فرقة موسيقية مقرها في مركز شباب بعقوبة الكائن على طريق بغداد- تقاطع طريق بهرز، وكان الاستاذ خالد العزاوي والاستاذ كامل متي قائمين عليها يساعدهم عدد من الشباب. ان معظم العاملين في الأنشطة المسرحية والموسيقية والثقافية والرياضية من منتسبي قطاع التعليم والتربية والنشاط المدرسي بالاضافة إلى حياتهم المهنية. ومن الاساتذة الذين أعتز بهم في حياتي الأدبية والخاصة حتى اليوم الاستاذ الرائع البصير عباس الدوري مدرس اللغة العربية في متوسطة ديالى للبنين وكان عازفاً بارعاً على آلة الكمان والاستاذ حسام الوتار مدرس اللغة العربية كذلك في نفس المتوسطة، وكان يعزف على أكثر من آلة موسيقية.
[هامش حرية للمرأة ، ففي بهرز و الهويدر أو بعقوبة هناك سافرات بشكل مبكر و كان من أبرزهن مثلا القاصة " لطفية الدليمي " و التي تزوجت مخرج سينمائي كان أول من أخرج فلماً عراقياً ملوناً هو كامل العزاوي و الفلم هو فلم نبوخذنصر ، و الذي أصبح فيما بعد رئيسا لقسم السينما في معهد الفنون الجميلة ، و لكن هذه الظاهرة ـ أي السفور ـ تلقت دعماً كبيراً بعد ثورة تموز.
أعتقد أنك لم تشر الى ملعب بعقوبة الرياضي الذي كان يشكل أحد أركان مدينة بعقوبة كما أن وصفه إذا أمكن زائداً النشاطات التي كانت تقام عليه مهم لتوضيح الصورة : كانت هناك مثلا ساحات لممارسة لعبة التنس في مدخل الملعب أزيلت لأجل عيون الشارع و مركز الشباب ، كما كانت الحركة الرياضية متطورة جدا قياسا بمثيلاتها في المحافظات ، الرقم القياسي العربي في القفزة الثلاثية كان باسم الستار عبدالرزاق و كذلك الرقم العربي الذي حققه في بيروت ، كذلك القفز بالزانه باسم محمد عبد الله من الفرقة الثالثة و كان مقرها ديالى آنذاك ، و الرقم الآسيوي في دورة مرديكا و كانت أرقام الطفر العالي باسم اثنين من رياضيي بعقوبا هما عبد الوهاب الكرخي و الثاني قد أتذكر اسمه لاحقا .
وفي بعقوبة أيضا شخصيات رياضية بارزة مثل المرحومين محمود عيشه و رشيد مطر، لاعبي كرة سلة كثيرون مثل حسين الناصر الشخصية الظريفة و الذي مثل دوراً في فلم " قطار الساعة السابعة " في الستينات]/ م.ع/ م.س.

************
بعقوبا .. سيرة مكان (القسم السابع)
" مدينة عشت فيها أعواماً قليلة ، وعاشت فيّ كلّ أعوامي ، تاركة بصماتها على صيرورتي."
من ثقوب الذاكرة
( أساتذتي المربين)

درسني الاستاذ الدوري في الصف الأول ودرّسني الاستاذ الوتار في الصفين الثاني والثالث. وبينما كان الأول يوليني عناية خاصة سيما في درس الانشاء والنحو كان للثاني دور كبير وصبر عظيم في تصحيح أخطائي العروضية وامتصاص غضبي. وكنت أسلمه محاولاتي الأولى في قرض الشعر وأنا في الثاني متوسط فيأخذها معه ويعيدها في اليوم الثاني مع ملاحظاته. وكنت أراجعه في غرفة الادارة أو أية غرفة من غرف التدريس فيمنحني من وقته وسعة صدره وحلمه وعلمه ما بذر فيّ من القيم الخلقية أكثر من مجرد الأوزان والعروض. وبينا كنت أراجعه مرة وهو يلقي درسه فتأخر عليّ وأنا أنتظره في الممر، فأحسست بالجرح وقلة الاهتمام، وعندما جاء لمح أمارات الغضب في عيوني ونبرة صوتي، فابتسم ذلك الانسان الرائع النادر أمام تلميذ من تلاميذه وراح يردد بصوت موسيقي [هو بالباب واقفُ – والردى منه خائفُ- فاهدأي يا عواصفُ- خجلاً من جرأتِهِ].. ثم أخرج القصيدة من جيبه وراح يرشدني لما فيها من هفوات وملاحظات كان لها أكبر الأثر في حبي للغة الأدب وصنف المعلم المربي الحليم الذي يربي الاجيال ويخلق فيهم حب العلم والابداع. أما علاقتي الحميمة مع الاستاذ الدوري فقد بقيت نادرة هي الأخرى ولم تتكرر. درّسني الاستاذ عباس الدوري سنة دراسية واحدة لمح خلالها ميلي وتفوقي في درس اللغة، وكنت متفوقاً في كل الدروس ولكن رعايته وشخصيته قربتاني أكثر من اللغة والأدب. كان الاستاذ بصيراً، وكنت أشعر بالحرج مع محبتي وتقديري العالي له، من النظر إلى وجهه البهي ونظارته السوداء. وفي داخلي إحساس أنه يستطيع أن يرى بقلبه فأضطر للنظر أرضاً طيلة وقوفي معه حتى يأذن بالانصراف. كان ذلك في بداية السبعينات. في أواخر الثمانينيات كنت مع أخي في زيارة للمدينة، وكان أخي من المشتغلين في فن التمثيل يومها وقمنا بزيارة لدائرة النشاط المدرسي ومكانها على ضفة خريسان من الجهة المقابلة لمركز شباب ديالى. وهناك كان الاستاذ الدوري واقفاً للحديث مع جمهرة من الطلبة في الممر. فوقفنا قربهم وأسررت لأخي بهمسة بالكاد سمعها.. فإذا بصوت جهوري يعلن: [هذا منو وديع.. شلونك!]. لا اعرف ماذا أصابني. بين إحساس بالفرح وشعور بالتقصير وتأنيب الضمير لأنني لم أعد للتحية عليه بعد الانتقال من المدرسة والمحافظة والانخراط في الحرب.. أكثر من خمسة عشر عاماً ومعلمي يحفظ صوتي كأن الزمن لم يتحرك دقيقة. لا زلت وأنا أسجل هذه اللحظة أشعر بسكرة وإغماء.. أشعر بالفخر أمام الناس الذين شكلوا مسيرتي ورسموا محطات حياتي.. وأشعر بالدين لهم.. ان لقاء إنسان كبير واحد مأثرة في الحياة.. فكيف بكل أولئك الذين وقفوا على رعايتي وسقوا بمحبتهم وعطائهم نبتتي.
ومن القطاع الفني لابد أن أذكر الاستاذ الرسام علي الطائي مشرف النشاطات الفنية وكان يقيم دورات في الرسم والخط العربي شاركت في أحدها (خط الرقعة)، وكان أخوه الأصغر (نصير) الذي ما تزال صورته أمامي يميل لكتابة الشعر الحديث وله لقطات جميلة. لاشك أن هذه ليست الصورة الكاملة للحياة الثقافية لمدينة بعقوبة السبعينيات الأثيرة ولكنها جانب مما يحضرني الآن وأتمثله لقربه وتماهيه أو تماهيّ معه.









#وديع_العبيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وقفت عن حبك
- توقفت عن حبك
- وجوه متداخلة
- غسل العار والعودة لوأد البنات
- الفرد والعالم..
- الترجمة والهوية والمسؤولية الاخلاقية
- طُرُقٌ صَحْراويّة
- أطفال المهاجرين ضحايا مزدوجة
- (سيرة يوم غائم)*
- من القاموس العربي
- علّقيني في طرف مباهجك
- (الفارزة بين القاعدة والاستثناء)
- الوجودية والعولمة
- ظاهرة الاغتراب في نصوص مؤيد سامي
- بقية العمر
- ليلة ايزابيلا الأخيرة
- مستقبل المرأة الرافدينية وقراءة الواقع
- قاع النهر قصة: الفريد بيكر
- أبي / هيلكا شوبرت
- توازن القطاعي في النظام المعرفي العراقي..!!


المزيد.....




- مسؤول عسكري بريطاني: جاهزون لقتال روسيا -الليلة- في هذه الحا ...
- مسؤول إماراتي ينفي لـCNN أنباء عن إمكانية -تمويل مشروع تجريب ...
- الدفاع الروسية تعلن نجاح اختبار صاروخ -أوريشنيك- وتدميره مصن ...
- بوريسوف: الرحلات المأهولة إلى المريخ قد تبدأ خلال الـ50 عاما ...
- على خطى ترامب.. فضائح تلاحق بعض المرشحين لعضوية الإدارة الأم ...
- فوضى في برلمان بوليفيا: رفاق الحزب الواحد يشتبكون بالأيدي
- بعد الهجوم الصاروخي على دنيبرو.. الكرملين يؤكد: واشنطن -فهمت ...
- المجر تتحدى -الجنائية الدولية- والمحكمة تواجه عاصفة غضب أمري ...
- سيارتو يتهم الولايات المتحدة بمحاولة تعريض إمدادات الطاقة في ...
- خبراء مصريون يقرأون -رسائل صاروخ أوريشنيك-


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - وديع العبيدي - بعقوبا .. سيرة مكان)