أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فاطمة ناعوت - الشَّحّاذ














المزيد.....

الشَّحّاذ


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 2169 - 2008 / 1 / 23 - 11:27
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في إحدى مدن اسكتلندا القديمة يقف تمثالٌ من البرونز لفارس مدجّج بالسلاح والدروع. يضعُ فوق كتفيه شالا طويلا ذهبيًّا ويعتمر خوذةً فضيّة برّاقة. وجهه برونزي لامعٌ جامدُ الملامح عَبوسُها كما يليق بمحارب من العصور الوسطى. ينتصب الفارس المصقولُ أمام بوابة خشبية مغلقة بلوحين متقاطعين من الخشب مثبتتين بمسامير وصواميلَ حديدية ضخمة وسلاسل. غيرُ المفهوم أن سلةً من الخوص تقبع تحت قدمي الفارس بها بعض العملات المعدنية من فئة الجنيه الإسترليني ومضاعفاته! لماذا يهبُ الناسُ قروشَهم لتمثال!؟ تنظر في عيني الفارس فلا ترى إلا خواءً يرنُّ صداه في عمق الأزمنة السحيقة فتتساءل كم قتيلا قتلَ هذا السيفُ وكم طعنةً ردّها درعُه؟ ثم تتردد في قاعك مقولة علي بن أبي طالب: ‘’لا تستحِ من إعطاء القليل فإن الحرمانَ أقلُّ منه’’، فتقرر رأسا أن تجازفَ بثروتك وتضع جنيها في السلة تيمنًّا بعصر الأبطال القدامى الذي ولّى إلى الأبد. فتفاجأ بالفارس يبتسم وتتحرك ذراعُه اليمنى ببطء ليضعها فوق كتفك ويسمح لك بالتقاط صورة تذكارية معه! أما لو كانت حبيبتُك رفقتَك فسوف تنالُ منه قُبلةً فوق يدها بعدما ينحني لها كأي جنتل مان من النبلاء الكلاسيكيين! شحاذ!؟ نعم شحّاذ. فالأوربيون يتفننون في طرائق الشحاذة فتفوقوا على مخرجي الأفلام. واحدهم يعزف على كمان أو أكورديون. واحدهم يطلي جسده بالبرونز وبودرة الذهب ليصير تمثالا لا تدخله الحياةُ إلا بعدما تدفع. ولنا في الشرق فنون أخرى. مثل ترويض الثعابين وابتلاع النار والنوم على المسامير كالحواة والسحرة في الهند والمغرب ومصر وغيرها. ومفردة شَحَذَ في اللغة تعني أحدَّ السكينَ أو صقلَه، أو شحَذَ البصرَ فأحدّه وحدّق جيدا، وشحذَ الناسَ أي ألحَّ عليهم بالسؤال والتسوّل. وأحد الشعراء الصعاليك قال في ذلك بيتا شعريا موحيا: ‘’وإني لأستحي من الله أن أُرى/ أجرجرُ حبلاً ليس فيه بعيرُ/ وأن أسألَ الخبَّ اللئيمَ بعيرَه/ وبُعران ربّي في البلاد كثيرُ’’.
وثمة شحاذة من نوع آخر يعرفها الفلاسفة. كما عرفنا عن الإغريقي ديوجين الذي كان يحمل مصباحا في رابعة النهار، وهو الأعمى، ليبحث عن الحقيقة. ثم ينام في صندوق قذر بملابس رثّة غير عابئ بالدنيا من حوله متأملا الكون والحياة. ولما جاءه الإسكندر الأكبر عارضا أن يطلب أي شيء يريد فيحققه له في الحال، أجابه ديوجين بصلف وكبرياء: ‘’فقط اِبعدْ، فإنكَ تحجبُ الشمسَ عني!’’
وأما أشهر الشحاذين في الأدب العربي المعاصر فهو عمر الحمزاوي بطل ‘’الشحّاذ’’ لنجيب محفوظ. وهي، عندي، أجمل رواياته، عطفا على ‘’الطريق’’ و’’ثرثرة فوق النيل’’. محام لامع ثري متحقق وناجح على صعيد الصحة والعمل والحياة والأسرة. كان شاعرا في شبابه وأصدر ديوانا ثم هجر الشعر بعدما انخرط في المحاماة. وفي الحياة. وفجأة، في منتصف العمر، يفقد الحماس لكل شيء وتخمل قواه وتخمدُ طاقته من دون سبب مفهوم. يضيق بالعمل وبالناس وبالحياة وبنفسه. يبحث عن الرضا من دون جدوى. ويظلُّ يطارد السعادةَ في شتى مكامنها ومظانّها (المعروفة) بين قوسين. اللهو، الخمر، النساء، المخدرات، السفر. ثم راح يبحث عن الله. فيتردد في عمقه السحيق قولٌ يختم الروايةَ: ‘’إن كنتَ حقًّا تريدُني فلمَ هجرتني!؟ هي أحد أمراض البرجوازية والرفاه. لكنه المرضُ والعوَزُ الأشد وجعا من عوز المال والصحة. يهرب من الدنيا ليجد ذاته فلا يجدها. ويغرق في الأحلام والفانتازيا. ويزعجه أن الدنيا لا تتركه حتى في أحلامه. فيقول لأصدقائه وأهله إذا زاروه في الحلم: ‘’زولوا لأرى النجوم’’.
لكن ثمة فنانًا آخر رأى النجوم حقًّا. كبيرةً واضحةً وموحية. ضربته سيارةٌ رعناء في بولندا فانطرح على ظهره أرضا، ليغيبَ في البرزخ العميق المظلم الفاصل بين الموت وبين الحياة. ثم يفتح عينيه فيشاهد النجومَ ساطعةً وقريبةً لو مدّ يده لأمسكها. كأنما شافَ الحقيقةَ. وشافتْه. وفي البعيد، تجلسُ امرأةٌ تحبّ الله في شرفتها. تنظر إلى السماء وتقول احفظيه لي. فحفظته. واستردت السماءُ نجومَها التي أوشكت أن تتحلّق حوله لترفعه. وقف على قدميه. وراحتِ النجومُ تبتعد ببطء حتى استقرت محلّها الطبيعي في السماء.
وثمة ‘’عمَر’’ آخر أعرفه. غزيرُ الشَّعرِ أيضا أسودُه. مثل الشحّاذ البطل. لكنه طفلٌ. لا يبحث عن الحقيقة ولا يطاردُ السعادة. بل يفتّشُ عن نفسه وسط الكثرة. يرجو الوحدةَ شأن المتوّحدين. ينأى عن العالم والضجيج ويبني عالمه الخاص من قشور البرتقال والقناني الفارغة وأغطية القوارير. يغمس الريشة في اللون ويرسم سماءً ونجوما وشمسا وقمرا. هوّ حر محدش شريكه يجمع معا ما لا يجتمع! في مقدمة اللوحة تنينٌ ضخمٌ يلفظُ ألسنةً من لهب حارق. وفي الركن السفليّ إنسانٌ ضئيلٌ خائفٌ يرتجف. لا حول له. ولا قوة.





#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بالطباشير: -سُرَّ مَنْ رآكِ- أيتها الغيوم
- بالطباشير: يحدثُ هذا، وشكرا لفلسفة المصادفة
- بالطباشير: أنا الأديبُ الألْمَعيُّ مِنْ حَيِّ أَرْضِ المُوصِ ...
- بالطباشير: اِسفكسيا الجمال
- قطعة من الفراغ-قصائد إيميلي ديكينسون
- صقيعٌ لم يَحُلْ دونه أحد
- الدينُ لله، فهل الوطنُ للجميع؟
- بالطباشير: لفرط حضورِكَ، لا أراك!
- بالطباشير: عِقابُ المرايا
- بالطباشير: يا قمر على دارتنا
- بالطباشير: عمتِ صباحًا يا استاطيقا القبح
- بالطباشير: أنا أندهش إذًا أنا إنسان
- بالطباشير: شاعرةُ الأشياء الصغيرة
- أيُّ مسلمين وأيُّ شعراءَ يا شيخ يوسف؟
- مهرجان الشعر العالمي 2007
- الشعر والطبقية - نعم للبستاني ولا للقروي!
- صعوبةُ أن تُختَصرَ في حذاء أو حقيبة
- -طنجة الأدبية- الآن في مصر والبحرين
- الأخبارُ القديمةُ ذاتُها تتكررُ مثل تبغٍ رخيص
- الفتنة في مصر- أين تنامُ؟ ومن الذي يوقظُها؟


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - فاطمة ناعوت - الشَّحّاذ