المؤسسات قبل الانتماءات :
اذا كنا نريد دولة عراقية جديدة فينبغي ان يصر العراقيون على تحقيق مبادئها الحقيقية من خلال مؤسسات المجتمع المدني بعيدا عن كل المشروعات الاخرى التي اعتبرها ادوات مميتة لمستقبل العراق كونها ستفكك مجتمعه ضمن انتماءات ومرجعيات لا اول لها ولا آخر .. ولعل من ابرز عوامل الضعف في دولنا العربية التي عاشت في القرن العشرين انها لم تتوفق في ارساء اسس المجتمع المدني ولم ترسخ جذور الدولة الحقيقية من خلال انتماء وطني واضح المعالم ويكون الدستور مرجعية اساسية وحقيقية للجميع بعيدا عن اية مرجعيات اخرى .. ان مجرد الالتفاف على مثل هذا النهج الاساسي والقانوني لبناء المؤسسات يعد تخريبا لمشروع المستقبل .. ولابد ان نأخذ بنظر الاعتبار ونحن نعالج اسس بناء العراق الجديد جملة الظروف والاوضاع التي ينضوي في خضمها المجتمع العراقي بكل اطيافه وتنوعاته وتعددياته التي تعد سيفا ذو حدّين فاما ان تكون ذات ادوار فاعلة في بناء الحياة الجديدة او ان تكون وبالا كارثيا في التمزق والتشظي والانقسام .. صحيح اننا بحاجة الى " مشروع " بناء جديد يمكنه ان يكون رياديا وسحريا كاريزميا – كما يريد بعض الاخوة العراقيين المثقفين - ، ولكن لابد ان نضع باعتبارنا ان العراق اليوم لا يشبه بأي حال من الاحوال سويسرا – مثلا - ومؤسسات مجتمعها المدني التي تضم كل تنوعاتها الاوربية واطيافها الثقافية . ربما نكون نطمح وربما نحلم ان يغدو العراق مثلها في يوم من الايام .. ولكن علينا مراقبة اوضاعه الكسيحة اليوم وخصوصا الداخلية والاقليمية والعربية والدولية .
خرج العراقيون اليوم من سجن الايديولوجيات والشعارات وترديد البطولات ومن تحت رمادات الحروب المأساوية وبقاياها الفانية .. خرجوا الى الوجود وهم يجدون انفسهم في ظل الحراب الامريكية التي طالما تثقفوا دعائيا على امتداد خمسين سنة ضد اساليبها الامبريالية وهيمنتها الاستعمارية ! تسألهم اليوم ولم تلق جوابا يشفيك .. تريدهم يجتمعون على كلمة واحدة سواء من دون طائل ! تطالبهم عما يريدونه وهم انفسهم لا يعرفون ماذا يريدون ! والحق معهم ، لأنهم عاشوا كل اوبئة التاريخ على امتداد عهود فاشية ماضية كلها خضات وانقلابات وايديولوجيات ومؤامرات وتدخلات وانتفاضات واغتيالات وحروب داخلية ..!!
ماذا يمكن للعراق ان يتعلم من أوجه الضعف في دولنا ومؤسساتنا ؟
ان اكبر ما اخشاه ان تعاد سيرورة المسرحية التي كانت قد انتجت في الشرق الاوسط منذ بدايات القرن العشرين .. نعم ، انني اخشى ان تعاد التمثيلية من جديد لكي تولد دولة عراقية جديدة ولكنها تحمل اوبئتها في بواطنها ! لقد كانت أهم بدعة سياسية في أوائل القرن العشرين هي ظهور الدول والكيانات السياسية العربية (الجديدة) بكل آفاتها ، تلك " الدول " البليدة التي كانت ولما تزل تعيش كسيحة حتى اليوم وخصوصا بعد زوال الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية ، اذ انها انفضحت وتعّرت للوجود من خلال ما ترجمته للعالم كله من الضعف الرهيب في صميم كيانها . هذا الضعف الخطير وغير المتوقع يوحي بأن الدروس المتشائمة عن التاريخ التي يقال إن القرن الماضي قد علمنا إياها ، تحتاج إلى البدء في إعادة التفكير فيها من جديد . لقد تدارسنا على مدى عشرات السنين نحن العرب وغيرنا من الشعوب المجاورة لنا تواريخنا السالفة ولم نتعلم شيئا ذي بال عن طبيعة حياة الدول ومقوماتها . والاخطر من ذلك ، ان اغلب الذين قادوا تلك " الدول " وجدوا نماذجهم في دول قديمة وتخيلوا انفسهم ابطالا متخذين نماذجهم الكسيحة من تاريخنا .. واستعاروا اشكالا وتقاليد مشوهة لاجهزة هزيلة لا تقوى على الحياة ، ولم تنج الدول والكيانات والمؤسسات والاجهزة التي اسسها الاوربيون في القرن العشرين من تبدلات وتغيرات وايديولوجيات غير نظيفة اطلاقا .. فسرعان ما نجدها تولد وتحيا وتموت في اطار من الصراعات والنزاعات الداخلية .
تتمثل أوجه الضعف في الدول القوية بعدة مضامين واشكال ، وان الضعف الحاسم الذي أودى بالأنظمة السياسية القوية أنه يمثل في المقام الأول : الافتقار إلى الشرعية وهنا لابد ان نؤكد تأكيدا قويا على ارساء مبدأ الشرعية دستوريا حتى لا يستطيع كائنا من كان ان يتلاعب بمصدر الشرعية واعتقد ان العراق ان اختط هكذا خطوة تاريخية فسيكون مثلا اعلى للاخرين ، والشرعية ليست هي العدالة ولا التي بمعنى المطلق بل أنها مفهوم نسبي قائم في الإدراك الشخصي للناس والجماهير بالمفاهيم الحديثة لتداول السلطة واحترام المؤسسات وصناديق الانتخاب وأن أي نظام من الأنظمة السياسية ليس في حاجة إلى اعتراف غالبية أفراد الشعب بشرعية سلطانه حتى يضمن لنفسه البقاء . وقد يفاجئ المرء كثيراً حينما يتابع قراءاته ورؤيته في هذا المجال لكي يتوصل بأن ثمة أمثلة معاصرة لديكتاتوريات من حكومات أقليات تمقتها شرائح عريضة من الشعب لكنها تمكنت مع ذلك من البقاء في الحكم العشرات من السنين بفعل انجذاب الجماهير لكاريزما ريادية سحرية وظفها لنفسه مطّوعا كل المؤسسات لصالح حكمه . وهنا اود ان اتوقف قليلا للتعليق على هذا الجانب الذي قد لا اؤمن به نظرا لتضاده مع الشرعية الدستورية والمبادىء الديمقراطية .. ولكن في حالة العراق ( او غيره من الدول التي تشابه اوضاعه ) فانه ليس بلدا متطورا من الناحية السياسية حتى نطالبه ان يكون مثل سويسرا او كندا ! ان هناك الملايين من الذين تشبعوا بافكار لم تكن ذي نفع ابدا وحتى على مستوى النخب والفئات السياسية التي لم تزل افكارها معلبة منذ الخمسينيات .. فماذا يمكن فعله هنا ؟ مطلوبة هي الكاريزما التي تجمع الولاءات عند الشدائد ولكنها مقيدة بالدستور .
هل من افكار جديدة لبناء المستقبل ؟
أود أن أقف هنا وقفة بسيطة ولا أعلم هل وقفتي هذه نابعة من تعجب لما كتبت أم من محاولة لأعادة الرؤية اذ أجد ان من اهم ما يستلزمه واقع العراق اليوم : اجراء قطيعة بين المألوف وبين الحلم ، فهناك كثير من الناس يقولون متساءلين : وهل ان انظمة الحكم السياسية ليست مستنكرة من قبل الشعوب عندنا ؟ وهل كانت للشعب تجاربه السياسية في الوعي والتفكير المقارن كي يقبل مؤسساته ام يرفضها ؟ ثم هل كانت الشعوب عندنا حرة في رأيها كي تقول ما تؤمن به حقيقة ؟ الم تتعامل الشعوب بأكثر من قناع ضمن المراحل المتنوعة الرديئة التي سادت ؟ وهل لأي شعب في منطقتنا له القدرة بالفعل ليعلن استنكاره لممارسات الحكام والانظمة السياسية والسلطات الاجتماعية التي هي نتاج تلك الانظمة ؟ ثم ان هناك ثمة مفارقة بل تناقض صارخ يترجم نفسه علنا ، فالكل كان يريد التغيير ويطمح لتجربة الديمقراطية من دون ان يعلم تواريخ بنائها في مجتمعات اخرى غير عربية واسلامية .. ولكنه اليوم انقلب ضد طموحاته واحلامه .. ولا يعرف ماذا يريد وخصوصا بعد ان لعبت به التيارات السياسية المتنوعة الراديكالية والدينية والقومية والعرقية والسلطوية .. الخ
كلنا نعلم أن هناك توترات داخل صفوف أي شعب خاصة إذا تظاهرت السلطات بتطبيق الديموقراطيات ، او ان تحدث انقلابات عسكرية تمجد وتقدس مضامينها ويسمونها بـ " الثورات " التحررية ويغدو رجالاتها من ( الضباط الاحرار ) المنقذين علما بأن اغلبهم كانت له ارتباطاته المشبوهة بدول كبرى كما تفضحهم الوثائق السرية . وعليه ، فليس صحيحا ابدا أن يكون هناك اي نظام سياسي في المنطقة قد نجح حتى اليوم في بناء جذور تأسيسية لهياكل دستورية ومؤسسات تاريخية يعتمد عليها المجتمع كما هو الحال عند غيرنا من الشعوب ، باستثناء تجربة عربية قديمة برعاية فرنسية في لبنان وتجارب عربية جديدة استمدت شرعيتها من انظمتها السياسية القديمة وخصوصا في الكويت والبحرين والامارات ..
الرؤية الجديدة : العراق ومستقبل المنطقة
إن الكثير من المستبدين الذين جعلوا انفسهم من ( القديسين ) لم يتحولوا إلى الإيمان بالديمقراطية بين ليلة وضحاها، وأنهم كثيراً ما كانوا ضحية لضعف كفاءتهم أو سوء تقديرهم او استغلالهم عواطف شعوبهم او تفننهم في العزف على احلام شعبية وتضليل الناس . والواقع يشير الى انه حتى اصلب الديكتاتوريين وأكثرهم عناداً ( باستثناء صدام حسين الذي كان اكثرهم بشاعة ) كانوا يرون ضرورة لإخفاء ولو قشرة من الشرعية الديموقراطية على انفسهم عن طريق اجراء انتخابات وقد حدث في كثير من الحالات ان كان تخلي عسكريين أقوياء عن السلطة يتضمن خطراً شخصياً عليهم بالنظر الى انهم سيفقدون بعد تنحيهم الحماية التي كانت متوافرة لهم ضد انتقام من أساءوا معاملته. ان سجلاتهم التاريخية مليئة بكل ما هو بائس ومستنكر عندما يفحص العقلاء تلك السجلات بعيدا عن العواطف !والشيء الغريب هو انه حتى الانظمة الاستبدادية تعترف ضمنا وزرا وبهتانا بأهمية الديمقراطية ومساهمة الشعب، ولذلك فان النظام البعثي الراحل كان مثلا ينظم المظاهرات «الجماهيرية» بالقوة عن طريق البوليس والامن والمليشيات من اجل القول بانه يحظى برضا الشعب! وهذا ما تفعله بقية الانظمة الديكتاتورية الاخرى باشكال مختلفة بل انها تنظم انتخابات صورية مزورة وتصوت للزعيم القائد الضرورة بنسبة 100,999%. وكان النظام الداخلي لبنية الحزب الواحد يروج لاساليب انتخابات شكلية تماما. بل ولايوجد غالبا الا مرشح واحد! هذا يعني أنه حتى الترشيح ممنوع في الانظمة الاستبدادية لانه يعتبر تحدياً لارادة الزعيم أو هيبته أو شرعيته. ولكن في الانظمة الديمقراطية الحقيقية، اي التي تنظم انتخابات حرة، نلاحظ وجود عدة مرشحين متنافسين وعدة احزاب سياسية تدعمهم وبالتالي فان التعددية السياسية في احزاب يمين، ويسار، ووسط، هي امر ضروري لممارسة اللعبة الديمقراطية.
واخيرا : ماذا يمكنني قوله ؟
اقول بأن العراق يمر اليوم باصعب الشدائد السياسية تاريخيا ازاء مهام التغيير الحقيقي ، ولابد من العناية الحقيقية بالفكر السياسي الحديث وكيفية الشروع بتطبيقاته لابد للعراقيين ان يتفرغوا الان من اجل بناء مؤسسات المجتمع المدني والدستور الذي سيحمي العراق من كل النكبات والكوارث .. وعلى العراقيين ان يتوحدوا في ظل شرعية الوطن وهويته الموحدة من دون اية اجندة وانتماءات وارتباطات طائفية او دينية او عرقية . عليهم بتأسيس مشروعهم السياسي الرائد في غياب الكاريزما والكاريزما عادة ما تولد عند الشدائد للقضاء عليها - كما يقول ماكس فيبر - .. فهل ستنجح تجربتكم ايها العراقيون لتكون مثلا تاريخيا حقيقيا رائدا في الشرق الاوسط بعيدا عن الخطط الامريكية ؟ والعراق بحاجة ماسة اليوم الى العدالة بين المحافظات والى رجالات من الساسة والاداريين المحنكين الذين لهم قدراتهم في الادارة والتفاوض وتحقيق المصالح العليا للعراق بين قوى الداخل فضلا عن القوى الخارجية ليس للخلاص من المشكلات والمعضلات القديمة ، بل لبناء علاقات من نوع جديد في البنية العراقية الداخلية وعلاقات خارجية متطورة مراعيا في ذلك مصالحه الاستراتيجية والمستقبلية اولا واخيرا .