أوردت جريدة "الحياة" اللندنية في عدد 11 آب 2001 خبراً من مراسلها في المغرب عن سقوط ( أو رمي) أحد عشر مهاجراً غير شرعي في البحر إثر هبوب عاصفة بينما كانوا في طريقهم إلى أسبانيا. هؤلاء المهاجرون (لم يحدد المراسل جنسيتهم أو جنسياتهم) ليسوا الأُوَل ولن يكونوا آخر من "يسعى راغباً أو هارباً" إلى باب للرزق و "فسحة للأمل" في الغرب. فقبل قرابة عام من اليوم مات عشرات من المهاجرين الصينيين في ثلاجة شاحنة عبرت بهم المانش إلى بريطانيا، بطريقة تذكر بموت الفلسطينيين في صهريج سيارة على الحدود العراقية الكويتية كما كانت قد صورته رواية "رجال تحت الشمس" لغسان كنفاني أو فلم "المخدوعون" المأخوذ عنها. ولا يكاد يمر يوم دون أن تورد أجهزة الإعلام خبراً عن مشاكل الهجرة غير الشرعية إلى المهاجر غير المشرعة الأبواب. هذه الأمثلة السريعة تعطي فكرة أولية عن منابع الهجرة ومصباتها: مهاجرون أفارقة وعرب مغاربة وأوروبيون شرقيون إلى أوربا الغربية، مكسيكيون وكاريبيون إلى الولايات المتحدة، هنود وباكستانيون إلى إنكلترا ودول الخليج العربي، عرب آسيويون ومصريون إلى دول الخليج أيضاً، سوريون إلى لبنان إلخ.
لا تخضع هذه التحركات البشرية لمخطط واحد يستغرقها جميعاً إن من حيث تفسيرها أو من حيث البحث عن حلول لها، لكنها تخضع من حيث الدواعي أو عناصر الجذب إلى منطق متقارب: بؤر غنية مستقطِبة –حتى لو لم تكن ودودة- تحتاج إلى مهارات ليست متوفرة فيها (دول الخليج العربي) أو أعمال لا يرضى أهلها القيام بها (دول الخليج وأوروبا الغربية ولبنان..)، مقابل مستوى من الدخل لا يتوفر في بلدان الأصل.
لكن الدوافع أو عناصر الطرد تختلف كثيراً. تحدد ساسكيا ساسن، وهي عالمة اجتماع في جامعة شيكاغو، العناصر الفاعلة الرئيسية أو ما سميناها عناصر الطرد، في الهجرات كما يلي:
1- تدمير الاقتصاد التقليدي الذي يعتاش منه المنتجون الصغار على يد الشركات متعددة الجنسيات مما يؤدي إلى خلق يد عاملة متحركة. فضلاً عن إقامة مواقع للإنتاج التصديري الموجه نحو الخارج، وهو ما يساهم في نسج علاقات بين البلدان الطالبة للرساميل والبلدان المصدرة لها.
2- تؤدي العمليات العسكرية التي تقوم بها بعض الحكومات إلى موجات نزوح سكاني كثيفة وبالتالي إلى تدفق اللاجئين والمهاجرين.
3- إجراءات التقشف المفروضة من صندوق النقد الدولي والتي ترغم الفقراء على الهجرة (داخلية أو خارجية) كاستراتيجية للبقاء على قيد الحياة.
4- اتفاقيات التجارة الحرة التي تعزز تدفق الرساميل والخدمات والمعلومات بين طرفي الحدود، وتالياً تنقل العمال المتخصصين عبر الحدود (نقلنا كلام ساسن بتصرف عن لوموند ديبلوماتيك، 24/5/2001).
لعله كان من الأنسب وضع البند الثاني من قائمة ساسن في فئة مستقلة هي فئة اللاجئين، وعندئذ يمكن لنا أن نضيف إليها اللاجئين السياسيين ومن في حكمهم، أي "كل شخص هرب من بلاده ولا يستطيع أو يريد العودة إليها خشية الاضطهاد بسبب عرقه أو دينه أو قوميته أو آرائه السياسية أو انتمائه إلى جماعة معينة" حسب تعريف معاهدة جنيف 1951 للاجئ
قد يلفت نظرنا أن الطرف الفاعل في بنود قائمة ساسن الثلاثة الأخرى هو الشركات متعددة الجنسيات ثم صندوق النقد الدولي ثم اتفاقيات التجارة العالمية التي يهندسها عادة السبعة الكبار (7G) لمصلحتهم. وقد نتفاجأ أو لا نتفاجأ من أن هذه الأطراف الثلاثة هي ما يسميه نعوم تشومسكي حكومة الأمر الواقع العالمية. هذه الحكومة التي يشكل التبشير بالعولمة والوعظُ بعموم فوائدها على الجميع إيديولوجيتَها المشرعة. نتحدث هنا عمداً عن إيديولوجية وعظ وتبشير (وإن كنا نصر على أن العولمة لا ترتد إلى مجرد إيديولوجية) لأن أولئك الفاعلين الكبار لا يقدمون شيئاً يذكر لثلاثة أرباع شعوب الأرض عدا وعود أُخروية بمحاسن فتح الأسواق للأموال والسلع، وللأفكار منظوراً إليها كسلع (قوانين حماية الملكية الفكرية)، لكن ليس للأشخاص. أما المثال الأبرز لا بتذال هذه الإيديولوجيا واعتبارها لنفسها حتمية تاريخية جرياً على مألوف الإيديولوجيات الشمولية كافة فهو ما قاله توماس فريدمان تعليقاً على مواقف المحتجين ضد العولمة في لقاء جنوة بين قادة البلدان الصناعية. قال رئيس تحرير نيويورك تايمز: على من يرفض العولمة أن يرفض أيضاً الهواتف الخليوية وشبكة الانترنيت. يندهش المرء من فظاظة وضحالة وإنشائية هذا الحكم الدعاوي الذي لا يتفوق في شيء على اعتبار كل من يعادي سياسات الولايات المتحدة عدواً للحرية، أو -من أجل مثال يخصنا- كل من لايعبد هذا الحكم العربي أو ذاك عدواً لوطنه يُسْتحلُّ دمه.
وهكذا إذن وفق لهذا المنطق المضارب، وجرياً على مألوف عادة العقائد الشمولية مرة أخرى، إما أن نأخذ العولمة كلاً وجميعاً أو نرفضها كلاً وجميعاً أيضاً. ترى ماهي فائدة العقل والسياسة إذن؟ أم أن المطلوب من أكثرية شعوب الأرض أن تُفَوَّض دون أن تُسْتَشار "حكومة الأمر الواقع العالمية" بالتفكير وممارسة السياسة بدلاً عنها؟
اعتاد سمير أمين في كثير من كتاباته على تكرار أن العولمة الراهنة تعني حرية محدودة لانتقال السلع والرساميل مع تقييد شبه مطلق لانتقال الأشخاص. (حدود الحرية المذكورة هي ما يسميه أمين الاحتكارات الخمسة: احتكار التكنولوجيا الرفيعة، والمؤسسات المالية العالمية، والقرار بالحصول على الموارد الطبيعية العالمية، ووسائل الإعلام المصنَّـعة للرأي العام، وأخيراً الوسائل العسكرية التي تتيح التدخل عن بعد).
بقليل من التوسيع لأطروحة سمير أمين قد يجوز لنا القول إن دينامية العولمة الجارية تشير إلى أن الأرض تزداد كروية في المجال الاقتصادي بينما لا تزال منبسطة في المجالين السياسي والثقافي. لقد أصبح العالم بالفعل قرية صغيرة اقتصادياً وتقنياً وإعلامياً، لكن تفصل أحياء هذه القرية الصغيرة أسوار صينية في المجالين السياسي والثقافي. وكان ريجيس دوبريه قد لاحظ أن تقدم مسار العولمة الاقتصادية يقترن بمزيد من البلقنة الثقافية.
لا يخفى تعارض العولمة الاقتصادية مع الوطنية أو القومية السياسية ومبدأ السيادة على ساسكيا ساسن في سياق تناولها لمسألة الهجرة. تقول:" كلما صار الحيز الاقتصادي المافوق وطني حقيقة واقعة، تحول الإطار القائم [الدول الوطنية السيدة] لسياسة الهجرة إلى مشكلة" .
مشكلة المهاجرين إذن عَرَض لهذا التعارض العميق الذي يسم عالم اليوم المعولم. تشير ساسن إلى ماقد نعتبره بوادر عولمة سياسية، أي عولمة للعولمة الاقتصادية في تعبيرنا:"فيما يتعدى عولمة الاقتصاد، هناك تحول رئيسي في العلاقات الدولية يوازن سلطة الدولة في الرقابة على الهجرة. ويتجسد هذا التحول في توسع الأنظمة القانونية المرتبطة بحقوق الإنسان، وذلك ضمن إطار الدول نفسها أو عبر المعاهدات الدولية". وبعد قليل تضيف:" هكذا تكون عولمة الاقتصاد والنظام الدولي لحقوق الإنسان قد عدلت من الأرضية التي تدور عليها العلاقات بين الدول وساهمت في تشكيل أو تعزيز حيز جديد للعمل المدني يبدأ بعالم التجارة وينتهي بالمنظمات الدولية غير الحكومية. تتقاطع الهجرة أكثر فأكثر مع هذه العوالم الجديدة وتجد نفسها ولو جزئياً متداخلة معها لتفلت بدورها جزئياً على الأقل من رقابة الدولة السيدة" .
إطار تحليل السيدة ساسن هو الغرب الذي تستجيب فيه الدولة القومية بدرجة من المرونة لتشكل مجال فوق قومي لا يقتصر على السوق العالمية بل يمتد إلى ما سمته ساسن، ربما بشيء من المبالغة، "النظام الدولي لحقوق الإنسان". لنلاحظ على كل حال أن الاعتراض على العولمة في الغرب هو بدوره اعتراض معولم، وهو ما تجسد في المظاهرات متعددة الجنسيات التي شهدناها في جنوة وقبلها في يوتبري في السويد وفي سياتل في الولايات المتحدة. هذا يعني ان العولمة،مهما يكن رأينا فيها، عملية موضوعية مثلها مثل الحداثة السياسية والثقافية، وأنه لا يمكن الاعتراض عليها إلا على أرضيتها وباسم وعودها وآفاقها.
بالمقارنة –وكم يصعب تجنب هذه المقارنة- يبدو أن الدول العربية لا تزال تعيش في عالم بطليموسي، أعني في أرض منبسطة، في وقت حقق فيه الغرب ثورات غاليلية متتالية بدء من اكتشاف كروية الأرض ولا مركزيتها، وصولاً إلى العولمة الاقتصادية وعولمة حقوق الإنسان إن صدقنا ساسن.
تعرض السياسات العربية والوعي العربي المعاصر موقفاً مزدوجاً بل فصامياً تجاه العولمة والقضايا المرتبطة بها كقضية المهاجرين. فنحن نهجوها كأنها شخص أو مزاج، وفي الوقت ذاته نسلم بها كأنها قضاء وقدر، ولو لم يكن ذلك إلا من خلال عدم بلورة استراتيجية عمل للتفاعل معها. وتتذمر معظم البلاد العربية من هجرة الأدمغة والرساميل منها. لكنها لا تفعل شيئاً من أجل التحول إلى قطب جذب لعقول أبنائها أولاً ولرساميلها المهاجرة أولاً. وبهذا الأسلوب تثابر على دعوة المستثمرين الأجانب والكفاءات الأجنبية، رافضة ولو لمرة واحدة أن تتحرر من الغيبوبة وترتفع إلي مستوى العمل التاريخي .