ثمة أرباك في رؤية المشهد العراقي من وجهة نظر البعيد عن هذا المشهد وخاصة الأخوة العرب الذين يستندون في تصوراتهم لقواعد وأسس لاتمت لحقيقة مايكونه العراقي ومايتكون منه أو ماتحتويه الحقيقة ويتطابق مع الواقع المعاش ، أضافة الى أحتمال أو عدم أحتمال أنطباق تجارب أخرى على التجربة العراقية .
والأرباك الحاصل قد يصدر أحياناً بقصد متعمد أو دون قصد ، وقد يكون الكاتب مدفوعاً بحسن النية أو سوء القصد ، ولكن في كل الأحوال يبقى القصور في تصور المشهد العراقي والذي يستند على أفكار وطروحات غير واقعية وغير دقيقة مما يوجب ان يكون واضحاً وصريحاً للجميع بما فيها المجموعات المندفعة بتأثير حسن النية والحرص على العراق أو من الذين يريدون للعراق غير مايريده .
العراق من البلدان التي لاتجد لها مثيلاً في المنطقة من الناحية الأثنية ، ففي هذا البلد أمتزجت الأديان العديدة كلها والقوميات المتعددة كلها والتناقضات المختلفة كلها ، ومع كل هذا بقي العراق مسرحاً لحياة مثالية منسجمة ومتآخية ومتفاهمة بين كل هذه الأديان والقوميات والمذاهب والتناقضات من خلال قيم أجتماعية وأسس رسختها الأجيال التي ذهبت قبل أن يكتشف العراق أنه بلد يقوم فوق بحر من الثروات النفطية والمعدنية والزراعية ، حتى لايذكر التاريخ أية حروب طائفية أو دينية أو مذهبية أو قومية وقعت في هذا البلد خلال تاريخه الأقدم بين الأمم .
في العراق يعيش المسلمون الجعفرية الأمامية من الشيعة والحنفية والحنابلة والمالكية والشافعية من السنة ويعيش أيضاً اليهود الموسوية والمسيحيين بكافة أشكال كنائسهم في العالم والتي وجدت لها أرضية ومريدين وأتباع في العراقمن كاثوليك وبروتستانت وارثوذكس ولوثرية وسبتية ، أضافة الى وجود أديان قديمة وموغلة في القدم هما الصابئة المندائية والأيزيدية ، مع عدم أغفال بعض الطوائف والملل بين تلك الديانات كالكائية والعلي اللهية على سبيل المثال .
أما القوميات في العراق فتتشكل من العرب والأكراد والتركمان والأشوريين والكلدان والفرس والبلوش والأفغان وبقايا باكستانيين وأتراك وشركس وأرمن .
ومع كل هذا التنوع الذي لايماثله بلد في المنطقة كانت مسألة التمايز الديني أو القومي أو المذهبي غائبة كلياً عن بال وتفكير العراق بالرغم من كونها موجودة فعلاً على أرض الواقع لكنها لاتشكل مشكلة .
فلم يكن أحد من العراقيين يكترث أذا كان وزير المالية في العهد الملكي حسقيل ساسون أو صبحي الدفتري أو أن يكون روفائي بطي المسيحي وزيراً أو نائباً ، ولم يكن أحد يكترث لو صار السيد الصدر رئيساً لمجلس الأعيان أو النواب وأن يصير رئيس الوزراء نوري السعيد السني المذهب والأسلامي الدين والتركي الأصل ، ولن يكترث أحد حين يصير رئيس الوزراء صالح جبر المسلم الشيعي أو أرشد العمري المسلم السني الموصلي أو أن عبد المهدي المنتفكي أو الشيخ محمد باقر الشبيبي نائبين في البرلمان عن الناصرية وأن يصير غازي الداغستاني وزيراً للدفاع أو رئيساً لأركان الجيش .
كما لم تكن هذه الحسابات من الأمور التي تركز عليها الأحزاب السياسية أو يهتم بها الشارع العراقي .
لم يكن المواطن العراقي يعير أية أهمية كون ( يوسف سلمان – فهد ) مؤسس الحزب الشيوعي العراقي في الثلاثينات كان مسيحياً ، أو أن كامل الجادرجي مؤسس الحزب الوطني الديمقراطي كان مسلماً سنياً ، أو أن يكون فؤاد الركابي أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث بعد قيام الجمهورية شيعياً من الناصرية ، مثلما لم نكن نعرف نحن الجيل الذي عايش مرحلة قيام الجمهورية أن الشهيد عبد الكريم قاسم كان من والد سني وأم شيعية .
ولهذا كانت هذه الأمور خارج أهتمام العمل السياسي او الثقافي بين الناس ، فقد كان الأنسجام يطغي على كل تفاصيل هذه الأختلافات ، وكانت المدن العراقية تجسد هذه الحياة المنسجمة والتآخي الذي يرتفع فيه العراقي على أختلافاته القومية أو المذهبية أو الدينية .
وبالرغم من عدم تمذهب الدولة طيلة الحكم الملكي وبدايات العهد الجمهوري ، الا أن بدايات عملية تمذهب الدولة قومياً بدأ مع أنقلاب شباط 1963 حين سيطر حزب البعث على مقاليد السلطة لأول مرة في العراق فاتحاً صفحة من الدم والموت والرعب بين أوساط المجتمع العراقي ، ومع أن الحركات القومية لاتتقيد بالأديان والمذاهب الا أن الدولة القومية وظفت الدين في تلك المرحلة لخدمة أهدافها وأغراضها ومن أجل ذبح خصومها السياسيين ، ومالت سياسة الدولة القومية الى التمذهب الطائفي في أقصاء عناصر الشيعة عن مراكز السلطة والنفوذ بشكل غير محسوس أو ملحوظ فسيطرت مكونة كتلة طائفية منسجمة غير معلنة ، و بالرغم من كون الدستور المؤقت ينص على أن المواطنين سواسية ويجب ضمان المساواة ، لكن هذا الكلام كان مجرد حبر على الورق وعكست السلطة حينها تناقضاتها والتزامها بعملية تمذهب الدولة على حساب الوضع الأنساني للشعب العراقي .
وبالتأكيد ينسحب هذا التمذهب على الجيش الذي بدأ يعاني من مسألة التمذهب القومي والطائفي والذي كان منعكساً بشكل ملحوظ في نسبة القبول في الكليات العسكرية والشرطة ودورات القوات المسلحة الخاصة حين أخذت تتوضح يوماً بعد يوم دون أمكانية سترها أو تبريرها .
ومن خلال مطالعة لتاريخ الوزرات العراقية يتضح أن الوزراء من السنة العرب كان يتم تكليفهم بتشكيل الوزارات لأكثر من مرة ( عبد الرحمن النقيب 3 السعدون 4 العسكري 4 الهاشمي 2 السويدي 3 الكيلاني 4 المدفعي 7 الايوبي 3 .... ألخ ) .
اما في العهد الجمهوري فلم تعهد الوزارة منذ بداية الحكم الجمهوري وحتى سقوط العهد الصدامي البغيض الا للسنة العرب – بأستثناء فترة قصيرة لناجي طالب – ( عبد الكريم قاسم والبكر ثم طاهر يحيى والبزاز وعارف عبد الرزاق الكبيسي وصدام حسين ) .
كما ليس مصادفة أن يكون جميع رؤساء العراق في العهد الجمهوري من السنة ذلك أنه يعني أن التمذهب الطائفي وصل بموازاة التمذهب القومي في عمل السلطة .
ومع كل ماتقدم بقيت الناس و بالرغم من معاناتها من عملية تمذهب الدولة القومي والطائفي الموظف لأغراض سياسية تعاني وتشكو من تردي القيم وأنحطاط المعايير وفق هذه المعادلة التي لاتليق بالعراق ، حتى صارت السمة العامة التي تميز سلطتي الأخوين عارف أنهما من السلطات الطائفية المقيتة التي أضرت بالعراق ، وحين تم تسليم السلطة على طبق من ذهب الى المقبور سيء الذكر أحمد حسن البكر وصدام حسين بالأتفاق مع عناصر خائنة ، بدأ مخطط جديد يمرر من خلال تمذهب الدولة وطائفيتها تحت أطر جديدة وستائر تخفي بشاعة الهدف أكثر من السابق .
وحين تسنى للطاغية صدام أن يستلم السلطة و ينهي البكرمن الواجهة بدأ في عملية تطبيق عملي لتمذهب السلطة القومي والطائفي وأنعكس في ممارسته سياسة تقريب جهة ما والضرب بقسوة على جهة أخرى ليستطيع بعدها العودة الى الساند لأنهاءه بعد ان يتفرد في الساحة ، وبدأ بعملية توظيف كل مفاصل السلطة وأمكانياتها وثرواتها لصالح تفتيت الحركة الوطنية في العراق وضرب الشخصيات العراقية الوطنية الفاعلة وتشتيت مفاصل الشيعة وأضعاف صوت المرجعية الدينية والطرق بقسوة على الأحزاب الدينية منها .
حيث بدأ بتحريم طقوسهم الدينية ومنعهم من أداء شعائرهم وضيق على علماء الدين وحاربهم وأقدم على اغتيال العديد منهم ، ومن ثم أطبق على التنظيمات الدينية الفاعلة في الساحة العراقية ليصدر قرارات يقضي بموجبها على حياة العراقي عند الأنتماء الى حزب سياسي ديني كحزب الدعوة أو المجلس الأعلى للثورة الأسلامية وغيرها أو لمجرد الأشتباه في الأنتماء أحياناً ، ثم طالت هذه الأحكام التنظيمات الأسلامية غير الشيعة فأوغل في أصدار قراراته بتصفية علماء الدين ورجالات السنة ومراجعها الدينية التي تصدت له أو التي لم تنسجم مع طبيعة سياسته ورغباته ، بعدها أختلطت الأمور على صدام حسين فلم يعد يفرق بين سني أو شيعي فكل العراقيين أعداء وهم يتحينون الفرص للقضاء عليهلذا كان يفترض أنه يجب أن يحارب الجميع .
ويخطيء من يظن أن صدام حسين كان يمثل السنة المسلمين في العراق حين كان يوظف قدراته وسلطته لذبح الشيعة وأعدام القوافل التي لم يضمها أرشيف ولاعرفها العالم من أعداد الشباب الذين تم أعدامهم لأسباب طائفية ، ويخطيء من يظن أن صدام حسين كان يمكن أن يتعكز على السنة في سلطته ، فقد كان يذبح كل من يقف أو يرمش عينه في طريقه ، ولهذا مارس أفعال يندى لها الجبين من الخسة والوقاحة بحق أهالي الرمادي والموصل وتكريت ولم يكن يكترث مطلقاً لمذهب الشخص أو قوميته أو دينه .
ولم تفت صدام حسين مسألة الضغط والطرق على بقية المذاهب والأديان فلم يسلم الصابئة المندائيون منه ولاأستطاع الأيزيدية أن يتخلصوا من سطوته ورقابته فمنعهم حتى من زيارة قبر الشيخ عدي بن مسافر وتأدية طقوسهم الدينية في المرقد وحاول تفريق شملهم وتعريبهم ، كما هاجر العديد من الأخوة المسيحيين هرباً من ضغط السلطة وعدم أعطائها لأبسط حقوق المواطنة التي ينادي بها الدستور المؤقت بالمساواة بصرف النظر عن الدين والقومية والمذهب وكانت طقوسهم تتم بخوف ورهبة في ظل سلطة الموت .
وأمام النحر القومي والطائفي الذي كان يمارسه صدام ضد أبناء العراق والتي طالت جميع الأديان والمذاهب والملل والقوميات ، لم يكن بمقدور أحد أن يحسب صدام على جهة دينية أو قومية ، فكراهيته للعربي تبدأ من خلال كراهيته لشعب العراق وتنكيله به وتدميره طيلة الحقبة الزمنية التي تسلط بها على الحكم ، وكراهيته للكرد تكمن في نظرته الشوفينية وعدم أعتقاده بحقهم ومشاركتهم في الوطن ونزوعه نحو قتالهم ومحاربتهم وأستعمال الأجهزة الأمنية القمعية وتهجيرهم وتهديم قراهم وضربهم بالسلاح الكيمياوي وعقد المعاهدات الاقليمية المشينة من أجل أضعاف مطالبتهم بحقوقهم ، وأحتقاره بقية القوميات ينبع من خلل نفسي يسيطر على عقائده وطموحه حين تطغي نظرية المؤامرة على شخصيته فيتصور أن كل هذه الملل والعقائد تقف معادية له وتحاربه وتحاول أن تسلب منه السلطة .
وصدام البائد لم يكن يكترث لأحتلال العراق أو أستباحة سيادته وكرامته من قبل قوات التحالف فكل همه النفاذ بجلده والمطالبة بعرش العراق وأستعادة السلطة بأي ثمن ومهما كانت القيمة ، ولهذا عمل منذ فترة قبل سقوط سلطتة على أخفاء الطائرات والأسلحة المحمولة والمتفجرات والألغام جكميعها في داخل أوكار وخارج المدن مع توفير مئات المليارات من الدولارات كلها من أجل توظيفها لأستعادة السلطة .
وصدام البائد لن يضيره أذا أحترقت الفلوجة أو مسحت تكريت أو تضررت الموصل أو ديالى فالحقيقة التي ينبغي على الأخوة العرب والمحللين الذين يريدون رصد المشكلة العراقية بحسن نية أن لاوجود لمثلث سني في العراق ، مثلما لاوجود لمناطق شيعية وأن هذه التقسيمات التي أوجدها صدام ومن يلعب لعبته لصالح أستعادة سلطته والتي كررها كل من وزير العلوج الصحاف والسفير الهارب محمد الدوري أن سلطة صدام أنتهت والى الأبد وأنتى دوره المرسوم في اللعبة الدولية .
كما أن مايحدث في الفلوجة أو الرمادي أو ديالى أو الموصل ليس حباً بسواد عيون صدام وليس أنسجاماً من الترهات التي يرسلها عبر كاسيتات يقوم بتسجيلها من سيارة تسير في طرق ريفية وتحت جنح الظلام ، وأنما كلها نتائج لرد الفعل تجاه الأخطاء والسلبيات التي ترتكبها قوات التحالف ، أضافة الى وجود عناصر من تنظيمات أرهابية دولية وجدت الساحة مفتوحة في العراق لتصفية حساباتها مع الأمريكان على حساب الشعب العراقي ، أضافة الى وجود مشاعر متطرفة لاتقتنع بالتواجد الأجنبي والأمريكي في العراق .
وظف صدام البائد كل ما أستطاع أن يستحوذ عليه من ثروة الشعب العراقي في شراء بعض الناس من مشاريع بيع الجسد والضمير ليوظفهم في عمليات الأرهاب والقتل والتخريب وبث اليأس من الحياة دون صدام ، كما وظف صدام عناصر بائدة ومرعوبة من مصيرها على يد الشعب أضافة الى أنقطاع رزقها وموارها فلجأت الى صدام لتنتهي معه أينما صار .
ومهما يكن الأمر فأن صدام أتخذ من التمذهب القومي بالرغم من شوفينيته المقيته غطاء لسيطرة حديدية أبدية وثابته لأولاده وأحفاده من بعده ، كما أعتمد على مشورة خاله المقبور خير الله طلفاح في ضرورة محاربة الشيعة والطرق بيد من حديد فوق رؤوسهم لتطبيق الحكم الأستبدادي الشمولي الذي يليق بالعراق والذي يتناسب مع حالة الرفض المتجذرة في نفوس العراقيين ، ولذا ترى كافة الأحزاب الأسلامية ( سنة وشيعة ) أن ماقام به صدام يخالف سنة الله ورسوله في تفريق الأمة والأمعان في القتل وتهديم البيوت وبعثرة الثروات ولهذا فهو ليصلح للسلطة وينبغي عزله والعمل على الأطاحة به ، وهو مالك يقتنع به الطاغية ولايقبل به مطلقاً بأعتباره أن عقله يملي عليه بأحقيته في ملك العراق والسيطره عليه بالقوة .
لذا لايمكن أن يتم تطبيق المعادلة الطائفية على حكم الطاغية لأنه وأن كان يعتمد على نماذج تمثل أنتساب الى طائفة أو جهة معينه الا أنه ليس بالضرورة يعتمدها كقواعد للعمل معه ، كما لايطمئن لها أنما يوظفها مؤقتا لينهيها حالما ينتهي العمل معها ، وبذا يكون الطاغية لاينتسب لقومية ولالدين ولمذهب معين ، وحين تتبريء منه القوميات والمذاهب والأديان والطوائف في العراق يصير مسخاً لاقيمة له وأن كان يملك المليارات من الدولارات .