خلطة من المصطلحات وهي مفردات من بين كمّ عجيب منها يتمّ تداولها وإقامة العلاقات الإنسانية الصحية منها والمَرَضية في ضوئها. ولكن لماذا النخبة ومِمَّن تتشكَّل وما آلية وجودها وعلاقاتها؟ وكيف تحيط نفسها بالعزلة , لماذا تفعل ذلك؟ ومتى؟ وهل للنخبة دور في الربط بين الثقافة والعامّة وفي خلق منطق إيجابي أو سلبي للعلاقات الإنسانية؟ وهل تتسبب النخبة في أمراض اجتماعية أو غير اجتماعية؟ أم أنّها (أي النخبة) بلسم أو ريحانة مستهدفة من فئات وعناصر مريضة في المجتمع ولا ذنب لها فيما يجري من احتكاكات وملابسات؟
أسوق هذه الأسئلة وغيرها وأنا أتطلّع اليوم إلى حالة من اللحمة الإيجابية بين مجتمعنا ـ الذي تمَّ تخريب كثير من القيم الإنسانية الراقية فيه وبين قياداته أو النخبة السياسية والاجتماعية فيه ـ وهي التي طوردت وتعرّضت لشتى أصناف الاستهانة والاهمال و للإقصاء عن مواقع المسؤولية ليتسنمها جهلة القوم ورعاعه وحتى التعرّض لعقوبات السجن والموت زمن الدكتاتورية وطغيانها...
وقبل الخوض في السياسي من معالجتنا هذه لابد من المرور على حقيقة مصطلح النخبة ومفهومه وما يشكِّل جوهره, وما يفرض تعريجنا هذا لتناول المصطلح هو تحوله عند بعض الناس إلى شتيمة بدلا من جوهره الإنساني السامي. وبعامة ففي كلّ اللغات تعني النخبة (Elite, Upper class, notables, Dignitaries...…) أو الصفوة المختار من كلِّ شئ أو هم خيار القوم الذين يتم اصطفاؤهم أو هم من أحسنهم ومن ذوي المكانة والتقدّم والشرف. ولهذا قيل نخبة من الكتب أيّ المختار القيِّم منها ونخبة من الأقلام أيّ المصطفى الأكثر بلاغة منها ونخبة من الأعلام أيّ الأفضل والأعلى من بينهم, وقيل المنتخب الرياضي مثلا أيّ الأحسن والأفضل من اللاعبين ليمثلوا جهة أو بلدا.. ومن الشعر ما اُنتُخِب أروعُهُ وفي الانتخاب السياسي مثلا تفضيل شخص واختياره من بين المختارين للتقدم لمنصب أو لموقع. ولأنَّ النخبة تعني الصفوة فهي تعني ما يعنيه الصفو ممّا لم يكدِّرْهُ شئ أو هو نقيّهُ؛ وصفوة القول أجودُهُ وصفوة الناس أفضلهم. وصفا فلان لفلان أخلص له, وللنخبة أنْ تُخلصَ لمُثُلِها. وفلان سريع الصفاء أي لا يحملُ حقداَ ,َ وبمعنى أبعد ليس مِنَ النخبةِ ما يكون مَنْ يؤلم الآخر أو يضيره فلا يقف أمر توصيف النخبة عند عدم الحقد كما تشير المعاجم اللغوية والاصطلاحية.
أما في السياسة والثقافة فقد كانت النخبةُ الطبقة العليا من النقاء أيّ الخلو ممّا يشوبُ صفاتهم وأخلاقهم كما كانت أخلاق الفروسية تقدِّمُ نفسَها أيام الأرستقراطية وحكمِها, وفي كليهما (السياسة والثقافة) لابد للنخبة من امتلاك عامل المعرفة والخبرة في أعلاها وأكثرها دقة وروعة وإبداعاَ َ فالأمر ينجلي عن اصطفاء واختيار وانتخاب, إنَّهُ فعلُ غربلةِ ِ وتدقيق وتمحيص. ثم أنَّ النخبة لا تكون بخيارها الذاتي كأنْ يقول شخص أنا من النخبة فيكون ولكنَّ المسألة تنتمي إلى جملة من الاختبارات والانتخابات والتصفيات حتى يصلَ المرءُ إلى ألمعيةِ تميّزِهِ واعتلائِهِ مكانة شرف العلم وامتلاكه ومن ثمَّ كينونته النخبوية...
ولأنَّ الأرستقراطية تمثل حالة من الانقسام الطبقي في الحياة الاجتماعية, فقد كان علية القوم (أو النخبة منهم) هم الذين ينتمون لتلك الطبقة وهم الذين يحصلون في الغالب على العلم والمعرفة ـ الذي كان يتطلب أثمانا أو أجورا باهضة. وفضلا عن ذلك فإنَّ طبقة الأرستقراطية عادة ما حاولت فرض العزلة أو الانفصال بين النخبة وعامّة الناس الذين وُصِفوا بأنَّهم رعاع لا يفقهون وسَوَقة ليسوا جديرين بالأخلاق الكريمة. وظلّت تلك النظرة الفوقية المتعالية تنتقل بين الأجيال على الرغم من كون رجال العلم (من النخبة) في الغالب أثبتوا باستمرار أنَّهم متواضعون يهمهم الاتصال بالناس على حدّ سواء من دون تمييز طبقي أو غيره.
فأين نجِدُ النخبة اليوم هل في برج عاجيّ تنظر بتعالِ ِ من فوق أم في وسطِ الناس العاديين تحيا حياتهم وتتطلع للمشاركة الإنسانية واقتسام حلوها ومرّها؟ إنَّ الحقيقة الساطعة الأولى هي انتهاء عهد الأرستقراطية في الحياة الإنسانية بانتهاء التشكيلة الاقتصا ـ اجتماعية لها وهي الإقطاعية. ومن ثمَّ ما عادت أخلاق الفروسية والمجتمع الزراعي وطبيعة الملكية فيه هي التي تفرض سلطانها.. ولكنَّنا مع ذلك مازلنا في بلدان العالم النائم (أو النامي) [الثالث عشر (أو الثالث)] نعاني من قوة العادة وسلطتها وقوة التقاليد (الماضوية السلبية منها) بسبب من السطة السياسية التي فرضت بطغيانها وجبروتها السمات البطرياركية الأبوية التي في ضوئها جرى تشويه واقع العلاقات الإنسانية بين الطرفين المقصودين في مقالنا هذا.
فقد فُرِض على الوعي الجمعي للعامة من المجتمع بناءَ َ على مثل هكذا خلفية فكرية للنظام الاستغلالي, فُرِض عليه التعامل بحذر وبحساسية وبأحكام سلبية مسبَّقة وهو ما يشكِّل هدفا خطيراَ َ للقوى السياسية الحاكمة كونها توقع بين القيادة الاجتماعية أو النخبة الثقافية والفكرية من جهة وبين العامّة لتبعدهم عن التأثيرات الإيجابية التنويرية لهذه النخبة التي تعمل بجهدِ ِ مثابرةَ َ على تولي عملية التفتح والتنوّر وتطويع المعرفة لخدمة التطور الإنساني.
كما يمكن الحديث عمّا يحصل اليوم من ادّعاء روح المساواة والعدالة بين الجميع ولكنّ الغاية من وراء ذلك ليس المساواة الإنسانية وهي حقيقة تؤمن بها النخبة الثقافية والسياسية قبل غيرها؛ وإنَّما الغاية خلط الأوراق بحيث يرى غير العارف أنَّه ليس من الإنصاف! والمساواة!! أنْ يأخذ النصيحة والمعلومة والمعرفة من شخص آخر.. فإذا تسمّى الآخر نخبة تميَّز عليه وانفصل عنه وصار الأمر بين فوق وتحت وهو أمر معادِ ِ للعدالة والمساواة؟! ومن ثمَّ للديموقراطية حسب رؤية جاهلة متخلفة, إذ بدلا من تقدير العلم وأهله والسعي لامتلاكه عبرهم وللإفادة منه ومنهم (من النخبة التي تمتلك الأفضل والأنقى والأرقى) بدلا من ذلك يضع بعض مَنْ شوَّههم نظام الاستغلال حواجز الحساسيات بين الطرفين؟!! وتتحمّل النخبة في ذلك مشاكل جمة من أجل إزالة هذه الهوّة والوصول بما تملك للناس.
ومع ذلك فالنخبة من العلماء والمفكرين والسياسيين ليسوا آلهة أو ملائكة فإنَّ بعضهم قد يجد نفسه أمام عدم احترام وجوده والاستهانة بقيمته والتجاوز على مكانته في حالة من الابتعاد عن هؤلاء والتقوقع في مكتبه وخلف جدران معمله وهو أمر سلبي بيِّن الأثر. وبالجملة من توصيفنا نجد أنَّ التطور خلقه العمل الإنساني العضلي منه والفكري ولا يمكن التقليل من أهمية أيّ منهما في قراءة المسار التاريخي أو تفضيل أيّ منهما لأنَّهما حلقات متكاملة. على أنَّ التخطيط والإدارة ورسم الحياة الإنسانية لا يمكن أنْ يتمَّ اليوم من غير العلم والتكنولوجيا المتطورين والثقافة الراقية بحسب تعقيدات التطور الحاصلة في الحياة المعاصرة. وهو ما يحيل إلى أهمية النخبة العلمية والثقافية والسياسية. حيث لم تعدْ إدارة البلاد سياسة طاغية أو حكم فئة جاهلة بل جَرَتْ تحولات جدية خطيرة الشأن صرنا فيها بحاجة للانتخاب والاختيار والاصطفاء بمعنى آخر صرنا بحاجة للنخبة المُعَدَّة إعداداَ َ عاليا مميّزاَ َ.
وصار التطور حالة متلازمة مع توظيف النخبة توظيفا إيجابيا عبر أعمق اتصال بينها وبين العامّة من جهة وفتح ما تمتلكه من خزائن المعرفة والثقافة والفكر لنشره على أوسع نطاق بما يخلق أفضل علاقة إنسانية وأعمقها حرصا على مستقبل البشرية وقيمها الإنسانية السامية الفاضلة.. وهذا ما لا يمكن أنْ يحصل بوجود العزلة والانفصال بينهما فكيف بنا ونحن أمام حساسيات مَرَضية واحتكاكات ومواقف جهل وتشنجات تخلق عميق الجروح مما لا يمكن أنْ يندمل بسهولة طالما اعتقد المرء منّا بأنَّ مكانته تأتي من إهانة عالم أو من التطاول على مثقف أو بادعاء مرجعية وتعالمِ ِ وما شابه, حتى كدنا بذلك نفقد الثقة في مسار الأحداث ومتغيراتها وما ننتظر من تطوراتها اللاحقة!
إنَّ ما ينتظر مجتمعنا هو مزيد من العودة للأصول الحضارية التي عمَّدت العلائق الإيجابية بين أطراف الحياة السياسية والثقافية ووحّدتهم في بوتقة من الاتصال والتواصل البنَّاءين ومن الثقة والاحترام المتبادل والاحتفاظ بمكانة كلِّ الأطراف إنسانياَ َ ومن الصفوة بما لا يكدِّر الحياة ومن الإحساس بأنَّ تقدير العالم والمثقف والمبدع هو جزء من تقدير العلم والمعرفة, وهوإضافة لنا ولوجودنا جميعا وليس فيه من إخلال في قيم المساواة الإنسانية في جوهرها ولكنّه تعميد لها لأنَّنا بتقويمنا النخبة ندفعها أكثر للانفتاح على الحياة العامة وعلى المجتمع وعلى تقديم خدماتها برحابة ومن دون آلام واصطراعات ولا احتكاكات وتشنجات مَرَضية مكدِّرة للعلاقات الإنسانية.
وفي مجتمع اليوم يمكن القول إنَّ أوضاعَنا تفرض علينا مزيدا من اعتماد العمل المؤسساتي الجمعي التكاملي ومن توظيف التكنوقراط واعتماد التخصصات وتوزيع العمل وتقسيمه وتبنّي المعرفية والعلمية وألا تتدخل الرغبات الشخصية والطموحات السياسية فاقدة الأرضية الموضوعية لتتسلّم مواقع الإدارة وتوجيه آليات العمل من دون لا معرفة ولا خبرة ولا استشارة أواتعاظ, والحلول محلّ الطاقات المتخصصة أو بتوصيف آخر محلّ النخبة.. ولا يمكنني هنا أنْ أُبرِّئ مجتمعنا بعد كلّ تلك العقود من التشويه من كلِّ ما مرَّ ذكره من أمراض الأمر الذي سيتطلب زمنا غير قليل قبل أنْ نتغلب عليها ونعالجها بشكلِ ِ تام ونهائي. فما زال بيننا مَنْ يفكِّر بطريقة حسم أمور الصناعة والكومبيوتر وخطط السياسة المعاصرة حسب نظام جلسات الدواوين والمضايف ويثير حفيظة بعضهم وحساسيته أنْ يستمع لرأي عالم جليل أو مفكّر أو خبير.
ولعلَّ أكثر ما يثير الالتباس في مسألة تبادل الأدوار هو عدم الاعتقاد بعلمية المباحث الإنسانية الاجتماعية [مثل مفردات علم النفس والاجتماع والإعلام وغيرها] بوصفها معارف علمية تحتاج للتخصص والدراسة مثلها مثل تخصصية العلوم البحتة كالفيزياء والطب والرياضيات؛ حتى صرنا نشاهد عامل البناء يفتح عيادة التطبيب بالأعشاب؟! وهو الأجدر في اختصاصه لا فيما يدعيه وعامل الكناسة يفتح عيادة للاستشارات الاجتماعية وبقية الشغيلة يترأسون الصحف والمجلات ويناقشون في علوم اللغات والمنطق والفلسفة وهؤلاء سنجدهم غدا يحتلون الفضائيات التي يمكنهم الوصول إليها إذا ما تحكّمت المبادئ المعوجّة أصول حياتنا...
فكم هي مساحة القطيعة ـ بعد ذلك ـ بيننا وبين تراثنا المعرفي والعلمي والسلوكي ممّا حصل على عهد التخريب الذي أوجده نظام الدكتاتورية والظلام والجهل عندما وضع على رأس أعلى مؤسسات البحث العلمي جهلة متخلفين نفسيا وعقليا ولست بحاجة هنا للتذكير بأمثلة من هذا القبيل على كلّ الصُعُد والمستويات وكيف تمَّ في إطار هذه الأمثلة تكريم هؤلاء الجهلة ووضعهم في المقام الأول والأعلى حتى صار مالك القرش يساوي قرشا فتمَّ إخفاء نور الأستاذ والباحث والأكاديمي وسادت عتمة السوَقة والمنحرفين وشذاذ الآفاق وبيعت القيم السامية في سوق النخّاسين سبيّة لأصحاب الثروات المنهوبة..
ومن نافلة القول وليس النكتة أنْ أُذكِّر بأنَّ نسبة مَن يعرف [فلانة الراقصة أو الـ ... ] في غفلة زمن صعود نجمها من الزعران من جيل آخر زمان هو أكثر ممّن يعرف [الفنان أو الروائي أو الـ ...] وليس بينهم مَن يعرف عالمنا النووي الجليل ... وفي أيّ اختصاص هو [ودليلنا قائم هنا بين سطورنا] وهل صحيح لمجتمع أنْ يهذي شخص فيصير شاعرا فحلا مكرَّما ويُبعَد الشاعر الحق؟ وهل من الصائب أنْ يركب الجاهل آخر موديلات السيارات ليقضي حاجات تبطّره وإضاعة الوقت بلا حساب للخسائر فيما يتدافع الأساتذة ويُحشَرون في حافلات النقل العام ليصلوا معاهدهم العلمية ومختبراتهم التي تقوم عليها حياتنا من دون أنْ يلتفت مسؤول للوقت الذي يحتاجونه من أجل الآخر وليس لتزجية أوقاتهم الخاصة؟ والقائمة تمتد وتطول إذا ما أردنا تسجيل المآخذ على التشويهات التي أُصِبنا بها ونحتاج لمعالجتها. وكلّها تصب تحميسا وتفعيلا في إشكالية حاملي مشعل النور والمعرفة من النخبة العراقية التي نُعلي فيها من شأن العراق واسمه واسم العراقيين وبهم نجد قيمنا الأصيلة ونتشرّف لبناء عالمنا العراقي الجديد سويا ومن دون أيّ من أمراض نخبة معزولة بالاكراه بسبب الجهل والتجهيل السابقَيْن وهوما سننتهي منه بالتأكيد بحسن النية وعميق الثقة ومصداقية التوجه وصواب المنطق الآتي إلينا في يومنا وغدنا القريب...
ويحسن التذكير هنا بما صنع عرب الجاهلية من آلهة لهم فلما جاعوا أكلوها وبعضهم اليوم يسلِّم للمرجعية أمره فلما اتخذت تلك المرجعية العقل وسيلة للحكمة استبدلوها وأحلّوا محلّها مرجعية أسوأ من تصنيع الماركة التجارية وأحطّ من التصنيع العسكري الذي أمضَّ أمس العراقيين وأرَّقه.. إنَّهم مراجع زعران السياسة من عيوب آخر زمان.. ألا أيها الغافلون تنبهوا فإنَّكم لا تلعبون بالنار بل تكاد ألسنتها تلتهمكم ويكاد نزق الغرور وسفاهة العقل والتعالم وأمراض الفردانية التي أورثها لبعضكم الدكتاتور المقبور الذي لم يستطع إخضاعكم كليا لنزواته فبيَّت لكم في أنفسكم أوبئة تأكل في أرواحكم لتنفجروا في أهاليكم مآسِ ِ ومضار .. كفى عبثا وتطاولا وليس من شريعة لضبط أمركم غير العودة للرشد ولقوانين العقل والمنطق...
أمّا إشكالية النخبة وطبيعة فهم المصطلح وما يتضمنه مفهومه الأصوب والأصدق, فسيكون آفة إذا ما ضمّناه معطيات الوجاهة الفارغة وكشخة الزعامة ونزعة الفردانية المتعالية المريضة, وسيكون للعزلة والانفصام بيننا وبين أهل العلم ومصدره ومن ثمَّ لوقف أيّ مسار تطوري ولتشويه العلائق الاجتماعية الإنسانية الصحيحة الصائبة.. وعلينا العودة لمنطق التلمذة على أيدي علمائنا والإفادة منهم ولطلب المعرفة والفكر من مصادره بلا تردد أو حساسية ولوضع كلّ في موضعه المناسب الدقيق وليس بقلب موقع التلميذ بمحل الأستاذ وقهر العالم لينزوي بعيدا عن قيادة الحياة ورسم مسارها ومنطق العقل لا ينتقص من قيمة أحد ومكانته وقدره بل يُعلي من شأنها...