بعد غيبة كبرى !( اكثر من 12 سنة) ربما أتساوى في اجتراح ألمها مع ملايين العراقيين.. عدت الى العراق ..مع زوجة وطفلتين.. وفي نفسي ما نال المعري من تعداد الايام والزمن حتى زار بغداد:
كلفنا العراق و نحن شرخ فلم نلمم به الا كهولا
وردنا ماء دجلة خير ماء وزرنا أشرف الشجر النخيلا
وكانت خشيتي تتفاقم كلما تذكرت كيف ان المعري بعد رحلته هذه الى بغداد اعتكف طويلا ، منقطعا الى نفسه عن الناس،حتى مات.
ربما ندما،على ما فات من كلف حب مؤجل،نال من وصاله سنة ونصف،هام المعري بعدها القا ولوعة وكتب من معتزله الكثير عنه.
ومحتشدا بحنين الحلاج في سعيه على الوجه ومشيه على الرأس. سألت السائق: هل وصلنا العراق؟.. وقبل أن يجبني سألته: كيف اهبط ؟! ، قال: مثل كل الناس انزل أرجلك على الأرض!!.فخطر الى نفسي ان احتضن ارض العراق بقبلة لتكون هي أول ملامسة..واشتهيت الغناء بصوت داخل حسن.
واقترحت له قصيدة للمعري يبحّ بعدها ما تيسّر له من وجع:
سقيا لدجلة و الدنيا مفرقة حتى يعود اجتماع النجم تشتيتا
و بعدها لا أريد الشرب من نهر كأنما أنا من أصحاب طالوتا
بعد ساعات وصلت الى بغداد..
مشاهداتي الأولى لهذه المدينة بعد كل هذه السنوات ستجعلني اقلب ما قيل قديما «الأرض كلها بادية، وبغداد حاضرتها».. بما يدل على ما لا ارغب في رؤياه من دمار وفوضى..
كانت السيارة تخترق بغداد.. وأنا أفكر كيف سأكتب هذه السطور بعد شهر..
لسائل الدمع عن بغداد أخبار....وأخبار تتبادلها العيون بين فرح كبير لا يوصف وضجيج وارتباك حلّ على كل شيء.
كنت المح نخيل بغداد وقد اعتلاه غبار احمر،تذكرت معه عبد الرحمن الداخل، لكني نسيت ابياته الشهيرة في النخلة وهو يلمحها في الأرض الغريبة،هل اصبحت بغداد غريبة ام انا الغريب ؟؟،ثمة غربة حاضرة كنت أشعرها والمح تفاصيلها في النخيل والشجر والوجوه المتعبة.. وتمنيت نسيان المراثي،تمنيت ان لا أتذكر الا ما اتفائل به. وسريعا طردت بيتا من الشعر حطّ بكلّ أساه في وجع اللحظة:
ماللمنازل أصبحت لا أهلها أهلي و لا جيرانها جيراني
ربما لان كل ما ألفته في شكل بغداد وملامحها قد تغيّر،فأدركت أني أعيش لحظة أخرى لا تشبه أي لحظة في حياتي سوى الولادة مع الوعي بها.
أشار السائق إلى أنقاض كثيرة، وباليد ذاتها أشار إلى مكان قال انه حتى وقت قريب كان يضج بكل أنواع الأسلحة المعروضة للبيع!!.
كان اليوم الأول في بغداد يوم زيارة عابر سأتوجه بعده الى مدينتي الديوانية،التي وصلتها في ظهيرة قائظة،استجمعت فيها قواي وذاكرتي لأستدل بنفسي على الطريق المؤدي الى ناحية الدغارة، وكدت أتعرف على كلّ (طسّات) الطريق المتهالك!.
وصلت إلى الأهل، وكان عليَّ أن أتخلى سريعا عن ما احتفظ به من صور ماضية لأتعرف على حاضر ما أراه.
كانت لحظات الدمع تقطر شعرا للمدينة التي ..
مُتعت فيها إلى حين فوا أسفا إذ عشت حتى رأيت الحين والحينا
الحين الأول في الفراق، والثاني في العودة الخريفية لمدينة كنت اكبر معها ولم يتغيّر فيها نحو الأفضل أي شيء.
لكن الناس سعداء،هذا هو المهم.. وعليّ ان أعيش سعادتهم،وان أعيش الى جانب هذه السعادة قلقا اسميه الخوف لأجلهم،قال ابي: القول صيد والكتابة قيد.وفي مضيف العشيرة وجدتني غريبا ولا املك ما أقيد به غرائب ما اسمع وارى.
في اليوم الثالث استدعاني فاعل خير الى بيته لأمر ضروري، وبعد ان افترش على الأرض مجموعة هائلة من وثائق وتقارير حزبية وجدت فيها اسمي وأسماء أصدقاء كتب عنا أشخاص نعرفهم. وكانت كتاباتهم سببا في اعدام الكثيرين وفي استدعاء عوائلنا الى مكاتب الأمن والمخابرات في الديوانية. شكرت الرجل وأكدت له ان سرّه في البئر،غير أني وجدت الجميع في جلسة المساء يتحدثون بالأسماء التي قرأتها في بيت الصديق،همست في اذن ابي فقال:لا تستغرب ما دمت في العراق!.
مضى الأسبوع الأول سريعا.
في منطقة الحرية الثانية( في بغداد) كنت اجلس مع مجموعة من الأصدقاء سعنا أصوات إطلاق نار كثيف، وقبل ان يقول احدهم : انه عرس!، كادت رصاصة مسدس تقتلني، استقرت قرب جدار مجاور، كانت حارة،وكانت درجة حرارة المدينة غير مسبوقة في تاريخ بغداد لمثل هذا الوقت من السنة،وضعت الرصاصة في حقيبة حملتها معي من الديوانية، وابكاني رؤية مجموعة (( في درجة 45 مئوي)) للقاص محمد خضير، وكانت من اخريات ما تبقى من مكتبي القديمة.
المجموعة صادرة عن دار الحرية للطباعة في 1978، سألت فقالوا احرقت ونهب ما تبقى منها.
في طريق العودة الى مدينة الديوانية،قال سائق آخر: هذا مطار المثنى سابقا،و هذا ما كان يفترض ان يكون اكبر مسجد في العالم،يتسع ل 150 الف مصلي،وكان سيفتتح في 2010، كتل الخرسانة العالية التي تراها، قيل انها استهلكت ملايين الاطنان من الاسمنت.
تبسمت وانا اردد ماقاله العجوز: ملايين الاطنان من الاسمنت.فقال السائق: تضحك؟
قلت:يضحكني رؤية السماء السابعة من مطبخ العائلة في الدغارة عبر ثلم في السقف كان سيكفيه بضعة اكياس صلواتية مباركة من هذا الجامع، بمكرمة رئاسية!.
سألتُُ، ككلّ الضالين ،فقيل لي: انت في الكرخ،قلت: في الكرخ اقام المعري.
وقرب مكتب للصيرفة توقف السائق.
في بغداد تتكاثر هذه الايام مكاتب الصيرفة، ولمختلف العملات الاجنبية،وبأسعار وفوارق كبيرة،فوارق تلمحها في عيون الناس الحائرة من حال السوق، في صعوده ونزوله.
نزلت لتصريف 100 يورو اوربي الى عملة عراقية، قال الصراف: اشتريها منك ب 210 الف دينار عراقي، انصرفت عنه لأعبر الى جهة الشارع الاخرى حيث مكاتب مشابهة. اخترقت حشداً من عمال يقفون في ( مسطر) العمل بانتظار من يعملون لديه نهارا كاملا ب 3000دينار عراقي. سألت الصراف الآخر عن سعر 100 يورو فقال اشتريها منك ب 226، عدت برزم الدنانير وفي فمي ضحكات مرّة وأنا ادخل مجاميع العمال من جديد،قلت للسائق: هل عبور الشارع في بغداد يكسبك أجرة خمسة عمال؟ كم كان ماركس محقا في ألمه! .
نزل من السيارة ووجدتني اتحدث معه ومع العمال عن حكاية التصريف العجيبة، قلت لهم ان فارق التصريف كان يومية خمسة عمال والباقي 1000 . قال احدهم: هل تعرف مالعمل؟..قلت: ما العمل؟ ، قال :الباقي هو 1000دينار نشرب به شايات الان!.
شربت الشاي معهم،بينما كان يتناهى الى مسامعنا اصوات المغنيين واصوات الدعاء والرثاء الحسيني من تسجيلات صوتية مجاورة.
قلت لهم : سمعت من الفنان العراقي فيصل لعيبي ان الحزب الشيوعي سيغيّر شعاره من يا عمال العالم اتحدوا.. الى يا عمال العالم صلوا على محمد وال محمد.
ضحكنا وصعدت من جديد متجها الى الديوانية،كنت احمل معي مجاميع الشاعر باسم المرعبي وقد طلبت منه في وقت سابق ان أضعها حال عودتي في مكتبة الديوانية العامة.
وصلت الى مبنى مكتبة الديوانية العامة، وقد تحولت الى مقر للقوات الأسبانية وإدارة مؤقتة للمحافظة!، سألت نائب المحافظ عن مصير الكتب التي كانت تزخر بها هذه البناية،فسحبني من يدي في جولة على طاولات اصطف حولها الناس بالمئات متجمعين على موظف هنا وآخر هناك، كانت مكاتبهم فارغة الا من سجل لتوثيق الأسماء،نسيت سؤالي عن الكتب و قلت له: هل هذا هو كل ما يفعله الموظف الآن؟ أين الأرشيف؟ سمعت وقرأت عن كمبيوترات ووسائل حديثة وفّرتها قوات التحالف؟. قال سمعت هذا مثلك.و أشار الى مبنى المحافظة في ضفة النهر الثانية،الذي يرمم للمرة الثانية.
تركني وانصرف للرد على اتصال تليفوني،وكنت بحاجة الى التحدث الى أي مسؤول،وما ان مرّ ضابط اسباني حتى طلبت من المترجم ان يمنحني دقائق لسؤاله.
_ هل تعرف سيدي المحتل كم مطبوعا يخرج باللغة الاسبانية الى العالم كل عام؟
_ اعتقد انه عدد كثير ولكن لم السؤال؟
_ ما يطبع باللغة الاسبانية كل سنة هو اكثر من 100 الف كتاب...نحن ندعي انكم اخذتم الحضارة من العرب!!....
انتم تدعون ان اللغة الاسبانية اهم من الفرنسية...
العالم كلّه يعرف ان نابليون المحتل وصل ومعه المطابع والكتب،كيف ترضون ان تكون مكتبة المدينة مقرا عسكريا.
_لم تخبرني انك صحفي، لكن اخبرني كيف دخلت الى هنا؟
وأمر بإخراجي من المبنى.
نزلت للتجوال في مدينة الديوانية، لا اعرف لم تذكرت بألم كبير قصيدة كفافييس بانتظار البرابرة.. ربما عيون الناس ووجوههم وخوفهم من خطر قادم،ربما هو الخوف من عودة الدكتاتورية، هكذا قال لي بائع الصحف،وهو يرزم لي مجموعة هائلة منها.
بجوار مبنى بريد المحافظة كان بائع الرصيف الاشيب يعلق بضاعته على مسامير في الحائط وينشر ماتبقى منها على الرصيف،بضاعة بائسة،يتجمع حولها العابرون،قال بصوته الذي زادني معرفة به
_تفضل عمي؟
قلت: انا لا اشتري.. اريد ان اشبع من النظر اليك!
تبسم وبدون مبالاة قال: اشبع عمي اشبع.
احيانا لحظة واحدة تعيد اليك حكاية عمر كامل.
في نهاية عام 1987 كنت ضمن سرية مشاة على مشارف منطقة ماوت في السليمانية التي احتلتها القوات الايرانية في معارك طاحنة،كانت الثلوج تتساقط بكثافة،والاوامر الصادرة من بغداد تتساقط اكثر منها بضرورة استعادة أي موطئ قدم مهما كلف الثمن،كنا ثمانية، اخر من تبقى من فصيل هجوم فاشل سابق، ضمّنا امر الفوج الى فصيل قوات خاصة وصلت المنطقة للهجوم،مررنا مجددا بالمكان الذي نجونا منه قبل يومين، كانت جثث اصدقائنا مغطاة بالثلج،تعرفنا على بعضها في الحافات الجبلية التي تمر بها تيارات من العواصف تمنع تراكم الثلوج.
فشل الهجوم وبقي منا ثلاثة،احتمينا في ثغرات الصخور وكنا نسمع اصوات الايرانيين وطلقاتهم في المرتفع تقنص الفاريين، جزعنا من الانتظار،وكان الظلام يهبط علينا بين ركام هائل من الجثث، قال حسن عباس انا اعرف الطريق فمن يأتي معي، تمسكت به لكنه هبط المنحدر مختفيا في تلال الثلج ، لم أره إلا بعد 16 سنة،كبائع بائس ينادي على بضاعته بجوار بريد الديوانية.
قلت له وسط دموع غزيرة: هل عرفتني؟
قال : هل كنت معي في الأسر في ايران؟
قلت : لا..
قال: من انت وماذا تريد..؟
قلت : انا علي شايع..
وسرعان ما تجمع الناس من حولنا في مشهد درامي،اختلط فيه الفرح بالبكاء والالم بالذكرى،بعد دقائق قلت له سنلتقي كثيرا فأنا استخدم الانترنت باستمرار!.
قال باستغراب :شنو هذا؟!
قلت: انا ادخل الى المبنى الجانبي للبريد للاتصال بالكمبيوتر!.
قال: وانا هنا دائما.