أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - وليد عبدالله - انهيار القيم يستوجب أسلوبيّة صارمة ضد الكيانات الدّينيّة















المزيد.....



انهيار القيم يستوجب أسلوبيّة صارمة ضد الكيانات الدّينيّة


وليد عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 2159 - 2008 / 1 / 13 - 05:50
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


انهيار القيم يستوجب أسلوبيّة صارمة ضد الكيانات الدّينيّة
حاوره- نادر المتروك
الباحث العراقي وليد عبدالله يلجأ إلى تمثيل لغة نقدية حيال الدين، يعتبرها البعض عنيفة وتنزع إلى الصّداميّة، ولذلك لكونها تتجه إلى مناقشة الأصول والتشكيك فيها، والعمد إلى وضع المقولات الدّينية الكبرى في دائرة النسبي والتاريخاني. عبدالله يرى أن الجماعات الدينية في التاريخ ‘’تتفق مع بعض وتختلف مع الآخر حدّ فتح بيوت جديدة داخل السياج الإسلامي، وظهور النكران كفلسفة باطنية وظاهرية تمارسها المذاهب على بعضها البعض، والوصول إلى المواجهات الدموية من أجل الحفاظ على النبوة الأولى والأصل الأول الذي هو غاية الجميع، ومن غير أن يكون هناك هدف واقعي’’. ويرى عبدالله أن ‘’الصراع الجوهري ملازم لاسم النبوة باعتبارها وظيفة وليست حقيقة روحانية خالصة. لهذا نرى النبوة هنا تأخذ أشكالا متعددة تحت التسمية الواحدة للمسمى النبوي، وتشارك كلّ الأيدي العقائدية في رسم حضورها وتتضامن مع الأصل بكلّ قسوة لكي تؤكد مصداقيتها وانتمائها للأصل المنزوع من أصله’’ كما يقول عبدالله.
؟ تقرأون الفضاءَ الدّيني ومكوّناته التاريخيّة والعقائديّة من خلال حفر تحليليّ واسع، تتوسّلون فيه بجملةٍ من العلوم الإنسانيّة المعاصرة، فضلاً عن حسّ السّؤال النقدي الصادِم. بيد أنّ هناك منْ يرى أنّ قراءاتكم، وبسبب طبيعتها الصّلبة، تتعارض مع متطلّب التسامح المنهجي الذي يقتضي انتقالاً تفكيكياً هادئاً بين اعتقادات الشّعوب وموروثاتها اليقينيّة الكبرى، ومقاربتها بمنهجيةٍ تنأى عن تسخيفها ومحاكمتها من منظور علمانوي خالٍ من الفوائد العمليّة والمواضعات المتصالحة. ما تعليقكم على هذه المؤاخذة؟
؟؟ الحديث عن ضبط الأفكار والانتماء إلى منهجية الصّرامة أو التصادم التساؤلي في نقد الظواهر الدينية، هو من الأهمية المعاصرة في إدراك الهم الواقعي والمعرفي والوجودي للباحثين الجدد، ويمكن أن نبيّن بعض المتغيرات الأسلوبية والمنهجية والآثار التي ترتبت على ظهور جيل يحمل أسلوبية الصرامة المضادة كونه مستلبَ الوجود والقيمة داخل العالم الإسلامي والعربي، وأحبّ أن أبيّن بعض التمزاج بين الأسلوبية الصارمة وأسبابها. أولاً، لا ينفصل الجيل الجديد من الباحثين والمثقفين عن التأثر بالتغيرات الهائلة التي حصلت للعالم وفي كل الميادين التقنية والعلمية والحداثوية، وكذلك المتغيرات السياسية بعد 11 سبتمبر/ أيلول والذي هيّج وفتح منافذ جديدة لنيران البركان النائم في بلداننا العربية والإسلامية والذي يُطلق عليه حسب الحديث (الفتنة نائمة ملعون من أيقظها). وفي الحقيقة إننا كنا نشير بخجل الى ما ستفعله بنا هذة الفتنة، وشاركنا نوعاً ما في ترويض أنفسنا والمجتمع على النوم فيها وبناء ثقافتها بسبب لا جدوى الحلول، والاستسلام النفاقي، واليأس الغريب الذي نخر نفوسنا.
؟ هل ثمة أسباب آنيّة ومباشرة ساهمت في هذا المآل السوداوي بالنسبة إليكم؟
؟؟ انفجار البركان في العراق أثر بشكل كبير على تركيبتنا الإيمانية والنفسية وحتى الفلسفية، ومشاهدتنا لطقوس المذابح الكبيرة اليوم، وفي زمن السلطات القمعية وما حدث لنا جراء الحروب والدمار لكل شيء حتى دخول الجيش الأميركي لبلداننا النائمة والتي ايقظت فتنة التراكم الاستلابي للدين عموماً، والكيان العسكري الديني خصوصاً.. حدثت انهيارات كبيرة في مفاصل كانت متماسكة، وبالنوم فقط لا غير! وعندما انفجر كلّ شيء ظهرت نوايا الفتنة، والتي يعتبرها البعض مذهبية، بل هي في صميم التركيبة المعرفية الدينية والثقافة العسكرية للحياة الإيمانية. وهذه الانهيارات شملت جوانب كثيرة، منها الانهيار القيمي والفكري والحضاري، والظهور الواقعي لفعاليات الاقتتال العقائدي الداخلي، وصرامة السلطات وتجهيل المجتمع.. كلّ ذلك شكّل بوادر الصّرامة المنهجية والتي أشرتَ إليها في سؤالك.
لا نستخفّ بالموروث الدّيني
؟ هذا من جانب الظروف والأسباب الموضوعيّة لهذه المنهجية، ولكن ماذا عن الآثار العكسية التي يراها الآخرون من المؤمنين والمتدينيين؟
؟؟ إننا لا نسعى مطلقاً إلى تسخيف أو تهميش أو الاستخفاف بالموروث الديني، أو السعي إلى تهديم البناء الديني والروحي. لكننا تعلّمنا وتعوّدنا على أسلوبية الباحثين الكبار من خمسينات القرن المنصرم، والتي قامت على عدة مفاهيم أصحبت قواعد ثابتة للبحث في أنساق وخرائط الديانات والنقد الديني والتاريخي المعاصر أو قراءة الظواهر الدينية. ومن هذه القواعد؛ الدعوة إلى التقارب بين المناهج والأساليب وفق المادة الدراسية العلمية غير المنحازة، وهو فصل افتراضي وموضوعي، وكذلك تضخيم القوة اللغوية المفصولة عن ممارستها الواقعية لمشكلاتنا الرئيسة. واصحبنا نحن الجيل الجديد من الباحثين والمثقفين والذين تربّينا في حضن الذاكرة الدينية نعيش اضطرابات معرفية وفكرية هائلة لما نحن فيه، كوننا جزءاً مهمّشاً ومهملاً في مجتمعات العسكرة السلطوية والدينية، وكنا ومازلنا مواد دسمة للبحث الأكاديمي لأستاذتنا الكبار المعاصرين في مختبرات الجامعات والورش الفكرية والثقافية، ويرونا على أننا جزء من المشكلة وذواتٍ مفروغة من معناها، لهذا نرى دعوات الباحثين والمفكرين والمصلحين تتسم بالاسترخاء والدعوة للتسامح والشفافية والميوعة اللغوية الهائمة، منطلقة من ذوات لها آليات نبويّة عارفة بكل تفاصيل الكارثة! إلا أننا - نحن هذا الجيل - نعيش واقعة الكارثة نفسها، ونحن جزء منها، بل شاركنا بشكل مباشر أو غير مباشر على مساندة الكارثة. لهذا نحن نعيش ما يمكن تسميته الإحساس المباشر والفعلي بكارثة التاريخ الاستلابي المتورم بالقيح القديم.
؟ وبأي نحو تقدّمون الخلفية المنهجية لكتاباتكم وأبحاثكم في الدّينيات، والإسلاميّات خصوصاً، الموروث منها والمعاصر؟
؟؟ الخلفية المنهجية لكتاباتنا لا تنفصل عن اللحظة الوجودية المصاحبة للواقعة، ونقوم بعمليات إنقاذ معرفي في ممارسة الحفر داخل آليات الخطاب المعرفي للدين نفسه، ونحاول مزج آليات الخطاب الديني بإجرائية ومغامرة معرفية حداثوية تتسم بالمكاشفة الواقعية وفضح الذاكرة المتورمة بالوهم الأعظم المدسوس باعتباره حلاً لمخاوف العامة، ولم يعد لدينا خيار في التغيّر. والدخول بحتمية التغيّر أصبح واقعاً ملموساً، وليس لدينا كما ذكرنا أية تجربة عن آليات التغير نفسها أو ردود الأفعال المصاحبة لها وحجمها، وليس لدينا الخبرة الكافية والعملية في مواجهة الحدث (التغير) أو التوقعات المعرفية والحداثوية للتورّم التاريخي في عقل الأمة وما هي آليات العمل المصاحبة لأي انفجار بركاني تجاه هذا التاريخ والرغبة الكبيرة لدى المجتمعات المسحوقة تحت سلطة التدين المسيسس للخروج عن سلطة هذا التاريخ، كما هي في حال العراق الآن عندما نشاهد إيمانات تنهار بلمح البصر، وحرياتٍ سائبة، وفوضى مركبة، وظهوراتٍ لأشكال جديدة من الصراع والسلطة لم نرها كواقع فعلي معايش لهذه الانهيارات التي تسبق التغير أو في التغير نفسه؛ لأننا نسمع بالتغير ولم نعشه، فعرفنا بشكل ملموس وواقعي من خلال تجربتنا المعاصرة أن أحد شروط التغير هو انفجار البركان والتخلص من أورام التاريخ الخبيثة، لهذا قد يصاحب ذلك عندما نبحث في بعض سمات الصرامة والمكاشفة، وما نسميه بمنهج الواقعة، وهو غير مفصول عن الحدث الوجودي كمعنى، والواقعي ككيان فعلي، بل هو الحدث نفسه الساعي للغوص المباشر ومعايشة التغير نفسه، ومن الممكن قراءته بشكل يتلاءم مع حوادث الصدمة أو السعي إلى تثقيب الأورام التاريخية على الأقل مهما كانت النتائج.
؟ وهل ثمة تأثير مباشر للحوادث المحيطة بأداء الباحثين ومضمون أفكارهم وأسلوب طرحها؟
؟؟ طبعاً، لم يعد بإمكان الباحث في العالم الإسلامي والعربي، والعراقي بوجه الخصوص أن ينفصل عن الحس والانفعال الواقعي لما يمارس بحقوق الانسان من وحشيةٍ قلّ نظيرها في العالم من قبل السلطات المستترة باسم الدين أو الكيانات المتسلطة الدينية والعسكرية، وبشكل عشوائي مخيف، لهذا يمكن أن تحمل الأسلوبية النقدية المعاصرة للحدث العنفي هذه السمة الآن، وهي أسلوبية معايشة وتعنى بالواقعة الملموسة والمرتبطة بجذور فكرية، مثل واقعة العنف والتوحش الدّيني والآثار النفسية التي ربما تنتج أثراً وجوديا ومعرفيا يحمل سمات المنهجية الصارمة، ولكنها لا تنفصل عن المنظومة الفكرية المعاصرة والمهنية الأكاديمية والعلوم الحداثوية التي تسعى للتجديد وفتح آفاق معرفية وسلوكية وثقافية للمجتمع، وتحاول أن تحفر وتفكك منظومات صارمة واستلابية للدين العسكري.
الأثر البشري على الدّين
؟ لديكم اهتمامٌ مركز، ويكاد يكون محورياً، في بيان وتبيان الأثر البشري في خلق واختلاق الوثيقة الدّينية عبر التاريخ، ويُلاحَظ أنّ هذا الاهتمام يصل إلى حدودٍ ‘’متطرفة’’ -إنْ جاز التعبير - في الحكم التاريخاني على الأديان ووثائقها النصوصيّة، إلى حدٍّ يبدو أنكم - من الناحية المعرفيّة وليس الإيمانيّة - لا تتوثقون مطلقاً من وجود مرحلةٍ أولى طازجة للأديان، وبالتالي تقطعون الإمداد السماوي ابتداءً ونهائياً. وهذه الملاحظة، إنْ صحّت، لا تتلاءم مع توجّه ‘’براغماتيي’’ النقد الدّيني، والذين ينزعون إلى التسليم بلحظات النّقاء الأولى للأديان، ولكنهم يغلقون امتداداتها ويرون انتهاءها مع حركة الإنسان عبر التاريخ وتملّكه لهوية الأديان وتصريفاتها. ما تعليقكم على ذلك؟
؟؟ إننا نميّز بين مدارات عدة لما تسميه موضوع المرحلة الأولى أو الأصل النبوي ومشاركة الأثر البشري في صناعة الوثيقة الدينية، ويمكن لنا أن نشير باختصار عن بعض مدارات الوثيقة الدينية. فهناك أولاً مدار اللحظة الالهية في الذات النبوية، وهو يمثل أصل اللحظة الوجودية للنبي وبحثه عن المعنى الإلهي والأصل العرفاني الخالص للذات النبوية المتفردة مع الذات الالهية، وتعتبر هذه اللحظة الروحانية هي حصيلة روحانية وذوقية عالية النقاء والشفافية، وتمثل في تحول الأصل الذاتي للنبوة حقيقة خاصة مثل ما يسمى (بالحقيقة المحمدية) التي ترسم ملامح الحضور الروحاني لكلّ السالكين في طريق البحث عن الحقيقة الإلهية والانتماء إليها، وهذا لاشك في تلمّسه عبر وسائل خطابية مدوّنة في التاريخ الإسلامي، وكذلك من خلال الإحساس الذوقي لأية روحانية نقية، وكذلك يمكن متابعته من خلال سلوكيات ومعارف أهل التصوف والعرفان، ونحن نصدق وننتمي روحياً للحقيقة المحمدية؛ لأنها بناء سلوكي وتعليم ذاتي يملأ فراغات روحية ومعرفية حول عالم الغيب بالنسبة لأي باحث عن هذه الحقيقة، وهو حاجة وجودية عند أي انسان مؤمن في الدين الإسلامي.
؟ ومتى يتجلّى بالنسبة إليكم الأثر التاريخي في هذه المرحلة؟
؟؟ يكون ذلك في المدار الثاني، وهو مدار النبوة بوصفها وظيفة ربّانية ثابتة وسلطة التاريخ المقدّس. ففي هذا المدار نرى بوضوح الأثر البشري في إظهار الوثيقة الدينية وعلى كل الأصعدة، من النص الديني إلى العقل الإيماني إلى رسم خرائط الطرق الدينية. إذا نظرنا إلى النبوة كونها وظيفة ربانية لها شروطها وصفاتها وأسرارها الخاصة وإشارات الدخول فيها وعلومها، نرى أنها نظام روحاني متشعّب وقابل لأن يظهر باعتباره رسالة إلى البشر على أيدي الأنبياء الذين وصلوا إلى كمال إدراك الخطاب الرباني. نشاهد في هذا المدار ظهور ما يُسمى بالتكليف النبوي في الحياة حسب المصطلح الديني، والذي يخضع للظروف الزمانية المصاحبة له، ويتشكل وفق مزاج الذات النبوية ومعارفها، وكذلك يخضع لظروف لغوية ومناخية وعقلية لها علاقة بزمانية الظهور. إلا أننا نرى تشابك الرؤى بالنسبة لنا ونحن نقرأ تاريخ النبوة وظهوراتها. واختلاط هذه الوظيفة وعدم ادارك ماهيتها وكثرة صراعتها يجعل عملية اختلاط وتتبع الأثر والأصل الأول يبدو مستحيلا في زمننا المعاصر لاختلاط الزمني بالوحي والتاريخي بالسلطوي والنظم بالأخلاق. ويمكن القيام بقراءة واضحة في مدار وظائفية النبوة بوصفها فعلا حياتيا مقدسا وتاريخا ثابتا يتم من خلاله تجميع وتثبت وتداول ورسم ملامح السلطة الربانية وتكامل الخطاب الديني، وبدء المسؤوليات الواقعية في الحفاظ على الدين وتراثه وحفظ خطاباته وأبطاله ورجاله وكل ما يدور في فلكه، وكذلك تجميع الخطابات الربانية والأحاديث النبوية والقيام بعدة ممارسات إجرائية من أجل فصلها وإرجاعها للأصل وفق آليات الانتماء العقدي وظهور التقديس المفرط لكلّ شيء من الخطاب المقدس، مثل القرآن وتفسيره إلى تقديس العوائل المرتبطة بالهيكل النسبي للنبي وكذلك تقديس الصحابة والتابعين وتابعي التابعين حدّ التفاصيل المرتبطة بكلّ المؤمنين، وكذلك التقديس للأمكنة والأزمنة والتواريخ.
؟ ولكن ألا يتفق هؤلاء جميعاً على الأصول الأولى، وبالتالي إمكان تلاقيهم عند مشتركات نبويّة مركزّة؟
؟؟ يمكن أن يرى القارئ أننا نقوم بعملية تشكيك جديدة وواضحة في هذه الأصول، لكننا في الحقيقة نقوم بحفر معرفي لآليات هذه الأصول، وفصل لحظات ظهورها الفكري والمعرفي تاريخياً ومعرفياً وروحيا، وكذلك نبحث في منهجية الشك الجديد من أجل الوصول إلى يقينات جديدة تتلاءم مع زمننا المعاصر. وبحوثنا تركز في المجال التصادمي والعنفي في الكيان العسكري للدين، وتفكيك آليات الفعل التاريخي والنظام العقلي لهذه الكيانات، والتي أصبحت بكل امتداداتها التاريخية ثقلا فكريا واقعيا وسلوكيا يمارس في مجتمعاتنا، ولم نعد نتحمّل هذا الثقل الجسدي للتاريخ العسكري للدين، ولم يعد باستطاعتنا تجميل جثة شيخوخة التاريخ العسكري للربوبية الدينية وأفعالهم الرهيبة وتحطيم روحانية الدين الاسلامي بمعلميه وأئمته وتحوليه إلى وحش يبتلع كلّ شيء. وهذا الخطر الرهيب يلزمنا العمل على تسييجه فكرياً ومعرفياً على الأقل او دفنه (فإكرام الميت التعجيل بدفنه). وأمام هذه الخلطة التاريخية والعشوائية الفكرية العقائدية المتصارعة والتسافل الأخلاقي وموت الروحانية النافعة، علينا القيام بمراجعة صارمة لكل الوثوقيات التاريخية للدين بالنظر إلى كونه سلطة وعقلاً وتاريخاً.


يتضح في هذا الحوار بعض المناطق التي يتخلّق منها المعنى الصّدامي الذي ينتهجه الباحث العراقي وليد عبد الله في مقاربة الظهورات الدينية الحديثة، حيث يتوقف عند المالآت العنفية التي تلبّست الأديان، والإسلام خصوصا، بفعل التفسيرات العسكريّة والترهيبية لها، ويرى ذلك السّبب المباشر في رواج الأفهام الخاطئة عن الإسلام، لاسيما في العالم الغربي الذي يحمل أفكارا نمطية حول الإسلام بعضها ينطوي على حقائق واقعية نتيجة السلوك العملي للمسلمين والتفسيرات الرسمية لرجال الدين. وفي حين يُشكك البعض في جدوى عمليات التفكيك الصّارمة، فإن عبدالله يتفاءل بالنتائج المتوقعة جرّاء النقد العميق للمنظومات الدينية التقليدية، بما يؤدي إلى إنهاء أيديولوجيا عسكرة الإسلام، والتي يراها في تراجع مستمر. ومن بين الأعمال النقدية، يحتفي عبدالله بمنهجية الإسلاميات التطبيقية للمفكر محمد أركون، ويجد في هذه المنهجيات طريقاً لإعادة النبوة إلى وضعها الطبيعي باعتبارها رسالة إنسانية. في الجزء الثاني من الحوار، يقدّم عبدالله فهمه لمفهوم الوحي وعميلة النبوة، متطرّقاً لمفهوم العسكرة الدينية ومظاهره السلبية على الدين.
* من الناحية المعرفيّة الخالصة؛ ما هو مفهومكم المعاصر للتجربة الدّينية ولمقولة الوحي باعتبارها المكوّن الغيبي الأصيل في التجارب الدّينية؟
- الوحي مكوّن جوهري في الذات النبويّة، ومكمن وظائفي يتكامل من خلال عدة ممارسات روحية ومادية في السلوك النبوي معنويا وماديا، ومن خلال رحلة الأنبياء البحثية والمعرفية والتأملية في إدراك الخطاب الذاتي لهم وتعلّقهم الروحي بالغيب، المتمثل في المعنى الإلهي والذي يتشخّص في شكل كشوفات خاصة متعلقة بالذات النبوية في رحلتها الذاتية الخاصة. ولكن عندما يعلن النبي عن وجوده وفعاليته الروحية تظهر هذة الملكة المعنوية على أنها تمثل ما يسمى بالذاكرة الدينية والمخيال الإيماني (الوحي)، والتي تمثل العملية السرانية للتكوين الذاتي لحقيقة النبوة، وما تمثله من أبعاد معرفية وفكرية وروحية، ويدخل الوحي في مرحلة التشخيص التكليفي بالنسبة للأنبياء في ظهورهم العلني، ويُعتبر الواسطة المقدّسة لنقل الخطاب الإلهي من خلالهم، وتصبح شبكة العلاقات بين محاور نقل الخطاب (الرب+ الوحي+ النبي= خطاب مقدس) بعلاقة تنزلية وعملية معنوية متروكة لقوة الخيال الإيماني.
مفهوم الوحي النبوي
* هل يعني ذلك أنكم تنظرون إلى الوحي بوصفه ترجمة للعلاقة الرّوحية والإلهيّة عند الأنبياء؟
- نعم، إن الأحوال التي تمثّل تصوير عملية إنتاج الخطاب ونقله وتوصيله- بكلّ ابعاد هذه العملية - تحصل في المعمل الذاتي للنبي وفي داخل مكوناته التأملية الخاصة، والتي تعلن بصدق وإخلاص على أنها تمثل محاور معنوية لنقل الخطاب الإلهي (بواسطة الوحي) الذي يمثل المعنى الكامن للذات النبوية، ويقوم النبي بالترجمة العملية: المعنى الإلهي + الخطاب الكوني + ملكة الوحي= القرآن الكريم، والذي يُعتبر لغة رسالية لها علاقة بالواقع والحياة والتاريخ الإنساني وظروفه المكانية والزمانية المصاحبة لزمن الرسول.
* وهل ترون هذه العملية موحّدة بتفاصيلها مع كلّ الأنبياء؟
- إننا نرى في قراءتنا لظهور الوحي في الديانات، ومن خلال اللغة النبوية المترجمة للخطاب الإلهي المتمثل في الكتب المقدسة، أن هناك عدة تمظهرات وتنزلات مختلفة من نبيّ لآخر. ومن ذلك: كشف سمعي + تكليم ذاتي مباشر + كشف صوري+ تجلي مجرد=الوحي الموسوي. وكشف خيالي + رؤيا صورية + كشف مجرد غير مباشر + كشف ذوقي=الوحي الإبراهمي. وتجلّ ذاتي فرداني+ كشف سمعي + خطاب مباشر + توحّد رباني صوري=الوحي العيسوي. وكشف ملائكي + تجلّ صوري كياني إنساني + كشف سمعي وبصري + رؤيا مجردة + وتجل ذاتي= الوحي المحمدي. وكل هذه العملية المتحققة في ذوات الكيان الباطني والظاهري للنبوة؛ أنتجت خطابات دُوّنت ورُسمت في كتب مقدسة، كالتوراة والإنجيل والقرآن، وأصبحت دساتير دينية مقدسة ومواثيق عمل للمؤمنين والمعتنقين لتلك الديانات. لهذا يمكن القول إن الوحي عبارة عن وظائفية باطنية تتجلى بفعل سلوكي معنوي على ذات النبي، وهي عملية داخلية يترجّم النبي من خلالها خطابات الدعوة الدينية والأخبارية عن سلوك وتاريخ الرب والأنبياء، ومن خلالها يُعيد كلّ نبي ترتيب الخارطة التاريخية والدينية للأنبياء ويرسم التعاليم والتشريعات التي يؤسس عليها ملامح دعوته، وتصبح هذه العملية مقدسة بالنسبة للعقل الإيماني للمتدين، الذي يمجّدها بشكل خاص، ولها أثر روحي على الإنسان بشكل عام.
أيديولوجيا العسكرة
* هل تعتقدون أن تجارب الإصلاح الدّيني ومحاولات تحديث الخطاب الإسلامي وعصرنته - وبغض النظر عن تفاوت مستوياتها وتعدّد أدبياتها - سوف تؤتي ثماراً إيجابيّة لجهة التخفيف من البقع السّوداء التي عطّلت المعاني الإنسانية والحضارية في الإسلام، وشحنته بدوافع العسكرة التي اشتغلتم عليها مفصّلاً؟
-ظهر الإسلام العسكري بهذا الشكل الوحشي والمخيف تحت سلطة التقديس المفرط والربوبية الدينية الحاكمة بالنصّ والتاريخ والعقل الإيماني المتجسد بكيانات لها رغبة أبدية للاستيلاء على كل الحياة باسم المطلق المدوّن والتقديس الديني، وهو ليس وليد اليوم بل هو حقيقة تاريخية مارست تحويرها وظهوراتها ورسمت حدود ثقافتها من زمن ليس بقريب؛ إن لم نقل في بدايات الظهور الإسلامي وبعد وفاة النبي محمد (ص)، حيث تشكّلت ملامح أولى للتكوين العسكراني الرسمي للدين، وتطوّر حتى أصبح في القرن الثالث والرابع ثابتا وجوهرا دينيا باسم الجهاد المقدس. واختلطت بمعنى الجهاد نوايا وطموحات وثقافات وهيمنات تسلطية وملكية النزعة، وأصبح تأويلها لمفهوم الجهاد - وهو يتشكل مفهوما حربيا - يمثل الجوهر الدّيني، وهو يحمل صفات وإشارات التعبد الاستيلائي والسلطة المفرطة والتجسس على كلّ الحياة ومصادرة أي فكر يختلف معها. بل أصبحت ثقافة العسكرة الدينية تمارس سلوكاً وإيماناً تعصبيّاً ممزوجا بالوهم المغري والفعال، وأصبح يُنظر للدين من قبل المعتنقين لثقافة العسكرة وكأنه ثكنة عسكرية والمؤمنون جنود في ساحة حرب أبدية، حتى وان لم تكن هناك أية بوادر لخطر أو مواجهة يمكن أن تدعو للتجييش، بل أصبح التحشييد واجباً تعبّدياً مضمون النتائج المانحة لمنازل الشرف والرفعة الأبدية دنيويا وأخرويا. وأصبح يُنظر إلى الله جلّ وعلا كونه قائدا عسكريا عنيفا، وعلى العباد إطاعة الأوامر ليس كحقائق وجودية وروحية سامية بل أوامر عسكرية. أما الخلاص فمحصور في فكرة الشهادة والتضحية بكلّ شي من أجل إدامة زمنية هذة الثقافة الاستهلاكية والمفروغه من معناها، ولايمكن للمتدين الوصول للخلاص الغيبي بأعماله، بل عليه العمل من أجل تجنب العقاب الرباني فقط.
* ما هي الآثار أو التبعات التي ترونها قد وقعت نتيجة ما تسمونه بالعسكرة الدينية؟
- نعتقد أن وجود هذا الفهم المخيف للدين، وتضخيم هذا المعنى الوحشي يمكن أن يؤدي بشكل واضح الى سحق كلّ ما يمثل حضارة الإسلام الفكرية والروحانية، ويحصر الإسلام حسب هذه المفاهيم في خانة الإرهاب والتوحّش، كما ينظر العالم اليوم للإسلام كونه وحشا قاتلا وإرهاباً فكرياً وعقائدياً. ورغم أن هذه النظرة بها من الظلم الكبير، إلا أنها لا تخلو من المصداقية الواقعية، وذلك إذا نظرنا إلى الكيان العسكري المتمثل في كثير من الأحزاب الدينية والسلطات المتديّنة ومعظم الأصوليات التكفيرية الدينية في الإسلام، والتي يهوّل لها الإعلام الغربي. ويمكن أن نعتبر رحلة الباحثين والمفكرين الكبار في دراسة وتحليل المنظومات الفكرية والدينية قد أرسلت خطابات كثيرة وكبيرة إلى العالم، وساهمت بشكل كبير في فتح آفاق معاصرة للمعرفة والخصوبة العقلية وتأسيس وعي معاصر قادر على النهوض والتأثير على المجتمع، ويشارك في بناء الإنسان العربي والإسلامي المستقلبي، ونحن نتفاءل ولاننفك ابداً عن تجربة الحداثة والعلوم المعاصرة التي نتبعها منهجاً علمياً ومعرفياً لممارسة حفريات معرفية على بنائية الخطاب المقدّس، واستخدام عدة مناهج في ذلك، ومنها الأنثربولوجيا الثقافية والتاريخية للدين والأديان المقارنة.
نجاحات في تفكيك المنظومات التقليدية
* ولكن هناك منْ يعتقد أن هذه التطبيقات لم تثمر شيئاً ولم تحقق نتائجها. فما رأيكم؟
- إننا نشعر أن ثمار المعارف الحداثوية بدأت في الظهور كواقع مباشر وحلٍّ وجودي لمشاكل الدين والحياة العربية والإسلامية. كذلك نرى ملامح الإسلاميات التطبيقية والثورة الفكرية الهائلة التي زرعها الأستاذ الكبير محمد اركون والآخرون من خلال مناهجهم العلمية الدقيقة ومحاولاتهم المعرفية لتفكيك المنظومة التقليدية الدينية، فقد بدأت تنمو بشكل فعّال وتخفّف أو تساعد على الحدّ من فعاليات التوحّش والإزاحة والتدمير الذاتي في الديانات عموماً والإسلام خصوصا، ونرى حصول تحولات لو بسيطة إلا أنها مؤثرة في انصياع كثير من الأنظمة والأحزاب السياسية والفكرية والدينية لجبرية الانفتاح على العالم وخوض تجارب الحداثة رغم تباين المسافة الزمنية والعقلية والتقنية وظهور العسكرة الدينية بكل ثقلها، إلا أن الرهان الوجودي حول العنف لا يمكن أن يتواصل مادام هناك قوى معرفية وفكرية وقوى إنسانية فاعلة في توصيل المعلومة المعرفية والتربوية والإنسانية.
* ما هو مصير المفهوم العسكري للدين في الإسلام؟ هل هو في أحسن أحواله أم أنه آيل للزوال؟
- إننا نتلمس وبشكل واضح نهاية العسكرة الدينية في الإسلام، وعندنا شواهد تاريخية لكثير من الديانات في العالم انتهجت نفس هذا النهج الدموي المريض، المسيحية مثلا، والتي تخلت عن التسلط الدموي في القرون الماضية القريبة ونزعت ملابس المسيح العسكرية والرتب الحربية وألبسته ثوبه الحقيقي في المحبة والسلام والتسامح، وهذا ما أدى إلى تواصل المسيحية معرفياً ولاهوتيا وبشكل سلمي على الأقل وانشارها في العالم رغم كل الكوراث الدموية التي مارستها بحقّ الإنسان والعـــالم، لكنهــا استطاعت أن تســـاعد اليوم في افساح المجال لطاقـــات الإنســـان في الإبداع والإنتاج العلمي المعاصر والمتحـــــقق في الحضــــارة الغربية اليــوم. لهذا نرى أن الوقت قد حان لفصل الدين عن هذا التسيس المتهور والعسكرة الوحشية والسلــــطة القمعية، والعمل على تظهير المعنى الحقيقي للنبوة المحمدية باعتبارها رسالة إنسانية.
لقد أصبح من البديهي والمعلوم أن الإنسان يحتاج إلى ربّ يتلمس رحمته وينتفع بوجوده. ويكفينا القتال من أجل مجهول لا نعرفه



#وليد_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- معسكرات الله في الدين الاسلامي


المزيد.....




- نزل تردد قناة طيور الجنة الان على النايل سات والعرب سات بجود ...
- آية الله السيستاني يرفض الإفتاء بحل -الحشد الشعبي- في العراق ...
- بالفيديو.. تظاهرة حاشدة أمام مقر السراي الحكومي في بيروت تطا ...
- مغردون يعلقون على التوجهات المعادية للإسلام لمنفذ هجوم ماغدب ...
- سوريا.. إحترام حقوق الأقليات الدينية ما بين الوعود والواقع
- بابا الفاتيكان: الغارات الإسرائيلية على غزة ليست حربا بل وحش ...
- “ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 على النايل ...
- وفاة زعيم تنظيم الإخوان الدولي يوسف ندا
- بالصور.. الزاوية الرفاعية في المسجد الأقصى
- جماعة -الإخوان المسلمون- تنعى الداعية يوسف ندا


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - وليد عبدالله - انهيار القيم يستوجب أسلوبيّة صارمة ضد الكيانات الدّينيّة