|
البحث اللاهوتي السياسي
عصام عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 2157 - 2008 / 1 / 11 - 11:08
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أجمل "أسبينوزا" Spinoza (1632 – 1677) العقائد الشائعة في عصره وعرضها في كتابه "البحث اللاهوتي السياسي" Tractatus Theologico-Politicus عام 1670، والأهم من ذلك انه تعمق الوظيفة السيكولوجية والاجتماعية للمعتقدات الدينية، وحسب "برنشفيك": "فإنه مثلما وضع ديكارت أسس التحليل الخالص والفيزياء الرياضية، فكذلك يعد اسبينوزا واضع المنهج السيكولوجي والاجتماعي الذي هو أساس علم التفسير الحديث". وأعرض في هذا المقال ، وبتصرف ، كتاب " اسبينوزا " للمفكر الكبير الدكتور فؤاد زكريا أطال الله في عمره ، فنحن أحوج من أي وقت آخر لكتاباته وتبصراته ، وللقضايا التي عالجها من خلال فلسفة اسبينوزا تحديدا . يرى اسبينوزا أن السعي إلى معرفة الله يمكن أن يسمى أمرًا إلهيًا، لأن الفكرة الآلهية كامنة فينا، وهي التي تدفعنا إلى هذا السعي. وهو يعرَف الإيمان بأنه "معرفة الله"، بدونها تستحيل طاعته، وقد يتمثل في هذه الطاعة وحدها وقبل ذلك يقول: "إن طاعة الله لا تكون إلا في حبنا للجار". أي أن طاعة الله إنما تكون في حسن معاملة الناس. ليست للعقيدة الدينية، في رأيه، أية وظيفة نظرية تتعلق بالمعرفة: ففي كل الميادين المعرفية يسيطر العقل بلا منافس. بل إن للعقائد وظيفة عملية فحسب، ولا أهمية على الإطلاق للأساس النظري الذي ترتكز عليه هذه العقائد طالما أنها تؤدي وظيفتها العملية على النحو المنشود. في موضع آخر يعلق على عدم أهمية المذاهب النظرية بقوله "ليس لأحد أن ينكر أن الإيمان بهذه المذاهب ضروري لكي يستطيع كل شخص بلا استثناء، أن يطيع الله وفقًا لما يقضي له الشرع ... أما ما يكونه الله، أو المثل الأعلى للحياة الحقة، في ذاته، من حيث هو نار أو روح أو نور أو فكر أو أي شيء غير هذا، فهذا في رأيي أمر لا شأن له بالإيمان. فلكل أن يفكر في هذه الأمور كما يشاء" ... وهكذا يبيح اسبينوزا جميع الاختلافات النظرية حول العقيدة ؛ وبالتالي لا يعترف بأية قيمة للأسس النظرية؛ طالما أن الغايات العملية للعقيدة تتحقق. الظاهرة الدينية – كما يرى – ظاهرة بشرية قبل كل شيء، يسعى الإنسان عن طريقها إلى تحقيق أمان معينة وتجنب مخاوف خاصة. هذا الطابع البشري للظاهرة الدينية يؤدي إلى القول بأنها نسبية، أي أنها ككل ظاهرة بشرية أخرى، متطورة ذات تاريخ، ومن الممكن أن تفسر تفسيرًا كاملاً من خلال تاريخها هذا. وقد تضمن كتابه هذا محاولة مفصلة لعرض الكتب المقدسة – اليهودية على الأخص – من حيث هي تعبير عن ظاهرة تاريخية واجتماعية، ولربط تعاليمها بطبيعة العصور التي ظهرت فيها، وإنكار وجود أية دلالة مطلقة لها، تسري على كل عصر. طوراسبينوزا فكرة فصل الدين عن الدولة كما بلورها مكيافيللي ، وهوعلى العكس تماما مما ذهب إليه مكيافللي ، يؤيد خضوع السلطة الدينية للسلطة المدنية، إذ أن ذلك كفيل بعدم تغليب دين على دين، وضمان الحرية لجميع الأديان، بحيث لا يصبح لأحدها سلطة قاهرة على أصحاب العقائد الأخرى. ولأن اسبينوزا لا يحفل بالمظاهر الخارجية للعقائد الدينية، طالما أنها تؤدي غرضها العملي، فإن خضوعها للسلطة السياسية معناه قبول مختلف الآراء والمعتقدات على قدم المساواة في ظل قانون مدني متسامح مع كل أشكال العبادات. إن فكرة فصل الدين عن الدولة عند اسبينوزا مختلفة تمامًا وجديدة تمامًا ، فهو يريد من الدولة أن تشرف على كل شيء، بحيث تكون مصالحها دائمًا هي العليا. وإذا اعترض عليها بأن أصحاب السلطة الزمنية قد يكونون أشرارًا، يرد هذا الاعتراض بقوله بأن رجال الدين بشر أيضًا وهم معرضون للخطأ. ولو كانوا أشرارًا فلن نجد من يفسر لنا المعنى الصحيح للتقوى. بل إن الضروري في الحالة الثانية أعظم، إذ أن خطأ الحاكم يمكن إصلاحه، أما رجال الدين فإنهم إذا ارتكبوا خطأ ظلوا ينسبونه إلى السلطة الإلهية ويحتمون بها، وبذلك يظل الحطأ قائمًا، بل يتخذ مظهرًا مقدسًا بحيث يكون من أصعب الأمور التخلص منه. هذا من ناحية ، من ناحية أخري فإن اسبينوزا من أوائل الفلاسفة الذين حاولوا "تفكيك" الأصولية الدينية التى تقدم نفسها باعتبارها الحقيقة الإلهية المطلقة ، بالكشف عن طابعها البشرى أو الأرضى . وأدى هذا الربط بين الظاهرة الدينية وبين الظروف الاجتماعية والتاريخية ، إلى نوع من سعة الأفق فى النظر إلى هذه الظاهرة ، بحيث استطاع اسبينوزا أن يتأمل فى تسامح كل العقائد ويفهم مغزى كل منها فى ضوء ظروفه الخاصة ، وعبر عن ذلك فى مراسلاته مع "ألبرت بيرج" Albert Burgh ، الذى كان يمثل وجهة النظر الدينية المتعصبة . ففى الرسالة رقم (76) يرد اسبينوزا على أسئلة "بيرج" وعلى انتقاداته قائلاً : "أما أنت ، يا من تظن أن عقيدتك خير عقيدة ، فكيف عرفت ذلك ؟ هل اطلعت على كل العقائد ، الشرقية منها والغربية ، ما ظهر وما سيظهر ؟ أليس لكل صاحب عقيدة أخرى نفس الحق فى أن ينظر إلى عقيدته على أنها أفضل العقائد؟ هكذا كان اسبينوزا يضيق بالتعصب لأى نص دينى بعينه ، أو أية تعاليم على التخصيص ، وهو ما جعله من أنصار حرية الفكر على مر العصور ، بل أن التسامح والحرية عنده وجهان لعملة واحدة . ويرى اسبينوزا أن للمرء الحق فى مخالفة الحاكم فى تفكيره كما يشاء . ففى مجال التفكير ، وفى مجال العقل – مادام صادراً عن العقل لا الانفعال – ينبغى أن تسود الحرية التامة ، على ألا تتنافى مع القانون . أما كبت حرية الفكر فلن تؤدى إلا إلى الرياء والنفاق ، وهو صاحب أشهر وأعمق مقولة فى الحرية والتسامح : "ما لا يمكن منعه يجب السماح به" . يقول اسبينوزا : "هب أن الحرية قد سحقت ، وأن الناس قد أذلوا حتى لم يعودوا يجرأون على الهمس إلا بأمر حكامهم . رغم ذلك كله فمن المحال المضى فى هذا إلى حد جعل تفكيرهم مطابقاً لتفكير السلطة السائدة ، فتكون النتيجة الضرورية لذلك هى أن يفكر الناس كل يوم فى شئ ويقولوا شيئاً آخر ، فتفسد بذلك ضمائرهم . ويكون فى ذلك تشجيع لهم على النفاق والغش. أما إذا كانت الوسيلة إلى كبت الحريات هى ملء السجون بالأحرار ، فإن اسبينوزا يعلق على ذلك بقوله : " أيستطيع المرء تصور نكبة تحل بالدولة أعظم من أن ينفى الأشراف وكأنهم مجرمون ، لا لشئ إلا لأنهم يؤمنون بآراء مخالفة لا يستطيعون إنكارها". وبمثل هذا الدفاع المجيد عن حرية الفكر يختتم اسبينوزا كتابه "البحث اللاهوتى السياسى" الذى كان قد بدأه بدفاع مماثل ، من خلال حملته على التعصب الدينى .
#عصام_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البابا شنودة والكاردينال جيرسن
-
مستقبل الأقليات في الشرق الأوسط
-
في ذكري ابن رشد
-
المفارقة التاريخية
-
الحكمة الجماعية
-
الشرطة الدينية
-
أرض الأحلام
-
باقة ورد إلي الحوار المتمدن
-
أصل الدستور الأمريكي
-
في اليوم العالمي للفلسفة ..
-
أحذر الديموقراطية القادمة !
-
هل الحداثة إرادة سياسية ؟
-
ضبط الكلمات .. العولمة نموذجا
-
كيف أصبحت الإمارات رمزا للتسامح ؟
-
الدولة القمعية
-
شعار التنوير
-
الأسس الفلسفية لليبرالية
-
مسائل تخص العقل والإيمان
-
أليست فكرة جديرة بالتمثل ؟
-
ماذا بقي من الدولة ؟
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|