عندما نتكلم على الخلافة العباسية يتبادر الى أذهاننا سريعا كتاب ألف ليلة و ليلة، وقصصه التي سمعنا بها عندما كنا صغارا. فعلاء الدين و مصباحه السحري و السندباد البحري و علي بابا و قصص كثيرة أخرى قد ترسخت في أذهاننا و بنينا عليها مخيلاتنا و أحلام طفولتنا.
و الآن، و بعد أن تقدم بنا العمر، فحينما نسمع عن العباسيين شيئا، يشتعل ضوء أحمر ساطع ليذكرنا بما قرأناه عن مجالس طربهم و غنائهم و رقصهم، و سباحتهم بالشهوات، شهوات الشراب و شهوات الجواري. جواري الدنيا و الأرض اللواتي كان الخلفاء العباسيون يفضلوهن على جواري السماء و الجنة. إنهن بالنسبة لهم: _فختاية_ في اليد خير من عشرة على الشجرة، و جارية تداعبهم في الحياة الدنيا أعذب و أرق من أخريات يداعبنهم في الحياة الآخرة.
و قد أعطانا الخليفة العباسي المتوكل على الله، و الذي يسمونه، ذوي الدشاديش القصيرة و المجرمون بالإسلام، بمحيِ السُّنة و مبطل البدعة، مثلا يصلح أن يصبح موضوع دراسة عن النهم و الشبق الجنسي الحيواني العنيف، و مثلا لنعده صاحب رقم قياسي في الإنعاظ، إذ كانت لديه، و كما يذكر المسعودي، أربعة آلاف حظية وطئهن جميعهن.
و لم يكتف الخلفاء بالحواري فقط بل حوَّلوا أنظارهم الى الولدان المخلدين، فتطن برأسي أبيات شعر قالها إبن أبي النعيم:
أميـرنا يرتشـي ، و حاكـمنا ………يلوط، و الرأس شر ما راس
قاض يرى الحدَّ في الزناء، ولا…..……يرى على من يلوط من باس
ما أحسب الجور ينقضي وعلى الـ…...أمـةِ والٍ مـن آل عبـاسِ
و تتبادر الى الأذهان أيضا ما قرأناه عن المكائد و المؤامرات، فهذا ينافق في حضرة الخليفة ضد ذلك، فتتحرك عجلة المؤامرات لتسحق هذا في السجن أو تغدر به بذلك بالسم أو تغتاله طعنا بالسيوف، و يُـقتل الخليفة ليحل الآخر مكانه. ثم يأتي ولي عهد ليقتل الخليفة و يجلس على عرش الخلافة، و هكذا.
و باسم الإسلام كان يحدث كل شئ، و كانت المساجد تصرخ بأعلى اصوات وعاظ سلاطينها بالدعاء للخليفة، ثم تعود لتستبدل الخليفة بآخر كان قد قتل الأول غدرا، بطعن أو بتسميم.
و ينام الناس على اسم خليفة ليصبحوا على اسم خليفة آخر. فمات الخليفة و عاش الخليفة، و مات الملك و عاش الملك، و نفق جحا و ولد إبن عمه.
و تأتي الى الذاكرة أيضا الغزوات و الحروب التي تستعبد هذا الشعب و ذاك، و ما دام الاستعباد و القهر واقعا على شعب آخر فهذا شئ يعظِّمَه المدافعون عن الحروب و نهب الشعوب و يمجدونه و يتحول خليفة ذلك الوقت و قائد جيشه قديسا تصعد قدسيته الى السماء بدعاء وعاظ السلاطين و بركات القضاة.
مواقع بعثية دموية و طائفية إجرامية تكتب عن سقوط بغداد
لقد قرأتُ في مواقع طائفية وهابية عن "سقوط بغداد عاصمة الخلافة العباسية" ، فكتب أحدهم، من ذوي الدشاديش القصيرة و اللحى المتعفنة، يذكر أنه "كان لقضاء المغول على الطائفة الإسماعيلية وقع حسن عمَّ العالم الإسلامي على الرغم مما عانوه من وحشية المغول و تدميرهم". ثم يستمر ليقول : " نجح هولاكو في تحقيق هدفه الأول بالقضاء على الطائفة الإسماعيلية و تدمير قلاعها و إبادة أهلها".
لم يهم الكاتب شيئا ما دام الخراب قد حلَّ بآخرين سودا كانوا أم بيضا أم صفرا، بل يفرح لأن المصيبة وقعت على الغير، و لم تتحرك في نفسه شعرة شفقة أو رحمة تاريخية.
و لكن هولاكو استمر في طريقة الى بغداد ليواصل تحقيق هدفه الثاني في التوسع، وعـمَّ العالم الإسلامي حزن و بكاء بدل ذلك الوقعٌ الحسن و الفرحٌ الذي عـمَّ أولئك الذين افتخروا و فرحوا لوحشية المغول و هي تطبق على الطائفة الإسماعيلية أو غيرها من الطوائف و الشعوب.
و على الرغم من مرور قرون عديدة و طويلة، تذكرنا همجية البعثيين و رفاقهم من ذوي الدشاديش القصيرة بهمجية المغول، و يذكرنا صدام الدموي بجنكيزخان و هولاكو. بل إن وحشية المغول و همجيتهم لم تصل الى الدناءة و الوحشية التي قام بها البعثيون و الوهابيون في اغتيال الأبرياء من الرجال و النساء و الأطفال العراقيين.
بعد القضاء على حكم الدم و الغدر الذي طغى في العراق على مدى الأربعين عاما الماضية، حاول العفالقة البعثيون، و مرتزقوهم من الأعراب و آخرون، ربط إنهيار هذا الحكم الارهابي و مقارنته بانهيار حكم المستعصم، و نهاية الخلافة العباسية في بغداد، على أيدي التتار. إن المجرمين البعثيين و الإرهابيين من الوهابيين الـ -بن لادنيين- و من لف لفهم يدقون على نفس الآلات و يرقصون في المرقص نفسه.
الممجدون للإرهابيين يفرحون لما يقع في العراق من إجرام و قتل، على أيدي الدمويين البعثيين و على ايدي الوهابيين، و لكن عندما دخل الإرهاب أراضي السعودية بدأ المجرمون يمضمضون بأفواههم، لأن الإرهاب قد مسّـهم.
و حاول الإرهابيون تعليق سبب سقوط العباسيين و قتل المستعصم على أكتاف وزيره إبن العلقمي، ليتركوا الخليفة وقائد الجيش و الآخرين من المخصِّـين من حائكي المؤامرات و الإغتيالات بعيدا عن أسباب السقوط، و يبرئون ساحتهم بل و ينزهون موقفهم.
يتهمون إبن العلقمي المثقف و معروف الأهل و النسب و الحسب ليبرئوا قائد الجيش المملوك المخصي، الذي اختطفه الجيش العباسي في إحدى الحروب، أو أسره، أو من الذين بيعوا في سوق النخاسة.
إن البعثيين و الوهابيين صفقوا لمنكَـر الأصل و النسب، المجرم صدام، مثلما دافع سلفهم الطالح عن المماليك المخصيين. لقد صحب اللئام لئام الأصل.
و كما يقول الشاعر الغرناطي الخضر بن أحمد بن الخضر بن أبي العافية:
و أصحب كريم الأصل ذا فضل فمن ……. يصحب لئيم الأصل عُـدَّ لئيما.
لقد كتب الدكتور علي الوردي في (تاريخ العراق الحديث) إن المماليك لم يكن لهم آباء يراقبونهم و يحرصون على سلامة أخلاقهم، و لهذا كانوا ينجرفون في طريق الانحراف دون رادع أو حياء. فالمماليك حين كان يُؤتى بهم و هم صبيان الى بغداد، قد يتعاطون اللواط فيما بينهم أو يتعاطاه معهم المعلمون. فهل يريد علي الوردي أن يذكرنا بما حل بصدام الدموي المنكر الأب و فاقده؟
من المسؤول عن سقوط الدولة العباسية؟
ترى هل كان إبن العلقمي هو المسؤول عن سقوط الدولة العباسية ؟ و في حالة كونه مسؤولا فهل كان هو الوحيد، أم أن هناك أشخاصا آخرين و أسبابا أخرى أدت الى سقوط العباسيين و إنهاء دورهم في حكم العراق، هذا الحكم الذي كان لا يستند الا على القسوة و العرصنة و هز بطون الجاريات؟
قبل الدخول في صلب الموضوع يجب أن نعرف:
*أن إبن العلقمي هو شيعي المذهب، و إن الذين كتبوا ضده هم من معادي الشيعة الى حد بعيد لا يمكن تصوره، الى النخاع، و إذا عرف السبب بطل العجب. و يأتي الأحفاد الإرهابيون ليستعملوا نفس الاسطوانة المشروخة، لتبرير المجازر التي قاموا بها ضد الشيعة في أفغانستان و مثلهم مثل سلفهم الطالح الذي قام بمذابح قبل قرون في أيام الدولة الأموية و الدولة العباسية و الإمبراطورية العثمانية .. الخ، ويستمرون بأعمالهم الإجرامية حاليا في باكستان و في العراق أيضا. و لا أعني بهذا أن إجرام الإرهابيين لم ينل الناس من غير الشيعة، بل على العكس فإنه بالنسبة للمجرمين لا فرق بين هذا الإنسان و ذلك، و لا فرق بين عربي و أعجمي بالقتل و الإرهاب.
و تؤكد انفجارات الأول من رمضان لهذا العام أن الإرهابيين لا يريدون القتل إلا لأجل القتل لتأكيد طبيعتهم الإجرامية الدموية و المعادية لكل إنسان عراقي و سلامته. و هكذا فلم يسلم من اغتيالاتهم لا الطفل و لا المرأة و لا الرجل و لا العجوز، مهما كان لون جلدة الضحايا أو عقيدتهم. و لم تسلم كذلك المساجد من تفجيرات قنابلهم.
و لا يمكننا أن نفرق المجرمين من البعثيين و الوهابيين عن أقرانهم من المغول.
* استخدم معادو الشيعة اسم إبن العلقمي و جعلوه شماعة يعلقون عليها أسباب فشلهم في الحياة، و عند تعليق التهمة برقبة الوزير، الشيعي، فلماذا لا تعلق كل تهمة و كل فشل برقاب الشيعة. هؤلاء الشيعة الذين لم تستطع أقوى قوة اضطهاد في التاريخ أن تمحيهم من على وجه البسيطة.
*إن الكتاب المؤرخين الذين ينضحون بالعداء للشيعة و لابن العلقمي من الذين كتبوا عن سقوط العباسيين قد ألفوا كتبهم في هذا الموضوع بعد سنوات عديدة من انتهاء حكم العباسيين في بغداد، فملئوا كتبهم بالشتائم و التزوير و الكذب. فلم يكن الصحاف هو الكذّاب الأول، و لم يكن قرينه النازي غوبلز هو الذي ابتدع نظرية: اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس، بل أن قبلهم بقرون كثيرة قام بالكذب و التزوير المدافعون عن الإضطهاد و الوحشية الأموية و العباسية….الذين أرَّخوا و كتبوا يمجِّـدون سلاطين القهر و العهر.
* و إن قسما من هؤلاء المؤرخين قد أظهر في كتاباته تشنجه و حقده الكبير فاستعمل كلمات سوقية ، ككلب و خنزير مثلا، عندما وصف إبن العلقمي.
يتبع
محيي هادي - أسبانيا
تشرين الثاني/20003