المتابع للحركة الثقافية العراقية على مدى الخمسة عقود الماضية، سيجد هناك تذبذباً واضحاً في مسيرة هذه الحركة. وشهدت فترة الخمسينيات حركة ثقافية نشطة، وساهم جيل الخمسينيات مساهمة كبيرة في تنشيط الحركة السياسية العراقية وكان له دوراً مشهوداً من خلال الشعر المناهض للسلطة السياسية. وكانت السلطة السياسية تتحسب للمثقفين، فالقصيدة الشعرية كان لها فعلها في تحريض الشارع العراقي ضد السلطة. وكان اعتقال مثقفاً ينذر بتفاقم الأوضاع، لذا كانت علاقة السلطة السياسية مع المثقف في مد وجزر بالوقت الذي لم يكن عدد المثقفين يتجاوز العشرات ولكن كان خطابهم واضحاً ومؤثراً.
ومع مطلع الستينيات، تراجع دور المثقف على الصعيد السياسي بالرغم من تضاعف عدد المثقفين وبات صوت السياسي أكثر طغياناً على صوت المثقف بل أن السياسي عمد على تجير صوت المثقف لصالحه وتهميش دوره على صعيد المجتمع.
واختلفت آليات السياسي في تعامله مع المثقف، فبعد أن كان الخط الوطني المناهض للسلطة السياسية في العهد الملكي هو الجامع بين السياسي والمثقف أصبح السياسي في العهد الجمهوري يمسك بزمام السلطة السياسية ويستخدم آلياتها في تهميش وقمع المثقف.
وجاء انقلاب 8 شباط لعام 1963 بسياسة جديدة في التعامل مع المثقف، حيث تم استخدام العنف المفرط مع المثقفين وتراجعت الثقافة بسبب استيلاء السياسي الجاهل والأمي ( من العسكر والرعاع) على السلطة السياسية.
ومع انتهاء سلطة الرعاع في منتصف الستينيات، شهدت الحركة الثقافية نوعاً من النمو والازدهار، وبرز جيل جديد اسهم في رفد الحركة الثقافية بالشيء الكثير. وبالمقابل فأن الحركة السياسية لم تشهد تطوراً يعيد الأمور إلى نصابها بل العكس أصبحت السيادة للجهلة والأميين على قيادات الأحزاب والسلطة السياسية.
وأخذ الصراع بين المثقف والسياسي طوراً أخراً، فبدلاً من المساهمة الإيجابية للمثقف في الفعل السياسي وقيادته عمدت قيادة (الجهلة والأميين) على تحجيم دور المثقف وإخضاعه للهيمنة وجعله أداة لتبرير المواقف الخاطئة للسياسي.
ومع عودة سلطة الرعاع ثانية في العام 1968 إلى الحكم (وهذه المرة ضمت في صفوفها عناصر أشد تخلفاً وأمية) اعتمدت بشكل أساسي في إدارة سلطتها على (المتريفين) وهم خليط من أنصاف البدو-الريفيين انقضوا على الحياة المدنية وانهوا جميع مقوماتها.
وكانت الفترة الأشد ظلاماً، هي حكم الطاغية الهارب من وجه العدالة وعائلته وأقرباءه من البدو الأجلاف الكارهين لأي فعل ثقافي وعلمي!!. وبالمقابل دخلت الأحزاب السياسية الأخرى في سباق وتنافس مع قيادة السلطة من أجل احتواء الجهلة والأميين في قياداتها لكي تكون بينهما لغة مشتركة، أسفرت عن تحالف جبهوي في العام 1973. وهذا التحالف هو الذي مهد الطريق نحو الكوارث المتلاحقة الذي شهدتها المرحلة حتى سقوط الطاغية ونظامه في التاسع من نيسان 2003.
ودفع المثقف العراقي ثمن ذاك التحالف غالياً، فكان نصيبه من القهر والتنكيل والمنفى ما يفوق عشرات المرات ما تعرض له السياسي الجاهل والأمي، وتراجعت مسيرة الثقافة والعلوم على جميع الأصعدة.
المثقف وسلطة الرعاع من الجهلة والأميين:
شهدت المرحلة الثانية من حكم البدو الأجلاف، صراعاً بينها وبين الأحزاب السياسية لاحتواء المثقفين واستخدمت جميع الأساليب لإعادة الاصطفاف للمثقفين مع الحركات السياسية. واعتمدت سلطة الرعاع سياسة الجزرة والعصا لتقاسم ولاء المثقفين مع الحركات السياسية الأخرى، ونجحت في احتواء أعداد (لأبأس منهم) للترويج لسلطة الرعاع الثانية. وساهم التحالف الجبهوي (غير الشريف) بهذا الترويج الإعلامي من أجل إعادة رسم صورة جديدة لحكم الرعاع على المستوى المحلي والدولي!!.
وتم الترويج الإعلامي بصحة نظرية (الهرم المقلوب) في عالم السياسة حيث يجد ((جبرا إبراهيم جبرا)) أنه في هذا العصر أصبح الرأي يتبدل بسرعة بعكس الأعصر القديمة، حيث يمكننا القول: أن حقيقية الأمس هي كذب اليوم، وحقيقية اليوم هي كذب الغد.
وبات الشعار الأكثر رواجاً في عالم الثقافة في ظل سلطة الرعاع هو سفك الدماء وشراء الضمائر ، ودخلت الثقافة في نفق مظلم واقتصرت على التمجيد بالطاغية وتبرير حروبه القذرة وانتهاكه لحقوق الإنسان.
ويعبر عن ذلك ((محمد حسنين هيكل)) بقوله: عندما يتواصل سفك الدم تموت الأعصاب، وحين تموت الأعصاب يموت الضمير، وعندما يموت الضمير تموت الثقافة، وعندما تموت الثقافة يتساوى الإنسان في المدينة مع الوحش في الغابة تاركاً روحه وعقله في كهوف الظلام.
ضمن هذه الصورة التراجيدية، ومع انهيار الحلف غير الشريف للجبهة الوطنية وجد المثقف الحقيقي نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما: أما الاصطفاف مع سلطة الرعاع وقوى الشر وإما المنفى. وكانت ((بيروت)) قبلة المثقفين، بل قبلة (المهزومين قسراً من معركة قادها السياسيون) ، وهناك بدأت الأسئلة الصعوبة تطرح (من المسؤول عن الكارثة؟) وكانت القاذفات الإسرائيلية تطلق صواريخها لتعيد صياغة الأسئلة الأكثر صعوبة (من المسؤول عن هذا التردي للواقع العربي؟).
تحالفت من جديد قوى الشر في بيروت ضد المثقفين العراقيين، فلم يكن القصف العشوائي للعدو الإسرائيلي والحرب الأهلية اللبنانية فقط إيذاناً بالرحيل نحو منفى آخر، بل تكالبت قوى الأميين والجهلة ومارست أساليب القمع وإغلاق الأفواه بسدادات الإرهاب وقطع الأرزاق لوضع حد لطرح الأسئلة الصعبة عليهم وتحميلهم المسؤولية عن الهزائم والكوارث التي حلت بالمجتمع!!.
وعادة من جديد سياسة الترويج للكذب والخداع والتبرير لتلك الهزائم والكوارث، وتقدمت القافلة من جديد شلة من الديناصورات والجهلة والأميين لتقود ما تبقى من خيرة شباب العراق ومثقفيه إلى معارك كارثية أخرى!!.
وباتت الحقائق تزيف على رؤوس الأشهاد دون أي رادع أو خجل، ويجد ((الطيب صالح)) أنه في لحظة تتحول فيها الأكاذيب أمام عينيك إلى حقائق ويصير التاريخ قوداً ويتحول المهرج إلى سلطان.
وتعددت المنافي للمثقفين العراقيين، ورحل عدداً من الديناصورات بغير محاسبة يجرون وراءهم الخيبة والذل ومازالت مقولة ذاك الشهيد (سنجعل من الجماجم العفنة للديناصورات كراتً تتقاذفها الأرجل في شوارع بغداد) بانتظار تطبيقها وفاءاً لتلك الدماء الطاهرة.
يقول ((نيتشه)) أنني أحلم بقيام جماعة من الرجال (أشداء لا يتهاون ولا يتساهلون) يطلقون على أنفسهم اسم ((الهدامين)) فيخضعون كل شيء لنقدهم، ويضحون بأنفسهم من أجل الحقيقية. يجب أن يظهر كل ما هو شر وباطل علناً في وضح النهار، لا نريد أن نبني قبل الأوان، بل لسنا نعرف أن كان قدر لنا أن نبني يوماً ما، وأن ليس الأحسن ألا نبني مطلقاً. وهناك متشائمون كسالى ومستسلمون، ولكنا نحن لن نكون أبداً من بين هؤلاء.
وبالرغم من رحيل (بعض) تلك الديناصورات عن القيادة السياسية، فأن العقلية الديناصورية لم تنتهِ ومارست أساليب خسيسة ضد المثقفتين العراقيين في المنافي الجديدة!!.
ويشد ((ناظم حكمت)) على يد المناضل الحقيقي بقوله: ضمد جراحك بيديك الرهبيتين، وعض على شفتيك مقاوماً، أيها الفقراء أنني معكم، لم تحولني الريح إلى ورقة في مهبها، لقد سقطت الريح أمامي.
موقف المثقف من سياسة الأميين والجهلة:
يمكن القول (وللأسف) هناك تراجعاً كبيراً لدور المثقف في الساحة السياسية على مدى الثلاثة العقود الأخيرة، والسبب يعود إلى المهادنة التي اتبعها جيل المثقفين السابق مع السياسي. وأدى ذلك (مع الزمن) إلى إلغاء دور المثقف من الساحة السياسية وبات دوره ليس مروجاً للسياسي فقط بل مهمشاً من قبل السياسي، والكارثة أن هذا السياسي لا تزيد ثقافته على (كعب حذاء) أي مثقف مما أدى إلى تعطيل النخبة الأساسية في المجتمع. ويتحمل الجيل السابق من المثقفين هذا التواطئ مع السياسي نتيجة المهادنة غير المبررة، وبهذا يمكن تحميل جزءاً من المسؤولية التي آلت إليه الأمور على الساحة السياسية والثقافية للجيل السابق!!.
وعلى العموم، يمكن تقسيم المثقفين العراقيين في تلك المرحلة إلى ثلاث فئات:
1-مثقف مُهادن، تم شراء صمته عبر المنح الدراسية والمساعدات المالية وتأمين منبر إعلامي له والترويج لنتاجاته الأدبية مقابل إلزامه الصمت والعمل على تبرير أخطاء القيادة السياسية للجهلة والأميين وتميع المواقف المضادة لهم.
2-أشباه المثقفين من الحزبين، تم إبرازهم إعلامياً على أنهم النخبة وتكليفهم بمهام (ثقافية-حزبية) على منظمات وهمية تدعي تمثيلها للمثقفين العراقيين وتروج لسياسة الأميين والجهلة وتنهل من العقلية الديناصورية سلوكها وتصرفاتها لمواجهة المثقف الحقيقي.
3-مثقف رافض، لا يُهادن ولا يمكن ترويضه. أخذ على عاتقه كشف الأخطاء وتعرية سلوك الديناصورات وتحميل القيادة الديناصورية المسؤولية عن كل الكوارث التي لحقت بالمجتمع والمطالبة بمحاسبتها وتنفيذ حكم الشعب بها كونها مسؤولة عن التفريط بدماء خيرة شباب العراق وعن الكوارث التي لحقت بالوطن لاحقاً.
وكان المثقف الرافض يجاهر برأيه خلال كل المراحل دون أن تردعه الأساليب الفاشية من تهديد وإساءات وتهميش، وهذا النوع من المثقف من الجيل الجديد رفض أسلوب المثقف المُهادن من الجيل القديم وتعامل مع أشباه المثقفين من الحزبين بالازدراء والاحتقار.
ويحث ((وليم بليك)) المثقف الرافض بقوله: كن دائماً مستعداً للجهر برأيك، يتجنبك الوضيع..كن كالهواء للطير والبحر للسمك، هذا هو الاحتقار للحقير.
والمطلوب من الجيل الجديد من المثقفين الرافضين في هذه المرحلة المطالبة وانتزاع دوراً أكبر لهم من السياسي، فالسلطة الرابعة هي سلطة المثقف يتوجب انتزاعها من أنياب السياسي والعمل على تجديد آلياتها لتمارس لصلاحياتها في التعامل مع السياسي ووضع حد لسياسة التهميش والإلغاء التي مارسها السياسي ضده على مدى العقود الماضية.
واعتقد أن الديمقراطية (المزمع) تطبيقها في العراق في ظل دستور دائم، كفيلة بإيجاد أجواء مناسبة للمطالبة بدور أكبر للمثقف في الحياة السياسية. وهذا الدور يجب أن يضمنه الدستور ويتم الاعتراف بالسلطة الرابعة كإحدى السلطات المكونة لمؤسسات الدولة، وهذا الأمر يتطلب بذل الجهود من قبل المثقفين لانتزاع حقوقهم المشروعة من السياسي!!.
ويجد ((دانييل غورين)) أنه يجب أن نعلن حرباً على كل الأحزاب التقليدية مستخدمين البرلمان كساحة معركة مشروعة.
ستوكهولم بتاريخ 29/11/2003.