أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كاظم حبيب - ملف خاص في الذكرى العشرينية لمجازر الأنفال وحلبچة ضد الإنسانية والإبادة الجماعية















المزيد.....



ملف خاص في الذكرى العشرينية لمجازر الأنفال وحلبچة ضد الإنسانية والإبادة الجماعية


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 2156 - 2008 / 1 / 10 - 11:07
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ملف خاص في الذكرى العشرينية لمجازر الأنفال وحلبچة
ضد الإنسانية والإبادة الجماعية
[النظام البعثي ألصدامي خطط ونظم وأشرف
على تنفيذ تلك الجرائم ضد الشعب الكُردي]
شباط/فبراير – تشرين الأول/أكتوبر 1988

برلين في شتاء 2008
محتويات
ملف خاص في الذكرى العشرينية لمجازر الأنفال حلبچة 1
ضد الإنسانية والإبادة الجماعية 1
[النظام البعثي ألصدامي خطط ونظم وأشرف 1
على تنفيذ تلك الجرائم ضد الشعب الكُردي] 1
شباط/فبراير – تشرين الأول/أكتوبر 1988 1
العنصرية في الممارسة 7
(أو) 7
حملات مذابح الأنفال وحلبچة في كُردستان العراق 7
المقدمة : الشعب العراقي ضحية الاستبداد والقمع والعنصرية 9
المدخل : لمحة مكثفة عن الشعب الكُردي 13
الفصل الأول: العنصرية والتطهير العنصري في العراق 17
الفصل الأول: العنصرية والتطهير العنصري في العراق 17
أ. مفهوم العنصرية والتطهير العنصري 19
ب. الذهنية العنصرية وممارسات التمييز والتطهير العنصري في عهد حكم البعث وصدام حسين 25
المرحلة الأولى: : فترة التأسيس 1951/1952 - 1958 25
المرحلة الثانية: فترة التميز والتهيؤ والانقضاض على السلطة 1959-1968 30
المرحلة الثالثة: فترة تكريس النظام ورسم السياسات الاستراتيجية والتكتيكية 1968-1974 34
المرحلة الرابعة: البدء بالتهيئة الفعلية لتنفيذ سياسات البعث الإستراتيجية حتى عام 1979 36
المرحلة الخامسة: الهجوم التوسعي وممارسة فعالة للسياسات العنصرية والعدوانية التوسعية وشن الحرب ابتداءً من عام 1979 حتى الوقت الحاضر 42
ج. العنصرية في التعامل اليومي مع الأحداث 44
الفصل الثاني : عنصرية النظام ومذابح الأنفال 47
أ. التهيئة لمذابح الأنفال 47
ب. تنفيذ حملات ومذابح الأنفال 53
ج. ما بعد مذابح الأنفال 59
الاستنتاجات 61
الملاحق 65
هل مجازر الأنفال ضد الشعب الكُردي تشكل 75
جزءاً من جرائم الإبادة الجماعية وضد الإنسانية؟ 75
"في الذكرى التاسعة عشر لعمليات 75
ومجازر الأنفال الدموية ضد الشعب الكُردي" 75
جرائم الإبادة الجماعية وضد الإنسانية في اللوائح الدولية 75
موقع عمليات الأنفال في اللوائح القانونية الدولية 77

في الذكرى العشرينية لجرائم الأنفال وحلبچة
وجهت الرسالة أدناه إلى الشعب الكُردي معبراً عن احتجاجي واعتذاري وتضامني مع الشعب الكُردي لما لحق به من اضطهاد وتعذيب وتقتيل وتهميش وتعريب قسري وتهجير وتغيير ديموغرافي لبعض مناطق كُردستان العراق المهمة على أيدي النظم المركزية ببغداد , ولكن بشكل خاص في فترة حكم البعث التي دامت قرابة 35 عاماً عجافاً. وقد كشفت محاكمات الأنفال عن طبيعة الجرائم التي ارتكبت والتي كتبت عنها في العام 2002 معبراً عن طبيعتها الشوفينية والعنصرية وعن كونها تشكل جزءاً من جرائم الإبادة الجماعية وضد الإنسانية. حتى الآن لم نجد إلا قلة قليلة جداً من عرب العراق وعرب الدول العربية , وخاصة من المثقفات والمثقفين , ممن عبر عن حزنه واحتجاجه على ما حصل للشعب الكُردي على أيدي النظام البعثي الدموي المخلوع من جرائم بشعة على امتداد حكمه ولكن بشكل خاص جرائم الأنفال وحلبچة والتي برهنت محاكمة بعض المجرمين الذين أشرفوا وقادوا ونفذوا تلك العمليات البشعة , وعلى رأسهم صدام حسين وعلى حسن المجيد ومن لف لفهما على ما ارتكب فيها من بشاعات يندى لها جبين البشرية.
إن الاعتذار الذي أقدمه من جديد بإعادة نشر تلك الرسالة والمقالات التي كتبتها نابع من حقيقة أن كل ما ارتكب من جرائم قد تم باسم كل العرب ودفاعاً عنهم , وهي أكبر فرية مارسها النظام البعثي , إذ لم يخوله أحد منا بممارسة تلك الجرائم أولاً ولأن الكثير من العرب لم يتضامنوا في حينها ولا الآن مع ضحايا تلك الجرائم. لقد كنت في جبال وقرى كُردستان حين ارتكبت تلك الجرائم وكنا نتابع العمليات يوماً بيوم , وليس هناك من يستطيع أن ينكر ما فعله النظام سواء بقصف سكاك حلبچة بالكيماوي أو في العمليات التي استمرت طول أحد عشر شهراً دعْ عنك الفترة التي جرى التحضير لها وما أعقبها , إضافة إلى ما نفذ قبل ذاك من جرائم ضد سكان كركوك أو للكُرد الفيلية.
أتمنى على العرب جميعاً في الذكرى العشرينية لهذا المأساة الإنسانية أن يبادروا , ومنهم المثقفات والمثقفون الديمقراطيون العرب في كل مكان , إلى نشر المعلومات عن تلك الجرائم وإدانتها من أجل بناء صرح سليم من العلاقات الأخوية والتضامنية مع الشعب الكُردي.
رسالة اعتذار إلى الشعب الكُردي وتضامن معه
[حملة من أجل الكشف عن مصير ضحايا الأنفال في كُردستان العراق]

تقع على عاتق العرب في العراق وخارج العراق قبل أن تكون مهمة الشعب الكُردي والقوميات الأخرى في كُردستان العراق مهمة المطالبة المستمرة بالكشف عن ضحايا عمليات ومذابح الأنفال في كُردستان العراق, هذه الجريمة البشعة التي ارتكبها النظام العراقي, بما فيها مجازر الكيماوي في حلبچة, إذ أن ما ارتكب من جرائم في كُردستان العراق خلال فترة حكم البعث الطويلة بقيادة الدكتاتور صدام حسين كانت تنظم باسم الدفاع عن "عروبة العراق" وباسم "القومية العربية" و "وحدة العراق".
أشعر كمواطن عربي من العراق بأن ما حدث في كُردستان العراق, رغم إدانتي الصارخة والمستمرة ضد ما ارتكب فيها من جرائم على امتداد عدة عقود من السنين, وبالتالي أتحمل مع بقية العرب مسؤولية تقديم الاعتذار الشديد للشعب الكُردي ولضحايا الأنفال وعائلاتهم, ومنهم ضحايا مجزرة حلبچة الكيماوية, رغم أن هذا الاعتذار لا يشكل سوى الجانب الأدبي لإدانة ما ارتكب باسم العرب والعروبة والوحدة الوطنية العراقية وهي منهم براء. كما أتحمل مع الناس الطيبين والديمقراطيين من العرب مسؤولية العمل والمساهمة الفعالة في فضح ما ارتكب هناك, والعمل على إيجاد حلول واقعية وسريعة لضحايا الأنفال وحلبچة وتقديم التعويضات المناسبة لضحايا الشعب الكُردي, التي تبقى رمزية.
ومثل هذا الموقف من جانب العرب يتطلب وعياً بطبيعة الجرائم التي ارتكبت في كُردستان العراق والذهنية العنصرية المقيتة التي كانت وراء ذلك والعواقب الوخيمة التي ترتبت عليها. إذ بتلك الجرائم البشعة, وجَّه النظام العراقي بقيادة المستبد بأمره والعنصري المقيت صدام حسين أكبر إساءة للأخوة العربية الكُردية والقوميات الأخرى في العراق وللوحدة الوطنية العراقية وحقوق الشعب الكُردي المشروعة والعادلة. ويتطلب هذا الموقف منّا جميعاً المشاركة فيما يلي:
1. الاتفاق على تأسيس مركز علمي موحد في كُردستان العراق لجمع وتصنيف وترتيب وحفظ الوثائق الخاصة بما ارتكب بحق الشعب الكُردي من جرائم خلال العهود المنصرمة, ولكن بشكل خاص خلال الفترة التي أعقبت مجيء البعث إلى الحكم في العراق.
2. تشكيل لجنة دولية تنفيذية دائمة يكون مقرها في إحدى المدن الأوروبية المهمة سياسياً وتشكيل فروع لها في بعض مدن العالم وحيثما أمكن, إضافة إلى مقر مركزي آخر في كُردستان تضم إلى مجلسها الموسع شخصيات علمية وثقافية واجتماعية وسياسية عراقية مستقلة وحزبية ومن مختلف القوميات, إضافة إلى شخصيات عربية ودولية يكون بمقدورها تحريك العمل للنهوض بحملة عالمية مستمرة للانتصار لضحايا الأنفال في كُردستان العراق.
3. تقديم طلب رسمي باسم اللجنة الدولية الدائمة والمسئولين في كُردستان العراق إلى الأمم المتحدة من أجل اعتماد تنظيم ندوة دولية خلال العقد الجاري تبحث في أسباب وعواقب مجازر عمليات الأنفال التي مارسها النظام العراقي, باعتبارها أعمالاً عنصرية استهدفت التطهير والإبادة الجماعية للشعب الكُردي في كُردستان العراق, واستخلاص الدروس والسياسات والإجراءات الممكن اتخاذها لمعاقبة النظام ومن أجل منع تكررها في كُردستان العراق أو في أي مكان من العالم, وهي بمثابة تحذير لكل الحكومات والقوى والسياسات العنصرية في المنطقة, وخاصة في تلك الدول التي تعيش فيها بقية أجزاء الأمة الكُردية.
4. تهيئة وثائق اتهام رسمية ضد قادة الحكومة العراقية, باعتبارهم قاموا بالتفكير والتخطيط والتنظيم والتنفيذ الفعلي لمجازر الأنفال في كُردستان العراق والعمل على إخفاء معالمها عن الرأي العام العالمي والعربي والعراقي, إلى المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب والتجاوز على حقوق الإنسان وخاصة حقه في الحياة. ويتطلب هذا الأمر إصدار أوامر دولية من المحكمة باعتقال قادة النظام وتقديمهم لهذه المحكمة الدولية.
5. فتح صفحة خاصة على الإنترنيت باسم حملة الأنفال الدولية وإصدار نشرة خاصة بها بلغات مختلفة.
6. قيام اللجنة الدولية بتنظيم ندوات أو مؤتمرات سنوية تعقد في كُردستان العراق من أجل مواصلة فضح هذه السياسات والكشف عن السبل والأساليب والأدوات التي أستخدمها النظام في قتل هذا العدد الهائل من السكان الأكراد في كُردستان العراق وعن بقية جرائم النظام بحق الشعب الكُردي وبنات وأبناء القوميات الأخرى.
7. قيام اللجنة الدولية الدائمة بالتعاون مع القوى والأحزاب السياسية العراقية, سواء العربية منها أم الكُردية أم غيرها, بعقد ندوات خارج العراق, سواء كان ذلك في البلدان العربية أم الدول ذات الأكثرية المسلمة, أم في الدول الأوروبية أم في بلدان أمريكا الشمالية والجنوبية واستراليا وغيرها من الدول حول موضوع الأنفال والواقع العراقي الراهن. ويمكن أن يعتمد يوم محدد في السنة ليكون يوم تخليد لذكرى شهداء الأنفال في كُردستان العراق وعلى صعيد العراق كله.
8. اعتماد مجلة الأنفال من قبل المركز العلمي لوثائق الأنفال لتصبح الأداة الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية الفعالة في الكشف عن الجرائم التي ارتكبت وفضح خلفياتها وعواقبها للمجتمع الدولي, إذ يفترض أن تنشر بلغات عدة إلى جانب اللغة الكُردية والعربية, وتوزيعها على نطاق واسع في الدول العربية أيضاً.
9. تأمين إقامة معارض فنية تشكيلية حول الواقع العراقي ومجازر الأنفال, ومنها حول جريمة حلبچة, ونضال الشعب الكُردي وإصدار البوم خاص بتلك اللوحات ونشرها على نطاق واسع, على أن يدعى لها أوسع عدد ممكن من الفنانين العراقيين من مختلف القوميات, إذ في ذلك إدانة فعلية للعنصريين من العرب بسبب المجازر التي ارتكبوها بحق الشعب في كُردستان, وفي مقدمتهم قادة الحكم القائم في العراق وعلى رأسهم صدام حسين وعلي حسن المجيد.
10. إيلاء اهتمام كبير بالناس المتبقين والفالتين من عمليات الأنفال لضمان استكتابهم أو إجراء المقابلات معهم للحصول على أوسع وأدق التفاصيل عن هذه العمليات العنصرية وتسجيلها صورة وصوتاً ونشرها بشكل منظم ومبرمج.
11. كما يفترض إيلاء اهتمام خاص من جانب الأحزاب الوطنية الحاكمة في كُردستان العراق, وفي العراق الديمقراطي القادم بالناس الذين نجوا من المذابح, ورعاية أطفال وعائلات شهداء مذابح الأنفال.
12. بناء متحف في كُردستان لضحايا الشعب الكُردي وخاصة ضحايا مجازر الأنفال ليكون موقعاً ومعلماً يزوره الناس ليتعرفوا على طبيعة الجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية في كُردستان العراق من جانب النظام والذهنية التي حكمت ذلك, كما يمكن أن يتحول إلى مزار لكافة سائحي كُردستان أيضاً.
13. إقامة نصب تذكاري مركزي ونصب أخرى لضحايا الأنفال تقام في مواقع مناسبة من كُردستان.
14. عناية الحكم الفدرالي وكذلك الحكم الديمقراطي المركزي بعد التغيير في العراق بدعم الكتب التي تبحث في المجازر والمحن التي تعرض لها الشعب الكُردي وبقية القوميات في كُردستان العراق من أجل فهم العوامل الكامنة وراء ما حدث واستيعاب دروسها ومنع حصولها مستقبلاً.

برلين في 13/9/2002 كاظم حبيب


د. كاظم حبيب

العنصرية في الممارسة
(أو)
حملات مذابح الأنفال وحلبچة في كُردستان العراق

إقليم كُردستان العراق


ربيع عام 2002



العنصرية في الممارسة 1
(أو) حملات مذابح الأنفال وحلبچة في كُردستان العراق 1
المقدمة : الشعب العراقي ضحية الاستبداد والقمع والعنصرية 3
المدخل : لمحة مكثفة عن الشعب الكُردي 7
الفصل الأول: العنصرية والتطهير العنصري في العراق 11
الفصل الأول: العنصرية والتطهير العنصري في العراق 11
أ. مفهوم العنصرية والتطهير العنصري 13
ب. الذهنية العنصرية وممارسات التمييز والتطهير العنصري في عهد حكم البعث وصدام حسين 19
المرحلة الأولى: : فترة التأسيس 1951/1952 - 1958 19
المرحلة الثانية: فترة التميز والتهيؤ والانقضاض على السلطة 1959-1968 24
المرحلة الثالثة: فترة تكريس النظام ورسم السياسات الاستراتيجية والتكتيكية 1968-1974 28
المرحلة الرابعة: البدء بالتهيئة الفعلية لتنفيذ سياسات البعث الإستراتيجية حتى عام 1979 30
المرحلة الخامسة: الهجوم التوسعي وممارسة فعالة للسياسات العنصرية والعدوانية التوسعية وشن الحرب ابتداءً من عام 1979 حتى الوقت الحاضر 36
ج. العنصرية في التعامل اليومي مع الأحداث 38
الفصل الثاني : عنصرية النظام ومذابح الأنفال 41
أ. التهيئة لمذابح الأنفال 41
ب. تنفيذ حملات ومذابح الأنفال 47
ج. ما بعد مذابح الأنفال 54
الاستنتاجات 56
الملاحق 60



المقدمة : الشعب العراقي ضحية الاستبداد والقمع والعنصرية

كان وما يزال القسم الأعظم من الشعب العراقي, بتكوينه السكاني المتنوع, عرباً وكُرداً وأقليات قومية وأتباع ديانات وطوائف دينية عديدة أخرى وأصحاب عقائد وآراء سياسية مختلفة, يعاني منذ ما يقرب من أربعة عقود من السنين من أوضاعٍ شاذة واستثنائية غير منقطعة تجاوزت ما عاناه الشعب في ظل الحكم الملكي الإقطاعي في العراق, بحث بدأ البعض يترحم على نظام أرسى الأساس المادي لما نعانيه اليوم من ويلات ومحن وكوارث متلاحقة. ومعاناة الشعب لا تقتصر على إرهاب النظام وقمعه الفاشي المتواصل وحسب, بل وبسبب الحصار الدولي المتعدد الجوانب الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ضد هذا الشعب, رغم الادعاء بأن المستهدف بالحصار هو النظام, في حين أن المتضرر الأول والأخير منه, والمستهدف به هو الشعب العراقي وإذا ما جري البحث في هذا المجال عن نضال ومآسي وكوارث الشعب الكُردي في كُردستان العراق وعن مذابح الأنفال العنصرية, ومنها مجزرة الأسلحة الكيميائية في حلبچة, وهي قمة الإرهاب العنصري والعداء السافر للجنس البشري, فأن علينا أن لا ننسى معاناة بقية أبناء وبنات الشعب في الوسط والجنوب, وبتعبير أدق, على امتداد الرقعة العراقية الراهنة. فالمعاناة كما أشار إلى ذلك بصواب وصدق كبير الكاتب والروائي العراقي سلام عبود حين كتب, مقارنا بين تجربة العراق مع النظام ألصدامي وتجربة ألمانيا مع النظام الهتلري, يقول: فرغم اختلاف التجربتين في أمور عديدة, لكن جوهر السؤال سيظل سليماً, حيث أن العنصر الأساسي فيه هو وجود نظام قائم على احتكار السلطة احتكاراً مطلقاً وسيادة الإيديولوجية العنصرية, وتحويل المجتمع إلى قوة حاملة لأعباء حرب مدمرة غير عادلة. والنقاط الثلاث السالفة, هي في تقديري جوهر خصائص الواقع السياسي في العراق, الجوهر الأساسي الذي يجعل الاعتبارات الأخرى مجرد تفاصيل إضافية, لا تلعب دوراً حاسماً في تكوين خصوصية لوحة الحياة العامة" . ويمكن توسيع النقطة الثالثة ومدها إلى أبعد من الحرب والقول: …, وتحويل المجتمع إلى قوة حاملة لأعباء سياسات وحروب النظام غير العادلة الداخلية والإقليمية على امتداد العقود الأربعة المنصرمة وعواقبها على الأجيال الراهنة والقادمة. فالحرب ضد إيران وغزو الكويت والحرب الخليجية الثانية والحرب ضد الشعب الكُردي وضد شعب الأهوار وضد المنتفضين كانت جزءاً من تلك السياسات, وأن كانت الجزء الدموي منها, فأن مجمل سياساته على مدى أكثر من ثلاثة عقود كانت وراء الأعباء التي يحملها الشعب العراقي على كاهله ويتلقى عواقبها مباشرة, في حين يبقى قادة النظام والقاعدة التي يستند إليها في منأى عنها.
فالكُرد الفيليون, وهم جزء من الشعب الكُردي, بخصوصيتهم المعروفة, كما أنهم جزء من بنات وأبناء العراق, تعرضوا على امتداد العقود المنصرمة منذ تأسيس الدولة العراقية, لتمييز واضطهاد النظام الملكي بحدود معينة, ولكن معاناتهم الحقيقية بدأت مع وصول البعث وبعض القوى القومية إلى الحكم في المرة الأولى والبعث في المرة الثانية. فالعائلات الكُردية الفيلية البغدادية العريقة وفي المدن الأخرى تعرضت للمضايقة والملاحقة والتعذيب والقهر والنهب والسلب ومصادرة كل ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة وتهجير عشرات الألوف منهم بالقوة القسرية الظالمة إلى إيران. كما أجهز البعث الحاكم بالقتل على مجموعة كبيرة من الشباب الكُردي الفيلي المتمسك بوطنه العراق والمحب له. والموقف من الأكراد الفيليين كان وما يزال يتسم بالعنصرية البغيضة والحقد المسموم. ومارس النظام عملية "تطهير عرقية" فعلية ضد الأكراد الفيليين في مناطق سكناهم, ومنها بغداد.
وشمل هذا الحقد الأسود عرب الوسط والجنوب, حيث رحل النظام في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات أعداداً غفيرة من المواطنات والموطنين العرب بحجة كونهم من التبعية الإيرانية, بسبب كونهم يدينون بالمذهب الشيعي في الإسلام, وكأن المذهب الشيعي من نتاج المجتمع الإيراني وليس من اجتهاد المسلمين العرب منذ العصر العباسي ومنذ أيام الإمام جعفر الصادق على أقل تقدير.
يقدر عدد المهجرين العراقيين من العرب والأكراد الفيليين من جنوب ووسط العراق, بما فيها بغداد, بما يزيد على 450000 مواطنة ومواطن عراقي. وتعرض هؤلاء الذين هجروا في فترة الحرب العراقية الإيرانية بشكل خاص إلى مشاق السير بين الألغام والموت على هذا الطريق, وإلى الاعتداءات والإهانات التي يندى لها جبين الإنسان لبشاعتها, والتي لم تميز بين طفل وشيخ طاعن في السن أو رجل وامرأة حامل, أو رضيع أو مريض. كما اعتقل النظام أعداداً كبيرة من شباب الوسط والجنوب وزجهم في السجون والمعتقلات ولم تسمع أخبارهم منذ الثمانينات. وكل الدلائل تشير, كما في حالة الأكراد الفيلية ومذابح الأنفال, إلى إجهاز النظام عليهم وقتلهم ودفنهم في مقابر جماعية لم تكتشف كلها حتى الآن.
ومن الخطأ الاعتقاد بأن النظام العشائري والطائفي القائم في العراق قد عامل العراقيين من بنات وأبناء المذهب السني بطريقة إنسانية. فالاضطهاد والاعتقال والتعذيب والقتل شملهم أيضاً, فالنظام يقف ضد كل من يعارض النظام أو يختلف معه أو حتى يشك في ولائه للنظام بأي قدر كان.
وارتكب النظام جرائم بحق الآشوريين والكلدان بأساليب وصيغ شتى دفع بعدد كبير جداً منهم إلى ترك البلاد والهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا واستراليا ونيوزيلندا وبعض الدول الأوروبية. ففي هذه البلدان يلتقي المرء بأكثر من 300 ألف إنسان من العراقيين الآشوريين والكلدان والسريان من أتباع الديانة المسيحية بطوائفها المختلفة.
كما يجد الإنسان عدداً متزايداً من الأكراد الإيزيديين المقيمين في أوروبا على نحو خاص, ولكنهم موجودون أيضاً في دول أخرى, ويزيد عدد المهاجرين الهاربين من ظلم النظام وقهره ما يقرب من 30 إنسان. وهكذا حال الصابئة المندائية الموزعين على بلدان أوروبا الغربية وأمريكا وكندا وغيرها. فعدد العراقيين القاطنين في الشتات يصل اليوم إلى أكثر من 3 مليون إنسان, موزعين على إيران وسوريا والدول الأوروبية والولايات المتحدة وكندا واستراليا ونيوزيلندا وغيرها من دول العالم. وهم يشكلون ما يقرب من 12 % من سكان العراق في الداخل والخارج البالغ عددهم حوالي 25 مليون نسمة.
ولكن أين تبرز معاناة العراقيات والعراقيين في المرحلة الراهنة؟ يمكن بلورة الجواب عن هذا السؤال بعدد من النقاط الجوهرية التي تشخص بوضوح الطبيعة الاستبدادية الشمولية والقمعية والعنصرية والعشائرية والطائفية التي يتميز بها النظام في العراق, إضافة إلى نزعاته الأخرى المنبثقة عن خصائصه الأساسية:
1. يفرض صدام حسين في العراق نظام حكم فردي دكتاتوري شمولي على الشعب العراقي كله دون استثناء, ويمارس سياسة تضرب عرض الحائط كل المبادئ والقيم والأسس الديمقراطية والدستورية في الحكم, كما يضرب كل المواثيق واللوائح الدولية الخاصة بحقوق الإنسان عرض الحائط. فالسجون مليئة بالسجناء والمعتقلين, سواء بمحاكمة صورية أم بدون محاكمة, ولم يعد ممكنا تقديم لوحة مقربة عن عددهم بسبب كثرة من اعتقلوا حتى الآن, وكثرة من قتلوا في السجون خلال السنوات العشرة الأخيرة على أقل تقدير. وعدد السجون والمعتقلات كبير جداً, وهي موجودة في كل مكان في العراق, سواء كانت بصورة علنية ومعروفة أو سرية تديرها أجهزة خاصة ترتبط مباشرة بأفراد عائلة صدام حسين المقربين جداً منه؛
2. وعلى هذا الأساس فكل ما هو موجود من مؤسسات تدعي الحكم باسم الشعب, إنما هي مزورة ومشوهة لإرادة الشعب, كما هو حال المجلس الوطني العراقي أو المنظمات والنقابات المهنية. فالحاكم بأمره هو الذي يقرر كل شئ في العراق, فهو المشرع والقاضي والمنفذ أو الحاكم في آن واحد, إضافة إلى أنه المسؤول عن الإعلام؛
3. والنظام العراقي كان وما يزال يستخدم أكثر من جهاز واحد للأمن الداخلي والمخابرات العسكرية التي تقوم برصد تحركات المجتمع العراقي بطريقة تساعده باستمرار على التقاط من يتحدث ضد النظام أو يعمل ضده. ويدخل الرصد في بيوت الناس ومحلات عملهم وفي كل مكان, بحيث لم يعد للإنسان القدرة على الحلم والتنفس بحرية. فالعراق يئن تحت وطأة القمع والقسوة, بالمعنى الإنساني العميق للكلمة. إذ أصبح الإنسان خشية قمع السلطة يقوم بقمع نفسه بصيغ وأشكال شتى, فالمجتمع كله, حتى الجلاد ذاته يعيش تحت أنواع مختلفة من القمع الذاتي والخاص والعام, وهي قمة التوتر والتدهور في المجتمع.
4. وتأخذ القوانين العراقية المليئة بأحكام الإعدام على عاتقها تحقيق حالة القمع العامة من خلال إرهاب الناس ودفعهم بعيداً عن العمل السياسي المعارض مثلاً, إذ أن الموت يمكن أن يحصدهم في كل لحظة دون مسائلة الجاني على فعلته ودون أن يعرف أحد بذلك؛
5. والجامعات والكليات والمعاهد ودوائر الدولة الأساسية, وخاصة وزارات الدفاع والخارجية والداخلية والإعلام والشباب والقوات المسلحة وغيرها, ليست محرمة على غير البعثيين وأنصارهم ومؤيديهم فحسب, بل هي أوكار لنشاط قوى الأمن واضطهاد المواطنين والتآمر. والاستبيانات المستمرة في محلات السكن والعمل والدراسة وغيرها مسؤولة عن تأمين معرفة مدققة بالناس العراقيين وعن قدرة الأجهزة الأمنية على التحكم بالوضع في مناطقهم وحمايتهم من قوى المعارضة السياسية لهم. إن من يريد الوصول إلى أي مقعد دراسي أو وظيفة ينبغي له أن يحمل بيديه كتاب تزكية له من الحزب الحاكم ومن أجهزة الأمن الداخلي, وهي غالباً ما تكون مرتبطة بفرض تنازلات لهم, بما فيها المشاركة بتقديم معلومات ووشايات ضد الناس في محلات السكن أو العمل أو الدراسة (الملحق رقم )؛
6. وبسبب سياسات النظام العربية والإقليمية وحروبه الدموية كان وما زال الشعب العراقي يعاني لا من وطأة استبداد هذا النظام فحسب, بل ومن جور الحصار الدولي, وكلاهما يجهز على العراقيين بالقمع والتجويع والحرمان والموت بصيغ مختلفة. علماً بأن هذا الحصار الدولي لا يضعف النظام, بل يسمح له بطول العمر وكسب تأييد الشعوب العربية وشعوب الدول "الإسلامية" على نحو خاص.


المدخل : لمحة مكثفة عن الشعب الكُردي

تعتبر المسألة الكُردية واحدة من الإشكاليات الكبيرة التي تواجه شعوب منطقة الشرق الأوسط, وخاصة في تلك البلدان التي اقتسمت في ما بينها كُردستان في أعقاب الحرب العالمية الأولى, أو التي وزعت عليها, رغم أن التقسيم الأول لكُردستان كان قد تم عملياً في وقت سابق. والإشكالية الحقيقية تبرز في أن شعوب المنطقة كلها تقريباً أسست خلال القرن العشرين دولها المستقلة الجديدة, ومنها الشعوب العربية التي كونت لها في منطقة الشرق الأوسط وحدها خمسة عشر دولة, وبعضها قزمي, كما في بعض إمارات الخليج, ومُنح يهود العالم دولة أقيمت على القسم الأكبر من أرض فلسطين, في حين لا يتمتع الشعب الكُردي, أو الأمة الكُردية, بسكانه الذين تجاوز عددهم اليوم أكثر من 30 مليون نسمة بدولته المستقلة على أرض وطنه كُردستان. وهذه الإشكالية المؤرقة, وبحق, للشعب الكُردي, لا تجد حتى الآن التفهم العقلاني والإنساني من جانب الحكومات والنظم في المنطقة وبقية دول العالم ولا حتى من الأمم المتحدة, إذ لا يبدو في الأفق القريب أي حل جذري لهذه المشكلة لصالح الأكراد. والإشكالية الأكثر قساوة تكمن في أن غالبية القوى القومية المتعصبة واليمينية, سواء كانت عربية أم فارسية أم تركية, ترفض حتى الآن الاعتراف بواقع وجود شعب كُردي كان وما يزال محروماً من حقه في تقرير مصيره في الأجزاء التي توزع عليها عبر القرون المنصرمة لإقامة دولته الوطنية المستقلة, كما أن بعضها يرفض حتى حقه في إقامة اتحاد فدرالي في إطار الدولة القائمة أو حتى إقامة الحكم الذاتي, بغض النظر عن الواجهة القومية أو الدينية التي يسعى البعض للتستر بها لتغطية الروح الشوفينية التي تميز سياساته ومواقفه. والبعض الآخر ينسى تماماً أن الشعب الكُردي واحد من أقدم شعوب المنطقة, كما كانت له يوما دولة عامرة, وكانت له فيما بعد إمارات كثيرة وفي مختلف العصور, ولكنه خضع أيضاً, كما في حالات شعوب أخرى للهيمنة والاضطهاد والظلم والقهر المتنوع.
فتاريخ الشعب الكُردي عريق في المنطقة وعلى الأرض التي يعيش عليها اليوم. فالتنقيبات الأثرية المكتشفة عن عهد الملك الآشوري توكولتي -ننورتا في أواخر القرن الثالث عشر ق.م. تشير إلى وجود شعب في المنطقة أطلق عليه في أحد الألواح كوتي وفي لوح آخر كورتي (والراء الزائد بسبب تضعيف التاء في جميع اللغات), وأن هذا الشعب ينحدر من أمم جبال زاغروس الكبرى أثناء العهد السومري, وكان أول ملوك هذا الشعب هو "أي أناتوم" الذي حارب العيلاميين, وكان ملكاً على لگش , ثم الملك "لوكال - زاكيزي" الگوتي لذي حكم في أوروك (الوركاء) وسومر. ومن ملوكهم أيضاً "انو بانيني" فاتح هالمان أو حلوان الواقعة بين قصر شيرين وكرمنشاه. ووفق دراسات المتخصصين فأن الشعب الگوتي كان يعيش في بلاد سومر قبل أن تؤلف الحكومات فيها بزمن غير قصير. وأن آخر ملوكهم كان أتريكان الگوتي. وأكراد اليوم هم أحفاد الگوتيين القدامى. وجاء ذكر بلاد الكُرد عند زينوفون في كتابه "Anabasis" المشهور برحلة زينوفون , حيث أشير إلى مرور الجيش اليوناني الناكص على أعقابه نحو اليونان ببلاد الكُرد الجبلية المتاخمة لأرمينية, أي أن الكُرد هم أحفاد الكوردوك الوارد أسمهم في كتاب زينفوون .
لم يكن الأكراد عشيرة واحدة بل كانوا وما زالوا عشائر كثيرة, كما هو حال بقية شعوب العالم حينذاك وبعضها الكثير حتى يومنا هذا. وتعتبر القبائل الميدية أو الميذية كُردية أيضاً, وهم في الوقت نفسه, كما في حال الگوتين, أسلاف الشعب الكُردي الحالي. والأكراد ينتمون, كما في التقسيم الشائع عالمياً, بغض النظر عن مدى صواب التقسيم الدولي أصلاً, إلى الأقوام الأرو-هندية, كما يقال نفس الأمر عن الشعب السومري, والتي تداخلت بطبيعة الحال, بسبب عيشها المشترك في المنطقة منذ آلاف السنين, بالأقوام السامية وتفاعلت الحضارات في ما بينها لتنتج الثقافة الراهنة للشعب الكُردي في مختلف الأجزاء التي يعيش فيها. ولا تختلف التباينات الموجودة بين الشعب الكُردي في العراق عن الشعب الكُردي في تركيا أو في إيران أو عن الأكراد الفيلية الذين هم من نفس الأصل والانحدار الگوتي أو الميدي, بكثير أو قليل عن الاختلافات القائمة بين الشعوب العربية في المنطقة. فكما أن العرب يعودون لأمة عربية واحدة, فالأكراد في وطنهم الموزع يعودون لأمة كُردية واحدة أيضاً.
جاء ذكر الأكراد أو الكوتين في أحد الرقم السومرية في عهد الملك سرجون الأول (حوالي 2330-2280 ق.م.) التي كتبت بأذنه في عام 2340 ق.م. قوله بفخر كبير, بأنه غزا بلاد الگوتيين . ويشير الدكتور زهدي الداوودي أيضاً إلى ما يلي: "ونسب أحد الملوك الذين جاءوا من بعده لنفسه أنه قمع إحدى انتفاضات الگوتيين" .
والمعلومات التاريخية الموثقة تشير أيضاً إلى قيام تحالف سياسي-عسكري بين الميديين والبابليين, وكان الكلدانيون قد أسسوا لتوهم دولتهم الجديدة, الدولة الكلدانية أو الدولة البابلية الحديثة في عام 626 ق.م., وتمكنوا معاً من احتلال مدينة آشور سنة 612 ق.م. واستمرت قوات التحالف الميدي (الكُردي -البابلي أو الكلداني) في مطاردة فلول الجيش الآشوري حتى حران وقضت عليها. واختفت بذلك واحدة من أكثر الإمبراطوريات العراقية القديمة سطوعاً وتوسعاً وتركت آثاراً ستبقى خالدة باعتبارها جزءا من الإرث الحضاري البشري. ووفق الدراسات التاريخية تم اقتسام مناطق الدولة الآشورية بين الكلدانيين والميديين فكانت منطقة جنوب بلاد ما بين النهرين وقسم من شمالها, وحصة الميديين الأجزاء الشمالية والشمالية الشرقية.
وجاء ذكر الكُرد في كتابات الجغرافي اليوناني سترابون في القرن الأول قبل الميلاد حين كتب يقول:
"بالقرب من دجلة بلاد الكُرد الذي سماهم القدامى "كوردوك" ومن مدنهم "سريزا" و "ستالكا" و "بيناكا" وهي محصنة جداً وفيها آكام مسورة بسور خاص يجعلها تكون ثلاث مدن, غير أن ملك أرمينية استولى عليها ثم استولى عليها الرومان بهجوم خاطف. إن الكورد بارعون جداً في العمارة والريازة والتحصينات الحربية وفنون المحاصرة والاستيلاء" .
وتمكن كورش, إمبراطور الفرس القضاء على الدولة الكلدانية ودخول بابل في عام 539 ق.م. . ولكن كان قبل ذاك قد قضى على مملكة ميديا وألحقها بفارس ثم أخضع آسيا الصغرى قبل أن يدمر الدولة الكلدانية ويحتل أراضيها .
وعاش الأكراد في ظل الحكم الأموي والعباسي, وكذلك في العهد العثماني في إطار ما أطلق عليه بالدول الإسلامية العربية وغير العربية, وشكل في فترات مختلفة إماراته التابعة أو المستقلة نسبياً في مختلف مناطق كُردستان. وكان نضاله معروفاً وعلى امتداد العصور المنصرمة في سبيل أن يحكم نفسه بنفسه. ولكن الصراعات والأطماع وغيرها لم تسعفه ذلك إضافة إلى تدخل المصالح الإمبريالية الحديثة التي أعاقت نشوء الدولة الوطنية المستقلة للأكراد في أعقاب الحرب العالمية الأولى, حيث كرس الوضع القائم حالياً حينذاك, ولم يكن في كل الأحوال في صالح الشعب الكُردي. وكان السبب الأساسي في كل ما عاناه وما يزال يعاني منه هذا الشعب من محن وكوارث وقمع ويتعرض لتعامل عنصري مهين من حكومات الدول التي توزعت عليها ارض وشعب كُردستان.
وكانت كُردستان الجنوبي من حصة العراق, الدولة الملكية الإقطاعية الحديثة التي تأسست في المنطقة في عام 1921.

الفصل الأول: العنصرية والتطهير العنصري في العراق

منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة وضم كُردستان الجنوبي إليها, مارست الحكومات العراقية المتعاقبة في ظل الحكم الملكي سياسات تتسم بالتمييز وعدم المساواة بين المواطنين العراقيين, رغم ما تضمنه الدستور العراقي الملكي من مضامين ديمقراطية في هذا الاتجاه. وإذا كان الشعب الكُردي قد عانى أكثر من غيره من التمييز في المعاملة وفي مختلف مجالات النشاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي, فأن بقية الأقليات القومية والدينية, ومن بينهم الآشوريين والكلدان والتركمان واليهود والشيعة, لم تكن معاناتها قليلة بهذا الصدد. إلا أن تلك السياسات التي تميزت بالشوفينية والتمييز الديني والطائفي لم ترتق إلى مصاف وخصائص العنصرية والتطهير القومي والديني والطائفي, رغم أنها كانت مرفوضة في المعايير الدولية والقيم الإنسانية وللائحة حقوق الإنسان والمواثيق الدولية الأخرى. ولهذا كان الشعب العراقي يقف ضد تلك السياسات ويناضل ضدها ويعمل من أجل الخلاص من النظام الملكي. ولا شك في أن النظام الجمهوري الأول بقيادة عبد الكريم قاسم لم يتخلص من بعض مظاهر التمييز القومي والخشية على وحدة الجمهورية غير المبرر في ممارسة سياسات عنفية وعدوانية ضد حقوق الشعب الكُردي, ولكنها هي الأخرى لم ترتق إلى مصاف سياسات التمييز والتطهير العنصريين, علماً بأنها كانت هي الأخرى مرفوضة ومتقاطعة مع المعايير الدولية في مجال حقوق القوميات والأقليات القومية والدينية والطائفية, كما أنها متعارضة تماماً مع لوائح حقوق الإنسان والمواثيق الدولية بهذا الخصوص.
إلا أن الانقلاب الذي أطاح بالجمهورية الأولى وأقام جمهورية البعث وبعض القوى القومية في شباط/فبراير 1963 دفع الأمور في العراق باتجاه آخر بدأ يتطور تدريجاً ليصل, كما نرى إلى مصاف السياسات العنصرية والتمييز والتطهير العنصريين ضد الشعب الكُردي بالدرجة الأساسية, ولكنه لم يبخل بالتمييز والاضطهاد بحق الأقليات القومية والدينية والطائفية في العراق. ويتطلب منا هذا الأمر التعرف على الأساس النظري لهذه السياسات والممارسات العملية لتفسير واقعي وعلمي لما يجري في العراق. إذ يتطلب منّا الإجابة عن السؤال التالي: : لِمَ نظمَ ونفذَ الحكم القائم بقيادة صدام حسين ورهطه على امتداد أكثر من ثلاثة عقود عمليات متلاحقة ومنظمة بدءاً بالاعتقال والسجن والتعذيب والتهجير القسري والتطهير العرقي والإبادة الجماعية والدفن الجماعي لمجموعات من البشر, سواء كانوا أحياءً أم أمواتا, أو حتى مطاردة البعض منهم في المنفى القسري الذي فرض عليهم لقتلهم؟ ويمر ببالنا أولاً وقبل كل شئ حملات مذابح الأنفال في كُردستان العراق, وقبل ذاك عمليات التهجير الواسعة لأبناء الشعب الكُردي من الفيليين في المدن العراقية الأخرى, وخاصة في بغداد والكوت, أو عمليات التهجير القسري لسكان عرب الوسط والجنوب الشيعة بعد اعتبارهم من التبعية الإيرانية بالمقارنة مع التبعية العثمانية, ثم محاولات التعريب ضد الأكراد أتباع واحدة من أقدم الديانات في هذه المنطقة, الإيزيدية, أو ضد الآشوريين والكلدان والتركمان أو ما يجري اليوم من تطهير عرقي لسكان محافظة كركوك في كُردستان العراق؟
بعد تجارب طويلة ومريرة عاشها الشعب العراقي مع نظام البعث ألصدامي الحاكم في العراق يحق لنا أن نتساءل: هل يمكن اعتبار سياسات النظام القائم في العراق, التي كان وما يزال يمارسها منذ عام 1968 التي تتميز بالعنف والدموية وعمليات إبادة جسدية جماعية وتطهير عرقي تهجير واسع أو تعريب قسري, في إطار وضمن مفهوم العنصرية والتمييز والتطهير العنصريين من الناحيتين الفكرية والسياسات والممارسات الفعلية؟ ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال سنحاول, وبشكل مكثف أن نتبين مفهوم ومضمون العنصرية وتطورها, وبالتالي يمكن إجراء مقارنة بين تلك المعايير وما جرى ويجري في العراق.

أ. مفهوم العنصرية والتطهير العنصري

مرت الأيديولوجيا والممارسات العنصرية وقبل أن تعرف بهذا الاسم, بمراحل مختلفة حيث كانت بعض المجتمعات تميز بين الناس على أساس السادة والعبيد الناجم عن وقوع أسرى بسبب الحروب والغزوات أو بسبب ديون لا يقوى على دفعها المدين, كما في العصور البابلية والفرعونية, ولكنها لم تكن تستند إلى لون الإنسان أو منحدره أو الجماعة التي ينتمي إليها أو لغته وثقافته أو الآلهة التي يعبدها. وتطورت هذه الممارسة لتصاغ على شكل أفكار ونظريات في فترة أرسطوطاليس حيث اعتقد هذا الفيلسوف بأن المجتمع يستند في وجوده إلى توزيع طبيعي بين الناس تقرره الطبيعة أساساً, أي أنه يقوم على أساس وجود سادة من جهة وعبيد من جهة أخرى, وأن على الجماعة الأخيرة أن تعمل في خدمة وإسعاد الجماعة الأولى. فالإنسان يولد أما سيدا أو عبدا دون إرادته, وبالتالي فمحكوم على السادة وأحفادهم أن يمارسوا السيادة, إلا إذا أساءوا التصرف بها, ومحكوم على العبيد البقاء عبيدا هم وأحفادهم لدى السادة. وفي هذه الحالة أيضاً لم يكن لون البشرة أو شكل الشعر أو الفوارق في جسم الإنسان هي السبب في أن يكون السيد أو النبيل (الأرستقراطية الغنية) سيدا ونبيلا والعبد عبدا خانعا وخاضعا. ولكن المنحدر "الطبيعي" منذ المولد شكل السبب في ذلك التمييز وفي إعادة إنتاجه. وكانت هذه الحالة بالنسبة للعصور الماضية تستند إلى قاعدتين أساسيتين هما:
• هيمنة السادة على الحكم أو السلطة أولاً وبالتالي من يولد في صفوفها ومنها فهو من السادة؛
• وهيمنتهم على الثروة والنفوذ أو الجاه في المجتمع ثانيا.
وبرز في فترات مبكرة تمييز آخر يستند إلى الدين حين نشب الصراع بين اليهودية والمسيحية, وقبل ذاك تجلى في ما ورد في العهد القديم من تقسيم البشر, رغم كونهم جميعا من أولاد وأحفاد نوح, إلى أبناء وأحفاد يافت, وأولاد وأحفاد سام, وأولاد وأحفاد حام. حيث اعتبر فيما بعد أن البيض هم من أولاد وأحفاد يافت, في حين أن الآسيويين هم من أحفاد سام وأن السود هم من أحفاد حام, حيث كتب على الآخرين بسبب الذنوب والخطايا التي ارتكبوها أن يقوموا بخدمة يافت وأحفاده. وتجلى التمييز بين البشر في العهد القديم أيضاً, حين أشير فيه إلى أن اليهود هم "شعب الله المختار". وتحدثت بعض الأديان السماوية الأخرى بنهج مماثل أيضاً. ومع أن المسيحية لم تطرح مثل هذه الفكرة الاستعلائية على الأديان والشعوب الأخرى التي سجلتها الديانة اليهودية "شعب الله المختار" والإسلامية "كنتم خير أمة أخرجت للناس", فأن الكثيرين من الحكام ورجال الكنيسة قد تصرفوا وفق هذه المقولة, من خلال قناعتهم بأنهم كانوا يهودا قبل أن يصبحوا مسيحيين, وبالتالي فهم "شعب الله المختار" أيضاً وهم الأحق به من اليهود, وهم الذين حاربوا اليهود قرونا طويلة, باعتبارهم "قتلة المسيح". وهذه التهمة هي التي حكمت علاقة المسيحيين الكاثوليك والكنيسة الكاثوليكية والبابا باليهود حتى أوائل العقد السابع من القرن العشرين, حيث بدأت تنفرج العلاقة بينهما تدريجا, ثم صدر قرار الفاتيكان في عام 1994 بتبرئة ذمة اليهود من دم المسيح. ولم يكن موقف المسيحيين البروتستانت على نفس شاكلة الموقف الكاثوليكي المحافظ والمتزمت إزاء اليهود.
ومارس العرب والفرس في العهود الأموية والعباسية والعثمانية تجارة استيراد وبيع الناس السود ك "عبيد" مستجلبين من أفريقيا‎, ولكنهم كانوا يستوردون في الوقت نفسه الناس البيض من مناطق القفقاس وجورجيا وغيرها ك "عبيد" وجواري أيضا. فالعبد هنا لم يكن مقترنا بلون البشرة, بل بسبب وقوعه أسيرا أو شراءه من عائلته بطرق وأساليب مختلفة ولغايات مختلفة.
والعنصرية بنظرياتها وممارساتها ومواقفها الحديثة برزت في عصر النهضة في أوربا وفي فترة الاكتشافات الأوروبية الحديثة لمناطق جديدة من الكرة الأرضية. واقترنت بعوامل استعمارية واستغلالية ودينية واضحة المعالم, بدأت مع دور أسبانيا في اكتشاف أمريكا, ومن ثم استيراد وتصدير السود من أفريقيا إليها. ولكنها لم تقتصر على أوروبا, بل مارستها دول وحكومات عديدة بما فيها الدولة العثمانية والدولة الفارسية, كما مارسها عنصريون عرب بسبل شتى.
يحمل الفكر العِرقي وممارساته المتنوعة في أوروبا وفي غيرها من بلدان العالم, ومنها الدول العربية معه وظيفته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والإعلامية والعسكرية, سواء كان ذلك إزاء الداخل أم الخارج, كما أن له تاريخ طويل. فالظاهرة التي نعيشها اليوم ليست جديدة وليست من بنات أفكار هذا الجيل, بل هي قديمة وتحمل معها تراكمات الماضي وتجاربه المريرة والشريرة. ولكن ذلك لا يعني أن العنصريين في المجتمعات الأوربية الراهنة وفي غيرها ليست لهم ممارساتهم التحديثية في هذا الصدد.
فعودة متأنية ومدقِقة إلى الكتب التي تبحث في التاريخ الأوروبي وفي العلاقات بين شعوبه وشعوب البلدان الأخرى تؤكد الوجود القديم حقا لظواهر التمييز بين البشر, التي يمكن أن يطلق عليها "ما قبل العنصرية", وتطورها فيما بعد إلى عقيدة عنصرية وممارسة صارمة ومستمرة للتمييز العنصري والقومي والديني والطائفي والفكري والسياسي, رغم التطورات الجديدة التي طرأت عليها خلال القرن العشرين. ويتجلى أيضا في القناعات غير المبررة للغالبية العظمى من السكان في فترات مختلفة بأحكام مسبقة أو تكوين صورة ألـ"أنا" وقياس صورة ألـ"آخر" على أساسها. ولا شك في أن هذه الظاهرة لم تبرز دفعة واحدة بل مرت بمراحل عديدة وانتقلت من ممارستها في داخل أوروبا إزاء القوميات والأقليات المختلفة إلى ممارستها إزاء البلدان والشعوب والقوميات والأديان الأخرى. إن ما يذكره التاريخ عن مشكلات العنصرية الأوربية وممارستها الفعلية يؤكد بجلاء الموضوعة التالية:
إن ما تواجهه بلدان الاتحاد الأوربي من تصاعد في الفكر العِرقي وممارسات فعلية في التمييز العنصري وتزايد الاعتماد على الأحكام المسبقة الراسخة في أذهان الناس ومن كراهية وعداء صريحين ومستترين ومتنوعين يصل إلى حد القتل والحرق, دعْ عنك الإهانات والسخرية والمشاكسة والتمييز في العمل والسكن والرزق وجعل الحياة جحيما لا يطاق للمواطنين الأجانب أو "للغرباء" الذين يعيشون سوية مع المواطنين الأوروبيين في بلدان الاتحاد الأوروبي, أي أن العنصرية المعاصرة, ليست حالة جديدة أو طارئة يمكن أن تختفي بسرعة, بل هي حالة ثابتة نسبيا ولها امتداد متوارث وغير منقطع لظواهر مماثلة قديمة في التاريخ الأوروبي, رغم إنها قد اتخذت في مراحل مختلفة أشكالا عديدة وارتدت لبوسا متباينة وتبنت تبريرات وأسباب مختلفة, وهي ليست بعيدة عن ممارسات سلطوية وتشريعية معينة. والأمر المقلق في هذا الصدد يبرز في تنامي ملموس لهذه الظاهرة في أوساط جديدة من المجتمعات الأوروبية واتساع تأثيرها على السياسات اليومية للحكومات المتعاقبة وقوى المعارضة في آن واحد, واتخاذها مظاهر جديدة وانعكاسها في شعارات شعبوية جديدة مبتذلة, رغم أنها تعبر في الوقت نفسه عن حالة كانت قائمة في السابق أيضا. فالعودة الواعية إلى التاريخ الروماني والإغريقي, أو إلى تلك الفترة التي اعتنقت أوروبا الديانة المسيحية القادمة من الشرق, أو إلى فترات الحروب الصليبية وما بعدها, أو إلى الأحداث التي عرفتها أسبانيا وعموم أوروبا في القرون الوسطى وفي عهد اكتشاف القارة الأمريكية, أو إلى الانتعاش المتعاظم للعنصرية الفكرية والبايولوجية في أوروبا في عصر النهضة, وعلى نحو خاص في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين, أو إلى العنصرية النازية والفاشية التي اقترنت بالانتقامية الألمانية والعنجهية الإيطالية والعسكرية اليابانية قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية وما أججته النازية الهتلرية والفاشية الموسولينية من أفكار عنصرية عدوانية وممارسات بشعة وغير إنسانية في هذا الصدد, سواء ضد اليهود أو الغجر أو السُلافيين أو غيرهم من الشعوب ومن حملة الأفكار الأخرى. فالأساليب الراهنة التي تمارسها بعض القوى السياسية الأوروبية, سواء كانت في الحكم أم خارجه, ليست كلها جديدة, بل إن بعضها قديم وآخر يمزج ما بين القديم والحديث وبعضها الآخر جديد حقا. ولكنها تبقى في كل الأحوال تعبر عن مضمون واحد وأساسي يتجلى في القناعة لدى هؤلاء الناس بأن "البشر ليسوا سواسية". ماذا يعني ذلك بالممارسة العملية؟ إنه يعني باختصار أن مجموعة من البشر تعتقد بكونها أرفع شأنا وأكثر تفوقا في البنية الداخلية وفي المظهر أو شكل الإنسان وفي تركيب أو بنية الدماغ, وبالتالي في الذكاء والفكر والعمل والأخلاق, من المجموعات البشرية الأخرى, لأنها منحدرة من جنس يختلف عن الأجناس الأخرى التي ينحدر منها بقية الناس, لأن الدماء التي تسير في عروقها نقية وهي ليست من ذات الدماء غير النقية أو المختلطة والفاسدة التي تجري في عروق الآخرين. أي أن هذا التمايز بين بني البشر ناشئ عن الاختلاف في العِرق أو النسب المرتبط بدوره بنقاوة دم الجنس الأوروبي الأبيض وعدم نقاوة الدماء الأخرى التي تجري في شرايين وأوردة الشعوب الأخرى غير الأوروبية, وأكثر تحديدا الشعوب غير الآرية. وهي ترى بأن هذا "الفارق الجوهري" الذي يميزها عن الآخرين يمنحها في الوقت نفسه مركزا متقدما وحقوقا إضافية على المجموعات البشرية الأخرى. فمن حقها مثلا أن تهيمن على المناطق التي تعيش فيها تلك الجماعات الأقل شأنا ومقاماً وذات الدم غير النقي أو الفاسد, وأن تستثمر مواردها وتستعبد وتستغل شعوبها لصالحها. أي أن على الشعوب الأخرى من تلك الأجناس ذات الدم غير النقي أن "تخدم بقناعة وارتياح كبيرين ودون تذمر أو احتجاج" الشعب المنحدر من عرق متفوق ومن دم نقي وطاهر. ومن حق أصحاب العِرق والدم النقيين وواجبهم الحتمي أن يتجنبوا الاختلاط المباشر بتلك الجماعات ذات الأصل المنحط وأن يبتعدوا عن التزاوج معها, لكي تتجنب الحط من قدرها وتدنيس دمها النقي وتسئ تدريجا إلى جنسها الصافي الذي يمتلك خصائص إضافية لا تمتلكها الأجناس الأخرى, وبالتالي تحل أللعنة عليها وتقترب نهاية هذا النوع المميز من البشر. وعلينا هنا أن نتذكر التصفيات الجسدية والإبادة الجماعية التي مارستها الجماعات الأوروبية الاستيطانية التي هاجرت موطنها أوروبا واستقرت في أمريكا المكتشفة حديثاً ضد المواطنين الأصليين, أي ضد الهنود الحمر. وهي ليست بخافية على أحد, كما أن بعض الأفلام الأمريكية عرضت ذلك "بافتخار كبير" لما قام به أجدادهم الأوروبيون في هذا القارة, إضافة إلى استمرار التمييز بصور شتى إزاء الهنود الحمر المتبقين وإزاء الأفارقة الأمريكيين. وأمامنا اليوم تنهض صورة ما تقوم به حكومة إسرائيل ضد السكان العرب في فلسطين نموذجاً آخر لهذه الممارسات في العنصرية والتطهير العرقي. ولا شك في أن الحكام العرب لم يقصّروا في هذا المجال قبل ذاك. وفي هذه الاتجاهات الفكرية والسياسية المسمومة والخرافية, التي كانت وما تزال تنطلق من مصالح اقتصادية استغلالية واستعمارية توسعية, تكمن الوظيفة الفعلية والأساسية للعِرقية أو العنصرية بصيغها القديمة أو المستحدثة. إن أحداث الماضي البعيد والقريب تشير إلى إن هذه الاتجاهات الفكرية الخرافية والأساطير المتناقلة عبر الأجيال والممارسات السياسية الشائنة المرتبطة بالعنصرية والناشئة عنها كانت لها في الماضي عواقب وخيمة وخطيرة على العلاقات بين البشر, وكانت من أهم الأسباب في ما نشأ من خلافات ونزاعات وما وقع من حروب وما حصل من كوارث ومآسي لا حصر لها, كما لا يمكن أن تكون لها نتائج أخرى أفضل في الوقت الحاضر أو في المستقبل. ولنا في ما حصل بين قبائل الهوتو وقبائل التوتسي في رواندا خير تعبير عن العواقب المحتملة لهذه الاتجاهات في العنصرية والتطهير العنصري .
ولا شك في أن المجتمعات الأوروبية التي واجهت مثل هذه الظواهر شهدت في الماضي وما تزال تشهد قوى اجتماعية وسياسية أخرى اتخذت وتتخذ اليوم أيضاً مواقف ديمقراطية ذات مضامين عامة وعقلانية مناهضة لتلك الاتجاهات العِرقية والممارسات العنصرية والمعادية للشعوب أو القوميات الأخرى أو الناس الآخرين من لون بشرة مغايرة أو دين مختلف أو لغة أخرى وقاومتها وأدانتها وسعت إلى اجتثاثها من الفكر الأوروبي, وهي ما تزال تسعى إلى تحقيق هذا الهدف الإنساني النبيل. ولكن الدلائل التي تواجهنا يوميا لا تسمح للمقيمين في أوروبا من قوميات وشعوب ولغات وألوان بشرة أو أديان أخرى بالتفاؤل الكبير أو أن تبقى دون حذر كبير أو دون نضال ديمقراطي وسليم دؤوب لمواجهتها, إذ أن على الإنسان المقيم في أوروبا أن يقّر حقا بوجود اتجاه عنصري مغامر وزاحف تدريجا ولكن بصورة ملموسة في أوروبا, وإن هذا الاتجاه يمكن أن يقود إلى نتائج وخيمة لا على المواطنين الأجانب أو المتجنسين بجنسيات هذه البلدان فحسب, بل وعلى الشعوب الأوروبية ذاتها, وعلى القوى الديمقراطية فيها, وعلى المدافعين عن حرية وحقوق الإنسان وعن مبادئ الثورة الفرنسية البرجوازية التي نادت بالحرية والأخوة والمساواة, إن لم تتصدى له كل القوى الاجتماعية الديمقراطية على اختلاف اتجاهاتها الفكرية والسياسية فكريا وسياسيا واجتماعيا, وأن تفضح هشاشة وفراغ وبؤس خلفيته ومخالفته للعلم والنتائج الكارثية التي يمكن أن يقود إليها لاحقا. وقد جرَّت هذه الاتجاهات الفكرية العنصرية, وهي في السلطة, الشعوب الأوروبية وغيرها إلى أتون الحرب العالمية الثانية وعواقبها الكارثية المعروفة للجميع.
يؤكد تاريخ أوروبا القديم والحديث إن اتجاهات التمييز العنصري والقومي والديني والطائفي وكذلك الفكري والسياسي أو التمييز إزاء المرأة, لم تختف يوما ما عنها, ولكنها كانت تظهر بشكل حاد ومرير ومباشر وصريح أحيانا, فكانت تتسبب في نشوب نزاعات وحروب غير قليلة وتكلف ضحايا هائلة, كما حصل في الحروب الصليبية و حروب القرن التاسع عشر والحرب العالمية الأولى وكذلك الحرب العالمية الثانية مثلا, وكانت تبرز في أحايين أخرى وكأنها أقل حدة وأقل ظهورا على سطح الأحداث وأقل صراحة أو أكثر استحياء, كما حصل في أعقاب الحرب العالمية الثانية, وبشكل خاص في سنوات العقدين السادس والسابع مثلا, أو أنها كانت تتراجع نسبيا لتظهر من جديد بصيغ وأساليب جديدة وقديمة وبحيوية جديدة, وهو ما يميز ظهورها الراهن في الكثير من بلدان الاتحاد الأوروبي. وكانت أوضاع المجتمعات الأوروبية وأزماتها الاقتصادية والسياسية أو رفاهها الاقتصادي العام والهدوء الإيجابي في أوضاعها الداخلية تؤثر على الواقع الاجتماعي-السياسي وتساهم في تصعيد أو تخفيف تلك الظاهرة. وبمعنى آخر فأن الرفاه الاقتصادي لا يلغي هذه الظاهرة, كما إن البطالة والجوع والحرمان لا تشكل الأسباب الرئيسية وراء وجود هذه الظاهرة العنصرية أو القومية الشوفينية, ولكن عاملي الغنى والفقر أو الرفاه والشحة يلعبان دورا مهما في خفوتها النسبي أو في غليانها, في تسترها أو في ظهورها بكل صراحة وعلانية وجهارا وربما أكثر عدوانية وعنفا أيضا.
وفي هذه المرحلة, ومع نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الثالثة تواجه المجتمعات الأوروبية تعاظما في وجهة العولمة موضوعيا من جهة, وتفاقما في نزعة التمييز والنظرة الأحادية الجانب للآخرين وتفاقم ظاهرة العداء للأجانب التي لا تنطلق كلها من مواقع عنصرية واضحة ولكنها تصب فيها في خاتمة المطاف وتزيد من تأجيج الأحقاد والكراهية بين الشعوب, أو بين الجماعات البشرية التي تعيش في بلد واحد, أو بين الأكثرية والأقليات القومية أو الدينية, أو إنها تتسبب في خلق مصاعب إضافية للمواطنين من أصل غير أوروبي من المقيمين بصورة دائمة أو مؤقتة في بلدان الاتحاد الأوروبي. فالعولمة الجديدة تؤشر بمعنى معين وجود مجموعة الدول الغنية والمتقدمة من جهة, ومجموعة الدول الفقيرة والمتخلفة أو النامية من جهة أخرى. وهذه الحالة تعزز لدى العنصريين مفهوم التفوق العرقي والثقافي, سواء صرح به جهارا أم بقى كامنا ومتسترا بصيغ وأساليب متنوعة. ويبقى هدفه الأول والأخير الهيمنة وفرض الإرادة وتحقيق أقصى الأرباح على حساب بقية الشعوب.
ولكن وجود العنصرية والسياسات العنصرية والتمييز القومي والديني والطائفي لم يقتصر على الحكام والجماعات العنصرية الأوروبية فحسب, بل ومارسها العديد من الحكام في مختلف بقاع العالم, ومنهم الحكام في دولة فارس والدولة العثمانية وكذلك قبل ذاك الحكام العرب في الدولة الأموية والدولة العباسية إزاء الشعوب والقوام والأديان والطوائف الأخرى. وفي المرحلة الجديدة من تاريخ الأقطار العربية نجد هذه الظاهرة بصيغ شتى في سياسات العديد من حكام البلدان العربية. وأبرز نموذج لها سياسات الحكم القائم في العراق.

ب. الذهنية العنصرية وممارسات التمييز والتطهير العنصري في عهد حكم البعث وصدام حسين

تتطلب معالجة هذا الموضوع التعرف على المراحل التي مر بها تطور ذهنية وسياسات وممارسات حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق منذ تأسيسه حتى الوقت الحاضر. وسنعالج هذه النقطة بكثافة شديدة في ما يخص العراق وحده والجناح العفلقي-ألصدامي في حزب البعث العربي الاشتراكي فقط. وعليه يمكن تقسيم فترة النصف قرن المنصرمة منذ نشوئه في العراق إلى خمسة مراحل, وهي:
1. المرحلة الأولى: فترة التأسيس 1951/1952 - 1958؛
2. المرحلة الثانية: فترة التميز والتهيؤ والانقضاض على السلطة 1959-1968؛
3. المرحلة الثالثة: فترة تكريس النظام ورسم السيات الاستراتيجية والتكتيكية 1968-1974/1975؛
4. المرحلة الرابعة: مرحلة البدء بالتهيئة الفعلية لتنفيذ السياسات الاستراتيجية 1975-1979؛
5. المرحلة الخامسة: مرحلة الهجوم التوسعي وممارسة فعالة للسياسات العنصرية على الصعيد الداخلي, والسياسة التوسعية والعدوانية وشن الحروب على الصعيد الإقليمي ابتداءً من 1979 حتى الوقت الحاضر, وستستمر هذه السياسات ما دام النظام الراهن قائماً في العراق.

المرحلة الأولى: : فترة التأسيس 1951/1952 - 1958

تبلورت الأفكار القومية في الصراع ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي في المشرق العربي, في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين, وتنامت في الأربعينات وفي ظل الاحتلال والصراع من أجل انتزاع الاستقلال والسيادة الوطنية, وكذلك حول القضية الفلسطينية ووعد بلفور بإقامة دولة عبرية على أرض فلسطين في عام 1917. وفي هذه الفترة برزت مجموعات فكرية وسياسية قومية في مواقع عديدة في بعض الأقطار العربية وبشكل خاص في سوريا ولبنان والعراق. وكانت الجامعة الأمريكية في بيروت إحدى تلك المواقع حيث كان الطلاب العرب من مختلف الأقطار العربية يلتقون للدراسة فيها. وفي داخل الأحزاب والقوى القومية تبلور تدريجاً الاتجاه القومي البعثي وتشكل حزب البعث العربي الاشتراكي من حزب البعث ومن حزب العمل العربي في سوريا في عام 1947. ونقل الطلبة العراقيون الدارسون في لبنان وسوريا وكذلك بعض المعلمين العرب العاملين في العراق أفكار واتجاهات البعث القومية إلى العراق. حيث تشكلت كتلاً صغيرة في الكليات العراقية, ووجدت لها مواقع في داخل حزب الاستقلال. وفي نهاية عام 1951 وبداية عام 1952 تشكل حزب البعث العربي الاشتراكي لأول مرة في العراق, باعتباره فرعاً قطرياً آخر للحزب القائم في سوريا. واعتمد الحزب الجديد في تكوينه على عناصر منحدرة من أصول برجوازية صغيرة وبرجوازية بيروقراطية ومن أبناء ذوي المهن الحرة كالمحامين والأطباء والقوات المسلحة. ولم يكن يخلو الحزب من بعض أبناء شيوخ العشائر وكبار الملاكين, إضافة إلى احتوائه على عناصر منحدرة من أصل شبه بروليتاري. وإذا كان حزب البعث عند تأسيسه الأول قومياً يمينياً بشكل عام, فأنه لم يكن في تلك الفترة حزباً طائفياً أو عشائرياً. إذ كانت في عضويته عناصر من كربلاء والنجف والحلة أو بغداد, وعناصر أخرى من لواء الدليم (الأنبار لاحقاً) وديالى مثلاً, كما برز فيما بعد في صفوفه بعض الأكراد المستعربين, الذين قطعوا صلتهم بالقومية الكُردية وتبنوا نهائياً القومية العربية, وهم قلة قليلة جداً, ومن بينهم على صالح السعدي على سبيل المثال لا الحصر. وتبنى هذا الحزب النضال الوطني والقومي, أي الكفاح ضد الهيمنة البريطانية على العراق ورفض المعاهدات الموقعة مع بريطانيا وتبنى الاتجاهات الأساسية لتي ظهرت في حركة القوميين العرب في نادي المثنى في الثلاثينات أو حزب الشعب السري الذي ترأسه مفتي الديار الفلسطينية في العراق حينذاك. ومنذ بداية تكوين هذا الحزب في سوريا أشار المؤسس الأول له إلى أن جاء تأسيس الحزب ليناهض الشيوعية والأممية في الدول العربية. وهكذا كان نهج هذا الحزب منذ البدء في العراق أيضاً. فقد كتب ميشيل عفلق يقول: "إن خلافنا مع الشيوعيين خلاف مبدأي وأساسي", ثم يواصل قوله" "إن ظهور حركتنا العربية الانقلابية بأفكارها ومبادئها وسياساتها وأسلوبها النضالي الشعبي قد جاء تعبيراً عميقاً عن انعدام مبررات الجدية الإيجابية لقيام شيوعية وحزب شيوعي في بلاد العرب … وينتج عن ذلك أننا في أساس موقفنا السياسي, لا نقبل التعايش مع الشيوعية" . ثم يواصل قوله في مكان آخر: "يجب أن نعتبر أنفسنا مسؤولين ليس فقط عن المستقبل القريب فحسب, بل وعن المستقبل البعيد أيضاً, وألا نسمح للشيوعية أن تصبح في يوم من الأيام منافسة جدية لحركتنا عند جمهور شعبنا" . والأخطر من ذلك ما يقوله ميشيل عفلق لاحقاً, إذ ورد ما يلي: "إن مكتب البعث العربي الذي لم يفتر منذ سنين عن مكافحة الخطر الشيوعي وتحذير الشعب العربي منه بالنشرات والاجتماعات يرى من واجبه أن يهيب بعرب سوريا مرة أخرى أن ينتبهوا إلى هذا الشكل الجديد من الاستعمار فيجمعوا كلمتهم للقضاء على هذا الخطر قبل أن يفوت الوقت ويتمكن الحزب الشيوعي من تسميم الروح العربية وتقطيع أوصال الكيان العربي" . ويستكمل المؤسس الأول لحزب البعث هذه الفكرة في فترة لاحقة, في عام 1963 فيقول: إن الأحزاب الشيوعية ستمنع وتقمع بأقصى ما يكون من الشدة في كل بلد عربي يصل إليه حزب البعث إلى الحكم" . وتبدو لي في هذا المقتطفات ثلاث مسائل جوهرية تحتاج إلى إمعان النظر في مضمونها واتجاهات تأثيرها والقوى التي تخاطبها على الصعيد الدولي, وهي: أ) نشأت الحركة البعثية في الوطن العربي لتقاوم أساساً الشيوعية فيه؛ 2) وترى الحركة بأن هناك خطراً شيوعياً يهدد الروح العربية والتراث والتقاليد العربية؛ 3) وأن السوفييت يشكلون خطراً استعمارياً جديداً على العالم العربي, وأن الحركة تلتزم أمام "الغرب الروحي" على مقاومة الشيوعية حتى النهاية حيثما وصلت إلى الحكم في الأقطار العربية. وهذه النقاط الملموسة التي نجدها مركزة في النصوص السابقة هي التي تسمح بالتفكير المباشر عن طبيعة العلاقة القائمة بين الانقلابات الناجحة التي قام بها البعث العفلقي في بعض الأقطار العربية وبين هذا الالتزام المباشر على مكافحة الشيوعية دون هوادة باعتبارها الخطر الأساسي على الروح والتقاليد العربية, وبين واقع قدرات البعث الذاتية الضعيفة في الوصول إلى السلطة, وبين الدعم الذي تحقق لهم بفعل ذلك الالتزام للوصول إلى السلطة.
وكان هذا يعني عملياً موقفا مناهضاً من منطلقات قومية شوفينية أبتداً للقوى الشيوعية والماركسية أولاً, وللجماعات أو للقوميات غير العربية التي تطالب بحقوقها القومية المشروعة ثانياً. فالمعلومات المتوفرة لدينا من خلال منشورات البعث ذاته تؤكد إلى أن هذا الحزب يدعو بشكل صريح ومجاهر به إلى "صهر" تلك القوميات والأقليات القومية" غير العربية في "البوتقة" العربية. ويتجلى هذا الموقف في المادة الخامسة عشر من دستور حزب البعث التي تنص على ما يلي: "الرابطة القومية هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية التي تكفل الانسجام بين المواطنين وانصهارهم في بوتقة أمة واحدة وتكافح كافة العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية" . ولكن ماذا يعني ذلك, وإلى ماذا يهدف هذا النص الدستوري لحزب البعث العربي الاشتراكي؟
أنه يعني وبلا لف أو دوران, إلى ما يلي:
1. يسعى حزب البعث إلى إقامة الدولة العربية في كل "الوطن العربي", باعتبارها أرضاً عربية ويعيش عليها الناس العرب لا غير؛
2. يرفض الاعتراف بوجود قوميات أو أقليات قومية في الدول العربية كافة, وبالتالي يفرض عليها الانصهار بالقومية العربية أو الأمة العربية الواحدة من المحيط ومروراً بالنيل والفرات فشط العرب.
3. وبالتالي, ومن باب تحصيل حاصل يرفض الاعتراف بالحقوق القومية العادلة للشعوب والقوميات الأخرى, ومنهم الشعب الكُردي والأمازيغ في المغرب والجنوبيين في السودان وغيرهم في مختلف الأقطار العربية.
4. العمل على تعريب كل الناس غير الناطقين بالعربية والقاطنين في "الأرض العربية" شاء هؤلاء الناس أم أبوا.
5. وأن حزب البعث يكافح كافة العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية عند الشعوب والأقوام الأخرى, ولكنه يحافظ عملياً على عصبيته القومية والعرقية ..الخ, إزاء الآخرين.
يقول قادة حزب البعث العربي الاشتراكي في معرض تحليلهم للموقف من القوميات والأقليات القومية في العالم العربي ما يلي: "العربي هو من كانت لغته العربية, وعاش في الأرض العربية, أو تطلع للحياة فيها, وآمن بانتسابه إلى الأمة العربية. إن هذا التحديد يعني شمول الهوية العربية لكل الأفراد والمجموعات التي ينطبق عليها هذه الشروط دون اشتراط العامل العنصري, وهو يفسح المجال واسعاً لتعميق امتزاج الأقليات والأقوام الصغيرة في الأمة العربية" . ولكي يقطع هؤلاء القادة الشك باليقين يتحدثون عن "الأرض العربية" فيرد عندهم ما يلي: "… فالأرض التي تعيش عليها هذه القوميات كانت جزءاً من الدول العربية التي نشأت منذ ألاف السنين والتي كان أخرها الدولة العباسية الكبرى, وهذه الأرض هي في الوقت نفسه, موطن هذه الأقليات لم تأت عن طريق القهر والاستعمار والاستلاب, وإنما أتت نتيجة الواقع التاريخي الممتد عبر ألاف السنين ولم يكن حول تلك الحقبة التاريخية الطويلة أي جدال أو نزاع" .
ويبدو أن هؤلاء القادة نسوا المقاومة التي أبدتها شعوب هذه المنطقة للفتح العربي الإسلامي لهذه المناطق, والقتلى الذين سقطوا على سفوح جبال وسهول كُردستان على امتداد القرون السابقة حتى الوقت الحاضر, وأن مصادرة حق هؤلاء الناس لا يمكن أن يتم بمجرد تأكيد قوميين عرب متطرفين بعدم أحقية الشعوب الأخرى بأرضهم وإقامة وطن مستقل لهم أو حقهم في تقرير المصير. وينبغي أن نجد في هذا الموقف ما بنيت لاحقاً من مواقف سياسية وعسكرية ضد الشعب الكُردي مثلاً في العراق, والتي سنأتي عليها لاحقاً.
ورغم أن حزب البعث نشأ علمانياً, وأن كثرة من المسيحيين كانوا أعضاء في هذا الحزب في سوريا, وكذا البعض منهم فيما بعد في العراق, إلا أن الحزب ربط اتجاهه القومي العربي بالاتجاه الديني الإسلامي, وبالتالي أضاف إشكالية أخرى غير الاتجاه القومي والفكري المناهض للأممية والقوميات الأخرى, هي مناهضته عملياً للديانات الأخرى, وأن جاءت بصورة غير مكشوفة أو مبطنة بمواقف تدعو للحضارة الإسلامية العربية لا غير وتضع القيود والحواجز بين القومية والأديان الأخرى, وكان أكبر تتويج لهذا الاتجاه هو إعلان الحكم في العراق عن تحول ميشيل عفلق عن دينه المسيحي الذي ولد عليه إلى الدين الإسلامي بعد موته وأثناء إجراء ممارسات الدفن.
وكان حزب البعث يتبنى منذ البدء العنف في نشاطه العام المناهض للقوى الأخرى أو للسلطة السياسية التي يعارضها.
وخلال فترة التأسيس استطاع حزب البعث أن يجد قواعد له في بغداد وعدد من مدن الوسط والجنوب واستفاد من تصاعد تأثير التيار القومي بعد انتصار الناصرية في مصر وبدء معارك تأميم قناة السويس وإقامة السد العالي وما إلى ذلك من توسيع قاعدته الحزبية وتاثيره في بعض الأوساط الطلابية والشبابية, وخاصة مع وبعد انتفاضة الشعب العراقي تأييداً لمصر في عام 1956, وتوجه الحكومة العراقية إلى اعتقال بعض نشطاء الحزب وزجهم في المواقف أو الحكم على بعضهم بالسجن. وساعدت تلك الانتفاضة على إدراك واقتناع القوى السياسية العراقية بضرورة تعاونها من أجل الإطاحة بالحكم الملكي والتخلص من الحكومات التابعة في سياساتها وقراراتها للحكومة البريطانية وسفارتها في بغداد, مما خلق مناخاً مناسباً لقيام جبهة الاتحاد الوطني في عام 1957, حيث أصبح حزب البعث العربي الاشتراكي عضواً فيها إلى جانب الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال, إضافة إلى التعاون غير المباشر مع الحزب الديمقراطي الكُردستاني عبر علاقته بالحزب الشيوعي العراقي. وأمكن تحقيق التعاون بين حركة الضباط الأحرار وجبهة الاتحاد الوطني. ونتيجة لتلك الجهود نجحت انتفاضة الجيش بإسقاط الحكم الملكي وإقامة الجمهورية العراقية الجديدة وتشكيل حكومة الثورة التي أصبح حزب البعث ممثلاً فيها أيضاً.


المرحلة الثانية: فترة التميز والتهيؤ والانقضاض على السلطة 1959-1968

ساهم حزب البعث في الحكومة الأولى التي تشكلت برئاسة اللواء الركن عبد الكريم قاسم, رئيس حركة الضباط الأحرار. ومنذ بداية الثورة ظهر الخلاف بين القوميين وبقية القوى السياسية, أي بين حزب البعث وحزب الاستقلال من جهة, والشيوعيين والديمقراطيين من جهة أخرى. واتخذ مواقف واضحة في عدد من المسائل, ومنها موضوع الوحدة العربية مع مصر وسوريا أو إقامة اتحاد فيدرالي معهما. ولم يقتصر على هذه القضية, رغم أنها كانت السبب في تفكك التحالف الجبهوي الذي رافق وساند الانتفاضة العسكرية وحولها إلى ثورة شعبية, بل شمل مسائل عديدة أخرى. وبدأ حزب البعث, وبالتعاون مع بقية القوى القومية العربية في العراق وبدعم مصري وسوري واسع, إضافة إلى دعم خارجي, بسبب مواقف عبد الكريم قاسم من شركات النفط الأجنبية واستعادته لحقوق العراق في الأراضي التي وضعت تحت تصرفها للتنقيب فيها عن النفط وجمدت عملياً تلك العمليات, إلى العمل المشترك من أجل إشاعة الفوضى في البلاد وتنظيم الإضرابات وعمليات الاغتيال لأعضاء من الحزب الشيوعي العراقي أو من مؤيدي سياسة عبد الكريم قاسم, ثم محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم ذاته في عام 1959, التي شارك فيها صدام حسين أيضاً, وأخيراً محاولات الانقلاب على قاسم. ووقف الإقطاعيون الذين تضررت مصالح بقانون الإصلاح الزراعي, والكومبرادور التجاري وقوى التعاون مع الغرب تحديداً, بسبب انفتاح عبد الكريم قاسم على الاتحاد السوفييتي وبقية بلدان المنظومة الاشتراكية إلى جانب تلك المؤامرات ومولوها بالمال والأفراد والسلاح. وزاد في الطين بلة سياسات عبد الكريم قاسم الاستبدادية وفرديته في اتخاذ القرارات, وكذلك سياسة الحزب الشيوعي التي تميزت بالعنف أيضاً في موجهة القوميين وغيرهم وفي طرح شعارات لم تكن ضرورية, بما فيها الحزب الشيوعي في الحكم مطلب عظيمي. ثم جاء الطلاق بين عبد الكريم والحزب الديمقراطي الكُردستاني بقيادة الملا مصطفى البارزاني والحرب في كُردستان, الذي ساند القوى القومية في نشاطها ضد عبد الكُريم قاسم, مما عجل بنجاح المؤامرات وسقوط حكومة عبد الكريم تحت ضربات القوى القومية بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي وبالتعاون الوثيق مع الضباط القوميين وعلى رأسهم عبد السلام عارف. وصل البعث, ومعه القوى القومية الأخرى, إلى السلطة ولكنه حصل على المركز الأول في السلطة والتمثيل في مجلس قيادة الثورة. وتميزت سياسته بإجراءات عمقت الاتجاهات اليمينية والشوفينية والعنفية التي أشرنا إليها سابقاً في فكر وممارسات البعث, إذ عمل حزب البعث على:
• إقامة نظام حكم الحزب الواحد في البلاد, حزب البعث العربي الاشتراكي, رغم وجود قوميين في مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء, إذ بدأ البعثيون يخططون لإزاحتهم تماماً واحتكار الحكم لهم.
تنظيم المجزرة البشعة ضد أبرز قادة الحكم في العراق, ومنهم عبد الكريم قاسم وفاضل عباس المهداوي ووصفي طاهر وجلال ألأوقاتي وماجد مصطفى وغيرهم, ثم أنزل الضربات الدامية بالحزب الشيوعي العراقي وبقادته سلام عادل وجمال الحيدري ومحمد صالح العبلي وبمئات آخرين من قياديي وكوادر وأعضاء وأصدقاء الحزب الشيوعي, كما زج بالألوف منهم في السجون والمعتقلات ومارس أبشع أشكال التعذيب بحق المعتقلين. ومارس نفس أساليب التعذيب الوحشي بحق عدد كبير من أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي والمستقلين من السياسيين وأعضاء حركة أنصار السلام والشبيبة وأفراد المقاومة الشعبية واتحاد الطلبة العام. وتمت في هذه الفترة مأساة قطار الموت الذي ضم عددا كبيراً بلغ 450 ضابطاً شيوعياً وديمقراطياً ومستقلاً غادر بغداد قاصداً سجن نقرة السلمان في جنوب العراق, في شهر تموز/يوليو شديد الحرارة, تم فيه إغلاق أبواب عربات الشحن المليئة بهؤلاء الضباط بشكل محكم, ولم يزود المعتقلون بالماء والغذاء, إذ تكدس هذا العدد الكبير في عدد قليل من عربات شحن البضائع أدت إلى صعوبة التنفس ووقع حالات شبه اختناق, مما أدى إلى مآسي كبيرة بما فيها وفاة أحد الضباط .
• ولم تستمر الهدنة مع الحركة الكُردية, إذ سرعان ما بدأ التحالف البعثي - القومي بممارسة سياسته العدوانية ضد الشعب الكُردي والإرهاب والحرب ضده أبتدءاً من العاشر من حزيران/يونيو 1963؛
• وخلال تلك الفترة الوجيزة التي بقي البعث فيها على رأس السلطة, حاول تكريس السياسات التربوية بالاتجاهات اليمينية والشوفينية وفرض الاستبداد والهيمنة الكاملة على الدولة والمجتمع والمنظمات المهنية وبث الرعب في صفوف الجماهير من خلال أوامر بالقتل بصورة مباشرة, كما في بيان الحاكم العسكري رقم 13 لعام 1963 الخاص بقتل الشيوعيين دون محاكمة؛
• واتخذ البعث إجراءات رجعية في مجال الأحوال المدنية, إذ ألغي القانون التقدمي الذي وضعته حكومة عبد الكريم قاسم, الذي تضمن بعض المواد التي تنصف المرأة وتسعى إلى تحريرها النسبي ومساواتها بالرجل كمنع الزواج المتعدد النساء والمساواة في توزيع الإرث بين الإناث والذكور من الورثة؛
• وبرز لأول مرة بشكل حاد مظهر الانقسام في صفوف البعثيين على أساس طائفي, أي بين الشيعة والسنة , رغم أن بوادر ذلك برزت في فترة حكم قاسم وبصدد الموقف من جملة من الممارسات التي نظمها البعث في العرق حينذاك. وكما تشير دراسة الأستاذ حنا بطاطو , فأن المجلس الوطني لقيادة الثورة قد ضم في عضويته 5 من العرب الشيعة و12 من العرب السنة وكُردياً واحداً مستعرباً هو على صالح السعدي, أي بنسب 27,5 %, و66,7 % و5,5 % على التوالي.
• ولم يكن هذا الشكل الوحيد من مظاهر التخلف والارتداد عن ما حققته ثورة 14 تموز/يوليو عام 1958, الذي برز في سياسة البعث الجديدة, ونعني بها محاولة الاعتماد على العشائرية في العلاقات الحزبية والسياسية, كما صدرت قرارات عطلت عملياً تنفيذ الإصلاح الزراعي لصالح الإقطاعيين وكبار ملاكي الأراضي الزراعية.
• كانت التجربة الأولى لحزب البعث في السلطة تشير إلى تعمق اتجاهاته اليمينية المتطرفة في الحكم, سواء بممارسة العنف والقوة ضد المخالفين له بالرأي أو ممارسة السياسات الشوفينية ضد القوميات والأقليات القومية الأخرى, إذ عانى الأكراد الفيلية لا من الاعتقال والتعذيب والسجن والقتل في السجون فحسب, بل وإلى المطاردة مما دفع الكثيرين منهم إلى الهرب من طغيان النظام واللجوء إلى البلدان الأخرى.
وبسبب كل ذلك حصد البعثيون كراهية الغالبية العظمى من المجتمع وهيأ الأجواء المناسبة لمحاولات انتفاضية وانقلابية ضد النظام, ومنها محاولة الانتفاضة على حكم البعث التي قام بها الشيوعي العسكري حسن سريع ومجموعته في معسكر الرشيد في الثالث من تموز/ يوليو 1963 ولتحرير 450 ضباطاً كان معتقلاً لإنقاذهم من الموت, والتي قضي عليها من قبل الحرس القومي وقوى البعث بالحديد والنار وأحكام الإعدام بحق قادة الحركة. وكان الصراع على السلطة بين أجنحة البعث من جهة, وبين البعث والقوى القومية من جهة أخرى قد اشتد وقاد إلى إضعاف مواقع البعث في الحكم لصالح الانقلابين الجدد. وأصبح الظرف مناسباً تماماً للقوى القومية الناصرية, وعلى رأسهم عبد السلام عارف وطاهر يحي وصبحي عبد الحميد وعبد الغني الراوي وغيرهم, لتوجيه الضربة لقيادة وحكم البعث والقيام بحركة انقلابية ناجحة في الثامن عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 1963 وتسلم السلطة, واعتقال الكثير من البعثيين وهزيمة البعض الآخر وحل الحرس القومي الذي أرتكب وحكومة البعث والقوميين الذين شاركوهم في انقلاب شباط الكثير من الجرائم بحق الشعب العراقي حينذاك. وبدأ القوميون اليمينيون المتطرفون من أمثال عبد السلام محمد عارف وعبد الغني الراوي وغيرهما, يبدون وكأنهم من الأبطال المنقذين للشعب العراقي من دنس وجرائم البعث, في حين كانوا شركاؤهم في كل شيء, ولكن الصراع على السلطة والموقف من عبد الناصر هو الذي أدى إلى انقسامهم وإلى قفزهم السهل على السلطة.
وخلال الفترة الواقعة بين 1963 و1968 بدأ البعث المطرود من الحكم يعمل على إعادة تنظيم صفوفه وحشد قواه في الجيش ومناصريه في القصر الجمهوري للانقضاض على الحكم ثانية. وتمكن فعلاً من تحقيق هذه القفزة في السابع عشر من تموز عام 1968, خاصة وأن الحكم العارفي, أي حكم الأخوين العارفين عبد السلام وعبد الرحمن, لم يستطيعا العمل باتجاه يسهم في تحقيق الديمقراطية في البلاد, بل مارسا السياسات الفردية الاستبدادية وسكتا عن الفساد الحكومي الذي ساد البلاد والهيمنة على موارد البلاد ونهب قطاع الدولة من الباطن وعنجهية عالية واستمرا على التوالي في السكوت على إرهاب نظام الحكم ضد قوى المعارضة, رغم تخفيفه النسبي بالقياس إلى فترة حكم البعث الأولى. كما عاد القوميون إلى شن الحرب ضد الشعب الكُردي ومارسوا أساليب التهجير ذاتها, مما خلق التربة المناسبة لإسقاط حكم القوميين العرب في العراق, ومجيء البعث ثانية إلى السلطة.

المرحلة الثالثة: فترة تكريس النظام ورسم السياسات الاستراتيجية والتكتيكية 1968-1974

لست معنياً باستعراض ما قام به البعثيون في هذه الفترة في مختلف المجالات, إذ تطرقنا إلى بعضها في مواقع أخرى من هذا الكتاب, بل يهمني بالأساس أن أشير إلى الاتجاهات الجديدة في فكر وممارسة البعث للسلطة والسعي للانفراد بها, رغم التحالفات المؤقتة والتكتيكية لتي حصلت خلالها الفترة الجديدة من حكم البعث. فقد وصل البعث إلى الحكم مرة أخرى في السابع عشر من تموز/يوليو عام 1968 وأعلن عن برنامجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ولم يكن في الجوهر يختلف في اتجاهاته الأساسية عن نهج ونشاط البعث العام. ولكن تميز بالوقائع التالية:
• التخلص بالتآمر من حليفه القومي الجديد الذي شاركه الانقلاب على الحكم العارفي من داخل القصر والمخابرات العسكرية, باعتبارهم عملاء لأمريكا وبريطانيا, في وقت كانوا حلفاء لهم أيضاً؛
• توجيه ضربة انتقامية للقوميين العرب وبشكل شديد الشراسة, فمن تنفيذ أحكام بالإعدام إلى سجن وتعذيب جسدي ونفسي وإهانات لكرامة الإنسان يصعب تصورها, ولكنها لم تكن في كل الأحوال بمستوى ما نفذه البعثيون والقوميون بصورة مشتركة بحق الشيوعيين والديمقراطيين في أعقاب انقلاب شباط/فبراير عام 1963. كما وجهت الضربة لتنظيمات البعث اليسار الذي انشق على حزب البعث العربي الاشتراكي في الفترة التي أعقبت سقوط حكم البعث, وزج بالعديد منهم في المعتقلات والسجون وعرضوا للتعذيب كرفاقهم القوميين أيضاً ؛
• جرى السكوت في الفترة الأولى عن الشيوعيين, ولكنهم سرعان ما أنزلوا ضربة قاسية في عام 1971, وعرضوا ألاف المعتقلين للتعذيب والانهيار أو الموت في بغداد بشكل خاص؛
• وواصل البعث الحاكم سياسته العسكرية ضد الشعب الكُردي, إذ استمر في قيادة المعارك ضد قوات الحزب الديمقراطي الكُردستاني محاولاً الاستفادة من الانشقاق في صفوف هذا الحزب لصالحه والتي فشل فيها إلى حدود كبيرة؛
• وفي الوقت نفسه سعى الحكم إلى إعطاء بعض المكاسب للجماهير من أجل كسر طوق العزلة عنه وكره الناس له وانعدام الثقة به وبقيادته وإضعاف مقاومة الشيوعيين للتعاون معه, حيث بدأ بعد ضربه للحزب الشيوعي, التوجه لحل المشكلة الكُردية بطريقة تكتيكية جديدة حيث تم التوقيع على اتفاقية الحكم الذاتي لكُردستان العراق في آذار من عام 1970. وضمن هذا السياق والأسلوب الانتهازي برز توجهه لإقامة العلاقات الطيبة مع الاتحاد السوفييتي, إضافة إلى الاعتراف بجمهورية ألمانيا الديمقراطية وإقامة العلاقات الاقتصادية الواسعة معها, ثم قام بإجراء تأميم مصالح شركات النفط في العراق ووضعها تحت تصرف شركة النفط الوطنية؛
• واستطاع أخيراً, وبدعم من جانب الاتحاد السوفييتي, إلى إقامة التحالف مع الشيوعيين لتوجيه الضربة لقوى حركة التحرر الكُردية والحركة المسلحة التي بدأ بها الملا مصطفى البارزاني في عام 974؛
• وكان حزب البعث يسعى في هذه الفترة إلى تعزيز وتكريس مواقعه في السلطة وفي المجتمع, وتأمين لمرحلة الانفراد الكامل بالسلطة. وكانت تحالفاته الوقتية معبرة عن موقف مبدأي لحزب البعث وقائد مسيرته الأولى, ميشيل عفلق, حين كتب في مقالته المعنونة "موقفنا من الشيوعية"ما يلي: "… فمجرد اشتراكنا في جبهة مع الشيوعيين هو توجيه ضمني من قبلنا للشعب لكي يتشكك في عقيدتنا وفي كونها الحل الوحيد الملائم لحاجاته. ونحن لا يضيرنا أن نتخوف من إتاحة الفرصة للشيوعية كي تكسب عطف الشعب وثقته على حسابنا.. ولا بد من الإشارة هنا صراحة إلى إن الرأي الذي يشجعه بعض الأنصار وبعض الأصدقاء من القناعة باكتمال الشروط والظروف اللازمة لدخولنا مع الشيوعية في جبهة وفي عمل مشترك إنما مصدره تشوش في فهم قضايانا وشعورنا بالنقص أمام النشاط الشيوعي في العالم" .

المرحلة الرابعة: البدء بالتهيئة الفعلية لتنفيذ سياسات البعث الإستراتيجية حتى عام 1979

بدأت المرحلة الجديدة بالمؤتمر القطري الثامن لحزب البعث الذي اتخذ قرارته على مستويين:
أ. المستوى العلني حيث أكد تصورات البعث حول دور الحزب القائد والرائد في الدولة والمجتمع, وعن وجهة الحزب في تحقيق التنمية الانفجارية في العراق وعن النموذج الاقتصادي الذي يسعى إلى إقامته ليكون جاذباً لأنظار الشعوب العربية وتأييدها ..الخ؛
ب. المستوى السري لمجموعة من القرارات التي لم يعلن عنها, رغم خروج بعض المعلومات عن وجهتها, وربما سربها البعث ذاته لتأكيد وجهته وتهيئة الأذهان للتغييرات التي يريد فرضها على المجتمع. وكانت الوجهة تتلخص في سعي البعث لمعالجة تدريجية خلال عدة سنوات لخمس عقد أساسية هي:
1. تصفية المسألة الكُردية وإنهاء الحركة المسلحة في كُردستان العراق؛
2. التخلص تدريجاً من التحالف القائم مع الحزب الشيوعي العراقي, باعتباره عبئاً ثقيلاً على حزب البعث لتحقيق مهماته وطموحاته الاستراتيجية, كما أنه مناهض لفكر البعث في التحالفات السياسية لا مع الحزب الشيوعي فحسب, بل ومع أي قوة سياسية, إذ أن الحزب يسعى إلى السلطة كاملة غير منقوصة. وقد بدأ هذا الحزب في أعقاب انعقاد مؤتمر الحزب الثاني في صيف عام 1976 بقليل بحملة هستيرية متدرجة ومتصاعدة بدءاً بالمحافظات البعيدة والأطراف والريف واقتراباً من المركز في بغداد شملت عشرات الألوف من أصدقاء ومؤيدي وأعضاء وكوادر الحزب الوسطية والمتقدمة, ثم تنفيذ حملة إعدامات بعدد من العسكريين من شيوعيين وغير شيوعيين إلى أن أوصل العلاقة مع الحزب إلى القطيعة الفعلية بعد انسحاب وزيرين شيوعيين من الحكومة واعتبار التحالف جزءاً منن الماضي, انتهى وإلى الأبد مع حزب البعث. وكانت الجريمة بشعة ومريرة وأدت إلى نزوح عدد كبير من الشيوعيين والديمقراطيين والمستقلين ومؤيدي الحزب الشيوعي إلى الخارج أو إلى كُردستان أو بقاء أعداد أخرى في السجون والمعتقلات أو ماتوا تحت التعذيب؛
3. تعزيز قدرات الدولة العراقية البعثية والتوجه صوب عسكرة الاقتصاد والمجتمع وتحديث تسليح وتوسيع عدد أفراد وقدرات الجيش العراق وأجهزة المخابرات والأمن الداخلي والقومي؛
4. تعزيز دور قيادة البعث في السلطة ودور مجلس قيادة الثورة والانفراد الكامل بالسلطة والبدء برسم وتنفيذ الأهداف التوسعية لحزب البعث على النطاقين العربي والإقليمي؛
5. توسيع علاقات التعاون الاقتصادي والسياسي والعسكري مع العالمين الرأسمالي والاشتراكي لضمان الحصول على أقصى ما يمكن به تعزيز الدولة البعثية ودور حزب البعث ومحاولة الاستفادة من ذلك لصالح سياسات البعث الداخلية والعربية والدولية. ووضعت لهذا الغرض ما سميت بالتنمية الانفجارية التي رغبت من خلالها الوصول إلى المستثمرين الأجانب وتعزيز علاقات البعث بهم لضمان تأييدهم لها في تحقيق تلك الأهداف.
وتركز عمل قيادة حزب البعث في هذه الفترة على اتجاهات أساسية أخرى انطلت بهذا القدر أو ذاك على الشيوعيين, وربما على قوى أخرى أيضاً. وابتداءً من المرحلة الجديدة, أي مع الحصول على موارد النفط الخام وإنزال ضربة شديدة وقاسية بحركة التحرر الكُردية, بدأت قيادة البعث الحزبية برئاسة صدام حسين, بالتخطيط والتنفيذ لاتجاهاتها الفكرية والسياسية الجديدة التي كانت في أجندتها حتى قبل وصولها إلى السلطة, وهي:
• مواصلة العمل لتحقيق ما أطلق عليه في مجلة الحزب الداخلية "الثورة العربية" والتي تتلخص بما يلي: تكوين الدولة البعثية القوية ذات الشروط التالية: دولة قوية بقيادة حزب قائد يمتلك أيديولوجية رائدة وقائدة ووحيدة وينفرد بالسلطة؛ ويمتلك القائد التاريخي, قائد الضرورة التاريخية, وجيش موحد ومسلح أحسن تسليح ومهيأ لتنفيذ المهمات. وبهذا الصدد كتبت الجريدة المذكورة ما يلي:
"لقد حدد الرفيق صدام حسين عناصر قوة الدولة والأمة, حين قال "منذ مئات السنين أيها الأخوة حرم العراق وحرمت الأمة العربية من بعده, الأمة العربية بكاملها أن تتحد الثروة والقيادة المخلصة والمقتدرة والعقيدة الحية, فجاء الوقت بعد مئات السنين لكي تكون لكم عقيدتكم المشرفة وأن يكون لكم حزبكم العظيم وعقيدته قيادة منكم وأن تكون لكم قيادة منكم عراقية وعربية صميمية, هذه هي أيها الأخوة العراقيون في كل مكان بهذه الكلمات الثلاثة الموجزة, العقيدة الحية الصميمية, تنظيم قوي وقيادة مخلصة من ذات البلد, وثروة حقيقية" .
• وجه البعث في هذه الفترة والفترة التي تلتها مبالغ مالية طائلة جداً لتحقيق ما يلي: أ) ضمان التسلح الواسع وإقامة ترسانة ضخمة من أحدث الأسلحة التي يمكن الحصول عليها من مختلف بلدان العالم, وتجهيز الجيش بأحدث التقنيات العسكرية وتأسيس كلية البكر للدراسات العسكرية؛ ب) التوسع في إقامة مصانع حديثة ومتقدمة لإنتاج السلاح والعتاد في العراق وبالتعاون مع الدول الاشتراكية والرأسمالية, وكذلك مع بعض دول العربية وبلدان العالم الثالث,أي تلك التي تقف على عتبة التحول, ومنها بعض دول أمريكا اللاتينية والدول الأوروبية, إضافة إلى الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية؛ ج) البدء بالتفكير بإنتاج أسلحة الدمار الشامل وخاصة القنبلة الذرية, إضافة إلى الأسلحة الكيماوية والبايولوجية وتخصيص مبالغ لا حدود لها لهذا الغرض؛ د) إقامة معاهد ومختبرات خاصة للبحوث والدراسات في مجال التقنيات العسكرية وفنون الحروب الحديثة؛ ه) توسيع الجيش والجيش الشعبي وإقامة التدريبات العسكرية للضباط وضباط الصف في الداخل والخارج, وإرسال البعثات العسكرية التدريبية والدراسية إلى مختلف بلدان العالم الرأسمالي والبلدان الاشتراكية. ويمكن للجدول التالي أن يوضح المبالغ المالية الهائلة التي وجهت لأغراض التسلح في العراق خلال الفترة الواقعة بين 1967-1990.










تطور المبالغ السنوية المصروفة للأغراض العسكرية
في العراق خلال الفترة 1976-1990

السنة المصروفات
مليون دولار أمريكي 1996 = 100
1976 2584 100,0
1977 2700 104,5
1978 2556 98,9
1979 3235 125,2
1980 3353 129,8
1981 14007 542,1
1982 21952 849,5
1983 28596 1106,6
1984 31590 1222,5
1985 23506 909,7
1986 16531 639,7
1987 17073 660,7
1988 12868 498,0
1989 10720 414,9
1990 9268 358,7
الإجمالي * 200539 -
المتوسط السنوي 13369 -
المصدر: التقارير السنوية لمعهد ستوكهولم لبحوث السلام للفترة 1981-1991 *) يضاف إلى هذا المبلغ 50 مليار دولارا أمريكياً وجه لأغراض استيراد وإنتاج أسلحة الدمار الشامل في العراق حسب إحصائيات سبري.
SIPRI: Yearbook 1997. Armaments, Disarmament and International Security.
Stockholm International Peace Research Institute. Oxford University. Sweden.





وتشير دراسات معهد ستوكهولم لدراسات السلام والتسلح ونزع السلاح في العالم إلى أن العراق قد صرف مبلغا قدره 50 مليار دولار أمريكي لإغراض إنتاج الأسلحة الكيميائية والجرثومية والأسلحة النووية. فإذا أضيف هذا الرقم إلى الرقم الأول الخاص بإجمالي مصروفات العراق العسكرية فسيرتفع المبلغ إلى 250.6 مليار دولار تقريبا. وشكل هذا المبلغ ما يقرب من 39,2 % من الناتج المحلي الإجمالي للعراق خلال الفترة 1976-1990 حيث بلغ الناتج المحلي الإجمالي لهذه السنوات مجتمعة حوالي 640.1 مليار دولار أمريكي وفق الأسعار الجارية. وهذا يعني أن متوسط الصرف السنوي بلغ 16.9 مليار دولار سنويا من متوسط سنوي للناتج المحلي الإجمالي لذات الفترة مقداره 42,7 مليار دولار تقريبا بالأسعار الجارية, أو ما يعادل 39,6% تقريبا. ويستطيع المرء أن يقدر مدى التطور الذي كان في مقدور العراق تحقيقه لو وجه النظام تلك المبالغ الكبيرة لصالح التنمية الاقتصادية والبشرية, ومدى نمو الثروة الوطنية بدلا من حصول ذلك الدمار الهائل الذي يعاني منه العراق بسبب تلك السياسات العدوانية المعادية للشعب ومصالحه الأساسية التي مارستها السلطة في العراق, إضافة إلى الديون الثقيلة التي تراكمت بذمة البلاد والتعويضات التي يراد استقطاعها من موارده السنوية والتي يمكن ان تستنزف جزءا مهما من احتياطي النفط العراقي والتي قدرها البعض بحدود 40 % ولسنوات طويلة. وكانت تلك السياسة عدوانية وتوسعية موجهة ضد الشعوب المجاورة ومصالح شعوب المنطقة بأسرها. وجدير بالإشارة إلى أن فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وأسبانيا ويوغسلافيا وغيرها من الدول الأوربية, إضافة إلى الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية, قد جنت كلها أرباحا قصوى من عقد وتنفيذ صفقات السلاح ومن اتجاهات التنمية الاقتصادية في العراق ومن سياساته العدوانية في المنطقة.
• إجراء تغيير في قيادة البعث لصالح صدام حسين, خاصة بعد أن نفذ ب 23 قيادياً من القيادة القطرية لحزب البعث ومجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء والكوادر المتقدمة الإعدام الجماعي بمشاركة أعضاء وكوادر الحزب في تنفيذ هذه الجريمة البشعة باعتبار أن هؤلاء كانوا يريدون السيطرة على السلطة لصالح أحمد حسن البكر. وبعد الانتهاء من المجزرة في عام 1979, قرر التخلص من أحمد حسن البكر الذي تنازل إلى "بطل الأمة" صدام حسين, ثم قضى نحبه مسموماً, كما يشاع في بغداد. وبالتالي, خلا الجو لصدام حسين في أن يبدأ المرحلة الجديدة بالهيمنة الكاملة على السلطة السياسية وعلى قيادة الحزب ومجلس قيادة الثورة دون منازع.


المرحلة الخامسة: الهجوم التوسعي وممارسة فعالة للسياسات العنصرية والعدوانية التوسعية وشن الحرب ابتداءً من عام 1979 حتى الوقت الحاضر

تمكن صدام حسين في عام 1979 أن ينتهي من عدد من المعوقات في طريق فرض دكتاتوريته الفردية المطلقة على البلاد وفرض نظامه الشمولي على المجتمع. ومن أبرز تلك المسائل نشير إلى ما يلي:
1. التخلص من التحالف البعثي - الشيوعي لصالح إنفراد حزب البعث بالسلطة؛
2. التخلص من المنافسين له في حزب البعث أو الذين برزت على تصرفاتهم عدم الارتياح من صدام حسين, وبالتالي تركيع وإخافة بقية القيادة بحيث تحول أغلبهم إلى جرذان مفزوعة من القط الذي يترقب أي تصرف منهم ليقودهم إلى المقصلة, إلى وجبة شهية للقائد؛
3. التخلص من دور حزب البعث ودمج صورة صدام حسين مع الحزب البعث, بحيث أصبح أحدهما الآخر, ثم غاب الثاني ليبقى صدام حسين وحده في الساحة السياسية, إذ لم تعد هناك حاجة أو ضرورة للحزب, إلا بقدر ما تريده منه أوامر القائد المتفرد والضرورة ليقوم بتنفيذها صاغراً, وبعدها أصبح صدام حسين رئيسا لمجلس قيادة الثورة ورئيس مجلس الوزراء, وأمين عام القيادتين القومية والقطرية, والقائد العام للقوات المسلحة ورئيس مجلس التخطيط …الخ, وأمسك بيديه منفرداً كل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية, إضافة إلى سلطتي المال والإعلام؛
4. التخلص قبل ذلك من قيادة الحركة الكُردية التاريخية, الملا مصطفى البارزاني, ولكنه عجز عن التخلص من الشعب الكُردي, وبالتالي من حركة التحرر الكُردية, إذ بدأت بعد فترة وجيزة تماماً من توجيه الضربة في عام 1975, إلى إعادة تنظيم الصفوف بتياراتها المختلفة ابتداءً من عام 1976 والعودة إلى المقاومة المسلحة في كُردستان العراق؛
5. في 22 أيلول/سبتمبر من عام 1980 أعلن مجلس قيادة الثورة في العراق الحرب على إيران, وهي الحرب التي دامت ما يقرب من 8 سنوات عجاف مليئة بالدم والدموع والخسائر الفادحة بشرياً ومادياً وحضارياً. واستثمر صدام حسين حالة الحرب ليستكمل بناء دولته الإرهابية والقمعية في العراق مع سكوت مطبق من العالم كله دون استثناء.
6. وقبل الحرب وبعد بدئها مباشرة نفذ النظام عمليات تطهير عرقي بشكل واسع ومكشوف ضد ثلاث مجموعات شعبية أساسية في المجتمع العراقي, وهم أولاً) وقبل كل شيء ضد المواطنين الأكراد في كُردستان العراق, ثم ثانياً) ضد المواطنين الأكراد الفيلية في بغداد والكوت ومندلي وخانقين وغيرها من المدن التي يوجد فيها أكراد فيليون, وثالثاً) ضد المواطنين العرب في الوسط والجنوب "باعتبارهم" من الشيعة ذي الأصل الفارسي, والذين "يؤيدون" الجمهورية الإسلامية التي نشأت على أنقاض الدولة الشاهنشاهية الإيرانية في عام 1979. وعمد النظام إلى تنفيذ عملية تهجير واسعة لسنوات عدة لأكراد كُردستان العراق إلى مناطق الوسط والجنوب. فعلى سبيل المثال لا الحصر أصدر مجلس قيادة الثورة قراراً يقضي بتشكيل لجنة تنفيذية في 20/10/1981 للإشراف على بناء المجمعات والوحدات السكنية في المحافظات الوسطى والجنوبية (بغداد - ديالي - صلاح الدين التي سيعين فيها "العاطلون من منطقة الحكم الذاتي. كما قرر البدء ببناء 20 ألف وحدة سكنية في المحافظات التالية لنقل السكان الأكراد إليها, وهي القادسية, المثنى, ذي قار والأنبار. (راجع الملحق رقم ). وهذا يعني أن هذه المرحلة كانت تهدف إلى نقل ما يزيد على مئة ألف إنسان كُردي إلى مناطق الوسط والجنوب في حملة لتغيير الطبيعة الديموغرافية للمنطقة وتعريب السكان الأكراد.
7. وخلال سنوات الحرب العراقية-الإيرانية استعاد واستعان صدام حسين بالعلاقات العشائرية القديمة في العراق محاولاً إحيائها من جديد ومنحها دفعة جديدة لتناصره في صراعه الداخلي وتساعده في تجنيد السكان في حربه العدوانية وإثارة النخوة البدائية في نفوس السكان من منطلق "ناصر أخاك ظالماً أو مظلوماً". ويمكن الادعاء بأن العراق اليوم يعيش حالة من التمزق العشائري والإقليمي والديني والطائفي, إضافة إلى الإشكاليات القومية التي أججها النظام بسياساته العدوانية والعنصرية ضد الشعب الكُردي والأقليات القومية والدينية. كما يبذل اليوم جهوداً غير قليلة للعب على وتر الدين والإسلام ليجد لنفسه مخرجاً من الوضع الذي زج نفسه فيه من خلال استدرار عطف وتأييد الشعوب الإسلامية التي لا تعرف تماماً أساليب الإرهاب الدموي والقمع والاستبداد والعنصرية التي يسلطها النظام على رقاب الشعب العراقي.
إن هذا الاستعراض المكثف لجوانب أساسية من ذهنية وسياسات البعث الحاكم في العراق تسمح لنا بالانتقال إلى متابعة الممارسات الفعلية للنظام لنرى كيف تتناغم تلك السياسات والممارسات مع طبيعة وذهنية القوى العنصرية.


ج. العنصرية في التعامل اليومي مع الأحداث

إن المراحل التي مرّ بها نظام صدام حسين في العراق منذ أكثر من ثلاثة عقود يشير بشكل واضح إلى أن هذا النظام مارس الإرهاب والقمع والاضطهاد والقتل الجماعي لا للوصول إلى السلطة والهيمنة عليها بشكل مطلق واستبدادي شمولي فحسب, بل ومن أجل تنفيذ مخطط واضح المعالم, مخطط يهدف إلى التخلص من مقاومة الشعب الكُردي ومن نضاله ومن القوى الديمقراطية العراقية من جهة, وممارسة سياسة العدوان نحو الداخل والعدوان والتوسع صوب المنطقة وتكريس نظام التمييز العنصري والفكري والسياسي في البلاد من جهة ثانية. ويمكن الاستدلال على ذلك لا من خلال الأقوال فحسب, بل بالأساس من خلال الأفعال. ففي البيان الصادر عن مجلس قيادة الثورة بإعلان الحرب على إيران في عام 1980 جاء فيه: " كنا نعتقد أن الزمرة الحاكمة في إيران ستستفيد من الدروس الماضية بعد أن حررت قواتنا المسلحة الباسلة أرضنا البرية المغتصبة على الحدود الشرقية وبعد أن عادت السيادة الوطنية على شط العرب. ولكن أحفاد المجوس الموغلين بحقدهم على العراق والأمة العربية والضالعين في المخططات المشبوهة استمروا في غيهم وفي عملياتهم العسكرية الطائشة …" . ثم يخاطب قوات الجيش العراقي المقاتلة على جبهات الحرب بقوله:
"أيها المقاتلون .. هذا يوم جهادكم وعزكم .. فاضربوا بكل اقتدار .. ويقيناً أنكم سيف الله في الأرض. وأن الرقاب التي تضربونها هي رقاب المجوس المعتدين أعوان المهووس الخميني" .
ألا يسمع المرء عبر هذه الكلمات السادية صليل السيوف, ألا يرى أسنة الرماح العوالي, ألا تتراءى له الرؤوس وهي تتدحرج على أرض المعركة والأجساد تتكوم فوق بعضها لتقيم تلالا والدماء لتسيل مدرارا؟ فالضاربون هم جند الله, هم أتباع وكيل الله على الأرض, إنهم العرب الميامين ... إنهم الجند الذين يدافعون عن الله وقضيته العادلة في الأرضّ وعن أرض العروبة! هكذا إذن... ولهذا فهم مقتدرون لأنهم يمتشقون سيوفهم بوجه الفرس المجوس ... بوجه الكافرين أعداء الله والإسلام... بوجه الشعوبيين أعداء الأمة العربية!! هكذا تحدث صدام حسين! إذ أن صدام حسين "العربي" و "المسلم" و"المؤمن" والصعلوك العنصري لا يقف مكتوف الأيدي أو يكون حياديا بين الإيمان والكفر, بين العرب والمجوس ... فهو العربي الأصيل, أبن "خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكرّ!", وهو المقتدر والمنتصر بالله, ولهذا قرر ألا يسكت عن الكفرة المجوس, قرر تأديبهم على كفرهم وغيهم وعدائهم للأمة العربية والإسلام! هكذا تحدث صدام حسين في الوقت الذي كانت عساكره المعتدية تحتل مناطق واسعة من الأراضي الإيرانية وكانت قد ولجت في العمق الإيراني حتى سوسنگُرد وغيرها ودنست الأرض الإيرانية وذبحت الكثير من أهلها نساءً ورجالاً وأطفالاً وأباحت الأعراض وسرقة الأموال وما يقع تحت أيدي الجنود وتحولت شوارع مدن العراق سوقاً لبيع المنهوبات الإيرانية من سجاد وأفرش ومختلف أنواع السلع. بهذه الذهنية الشوفينية والروح الفاشية المعادية للشعوب الأخرى, بهذه العنصرية المقيتة كانت صحافة النظام تنشر بأقلام المرتزقة المسبحة بحمد الدكتاتور والساعية إلى شراء وده والداعية إلى تنصيبه خليفة على أرض العراق والعالمين العربي والإسلامي ومنحه من الأسماء والألقاب ما فاق بعدده عدة مرات أسماء الله الحسنى. إنها أقلام خشبية ميتة تسعى إلى جعله, وبقرار منه, رمزا للعروبة والإسلام والإيمان بالله ورسوله .
أصدر خير الله طلفاح كتاباً جرى بيعه بشكل فهري في دوائر الدولة العراقية وعبر الحزب الحاكم والمنظمات المهنية بالقوة لناس, جاء فيه ما يلي من أفكار خرافية عنصرية مقيتة: "أولاً -الفرس- فالفرس حيوانات خلقها الله بشكل بشر وليس لهم من البشرية سوى أنهم يمشون على رجلين كالدجاج والطيور فأخلاقهم فاسدة وطباعهم شريرة وعقائدهم فاجرة وما أدل على ذلك من أنهم اتخذوا زرادشت ومزدك وحمدان القرمطي إلاهاً غير الله إذ هم لم يعترفوا بالله رباً ولكنهم اعترفوا بأن زرادشت ومزدك وحمدان هم آلهتهم كما يدعون الآن أن خميني طهران هو الله ولا رب سواه إذ نعت نفسه روح الله. …".
ثانيا - اليهود - أما اليهود قارئي الكريم فهم خليط من أوساخ شعوب مختلفة وفضلات متنوعة منهم الفارسي والرومي والمغولي والشبكي والهندي وغيرهم لا أصل لهم ولا نسب ينحدرون منه ولا دين يعتقدونه. …".
ثالثا - الذبان- الذبان مخلوق تافه لا نعلم غاية الله من خلقته ولكننا كبشر معرض لأذاه فنستكثر على الله خلقه هذا المخلوق التافه… وبالنظر لما بيناه من أسباب في هذه المخلوقات الثلاثة (فارس ويهود والذبان) ما كان على الله ليخلقهم" .
بدأ النظام بعمليات تطهير عنصري ورحل قبل سنوات من الحرب العراقية-الإيرانية, وليس بسببها فحسب, أعداداً كبيرة من العرب العراقيين والأكراد الفيليين بحجة كونهم من أصل فارسي لا يجوز بقاؤهم في العراق, وزاد عدد المرحلين على 400000 إنسان عراقي, كما قتل عشرات ألوف الناس ممن اعتبرهم إيرانيين في العراق. ثم قام بالدعوة الملزمة إلى تطليق العراقيين من زوجاتهم العراقيات والعكس أيضاً اللواتي اعتبرهن إيرانيات أو الذين اعتبرهم إيرانيين ودفع لمن يقوم بذلك مبلغاً من المال والاستعداد لإعادة تمويل زواجه بعربية "أصيلة" أو بعربي |"أصيل" أو تهجيرهما معاً, إن لم يقتلهما معاً.
وفي الموقف من الشعب الكُردي تؤكد كل الدلائل التي مررنا بها أن النظام العراقي, وخاصة المستبد بأمره ورهطه, يشكلون مجموعة فاشية عنصرية فكراً وسياسة, إذ تشم منهم رائحة العنصرية التي تزكم الأنوف والكراهية للناس من غير العرب, أو السعي في الحدود الدنيا إلى تعريب هؤلاء الناس خطوة فخطوة.

الفصل الثاني : عنصرية النظام ومذابح الأنفال

أ. التهيئة لمذابح الأنفال

إن من عاش في العراق عموماً وفي كُردستان العراق على وجه الخصوص, ومن تعامل بهذا القدر أو ذاك مع جوهر سياسات البعث الحاكم وتكوين شخصية صدام حسين وقراءاته وممارساته العملية, لأدرك تماماً بأن سياسة الإبادة الجماعية ذات المضمون العرقي والنهج الفاشي التي مورست في مذابح الأنفال العنصرية لم تكن بلا مقدمات وتخطيط مسبق بدأ مع وصول البعث للحكم وتقلب بموجات عدة مرات, ولكن الهدف بقي على حالة الذي أشرنا إليه في أعلاه. عشت في العراق وكنت شاهداً على ما جرى لمختلف القوى السياسية, بمن فيهم أعضاء ومؤازري وأصدقاء الحزب الشيوعي العراقي في عامي 1970/1971, كما كنت شاهداً على الحملة الهمجية الثانية ضد أعضاء ومؤازري وأصدقاء الحزب الشيوعي العراقي والكثير من القوى الديمقراطية في أعوام 1977-1980 على نحو خاص , وكذلك ضد القوى القومية والبعثية, أو ضد الأحزاب القومية والديمقراطية الكُردية. كما عشت في كُردستان العراق وشاركت مع جميع الأحزاب والقوى المناهضة لنظام صدام حسين في صفوف أنصار ومناضلي الحزب الشيوعي العراقي لعدة سنوات في جبال وقرى ومدن كُردستان العراق. ومارس النظام خلال تلك الفترات سياسات محددة تبلورت في خمسة اتجاهات أساسية هي:
1. التحالف مع بعض القوى بعد إضعافها وتحييد قوى أخرى وضرب قوى ثالثة, وكان ديدنه الانتقال من قوة إلى أخرى من أجل إنهاء أو إضعاف فعلي لكل القوى التي يمكن أن تكون معارضة لسياساته ومن أجل الانفراد الكامل بالحكم وفي رسم وتنفيذ تلك السياسات التي يسعى إلى تنفيذها بكل أبعادها على الصعيدين الداخلي والعربي وفي العلاقات الدولية دون معارضة تذكر؛
2. بث الرعب والخوف المتفاقم من همجية وشراسة النظام في ضرب كل المخالفين له دون تورع أو رحمة, واستخدام سياسة الجزرة والعصا للوصول إلى أهدافه في المرحلة الأولى والجزرة وحدها في المرحلة الثانية أو الثالثة, بهدف الوصول إلى حالتين: تأييد مطلق لسياساته أو سكوت مطبق عنها من جهة, والموت أو السجون أو المنافي والهجرة للمخالفين لتلك السياسات, أو اضطرار هذا الحزب أو ذاك إلى ولوج العمل السري التام, إذ يصعب معه ممارسة معارضة جادة ضد النظام وسياساته؛
3. بذل أقصى الجهود لعسكرة السياسة العراقية والمجتمع وجعله يسير بالوجهة التي يريد فرضها وتأمين ترسانة أسلحة ضخمة وقوة عسكرية كبيرة لتحقيق أهدافه الداخلية والعربية وفي تلك المناطق التي كانت يوما ما في إطار الدول العربية الإسلامية؛
4. كسب ود الدول العربية, ولكن بشكل خاص القوى القومية العربية والشعوب العربية من خلال سياسات ترتاح لها تلك الشعوب, وبشكل خاص الموقف من فلسطين والصهيونية, أو الموقف من الإمبريالية العالمية, بغض النظر عن مدى جدية أو عدم جدية تلك السياسات؛
5. بذل أقصى الجهود للحصول على تأييد أو تحييد دول العالم بالنسبة إلى سياساته الداخلية إزاء القوى المختلفة, وكذلك على الصعيد العربي وفي المنطقة, من خلال اللعب على حبلي المعسكرين الشرقي والغربي, واستخدام إمكانياته المالية لتوقيع العقود المغرية مع تلك البلدان لضمان تأييد واسع له أو سكوت عن السياسات والجرائم التي يرتكبها بحق الشعب العراقي, وبحق الشعب الكُردي وبقية السكان من غير العرب ولبقية القوى السياسية من غير المؤيدين له ولحزبه. كان صدام مؤمناً بأهمية تنفيذ سياسات التطهير العنصري وفي الحد الأدنى الدمج العنصري للأكراد في "الأمة العربية" باعتبارهم عرب الجبال, كما كان البعث قد تحدث عن ذلك طويلاً؛
6. استخدام الموارد المالية الكبيرة المتأتية من النفط الخام لتأمين تنفيذ هذه الوجهة في السياسة الداخلية والعربية. وكان مستعداً لهذا الغرض إلى حد تمويل حملات الانتخابات البرلمانية لعدد من الأحزاب والشخصيات الأوروبية وغير الأوروبية لتحقيق هذا الهدف.
نجح صدام حسين في تحقيق العديد من تلك التكتيكات السياسية والعسكرية, سواء على الصعيد الداخلي أم العربي, ولكنه فشل في بعضها الآخر, وخاصة عندما اصطدم مباشرة بالمصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة وعندما تجاوز الخطوط الحمر التي كانت غير معروفة تماماً له أو أنه لعب على حبال لم يتيقن من متانتها ومن قدرته عليها, فكانت المصائب المتتالية التي يعاني منها الشعب العراقي كله تقريباً. ولكن الطاغية كان, بالنسبة للقضية الكُردية, متيقناً من أنه:
• سيجد التأييد الكامل من الدول المجاورة, وبشكل خاص تركيا وإيران بسبب نضال الأكراد فيهما لصالح حقوقهما المشروعة أيضاً, وبالتالي فأي إضعاف للأكراد في أي قسم من كُردستان هو أضعاف للقضية الكُردية بأسرها وقوة لحكومات الدول المجاورة؛
• سيجد التأييد الواسع من أغلب حكومات الدول العربية, ومن القوى القومية اليمينية المتطرفة ومن الذين لم يتعرفوا حتى الآن على طبيعة المسألة الكُردية في العراق أو لم يفهموا ولم يتعرفوا حتى الآن على الحقوق المشروعة للقوميات والأقليات القومية في إطار المواثيق والعهود الدولية؛
• وستسكت الدول الكبرى والأمم المتحدة على ما يجري للأكراد, بسبب النفط الخام والمكاسب والأرباح العالية التي تجنيها في العراق في الفترة الأولى, ومن ثم بسبب مواقفها المؤيدة لحرب النظام ضد إيران والتي كانت تخدم مصالحها عموماً وتساهم في بيع المزيد من أسلحتها وضمان إضعاف الطرفين أيضاً في الفترة الثانية؛
• وكانت تدرك بأن الضربات التي وجهت لقوى المعارضة الداخلية تركتها عاجزة عن القيام بأي شيء حقيقي يقلق النظام, سوى الاحتجاج أو القيام ببعض النشاطات في كُردستان أو بعض الأعمال البسيطة والاغتيالات هنا وهناك, ولكنها ستكون مشمولة بالحرب ضدها هناك وستتلقى الضربات المتتالية منها؛
• وسيساهم الجيش العراقي في أغلبيته, بعد أن أجريت عليه عمليات تطهير وغسل دماغ ووضع الأعوان في المراكز الحساسة فيه, بتنفيذ تلك السياسات إما تأييدا فعليا لصدام حسين, أو سكوتاً عاما ومشاركة فعلية لضرب الشعب الكُردي. أما المعارضون لهذه السياسات فهم عاجزون عن التحرك ضدها أو ضد النظام خاصة وأن ماكنة الحرب والقتل مستعدة لتصفية من يقف بوجهها على هذا الطريق؛
• وعمل النظام على خلق جماعات من البشر تعمل له بلا ضمير أو بضمير مخرب تماماً, كما كون جيشاً جراراً من الفاشيين, سواء كانوا مدنيين أم عسكريين, وخاصة مجموعة من الضباط من الأقرباء والأعوان, وسواء كانوا في صفوف حزبه أم من خارجه, لا رحمة في قلوبهم حتى على أبناء النظام ذاته والمدافعين عنه. وكان هؤلاء يعملون في صفوف الجيش والجيش الشعب والشرطة وأجهزة الأمن العديدة, وكذلك في صفوف الحزب الحاكم ومنظماته الشعبية.
وفي ضوء ذلك حقق النظام جملة من المستلزمات الضرورية لشن حملات متلاحقة ومنظمة تهدف إلى بث الرعب وتحقيق التطهير العرقي ضد الشعب الكُردي ابتداءً من عام 1975/1976 مع تخلية المناطق الحدودية وفرض المناطق المحذورة (المحظورة) وبناء المجمعات السكنية على مشارف المدن وتخلية القرى من سكانها تدريجاً ووصولاً إلى تهجير العوائل البارزانية في عام 1983 من مناطق سكناها إلى جنوب العراق ثم إعادتها إلى معسكرات بنيت خصيصاً لها في كُردستان بعد عدة سنوات. وارتكب المسؤولون البعثيون وأجهزة الأمن والاستخبارات العسكرية وغيرهم أبشع الجرائم بحق عائلات البارزانيين, سواء بالتعذيب الجسدي والنفسي, أم بالقتل المباشر أو التغييب أو اغتصاب النساء والأولاد أو الاعتداء الجنسي لأغراض الإهانة للكبار من الرجال, والاعتداء على كرامة الإنسان الكُردي. وما جرى لهذه العوائل كان أقسى بكثير مما أنزله الحكم الصربي والصربيون العنصريون بالمسلمين في يوغسلافيا السابقة في العقد الأخير من القرن العشرين, رغم قسوة وبشاعة ذلك أيضاً. ويصعب تصور ضخامة الجرائم التي ارتكبت في كُردستان العراق خلال الفترة الواقعة بين 1986-1988 ضد الشعب الكُردي وقواه السياسية المعارضة للنظام العراقي وتحت واجهة الحرب, بما فيها تسمية وترقيم القرى الكُردستانية واعتبار 663 قرية كُردية في عام 1986 من جانب على حسن المجيد ضمن القرى المحذورة أمنياً والمحظور ولوجها على المواطنين جميعاً. ومن أجل تنفيذ سياسة النظام بحذافيرها والإبداع الفاشي فيها عمد صدام حسين إلى تعيين قريبه وشبيهه في العنصرية والعدوانية والقسوة علي حسين المجيد مسؤولاً عن مكتب تنظيم حزب البعث في الشمال, ثم منحه منذ 29 آذار/مارس من عام 1987 , السلطات الكاملة في التصرف بكُردستان العراق كما يشاء لتحقيق الأهداف المنشودة. وكان من بين الإجراءات التي اتخذها تنفيذ أحكام الموت بكل من يدخل تلك المناطق المحذورة أمنياً إنساناً كان أم حيواناً. واليكم الرسالة التي وجهها على حسن المجيد إلى كافة المسؤولين في كُردستان وشمال العراق في شهر حزيران من عام 1987 بهذا الصدد:
قيادة مكتب تنظيم الشمال التاريخ /6/1987
/6/1987 العدد
مكتب السكرتارية
من / قيادة مكتب تنظيم الشمال إلى/قيادة الفيلق الأول/قيادة الفيلق الثاني/قيادة الفيلق الخامس

الموضوع / "التعامل مع القرى المحذورة أمنياً"
بالنظر لانتهاء الفترة المعلنة رسمياً "لتجميع هذه القرى والتي ستنتهي موعدها يوم 21 حزيران 1987 قررنا العمل ابتداءً من يوم 22 حزيران 1987 بما يلي (1) نعتبر جميع القرى المحذورة أمنياً والتي لم تزل لحد الآن أماكن لتواجد المخربين عملاء إيران وسليلي الخيانة وأمثالهم من خونة العراق (.) (2) يحرم التواجد البشري والحيواني فيها نهائياً "وتعتبر منطقة عمليات محرمة ويكون الرمي فيها حراً "غير مقيداً" بأية تعليمات ما لم تصدر من مقرنا (.) (3) يحرم السفر منها وإليها أو الزراعة والاستثمار الزراعي أو الصناعي والحيواني وعلى جميع الأجهزة المختصة متابعة هذا الموضوع بجدية كل ضمن اختصاصه (.) (4) تعد قيادات الفيالق ضربات خاصة بين فترة وأخرى بالمدفعية والسمتيات والطائرات لقتل أكبر عدد ممكن ممن يتواجد ضمن هذه المحرمات وخلال جميع الأوقات ليلاً ونهاراً وإعلامنا (.) (5) يحجز جميع من يلقى القبض لتواجده ضمن قرى هذه المنطقة وتحقق معه الأجهزة الأمنية وينفذ حكم الإعدام بمن يتجاوز عمره (15) سنة داخل صعوداً إلى عم (70) سنة داخل بعد الاستفادة من معلوماته وإعلامنا(.) (6) تقوم الأجهزة المختصة بالتحقيق مع من يسلم نفسه إلى الأجهزة الحكومية أو الحزبية لمدة أقصاها ثلاثة أيام وإذا تطلب الأمر لحد عشرة أيام لا بد من إعلامنا عن مثل هذه الحالات وإذا استوجب التحقيق أكثر من هذه المدة عليهم أخذ موافقتنا هاتفياً أو برقياً وعن طريق الرفيق طاهر العاني (.)
(7) يعتبر كل ما يحصل عليه مستشارو أفواج الدفاع الوطني أو مقاتلوهم يؤول إليهم مجاناً ما عدا الأسلحة الثقيلة والساندة والمتوسطة أما الأسلحة الخفيفة فتبقى لديهم ويتم إعلامنا بأعداد هذه الأسلحة فقط وعلى قيادة الجحافل أن تنشط لتبليغ جميع المستشارين وأمراء السرايا والمفارز وإعلامنا بالتفصيل عن نشاطاتهم ضمن أفواج الدفاع الوطني (.) مكرر رئاسة المجلس التشريعي (.) رئاسة المجلس التنفيذي (.) جهاز المخابرات (.) رئاسة أركان الجيش (.) محافظو (رؤساء اللجان الأمنية) نينوى, التأميم, ديالى, صلاح الدين, السليمانية, أربيل, دهوك (.) أمناء سر فروع المحافظات أعلاه (.) مديرية الاستخبارات العسكرية العامة (.) مديرية الأمن العامة (.) مديرية أمن منطقة الحكم الذاتي (.) منظومة استخبارات المنطقة الشمالية (.) منظومة استخبارات المنطقة الشرقية (.) مدراء أمن محافظات - نينوى, التأميم, ديالى صلاح الدين, السليمانية, أربيل, دهوك (.) يرجى الإطلاع والتنفيذ كل ضمن اختصاصه (.) انبؤونا.

(التوقيع)
الرفيق
علي حسن المجيد
عضو القيادة القطرية - أمين سر مكتب تنظيم الشمال

بدأ الموت يزحف على كُردستان بلا موعد ويخطف البشر, يخطف الأم والأب والابن والبنت, الأخ والأخت, والعم والخال, والزوج والزوجة, الرضيع والعجوز, السالم والمريض, موت بلا انقطاع, كان موتاً عاتياً لا يرحم … بدأت بحملات إعدام دون محاكم وبأمر من على حسن المجيد المخول من صدام حسين, رئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة وأمين سر قيادتي حزب البعث العربي الاشتراكي القومية والقطرية .. .
فعلى إحدى الرسائل الواردة من عميد الأمن لمنطقة الحكم الذاتي التي يقترح فيها إعدام خمسة أشخاص, وهم: هوشيار كورون أحمد, بهاء الدين معروف محي الدين, آسو بكر محمود, جبار محمد قادر وجزا محمد صالح, بسبب تهمة موجهة لهم باغتيالهم ملازم أمن وجرح آخر, علق علي حسن المجيد على تلك الرسالة بما يلي: "موافق وتنفذ العملية من قبل الأمن ويشترك الجريح في التنفيذ, وتهديم دورهم وتصادر أموال ذويهم من الدرجة الأولى جميعهم ويحجزون … ويتم تصفيتهم تباعاً وبارك الله جهودكم", وقع ذلك بتاريخ 26 نيسان/إبريل 1987, ونفذت الأحكام بهم وبعائلاتهم. وبلغ عدد الذين شملهم قرار الإعدام من أفراد عائلات الأشخاص الخمسة الذين أعدموا 24 شخصاً بين رجل وامرأة, عدا الذين حجزوا وأبعدوا ثم تمت تصفيتهم لاحقاً, (نسخ من تلك الرسائل الرسمية المتبادلة متوفرة عند الباحث ك.حبيب).
وفي قرار صادر عن علي حسن المجيد تم إعدام تسعة أشخاص القي القبض عليهم في المناطق المحذورة أمنياً ونظمت لهم شهادة وفاة بتاريخ 15/1/1988 من قبل مستشفى السليمانية العسكري. وكان قد تم إلقاء القبض عليهم في تشرين الأول/أكتوبر من عام 1987. ولدينا المئات من شهادات الوفاة الصادرة من المستشفى العسكري في السليمانية حول قرارات إعدام مواطنين أكراد نتيجة ولوجهم المناطق المحذورة أمنياً لقطف التين من شجرة في هذه القرية أو تلك دون معرفتهم بقرار الحظر أو عودتهم إلى قريتهم دون معرفتهم بتهديمها من قبل الطيران العراقي, بسبب وجودهم في جبهات القتال مع الجيش العراقي.
وبعد التهيئة الواسعة للبدء الفعلي بتدبير جريمة النظام في الإبادة الجماعية في آذار من عام 1988, خاصة وأنه كان يريد استثمار استمرار الحرب ضد إيران وسكوت العالم على تلك الحرب, لإنزال أقسى الضربات بحركة الشعب الكُردي الوطنية وبالشعب ذاته, أرسل صدام حسين د. مكرم الطالباني باعتباره وسيطاً للاتصال بقيادة الحزب الشيوعي العراقي في كُردستان واقتراح إجراء حوار لحل المسألة الكُردية وإنهاء الصراع مع السلطة مع جميع قوى الجبهة الكُردستانية. وكان الهدف منها تأمين غطاء سياسي يبعد رؤية حملته القادمة أو يضعف الضجة بشأنها. وكان الموقف واضحاً ورفضت الدعوة من قبل قوى الجبهة الكُردستانية, بسبب معرفتهم بأهداف الدعوة, ولكن الخيط لم ينقطع وما كان صدام يريد قطعه إذ كانت مهمة بالنسبة له لمواصلة الجحيم الذي كان يسعى إلى تنفيذه في كُردستان, إضافة إلى مشكلات القتال في جبهة الفاو واحتلال إيران لها.
ولكن, ماذا حصل فعلاً في كُردستان العراق, وكيف ارتكبت الجرائم البشعة ضد الإنسانية تحت اسم "الأنفال" ؟


ب. تنفيذ حملات ومذابح الأنفال

استخدم النظام العراقي في حملته العسكرية الجديدة في عامي 1987/1988 كل تلك الأساليب والأدوات التي أشرنا إليها سابقاً, سواء بالتتابع أو كلها دفعة واحدة وفي ظروف متباينة ومواقع مختلفة, ولكن أكثرها شراسة وأكثرها عدوانية وعنصرية ورغبة في تحقيق الإبادة الجماعية لسكان كُردستان كانت مذابح الأنفال الجهنمية, التي اشتملت على كل تلك الأساليب والأدوات في آن واحد. فعمد إلى:
1. استخدام الأسلحة الكيماوية في حلبچة وفي مواقع أخرى من كُردستان . فوفق المعلومات المتوفرة كان العراق يمتلك استيراداً وإنتاجاً, وبمساعدة ودعم كثير من دول العالم الشرقية والغربية, ولكن الغربية على نحو خاص, على أنواع من الأسلحة الكيماوية, ومنها:
** غاز الخردل وأنتج منه 350 طن, غاز الأعصاب تابون 812 طن, واستورد 250 طناً من مادةVX القاتلة؛
** إنتاجه للأسلحة الجرثومية التي تتسبب بأمراض كثيرة والموت المحقق ومنها بتولنوم, وانثراكس وأفلاتوكسين وغاز كنكرين وديسين, وعفن الحنطة الذي يتسبب في تلف مخزون الحنطة.
2. ووفق المعلومات المتوفرة فأن هذه الأسلحة استخدمت ضد 280 قرية كُردية وتسبب في استشهاد 25000 مواطنة ومواطناً كُردياً بأعمار مختلفة, إضافة إلى مثل هذا العدد من المصابين بها. وتبقى حلبچة, هذه المدينة الكُردية الرائعة, تبقى رمزاً شاخصاً لجريمة النظام في استخدام السلاح الكيميائي ضد شعبها واستشهاد ما يقرب من 5000 إنسان كُردي وعدد مماثل من المصابين بالأسلحة الكيميائية. ولكن لم تكن هذه هي النتائج المباشرة وحدها بسبب استخدام الأسلحة الكيميائية في العراق, بل أدى استخدامها إلى تلويث الأرض الكُردستانية وبمساحات واسعة والمياه والمزروعات ونفق عدد كبير من الحيوانات بسبب تعدد مواقع استخدامها وتنوع الأسلحة الكيميائية المستخدمة.
3. تدمير كامل لأكثر من 4500 قرية كُردية بعدد متباين من النفوس في كل منها, وتدمير المزروعات والحيوانات فيها. واستخدمت قوات النظام لإنجاز هذه المهمة القصف الجوي بأسلحة النابالم المحرم دولياً والأسلحة الانشطارية والمدافع الثقيلة. ولم تقصف هذه القرى بعد تخليتها من السكان باستمرار, بل خربت على رؤوس سكانها في غالب الأحيان. وكنت أحد شهود الجرائم البشعة بعمليات القصف والتدمير الواسعين للقرى الكُردية في المناطق الريفية في مختلف مناطق كُردستان العراق وعلى امتداد الفترة الواقعة بين 1982-1988, ولكن بشكل خاص في عامي 1987 و1988. وكان بعض تلك القرى قد مسحت بالأرض وأخرى ما تزال أطلالها شاخصة توجه أصابع الاتهام لنظام لا ضمير له ولا وازع يردعه عن غيّه.
3. التمشيط الواسع للقرى والأرياف الكُردية واعتقال سكانها وتجميعهم في مراكز معينة, ثم نقلهم بشاحنات إلى مناطق مجهولة وقيام عصابات الإعدام بقتل عشرات الألوف منهم ودفنهم جماعياً أو دفنهم وهم أحياء في حفر واسعة والدوس على قبورهم الجماعية بالبلدوزرات لتسوية الأرض. ولم ينج من هذه المجازر في الغالب الأعم لا الأطفال ولا النساء ولا الشيوخ والمرضى. ولكن الموت كان بشكل خاص من نصيب الشباب منهم. وكان الفاعلون يسلبون ضحاياهم.
4. الإعدامات الأخرى في المدن والقرى التي أشرنا إليها سابقاً بسبب ولوج مناطق محذورة أمنياً أو بسبب اتهام بالتعاون مع قوى البيشمركة أو الشك بإخلاصهم. ولم يكن الموت نصيب هؤلاء وحدهم, بل نصيب أقرباء هؤلاء الضحايا من الدرجة الأولى, إضافة إلى تهديم بيوتهم ومصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة.
5. الاغتصاب المتواصل للنساء والشباب لا في إطار حملة الأنفال الدموية وحدها, بل وعلى امتداد الحملات العسكرية الظالمة وفي المدن الكُردية, ودفع المزيد من النساء إلى بيع أجسادهن تحت ظروف شديدة القسوة. إلا أن حملة الأنفال عرفت المزيد من هذه الحالات, وخاصة اغتصاب الشابات وقتلهن فيما بعد.
فماذا كانت حصيلة ذلك؟
تشير الأرقام, التي قدمت إلى المسؤولين العراقيين من جانب الأحزاب الكُردية, وما هو متوفر عند الأمم المتحدة, إلى أن عدد الضحايا بلغ 182000 إنسان كُردي . في حين يعترف قائد هذه الحملة الدموية المناهضة للبشرية, علي حسن المجيد, بقتل مائة ألف إنسان كُردي "لا غير"! وحوالي 1,5 مليون إنسان كُردي خضع لعمليات التهجير القسري والسكن في معسكرات اللجوء الخاضعة لنظام صدام حسين. كما أن عدد الذين استطاعوا الهرب إلى إيران بلغ في صيف عام 1988 أكثر من 100000 إنسان كُردي, وعشرات ألوف أخرى عبرت الحدود إلى تركيا. وصدر قرار عن منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" اعتبر عمليات الأنفال بمثابة جريمة ضد الجنس البشري .
لقد ارتكبت أبشع الجرائم بحق الشعب الكُردي في كُردستان العراق خلال هذه الفترة العصيبة بدم بارد تماماً من جانب قادة النظام ألصدامي, وهي تعيد إلى الذاكرة المجازر البشعة التي نظمها الدكتاتور المجرم بول بوت والخمير الحمر في كمبوديا. ولكن ما هو رد فعل العالم على هذه الجرائم البشعة بحق الإنسان والشعب الكُردي بأسره؟ ساد الصمت على هذه المذابح, فالعالم يرى ويسمع ويسكت على هذه الجرائم البشعة, عمي, بكم, صم, فهم لا يفقهون. كان العالم مشغولاً بالتفرج على الحرب العراقي-الإيرانية, وكان يهمه عدم انتصار إيران في هذه الحرب, لتفادي صعود نجمها وسيرها في طريق تصدير ثورتها, حيث كان المتطرفون من قادة الحكم والثورة في إيران يطرحونه بصراحة وبدون غموض. وكان العالم لا يريد النصر للعراق أيضاٌ خشية إصابة صدام حسين بجرعات إضافية من جنون العظمة. ولكن المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي كان مستعدان على السكوت لاستمرار علاقتهما الاقتصادية والعسكرية بالنظام العراقي والحصول على عقود إعادة البناء في العراق بعد الحرب وتأمين المزيد من العقود والأرباح من قطاع النفط الخام. وكان العالم العربي مشغولاً في زيادة دعمه لصدام حسين من أجل نجاح تصديه لإيران ومنع احتمال انتصار الثورة الإيرانية في حربها ضد صدام حسين وما يمكن أن يعقب ذلك من مشكلات لحكام المنطقة, وبالتالي لم تكن تهم تلك الحكومات مجزرة ينظمها النظام العراقي ضد الشعب الكُردي. ولم تتحدث الأمم المتحدة بكلمة واحدة حول هذه المجزرة البشعة, إذ كان سكوتها من سكوت الدول العظمى. وهكذا شجعت هذه السياسية النظام العراقي لارتكاب جريمته البشعة اللاحقة بغزو واحتلال الكويت وما نجم عن ذلك من مشكلات جديدة وكوارث لشعب العراقي كلهو ومنها ما حصل في كُردستان في عام 1991.
تحمل الشعب الكُردي الكثير من المصاعب والمصائب والمجازر, وكانت كلها قاسية ومريرة وبشعة, ولكنها تصبح كلها هامشية بالمقارنة مع مجازر البعث الدموية, وخاصة في عامي 1987/1988, في مذابح الأنفال الوحشية. ولكن النظام الدموي في العراق لم يكتف بذلك, بل سار على هذا النهج في أعقاب انهيار قواته العسكرية في الحرب ضد التحالف الدولي بعد غزوه العدواني ضد الكويت, حيث ارتكب المزيد من المجازر وشرد مئات ألوف الناس الأبرياء من بنات وأبناء الشعب الكُردي إلى إيران وتركيا في عام 1991 حتى تجاوز عددهم المليون نسمة.
أثناء غزو النظام العراقي للكويت وفترة التفاوض للانسحاب منها وثم بدء العمليات العسكرية ضد النظام كان الشعب العراقي عموماً, والشعب الكُردي إلى وجه الخصوص, يترقب الأحداث دون التدخل المباشر فيها. لقد كان القلق يسيطر على الناس بعد هذه المغامرة المجنونة. ولكن الولايات المتحدة التي عملت المستحيل لتأمين وقوع الحرب ضد العراق لإخراج قوات صدام حسين من الكويت لأسباب كثيرة لسنا الآن بصددها, وجهت نداءات مستمرة إلى الشعب العراقي تطالبه بالانتفاض على الحكومة العراقية وإسقاطها وأنها ستجد المساندة والتأييد من جانب الولايات المتحدة. وجاءت هذه النداءات بخطاب ألقاه جورج بوش من محطات الإذاعة وقوات التلفزيون الأمريكية موجهة إلى الشعب العراقي , إضافة إلى نشاط القوى السياسية العراقية التي كانت تعمل من أجل الإطاحة بنظام بغداد. وتحركت المشاعر والرغبة عند العراقيين لخلاص الفعلي من صدام ونظامه فكانت الانتفاضة الشعبية الواسعة التي اقترنت بالانهيار الواسع للقوات العراقية في حرب الخليج الثانية. واستطاعت القوى الكُردية الدخول إلى كركوك وأخذ زمام الأمور بيديها. ولكن الولايات المتحدة لم توف المجتمع العراقي بوعدها بل وقفت تتفرج على الكيفية التي كان النظام يقتل فيها المنتفضون في مدن الوسط والجنوب وكركوك وبقية المدن الكُردية , وكيف حصل الانهيار في الانتفاضة والهروب الرهيب إلى إيران وتركيا والسعودية. والمعلومات المتوفرة تشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تقف متفرجة فحسب, بل ساعدت النظام العراقي من خلال السماح له بتحريك طيرانه السمتي لضرب المنتفضين, في حين كان محرماً عليه استخدام الطيران في ضوء الاتفاقية التي وقعت بين الطرف العراقي والطرف الدولي في صفوان على الحدود العراقية-الكويتية معلنين انكسار العراق في الحرب الخليجية الثانية وانسحابه الكامل من الكويت. وبغض النظر عن العوامل التي كانت وراء الموقف الذي اتخذته الولايات المتحدة الأمريكية إزاء المنتفضين العراقيين, سواء كانوا من العرب أم الكُرد أم الأقليات القومية والدينية الأخرى, فأن الولايات المتحدة, وبعد أن حققت الأهداف التي كانت تسعى إليها, ومنها إخراج قوات النظام من الكويت, تدمير البنية التحتية للاقتصاد والمجتمع في العراق, تدمير المؤسسات الاقتصادية العراقية, موافقة العراق على تدمير أسلحة الإبادة والتدمير الشاملين ومشاريعه في هذا الصدد, وبعد أن أصبحت منطقة الخليج خصوصاً والشرق الأوسط عموماً تحت تصرفها وإرادتها, لم تجد مبرراً لإزالة نظام أصبح مكسور الجناح وغير قادر على مواجهتها أو تهديد إسرائيل بأي حال من الأحوال, كما كانت لا تملك بديلاً عن صدام مناسباً لها ولأهدافها في المنطقة. فلا باس من أن يوجه الضربة التي يريدها لقوى الشعب, خاصة وأن شوارتزكوف كان يرى في العراقيين خطراً مستمراً على المصالح الأمريكية في المنطقة وعلى إسرائيل في آن واحد. كانت طوابير الهاربين من انتقام النظام العراقي طويلة وغير منقطعة, وكان التعب والإرهاق والجوع والعطش يلاحق الأطفال والنساء والرجال وخاصة المرضى والشيوخ منهم. كانت لوحة مأساوية تعيد إلى الذاكرة طوابير أسرى الحروب الفاشية والعنصرية في العالم. وفي الخامس من نيسان عام 1991 صدر قرار مجلس الأم الدولي رقم 688 وتضمن ما يلي:
1 -يدين القمع الذي يتعرض له السكان المدنيون العراقيون في أجزاء كثيرة من العراق والذي شمل مؤخراً المناطق السكانية الكُردية وتهدد نتائجه السلم والأمن الدوليين في المنطقة.
2 - يطالب بأن يقوم العراق على الفور, كإسهام منه في إزالة الخطر الذي يتهدد السلم والأمن الدوليين في المنطقة, بوقف هذا القمع, ويعرب عن الأمل, في السياق نفسه, في إقامة حوار مفتوح لكفالة احترام حقوق الإنسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين العراقيين.
3 - يصر على أن يسمح العراق بوصول المنظمات الإنسانية الدولية, على الفور, إلى جميع من يحتاجون إلى المساعدة في جميع أنحاء العراق, ويوفر جميع التسهيلات اللازمة لعملياتها.
4 - يطلب إلى الأمين العام أن يواصل بذل جهوده الإنسانية في العراق, وأن يقدم على الفور, وإذا ما اقتضى الأمر على أساس إيفاد بعثة أخرى إلى المنطقة, تقريراً عن محنة السكان المدنيين العراقيين, وخاصة السكان الأكراد, الذين يعانون من جميع أشكال القمع الذي تمارسه السلطات العراقية.
5 - يطلب كذلك إلى الأمين العام أن يستخدم جميع الموارد الموجودة تحت تصرفه, بما فيها موارد وكالات الأمم المتحدة ذات الصلة, للقيام على نحو عاجل بتلبية الاحتياجات الملحة لللاجئين وللسكان العراقيين المشردين.
6 - يناشد جميع الدول الأعضاء وجميع المنظمات الإنسانية أن تسهم في جهود الإغاثة الإنسانية هذه.
7 - يطالب العراق بأن يتعاون مع الأمين العام من أجل تحقيق هذه الغايات.
8 - يقرر إبقاء هذه المسالة مفتوحة" .
والجدير بالإشارة إلى أن هذا القرار ملزم للعراق, ولكن لا تترتب عليه إجراءات عقابية في حالة عدم تنفيذ بنوده, في حين تترتب على العراق إجراءات عقابية في حالة عدم تنفيذها وفقاً للمادتين 39 و40 من ميثاق الأمم المتحدة, وهي بالتالي تخضع للمادتين 41 و42 من الميثاق الخاصة بالإجراءات العقابية التي تصدر عن مجلس الأمن الدولي . وأبقى القرار الباب مفتوحاً أمام المجلس لاتخاذ ما يلزم بشأن العراق في حالة عدم التنفيذ, ولكن الباب ما يزال مفتوحاً دون تنفيذ بنود هذا القانون, وبشكل خاص احترام حقوق الإنسان.
لم يكتف النظام العراقي بكل ذلك, بل يمارس اليوم سياسة التطهير العنصري في كركوك ضد الأكراد والتركمان, ويسعى إلى تغيير ديموغرافية هذه المدينة وجعلها مدينة لا يقطنها سوى العرب, وهي جريمة جديدة لم يتحرك المجتمع الدولي حتى الآن لوضع حد لها, رغم ما تنشر من حقائق في هذا الصدد. وإذا تسنى للنظام من جديد العودة إلى كُردستان فسيمارس نفس السياسة التي مارسها حتى الأمس القريب أو التي يمارسها اليوم في كركوك وخانقين.
من هنا تنبثق المسؤولية الكبيرة التي تتحملها الأحزاب السياسية الوطنية الحاكمة وغير الحاكمة في كُردستان من جهة, والأهمية الفائقة في توطيد الحكم الفيدرالي في كُردستان العراق من خلال معالجة المشكلات القائمة بالطرق التفاوضية الديمقراطية وبعيداً عن استخدام العنف, وممارسة الحياة الديمقراطية وإشاعة ممارسة حقوق الإنسان واعتماد المؤسسات الدستورية المنتخبة بحرية ونزاهة, ومؤسسات المجتمع المدني من جهة أخرى, مع أخذ الحيطة والحذر من مناورات ومؤامرات وخبث النظام وفاشيته اللعينة من جهة ثالثة, فهؤلاء الفاشيون في بغداد لا يرحمون حتى أبناءهم.
في عام 1992 أجرت منطقة الحكم الذاتي الانتخابات العامة لانتخاب البرلمان وحكومة كُردية. وقد تم توزيع المقاعد بالمناصفة بين الحزبين, كما تركت خمسة مقاعد للأقليات اقومية في كُردستان العراق. وأعلن فيما بعد وم قبل البرلمان الحكومة الفيدرالية الكُردية في إطار الجمهورية الاتحادية العراقية. وما أن بدا العمل حتى اختلف الحزبان وانقسم الحكم إلى حكومتين في السليمانية وأربيل, ثم بدأت الصراعات والنزاعات المسلحة بين الحزبين الكُرديين الرئيسيين في كُردستان العراق. ولم تبق النزاعات المسلحة بعيدة عن تدخل ومساندة من الحكومات في كل من العراق وإيران وتركيا, بل كانت هذه الحكومات وبطريقة ما تشجع تلك النزاعات بهدف إفشال التجربة لكي لا ينتقل تاثيرها وأشعاعها إلى بقية أنحاء كُردستان.
إن تجربة السنوات المنصرمة, سنوات الاقتتال بين الأخوة, قدمت الدليل على عجز السلاح عن معالجة الخلافات الفكرية والسياسية, بل يساهم في تعقيدها أكثر فأكثر, وأن الحل الوحيد لهذه المشكلات يكمن في علاقات الاحترام والاعتراف المتبادل بالآخر والكف عن استخدام السلاح. وتجربة السنتين الأخيرتين تشيران إلى حصافة الموقف والأمل بتطويره لصالح الشعب الكُردي في كُردستان العراق. إنه الطريق الوحيد الصالح لمواجهة تحديات الزمن الجديد.
وتقع على عاتق القوى السياسية العراقية والمجتمع العراقي والمواطن العراقي عدم التردد, بعد كل الذي حصل لهذا الشعب, إزاء الاعتراف الكامل بحقه في تقرير مصيره بما فيه حقه في الانفصال وإقامة دولته الوطنية المستقلة على أرض وطنه كُردستان الجنوبي. وإذ اختار الشعب الكُردي اليوم الاتحاد الفيدرالي فهو يدرك واقع السياسات الدولية والإقليمية والوضع الداخلي, كما يدرك أهمية تحقيق النضال المشترك بين العرب والكُرد وبقية الأقليات القومية والدينية العراقية على صعيد كُردستان والعراق عموماً ضد الاستبداد الدموي الصدامي ومن أجل عراق ديمقراطي مستقل. ويأمل الإنسان في أن يرى كُردستان العراق إقليماً مزدهراً ومتقدماً ونموذجاً يحتذى به على مستوى العراق, وهو ما يزال بعيداً عن هذه الحالة المنشودة.


ج. ما بعد مذابح الأنفال

لم تكن مذابح الأنفال الكارثة الأخيرة التي أنزلها نظام الاستبداد في بغداد بالشعب الكُردي. فقد استمر النظام يمارس سياسة التهجير القسري للسكان من مناطقهم ويزج بأعداد كبيرة في السجون والمعتقلات ويقتل آخرين, حتى بعد غزوه واحتلاله للكويت, إذ واصل سياساته عمق وشدد من سياساته القمعية والعنصرية وعنجهيته, حتى شن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية الحرب ضد النظام وأمكن طرد القوات العراقية من الكويت شر طردة. وبدلاً من أن يدرك النظام ما حل بالشعب والجيش العراقي من نكبات ومحن في تلك الحرب وفي الحرب ضد إيران, راح ينتقم من الشعب بسبب إعلان غضبه وانتفاضته الجريئة والعفوية ضد النظام وسياساته. وعمد النظام كعادته إلى مطاردة المناضلين في وسط وجنوب العراق وفي كُردستان ودفع بعشرات ومئات ألوف الناس إلى الهروب من جحيم النظام واللجوء إلى تركيا وإيران على نحو خاص. كما ضرب الانتفاضة في الوسط والجنوب وأغرقها بالدم والدموع ودفع بعشرات ألوف المناضلين صوب حدود المملكة العربية السعودية هرباً من الماكنة العسكرية للنظام.
وصدر قرار الولايات المتحدة الأمريكية بفرض حظر الطيران على المنطقة الشمالية من العراق, واضطر النظام تحت ضغوط وواقع جديد في كُردستان العراق إلى سحب قواته من بعض أجزاء كُردستان, حيث تسنى للقوات المسلحة (الپيشمرگة-الأنصار) الكُردية السيطرة على تلك المناطق التي انسحبت منها أجهزة النظام العسكرية والأمنية والإدارية. وأمكن لأول مرة أن يتمتع الأكراد بشكل فعلي وفي تلك الأقسام من كُردستان, التي أصبحت بيد الأحزاب الوطنية الكُردية, بالحرية ويتذوقوا طعم الديمقراطية. وبدأت عمليات إعادة تنظيم كُردستان والحكم الذاتي, ثم إعلان الحكم الاتحادي بإرادة الشعب الكُردي. وكان الأمل كبيراً في أن تصبح كُردستان موقعاً للحرية والديمقراطية والنضال من أجل التقدم الاقتصادي والاجتماعي للشعب الكُردي بالرغم من الحصار الذي فرضه النظام على الشعب الكُردي.
وبدلاً من تحقيق هذا الحلم, الذي ناضلت في سبيله جماهير الشعب الكُردي وأحزابها الديمقراطية طيلة عقود, بدأ الصراع بين الحزبين الرئيسيين في كُردستان العراق, بين الحزب الديمقراطي الكُردستاني الموحد والاتحاد الوطني الكُردستاني. وكان القتال أليماً والضحايا بالغة والخسائر فادحة والتدخل الإيراني والتركي والعراقي مستمراً في شؤون الأكراد عملياً. وأصبحت مؤسسات الحكم الفيدرالي غير ذات بال عملياً بسبب تلك الصراعات. وكانت الضحية الأولى في تلك المعارك بين الأخوة الأكراد هو الشعب الكُردي أولاً, والحقيقة ثانياً. وتسببت هذه الحرب لا في قتل عدد كبير من السكان وتدمير منشآت ومؤسسات كُردستانية فحسب, بل وبهجرة واسعة لعدد كبير من مثقفي ومتعلمي وفنيي كُردستان صوب أوروبا وأمريكا أو غيرها من البلدان. وكان الغضب كبيراً لدى الجماهير وأصدقاء الشعب الكُردي في الداخل والخارج. وكان النقد قاسياً ولكنه كان في الوقت نفسه عادلاً وصادقاً.
ومنذ ما يقرب من سنتين تعيش كُردستان العراق بهدوء نسبي حذر, إذ لم تنته التهديدات الخارجية والداخلية, كما يمكن في أي لحظة ولأي سبب كان أن تتفجر الأوضاع بين الحكومتين القائمتين في السليمانية وأربيل من كُردستان, وهو ما لا يتمناه أي إنسان عرف الشعب الكُردي وعرف كُردستان جداً وناضل مع هذا الشعب في سبيل حقوقه العادلة ويعرف تماما حجم الضحايا التي قدمها هذا الشعب على طريق الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي والفيدرالية وحق تقرير المصير لكُردستان العراق. ولهذا تتصاعد الدعوات إلى ضمان استمرار التطبيع الجاري حالياً بين الحزبين والحكومتين باتجاه إنهاء الوضع الشاذ الراهن تدريجاً, وفي سبيل إرساء أسس الحرية والديمقراطية وإقامة المؤسسات الدستورية من خلال انتخابات حرة وديمقراطية ونزيهة, وبعيداً عن التزوير وتجنباً لاحتمال الطعن بها, إضافة إلى إقامة مؤسسات المجتمع المدني بعيداً عن تدخل الحكم وتأثيره وربطها به, كما يفعل البعثيون في المناطق الأخرى من العراق, أو كما فعلت النظم الشمولية في العالم وما تزال تفعله حتى الآن بما فيها النظم العربية, رغم كل المصاعب التي تعترض هذا الطريق والمصاعب المالية التي تواجه الحكم الفيدرالي, لا بسبب نشاط الأعداء الخارجيين فحسب, بل وبسبب نشاط المتضررين من استمرار الهدوء والسلام والبناء في كُردستان العراق, ومنهم النظام العراقي.
إن الأمل كبير في أن تصبح كُردستان موقعاً متقدما للحياة الديمقراطية وحقوق الإنسان في العراق كله, وموقعاً مساعداً على استمرار النضال ضد النظام العراقي المستبد. أنها الضمانة التي يمكن أن تمنع النظام العراقي الراهن أن يجد فرصة لتكرار مذابح الأنفال. ما زلنا جميعاًُ لم نفعل ما يكفي للكشف عن الأساليب والممارسات التي مارسها النظام في عمليات ومذابح الأنفال, والدور الذي يتحمله صدام حسين شخصاً في تلك المجازر, وكذلك العديد من قادة الجيش وأجهزة الأمن والاستخبارات العسكرية وأجهزة الحزب, ومنهم علي حسن المجيد, الذي كلف بأمر من صدام حسين وحمل تعليمات خاصة لتنفيذ تلك المؤامرة. إذ من المعروف عن صدام حسين انه لا يترك مثل هذه العمليات دون أن يضع تفاصيلها على ورق ويسلمها للشخص المسؤول عن تنفيذ تلك الجرائم البشعة, فهو يتلذذ بمزاجه السادي البشع عند وضعه لتلك التفاصيل على الورق حتى قبل وقوعها ويتلذذ أكثر عندما يسمع بحصولها وفق ما رسمه لهم .

الاستنتاجات

إن تجارب النضال التحرري والديمقراطي للشعب العراقي عموماً والشعب الكُردي على نحو خاص تؤكد لنا جميعاً, وبما لا يقبل الخطأ, ما يلي:
• إن السبيل الواقعي والعملي للخلاص من حكم الاستبداد والفاشية في العراق يمر عبر عدد من المستلزمات الأساسية :
1. التعاون والتنسيق والتحالف السياسي بين الأحزاب والقوى السياسية العراقية, العربية منها والكُردية وبقية أحزاب الأقليات القومية العراقية, بمختلف تياراته التي تعترف بالحرية والديمقراطية للشعب وحقه الكامل في التمتع بحقوق الإنسان المنصوص عليها في اللائحة الدولية لحقوق الإنسان, بما فيها الحياة الدستورية الديمقراطية والتعددية السياسية والتداول الديمقراطي للسلطة وفصل الدين عن الدولة, والاعتراف الكامل بحق الشعب الكُردي بحقه في تقرير مصيره والاعتراف بالحكم الفيدرالي القائم ضمن الجمهورية العراقية؛
2. لقد ارتكبت أحزاب الحركية السياسية العراقية المعارضة أخطاءً غير قليلة في نضالها خلال العقود المنصرمة, وكذا أحزاب الحركة التحررية الكُردية, وكانت لهذه الأخطاء عواقب سلبية غير قليلة في مختلف الاتجاهات وعلى مختلف الأصعدة, ولكنها لم تكن المسؤولة عما وصل إليه الوضع في العراق, بل طبيعة نظم الحكم ورفضها الاعتراف بحرية الشعب وحقه في الديمقراطية وحقوق الشعب الكُردي الطبيعة, هي التي قادت إلى هذا الوضع. ومع ذلك يفترض إبعاد شبح الصراعات والمهاترات والنزاعات المسلحة بين القوى السياسية العراقية, وتحويل الخلافات إلى نقاط حوار حضارية والسعي لحلها ديمقراطياً؛
3. توحيد جهود نضال القوى السياسية العراقية في الداخل والخارج للتخلص من والاتفاق على سبل ووسائل الكفاح التي يفترض ممارستها في هذا النضال؛
4. توحيد الجهود على الصعيدين العربي والدولي من أجل كسب تأييد الشعوب والحكومات العربية وحكومات الدول الإسلامية وبقية دول العالم في سبيل الاعتراف بحق الشعب العراقي في الحرية والديمقراطية ومساندته لخلاص من الاستبداد الجاثم على صدره منذ عقود؛
5. العمل المشترك مع المنظمات الدولية والعربية لضمان الحصول على تأييدها في هذا النضال, إضافة إلى العمل من أجل رفع الحصار عن كاهل الشعب وتأمين العزلة السياسية الضرورية للنظام دولياً وعربياً.
6. ولم يعد مناسباً, وبعد كل التجارب القاسية التي مر بها الشعب العراقي, القبول بقوى سياسية تريد إسقاط النظام القائم, ولكنها تريد في المقابل عدم الاعتراف بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وفصل الدين عن الدولة في بلد تعيش فيه جماعات قومية ودينية وطائفية وأراء ومعتقدات عديدة, إذ لا بد أن تكون الدولة حيادية تماماً إزاء الأديان وتحترمها جميعاً وتسمح لها بلا قيود أو شروط مخلة بأداء طقوسها وشعائرها الدينية بكل حرية.

وعلى صعيد موضوع بحثنا حول الأنفال فعلى عاتقنا جميعاً تقع المهمات التالية:

1. دعوة الأمم المتحدة لاعتماد إقامة ندوة دولية خلال العقد الجاري تبحث في أسباب وعواقب مجازر عمليات الأنفال التي مارسها النظام باعتبارها أعمالاً عنصرية استهدفت التطهير والإبادة الجماعية للشعب الكُردي في كُردستان العراق والعراق عموماً, واستخلاص الدروس والسياسات والإجراءات الممكن اتخذاها لمعاقبة النظام ومن أجل منع تكررها في كُردستان العراق أو في أي مكان في العالم, وهي بمثابة تحذير لكل الحكومات والقوى والسياسات العنصرية في المنطقة, وخاصة في تلك الدول التي تعيش فيها أجزاء من الأمة الكُردية.
2. البدء بعقد ندوات أو مؤتمرات سنوية تعقد في كُردستان العراق من أجل مواصلة فضح هذه السياسات والكشف عن السبل والأساليب والأدوات التي أستخدمها النظام في قتل هذا العدد الهائل من السكان الأكراد في كُردستان العراق وعن بقية جرائم النظام بحق الشعب الكُردي.
3. دعوة القوى والأحزاب السياسية العراقية, سواء العربية منها أو الكُردية أو غيرها, من أجل التعاون لعقد ندوات خارج حدود العراق, سواء كان ذلك في البلدان العربية أم الدول ذات الأكثرية المسلمة, أم في الدول الأوروبية أم في بلدان أمريكا الشمالية والجنوبية واستراليا وغيرها من الدول حول موضع الأنفال والواقع العراقي الراهن. ويمكن أن يعتمد يوم محدد في السنة ليكون يوم تخليد لذكرى شهداء الأنفال في كُردستان العراق وعلى صعيد العراق كله.
4. العمل على إصدار نشرة مشتركة أو التزام كل الأحزاب والقوى الكُردية لمجلة الأنفال لتكون الأداة الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية الفعالة في الكشف عن الجرائم التي ارتكبت وفضح خلفياتها وعواقبها للمجتمع الدولي, إذ يمكن أن تنشر بلغات عدة إلى جانب الكُردية والعربية, وتوزيعها على نطاق واسع في الدول العربية أيضاً.
5. تأمين إقامة معارض فنية تشكيلية حول الواقع العراقي والأنفال, ومنها حول حلبچة, ونضال الشعب الكُردي وإصدار البوم خاص بتلك اللوحات ونشرها على نطاق واسع, على أن يدعى لها أوسع عدد ممكن من الفنانين العراقيين من مختلف القوميات, إذ في ذلك إدانة فعلية للعنصريين العرب في مجازرهم ضد الشعب الكُردي , ومنهم الحكم القائم في العراق وعلى رأسه صدام حسين وعلي حسن المجيد ورهطهما.
6. إيلاء اهتمام بالناس المتبقين والفالتين من عمليات الأنفال لضمان استكتابهم أو إجراء المقابلات معهم للحصول على أوسع وأدق التفاصيل عن هذه العمليات العنصرية وتسجيلها صورة وصوتاً ونشرها بشكل منظم وممنهج.
7. كما يفترض إيلاء اهتمام خاص من جانب الأحزاب الحاكمة في كُردستان العراق, وفي العراق الديمقراطي القادم بالناس الذين نجوا من المذابح, وأطفال وعائلات شهداء مذابح الأنفال.

وفي أعقاب ثورة تموز عام 1958 صدر قانون الإصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1959 الذي تحدد بموجبه مساحات الراضي الزراعية التي يفترض مصادرتها من الإقطاعيين وكبار ملاكي الراضي الزراعية في جميع أنحاء العراق, ومنها إقليم كُردستان, وتوزيع الراضي المصادرة والأراضي التابعة للدولة على الفلاحين لتأمين حل عادل نسبياً لمشكلة الأرض الزراعية. ورغم الجهود التي بذلت توقفت عملية الإصلاح الزراعي لأسباب كثيرة, نشير فيما يلي إلى أبرزها:
• مقاومة الإقطاعيين وكبار ملاكي الأراضي الزراعية لعملية الإصلاح المنشودة؛
• عدم جدية النظم الحاكمة في بغداد خلال السنوات المنصرمة في تنفيذ بنود قانوني الإصلاح الزراعي؛
• الجهاز الإداري, الذي لم تسع ثورة تموز إلى تغييره وكان في أساليب عمله ونشاطه وعلاقاته يعود للماضي الإقطاعي, وقف ضد تنفيذ هذا القانون عملياً وأفشل عمليات مصادرة وتوزيع الراضي على الفلاحين إلى حدود بعيدة,
• الأحداث التي شهدها العراق, ومنها الانقلابات العسكرية المتتالية, وخاصة الحرب التي شهدتها منطقة كُردستان ابتداءً من عام 1961,والسياسة التي مارستها الدولة ضد الفلاحين وتدمير القرى وحرق المزروعات وما إلى ذلك, التي أعاقت عملياً تنفيذ بنود القانون في كُردستان العراق أيضاً.
وفي عام1971, أي بعد انقلاب البعث الثاني عام 1968, صدر قانون الإصلاح الزراعي رقم 117, ثم صدر قانون رقم 90 لسنة 1975, أي في أعقاب ضرب الحركة التحررية الكُردية في محاولة لاستهلاك النقمة التي عصفت بالمنطقة حينذاك. وكان القانون في جوهره, وكذا القانون رقم 117 لسنة 1971, تقدمياً وأكثر جذرية من القانون رقم 30 لسنة 1959. ولكن العيب لم يكن قبل ذاك ولا بعده بالقوانين بل بطبيعة الحكم والأجهزة الإدارية التي كانت تقوم بتنفيذه. ورغم المحاولات التي جرت غفي بعض الفترات لتنفيذ مضمون القانون إلا أن واقع الوضع في كُردستان منع عملياً الوصول إلى نتائج إيجابية بهذا الصدد, خاصة وأن الحكومة كانت بحاجة إلى تأييد بعض شيوخ العشائر, وخاصة تلك التي تعاونت مع الحكم وشكلت له طوابير الجحوش لمواجهة حركة التحرر الكُردية في كُردستان العراق. ويبدو أن الحكم الفيدرالي الجديد في كُردستان يحاول إيجاد بعض الحلول لهذه القضية التي لم تنته حتى الآن. وكان الفلاحون أكبر خاسر في كل ما جرى لكُردستان خلال العقود الأخيرة. إذ أنهم تعرضوا إلى ثلاث عمليات متزامنة, وهي:
• تهجير واسع النطاق من القرى التي كانوا يسكنونها وحرق أغلب تلك القرى وتجميعهم في مجمعات سكنية قسرية؛
• مصادرة الأراضي التي كانت بحوزتهم أو المستأجرة من قبلهم؛
• قتل عدد كبير جداً من الفلاحين وأفراد عائلاتهم.
وكانت نتيجة ذلك خسارة إضافية بشرية ومالية ومادية كبيرة لاقتصاد ومجتمع كُردستان خصوصاً والعراق بشكل عام, إضافة إلى أنها كانت جرائم بشعة ارتكبت بحق المجتمع الكُردستاني.

الملاحق






























هل مجازر الأنفال ضد الشعب الكُردي تشكل
جزءاً من جرائم الإبادة الجماعية وضد الإنسانية؟
"في الذكرى التاسعة عشر لعمليات
ومجازر الأنفال الدموية ضد الشعب الكُردي"
جرائم الإبادة الجماعية وضد الإنسانية في اللوائح الدولية

تدور في بال الكثير من المواطنات والمواطنين العرب في العراق وفي الدول العربية أسئلة كثيرة تتطلب منا جميعاً المشاركة في الإجابة عنها منطلقين من حسن النية وقلة المعلومات لدى هؤلاء الناس. من بين تلك الأسئلة مثلاً:
هل كانت هناك عمليات أنفال عراقية فعلاً؟ وهل كانت تلك العمليات والمجازر البشرية مدروسة ومخطط لها ومنظمة سلفاً, أم أنها كانت عملية عفوية في مجرى الوضع العام للحرب العراقية – الإيرانية حينذاك؟ وهل كانت العمليات إجراء فردي قام به دكتاتور فقط,أم كانت سياسة منهجية مارستها سلطة سياسية ونظام استبدادي عنصري حاكم؟ هل اقتصرت عمليات الأنفال على جزء من إقليم كُردستان العراق, أم أنها امتدت لتشمل كل إقليم كُردستان العراق؟ ما هي الأساليب والأدوات التي مورست ضد هذا الشعب قبل وأثناء وبعد عمليات الأنفال؟ وهل كانت تلك العمليات الأنفالية تستند إلى فكر وممارسة عنصرية وفاشية سياسية فعلية أم أنها إجراء سياسي محدد؟ وكيف تعامل العالم مع أحداث الأنفال الإجرامية؟ وكيف تعاملت الحكومات العربية والجامعة العربية مع تلك الأحداث المأساوية؟ وهل يمكن منع ممارسة مثل هذه العمليات في المستقبل إزاء شعب كُردستان وشعوب أخرى في المنطقة تطالب بحقوقها المشروعة؟ وكيف يمكن العمل لصالح ضحايا الأنفال, وهل يمكن تعويضهم؟ وكيف يفترض أن يتم التعامل مع الدول والشركات التي زودت النظام بالسلاح الكيماوي؟ إلا أن هناك سؤالاً أساسياً يفترض الإجابة عنه قبل كل شيء وأعني به: هل مجازر الأنفال ضد الشعب الكُردي تشكل جزءاً من جرائم الإبادة الجماعية وضد الإنسانية؟ سنحاول أن نجيب عن أبرز هذه الأسئلة وبشكل مكثف.
ورد في المادة الثانية من اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948 ما يلي:
"في هذه الاتفاقية، تعني الإبادة الجماعية أيا من الأفعال التالية، المرتكبة علي قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو اثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه:
(أ) قتل أعضاء من الجماعة،
(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة،
(ج) إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا،
(د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة،
(هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلي جماعة أخري".

وفي اتفاقية العام 1968 ورد بهذا الخصوص ما يلي:
"المادة 1
لا يسري أي تقادم علي الجرائم التالية بصرف النظر عن وقت ارتكابها:
(أ‌) جرائم الحرب الوارد تعريفها في النظام الأساسي لمحكمة نورمبرغ العسكرية الدولية الصادر في 8 آب/أغسطس 1945، والوارد تأكيدها في قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة 3 (د-1) المؤرخ في 13 شباط/فبراير 1946 و 95 (د-1) المؤرخ في 11 كانون الأول/ديسمبر 1946، ولاسيما "الجرائم الخطيرة" المعددة في اتفاقية جنيف المعقودة في 12 آب/أغسطس 1949 لحماية ضحايا الحرب،
(ب‌) الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، سواء في زمن الحرب أو في زمن السلم، والوارد تعريفها في النظام الأساسي لمحكمة نورمبرغ العسكرية الدولية الصادر في 8 آب/أغسطس 1945، والوارد تأكيدها في قراري الجمعية العامة 3 (د-1) المؤرخ في 13 شباط/فبراير 1946 و 95 (د-1) المؤرخ في 11 كانون الأول/ديسمبر 1946، والطرد بالاعتداء المسلح أو الاحتلال، والأفعال المنافية للإنسانية والناجمة عن سياسة الفصل العنصري، وجريمة الإبادة الجماعية الوارد تعريفها في اتفاقية عام 1948 بشأن منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، حتى لو كانت الأفعال المذكورة لا تشكل إخلالا بالقانون الداخلي للبلد الذي ارتكبت فيه" .
وجاء في الموسوعة الصادرة عن اللجنة العربية لحقوق الإنسان والموسومة ب "الإمعان في حقوق الإنسان" عن الإبادة الجماعية ما يلي:
"الإبادة الجماعية أو "جينوسيد" مصطلح ابتكره لامكن Lemkin, R., جامعي أمريكي من أصل بولوني للتعبير عن عملية القتل الفردية التي تقع بحق جماعات بشرية بأكملها وتترجم في أدبيات الأمم المتحدة بإبادة الجنس. .. إن الأعمال التي ينجم عنها إبادة جماعية هي تلك التي تستهدف الإبادة الفيزيائية والبيولوجية لجماعة محددة, وذلك مهما كانت الوسائل المتبعة: مقتل عدد هام من أنبائها, إنتهاك فاضح لسلامتهم النفسية أو الجسدية, وضع الجماعة في ظروف وجودية بهدف التحطيم الفيزيائي الكلي أو الجزئي, إجراءات تستهدف الولادات, النقل القسري للأطفال إلى مجموعات ثانية (الجرائم النازية بحق اليهود والغجر من الأمثلة الكلاسيكية للحقوقيين). لا يمكن ارتكاب جرائم كهذه من قبل فرد واحد, ومن هنا فإن الإبادة الجماعثية بطبيعتها جريمة جماعية يرتكبها من يمسك بسلطة مسلحة وإن كان الطرف الأساسي في الأدبيات المتعلقة بالموضوع يتناول حصراً سلطة الدولة…" .

في ضوء هاتين الاتفاقيتين ولائحة حقوق الإنسان لعام 1948, إضافة إلى ما ورد بشأن الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية في محاكمات نورمبيرغ في العام 1946 يفترض أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: هل تدخل مجازر الأنفال واستخدام السلاح الكيماوي في كُردستان العراق في العام 1988 والتطهير العرقي والتعريب والتهجير القسريين ضد منطوق المادة الثانية والمادة الأولى من الاتفاقيتين المذكورتين على التوالي, أي هل يمكن اعتبار ما ارتكب في تلك العمليات وغيرها من جرائم شائنة ضد الشعب الكُردي تدخل ضمن مفهوم ومضمون الإبادة الجماعية وضد الإنسانية, Genocide؟

موقع عمليات الأنفال في اللوائح القانونية الدولية

سأحاول فيما يلي أن أتابع بعض جوانب السياسة التي مارسها حزب ونظام البعث الصدامي في العراق لنرى معاً ماهية تلك السياسات والعواقب التي ترتبت عنها على الشعب الكُردي وكُردستان العراق؟

استناداً إلى المعلومات الغزيرة المتوفرة حالياً يمكن القول بأن النظام المقبور مارس في كُردستان قبل وخلال عمليات الأنفال وبعدها إلى حين هروبه من الإقليم السياسات والأساليب والإجراءات التالية التي يفترض في ضوئها أن نقيم طبيعة تلك العمليات:
1. تطهير عرقي واسع النطاق ضد السكان الكُرد في مدينة ومحافظة كركوك بهدف تغيير طابع المدينة والمحافظة وبنية سكانها وفق سياسة مخططة ومنظمة ومنفذة بإصرار قاطع.
2. غيّر اسم المحافظة إلى التأميم بدلاً من اسمها التاريخي كركوك, كما ربط بعض أقضية ونواحي المحافظة بمحافظة صلاح الدين العربية بهدف تعريبها وتعريب سكانها أيضاً, إضافة إلى محاولة تعريب مناطق أخرى مثل خانقين مثلاً ..
3. نفذ النظام عمليات تعريب قسرية واسعة ضد السكان الكُرد والتركمان, إذ كان شرط احتمال استمرار البقاء في كركوك. وقد هجر من رفض ذلك وتمت السيطرة على كافة دور وأراضي العوائل والأفراد المهجرين قسراً.
4. جمع النظام العائلات الكُردية في الكثير من القرى والأرياف والنواحي في مجمعات سكنية قسرية مبنية على أطراف المدينة الكبيرة وممارسة حراسة مشددة عليها ومنع احتكاكها بالمناطق الأخرى وشل نشاطها الاجتماعي.
5. إفراغ مساحة من الراضي الحدودية من سكانها واعتبارها مناطق محظورة الحركة والنشاط الزراعي فيها وقتل من يجدوه فيها مهما كان سبب وجوده.
6. تشكيل فرق إعدام لمطاردة الكُرد في مناطق مختلفة من كُردستان.
7. اكتشاف عدد كبير من المقابر الجماعية للمواطنات والمواطنين من مختلف الأعمار من الكُرد في مناطق مختلفة من العراق وليس في كُردستان وحدها.
8. مارس عمليات تهجير وسجن وتعذيب وقتل ضد الكُرد الفيلية منذ فترات مبكرة من نهاية العام 1978 واستمرت لعدة سنوات. وقد شملت هذه العمليات عشرات ألوف البشر الكُرد الفيلية. (بحثنا هنا ينصب على الكُرد في العراق وليس على فئات أو قوميات وأديان وطوائف في العراق).

ماذا جرى في عمليات الأنفال العنصرية ؟

تشير المعلومات المتوفرة إلى أن النظام الاستبدادي مارس في هذه العمليات الإجراءات المنظمة والهادفة التالية:
1. استخدام الأسلحة الكيماوية: دلل مجرى المحاكمة الخاصة بالمتهمين بارتكاب جرائم في عمليات الأنفال ومجزرة حلبچة على أن النظام قد استخدم على نطاق واسع السلاح الكيماوي, الذي كان يطلق عليه بالسلاح الخاص في المراسلات بين السلطة والأجهزة الأمنية والقوات العسكرية الرسمية المسؤولة عن تنفيذ عمليات الأنفال. المعلومات الموثقة تشير إلى أن العراق كان قد اشترى وأنتج في آن واحد, وبمساعدة ودعم كبيرين من عدد مهم من دول العالم الشرقية والغربية, الكثير من أسلحة القتل الجماعي (الكيماوية والبايولوجية). وكانت الدول الغربية هي الأكثر تزويداً له بما يحتاج إليه لإنتاج هذه الأسلحة الكيماوية محلياً. واستخدم منها غاز الخردل وأنتج منه 350 طناً, وغاز الأعصاب تابون 812 طناً, واستورد 250 طناً من مادة VXالقاتلة. واستخدمت القوات المنفذة للعمليات الحربية ضد شعب كُردستان هذه الأسلحة ضد 280 قرية كُردية وتسببت في استشهاد 25000 مواطنة ومواطناً كُردياً بأعمار مختلفة, إضافة إلى مثل هذا العدد من المصابين بها. وتبقى حلبچة رمزاً شاخصاً وشاهداً على جريمة النظام الكبرى في استخدام السلاح الكيماوي ضد الشعب الكُردي واستشهاد ما يقرب من 5000 إنسان كُردي وعدد مماثل من المصابين بالأسلحة الكيماوية. ولم تكن عواقب استخدام هذه الأسلحة قتل وإصابة عدد كبير من الناس الأبرياء فحسب, بل برزت أيضاً في تلويث الأرض الكُردستانية وبمساحات واسعة ومياه الأنهر والعيون والمزروعات, كما نفق عدد كبير من الحيوانات بسبب تعدد مواقع استخدامها وتنوع الأسلحة الكيماوية المستخدمة في تلك العمليات.
2. عمد النظام إلى تدمير 3839 قرية كُردية تدميراً كاملاً بعدد متباين من النفوس في كل منها , وتدمير المزروعات والحيوانات فيها. ومن أجل إنجاز الحملة العسكرية ضد شعب كُردستان استخدمت قوات النظام القصف الجوي قاذفة بالأسلحة المحرمة دولياً, ومنها الناپالم والأسلحة الانشطارية, كما استخدم المدافع الثقيلة لهذا الغرض. ولم تقصف هذه القرى بعد تخليتها من السكان باستمرار, بل خربت على رؤوس ساكنيها في غالب الأحيان. وكنت أحد شهود الجرائم البشعة التي ارتكبتها القوات المسلحة العراقية عبر عمليات القصف والتدمير الواسعين للقرى الكُردية في المناطق الريفية في مختلف مناطق كُردستان العراق وعلى امتداد الفترة الواقعة بين 1982-1988, ولكن بشكل خاص في عامي 1987 و1988. وكان بعض تلك القرى قد مسحت بالأرض وأخرى ما تزال أطلالها شاخصة توجه أصابع الاتهام لنظام لا ضمير له ولا وازع كان يردعه عن غيّه. تحدث قائد الحملات الإجرامية علي حسن المجيد الماثل أمام محكمة الجنايات العليا ببغداد عن تلك العمليات بعد أن كان قد قطع شوطاً بعيداً في حملات الإبادة الجماعية وضد الإنسانية, فقال في اجتماع عقد بتاريخ 26 أيار/مايو 1988 لمكتب تنظيم الشمال ومسئولي حزب البعث في محافظات الشمال, أي في أعقاب ضربات الأسلحة الكيماوية التي أنزلها النظام بمدينة حلبچة, ما يلي: "كل قوات الجيش العراقي لم تستطع أن تفعل ما فعلناه نحن, لأن هذا (أي التهجير) يوجعهم من الأعماق, يقتلهم. المخربون ينظرون إلى الأوامر والتعليمات, الأوامر ليست فيها القوة والحماس الكافيتين, الأوامر السابقة كانت أقوى مائة مرة, ولكن لم تتفق مع قناعات وإيمان الذين كانوا ينفذونها. الآن توجد هذه القناعة. قلنا سنبدأ بتنفيذ عمليات التهجير في الوقت الفلاني وبعون الله نفذناها في كل مكان " . ثم يواصل حديثه: "قلت لأحدهم أنا لا أستطيع أن أترك قريتك تبقى في مكانها, لأني سأضربها بالأسلحة الكيماوية وعندها ستفنى فيها أنت وعائلتك. يجب أن تتركها حالاً, لأني لا أستطيع أن أقول لك متى سأضربها بالأسلحة الكيماوية. أنا أبيدهم جميعاً بالأسلحة الكيماوية‍ لأرى من يتكلم؟ المجتمع الدولي؟ أللعنة على المجتمع الدولي وعلى الذين يستمعون إليه‍. حتى لو توقفت الحرب مع إيران وينسحب الإيرانيون من جميع المناطق التي احتلوها, فأنا لا أتفاوض معهم ولا أوقف التهجير. هذه هي نيتي, وأريد أن تعرفوها جيداً وعندما ننتهي من التهجير نبدأ بمهاجمتهم من كل الجهات وندك معاقلهم وخنادقهم حسب خطة عسكرية منظمة" . ولنستمع إليه كيف يتحدث بحماس وتصميم وتلذذ حين يقول: "وفي هذه الهجمات سنعيد ثلث أو نصف المناطق التي يسيطرون عليها, (ويقصد هنا قوات الپیشمرگة. ك.حبيب). إذا استطعنا استعادة ثلث تلك المناطق حينذاك سنطوقهم في جيوب صغيرة ثم نضربهم بالأسلحة الكيماوية. أنا لا أضربهم ليوم واحد فقط, بل سأضربهم باستمرار بالأسلحة الكيماوية على مدى خمسة عشر يوماً. بعد ذلك سأعلن بأنه يسمح لكل من يريد تسليم نفسه مع سلاحه. عندها سأطبع مليون نسخة من ذلك الإعلان وأوزعها على الشمال وباللغة العربية. .. أنا لا أذكر اسم الأسلحة الكيماوية لأن هذا محظور, ولكنني أقول سأفتك بكم بالأسلحة القاتلة الحديثة. هكذا أهددهم وأحثهم على الاستسلام" . ولكن الجلاد لم يقف عند حد التهديد بل مارس وعلى نطاق واسع استخدام الأسلحة الكيماوية ضد الشعب الكُردي وقواه الوطنية وقوات الپيشمرگة/الأنصار الشجعان .
3. قام النظام بعمليات تمشيط واسعة لأغلب القرى والأرياف الكُردية حجز خلالها سكانها وجمعهم في مراكز معينة, ثم نقلهم بشاحنات إلى مناطق مجهولة وتمت تصفيتهم جسدياً. كتب السيد طه بابان, صاحب كتاب "عالم الكُرد المرعب حول عمليات التمشيط هذه والتي استند فيها إلى شهادات عدد كبير جداً من الكُرد, سواء ممن تعرضوا مباشرة لتلك المحن أم الذين كانوا في الپيشمرگة واطلعوا على تفاصيل ما كان يجري في حينها, ما يلي: "تقوم قوات كبيرة من الجيش والجاش بإحاطة المنطقة التي يراد ترحيل سكانها لمنع أي شخص يريد الإفلات وبعد ذلك تحاصر قوات أخرى القرى .. لجمع سكانها بدون استثناء ومن ثم حشرهم في سيارات الحمل العسكرية إلى إحدى مراكز التجميع ولم يكن يسمح لهم بحمل أي شيء من مقتنياتهم اللهم إلا الأشياء التي يمكن وضعها في الجيب.. أما بقية مقتنياتهم من الحيوانات والمنقولات فأن الجنود والجحوش كانوا يستلون عليها ومن ثم يحرقون القرية أو يفجرونها بالديناميت أو يهدمونها بالجرافات .. في مراكز التجميع عزلوا المتقدمين في السن وأرسلوهم إلى سجن (نقرة السلمان) أما البقية من الأطفال والنساء والرجال والذي بلغ عددهم كما قلنا مائة واثنان وثمانون ألفاً فقد أرسلوا إلى جهة مجهولة إلى الموت!" . ثم يواصل الكاتب فيقول: "قد يتساءل البعض ولماذا لم يعزلوا الأطفال الأبرياء أيضاً؟ الجواب أن عزل المتقدمين في السن لم يكن بدافع إنساني حتى يشمل الأطفال الأبرياء .. لقد وجدوا أن المتقدمين في السن لا خطر منهم أنهم لا ينجبون ولا يحملون السلاح وسوف يموتون عاجلاً أو بعد وقت قصير أما الأطفال فسوف يكبرون ويصبحون مصدر خطر ثم ماذا يفعلون بهذا الجيش العرمرم من الأطفال أين يضعون تلك الألوف المؤلفة أنهم يخلقون لهم مشكلة كبيرة إذاً خير للحكومة أن يموتوا من أن يموت آبائهم وأمهاتهم !! وهو ما حصل" . وتؤكد بعض المصادر إلى أنق دفن الأطفال كان يتم وبعضهم أحياء.
4. تشير المعلومات المتوفرة إلى أن النظام كان قد شكل بعض الفرق الخاصة التي أخذت على عاتقها تصفية هذه المجاميع الكبيرة من السكان من خلال قتل عشرات الآلاف منهم ودفنهم جماعياً أو دفنهم وهم أحياء في حفر واسعة والدوس على قبورهم الجماعية وتسوية الأرض بالجرافات التابعة للقوات المسلحة. ولم ينج من هذه المجازر في الغالب الأعم لا الأطفال ولا النساء ولا المرضى من الشباب والشابات. وكان الفاعلون, وهم أدوات ذات نزعات سادية بيد الجلاد, يسلبون ضحاياهم كل ما هو ثمين, وخاصة الحلي الذهبية.
5. توجد حالات أخرى قام الجلادون بفرز الرجال والشباب عن النساء والأطفال, ثم وضعوا مجموعة الرجال في شاحنات عسكرية نقلوهم تدريجاً حيث الموت المحقق, في حين أخذوا النساء والأطفال إلى أماكن مختلفة. فمنهم من أرسل إلى نقرة السلمان ومنهم من أرسل إلى تكريت وبعضهم أرسل إلى السليمانية حيث تركوا في عربت. وعجزت المعسكرات الكثيرة والكبيرة عن استيعاب كل هؤلاء الذي طالتهم عمليات الأنفال .
6. نفذ النظام عمليات إعدام أخرى في المدن والقرى التي أشرنا إليها سابقاً بسبب ولوج مناطق محظورة أمنياً أو بسبب اتهام الناس بالتعاون مع قوى الپیشمرگة أو الشك بإخلاصهم. ولم يكن الموت نصيب هؤلاء وحدهم, بل نصيب أقرباء هؤلاء الضحايا من الدرجة الأولى, إضافة إلى تهديم بيوتهم ومصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة.
7. تشير الكثير من الدلائل إلى أن المجموعات الخاصة التابعة لقوى الأمن العراقية هي التي كانت تقوم بعمليات اغتصاب النساء والشباب في أقبية الأمن أو في المواقع التي يتجهون إليها. ووفق المعلومات المتوفرة إلى أن الأمن العراقي والاستخبارات العسكرية العاملة في كُردستان قد دفعت بعدد غير قليل من النساء إلى بيع أجسادهن تحت ظروف شديدة القسوة وتحت تهديد القتل, كما دفعت ببعضهن وبعدد من الشباب إلى التجسس على قوى الپیشمرگة (الأنصار) في كُردستان العراق. يضاف إلى ذلك ما نشر عن إرسال 19 امرأة كُردية شابة إلى مصر لاستخدامهن من قبل بعض الجماعات المصرية المتاجرة بالإنسان وإجبارهن على العمل في مجالات غير شريفة.
8. وخلال الفترة الواقعة بين بدء العمليات العسكرية ضد إيران في عام 1980, عمد النظام في كُردستان إلى استخدام كل السبل غير المشروعة للقضاء على مطالبة الشعب الكُردي بحقوقه المشروعة. وكان من تلك السبل الخسيسة والغادرة إعطاء مكافأة مالية كبيرة لكل من يقوم بقتل واحد أو أكثر من الپیشمرگة/الأنصار ويأتي برأسه وسلاحه. وشكل النظام فرقاً لهذا الغرض كما عمد إلى تنشيط المجرمين للقيام بهذه العمليات لقاء بعض المال. ويبدو أن النظام قد اكتفى أحيانا برأس كُردي حتى بدون سلاح, مما أدى إلى قيام تلك العصابات المجرمة والأفراد الذين تطوعوا للقيام بهذه الأعمال بقتل أشخاص لا يمتون إلى قوى المقاومة المسلحة بصلة لمجر أنهم كانوا يريدون الحصول على المكافئة المالية. وتم عبر هذه الأساليب قتل عدد كبير من المناضلين الأكراد ومن الفلاحين الفقراء الذين لم يتطوعوا يوما في الحركة المسلحة الكُردية. وهناك العديد من الصور التي التقطها الجناة وهم يحملون رؤوس ضحاياهم أو السكين بيد ويرفعون إشارة النصر باليد الأخرى معبرين عن ابتهاجهم بقتل إنسان والحصول على مكافئة قتله. وكان النظام يكتفي أحياناً بقطع إصبع الضحية وسلاحه ليدفع المكافأة.
9. وعمد النظام إلى تدمير فعلي للبنية التحتية والاقتصاد الفلاحي في الريف الكُردستاني ساعياً إلى اغتصاب الحياة فيها من السكان ومنعهم من العودة إليها بتاتاً . أقدمت قوى النظام وبتوجيه من صدام حسين مباشرة على تدمير 1757 مدرسة 2457 مسجداً و271 مستوصفاً في القرى التي قامت بتدميرها .
وعلينا أن نتذكر باستمرار بأن حملات الأنفال المرعبة كانت قمة العدوان الفاشي والانحطاط الأخلاقي والإنساني للجلادين لما ارتكبوه من جرائم بشعة إزاء الناس من نساء ورجال وأطفال كُردستان العراق. إنها عار في جبين النظام وقادته وجناته. ولكن ما هي حصيلة عمليات الأنفال المرعبة؟
• تشير الأرقام, التي قدمت إلى المسئولين العراقيين من جانب الأحزاب الكُردية, وما هو متوفر عند الأمم المتحدة, إلى أن عدد ضحايا عمليات الأنفال خلال الفترة الواقعة بين شهر شباط/ فبراير ونهاية آب/أغسطس من عام 1988 بلغ 182000 إنسان كُردي, إضافة إلى عدة مئات من المواطنين من قوميات أخرى مثل الآشوريين والكلدان.
• حوالي 1,5 مليون إنسان كُردي خضع لعمليات التهجير القسري والعيش في المجمعات السكنية القسرية أو في معسكرات خاضعة لنظام صدام حسين.
• وأضطر عدد كبير من سكان كُردستان العراق الهرب منها إلى كُردستان إيران, إذ بلغ عددهم في صيف عام 1988 أكثر من 100000 إنسان.
• وأجبر عدد مماثل تقريباً من سكان كُردستان العراق إلى عبور الحدود صوب كُردستان تركيا خلال الثلث الأخير من شهر آب/أغسطس من نفس العام. وصدر قرار عن "مراقبة حقوق الإنسان" حيث اعتبرت عمليات الأنفال بمثابة جريمة ضد الجنس البشري.
• ويفترض هنا الإشارة إلى أن سكان إقليم كُردستان من القوميات الأخرى قد تعرضوا إلى صنوف الاضطهاد والتعسف من جانب النظام العراقي, كما لقي الكثير منهم حتفه من جراء سياسات النظام الأنفالية وغيرها. فعلى سبيل المثال لا الحصر أصدر مكتب العلاقات التابع للحركة الديمقراطية الآشورية في العراق بياناً يشير فيه إلى أن القوات العراقية التي نفذت عمليات الأنفال العسكرية في شهر آب/أغسطس من عام 1988 تضمن قائمة ببعض أسماء الأشخاص الآشوريين الذين فقدوا في تلك العمليات واختفى أي أثر لهم حتى الآن. والقائمة تضم 115 أسماً من السكان الآشوريين من عدد من القرى والنواحي التابعة لمحافظة دهوك في كُردستان العراق.
ارتكب النظام العراقي أبشع الجرائم بحق الشعب الكُردي في كُردستان العراق خلال هذه الفترة العصيبة بدم بارد تماماً, ولم يشعر قادة النظام الصدامي بأي حرج أمام الرأي العام العربي والعالمي لما ارتكبوه من جرائم, وهي تعيد إلى الذاكرة المجازر البشعة التي نظمها الدكتاتور المجرم بول بوت وتنظيم الخمير الحمر في كمبوديا. ولكن كيف كان رد فعل العالم العربي والعالم على هذه المجازر البشرية بحق الإنسان والشعب الكُردي؟ يستحق هذا السؤال التوقف عنده والتفكير فيه أو الإجابة عنه.
واجه الشعب الكُردي الأعزل الهجوم الذي شنه النظام الاستبدادي بمفرده وتحمل نزيف الدم والدموع والآلام, إذ لم يسعفه أحد ولم ترتفع أصوات الاحتجاج ضد عمليات الأنفال المروعة التي نظمها ونفذها جلاوزة النظام على مختلف المستويات, سواء على الصعيدين المحلي والعربي أم على الصعيد الدولي. ولم يكن في مقدور حركة الپیشمرگة أن تتصدى للقوات الحكومية المسلحة بأحدث الأسلحة وأكثرها شراسة وفتكاً بما فيها الأسلحة المحرمة دولياً التي تيسرت له من مختلف أرجاء العالم, وهي التي تعرضت أيضاً إلى هجمات ضارية من جانب قوات النظام, وكانت هدفها المباشر أيضاً. وكان أكثرها إيذاء على الشعب الكُردي وقواه المناضلة وضحاياه ذلك الصمت المطبق الذي واجه العالم كله تلك العلميات الفاجرة, إذ لم يجد في حينها أي تفسير منطقي وإنساني لهذا الصمت. تستحق هذا اللامبالاة وقفة تفكير وتأمل للتحري عما يكمن وراءها من أسباب.
لا بد لنا ابتداءً تأكيد أن ذلك الصمت العربي والإقليمي والدولي ليس له ما يبرره من الناحيتين السياسية والأخلاقية أو الإنسانية والدينية, ولا يحق لأحد إنسانياً أن يتحرى عما يبرره. إذ أن السكوت على تلك الجرائم البشعة, رغم المعرفة بتفاصيلها ومجرياتها, يعتبر مشاركة فعلية وتشجيعاً واضحاً للجاني على الاستمرار بارتكاب جريمته دون أن تقلقه احتجاجات جمهرة قليلة من البشر. وهذا ما حصل فعلاً. وبالتالي فأن التحري عما يبرر تلك الجرائم يعتبر جريمة بحد ذاته.
في ضوء ما أشرت إليه وما ورد في القرارات الدولية بشأن جرائم الإبادة الجماعية وضد الإنسانية يمكنني القول دون تردد وبشكل واضح لا لبس فيه بأن جرائم النظام وصدام حسين وأولئك الذين يقفون وراء القضبان في محكمة الجنايات العليا وغيرهم تدخل ضمن جرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية والتي لا يجوز ولا يمكن أن تتقادم بمرور الزمن وأن يقدم لها كل المسئولين والمنفذين الفعليين للمحاكمة وتحمل تبعات أيديولوجيتهم الفاشية وعقولهم المريضة وأيديهم الملطخة بدماء الناس الأبرياء من بنات وأبناء, من أطفال وشيوخ الكُرد في كُردستان العراق.

ما ينبغي عمله لصالح ضحايا ؟

هذه المسألة تطرح علينا السؤال التالي: ما الذي يفترض عمله الآن لصالح ضحايا الأنفال وعوائلهم والجرحى والمعوقين منهم وللمدن والمناطق التي تعرضت للعمليات الأنفالية؟
يبدو لي بأن كثرة من العرب, سواء أكان من العراق أم من بلدان أخرى لا يشعرون بوخز الضمير لممارسات صدام حسين ورهطه في العراق حيث جرى كل ذلك باسمهم ولم يحتجوا ضده أو يعربوا عن إدانتهم له, بل أن البعض منهم يحاول تبرير أو عدم الاعتراف بوقوع تلك الجرائم. إن على أولئك الذين لم يتحركوا حتى الآن أن يشعروا بوخز الضمير لأسباب ثلاثة مهمة, وهي:
1. أن ما حصل في كُردستان كان باسم كل العرب وباسم الدفاع عن الوحدة العربية والأمة العربية, رغم أن الغالبية العظمى من العرب لم تشارك في تلك الجرائم بأي حال.
2. سكوت الغالبية العظمى من العرب, حكومات وأحزاب وقوى سياسية وفئات اجتماعية ومنظمات غير حكومية, عن تلك الجرائم البشعة رغم معرفة كثرة من هؤلاء الحكام وغير الحكام بوقوعها حتى بعد الكشف الموثق عن كل جوانبها المريعة.
3. عدم قيام هؤلاء الناس بما ينبغي لفضح تلك العمليات الإجرامية والكشف الكامل عن منفذيها وإدانتهم والتحري عن سبل التعويض الأدبية والسياسية لضحايا الشعب الكُردي.
ومن هنا تنشأ المهمات التي يفترض النهوض بها, والتي يمكن تلخيصها بالنقاط التالية:
1. التهيئة الجيدة لتأبين ضحايا مجازر الأنفال في الذكرى العشرينية لوقوع أحداثها الدامية والأليمة في مدينة حلبچة ذاتها.
2. مطالبة المجتمع الدولي وعبر الأمم المتحدة بممارسة الضغوط لتحقيق ثلاثة مطالب, وهي:
• تقديم من سوق وزود وساعد على حصول النظام على الأسلحة المحرمة دولياً إلى المحاكمة.
• المطالبة بتقديم تعويضات مجزية إلى إقليم كُردستان لإعادة إعمار ما دمر وتنظيف البيئة الملوثة بسبب استخدام تلك الأسلحة, من جانب الحكومات والشركات المعنية.
• تقديم التعويض المجزي لعائلات الضحايا عما أصابهم ذويهم من موت محقق أو إصابات وعاهات مستديمة.
3. أن تشارك الحكومة العراقية المركزية وحكومة الإقليم بتأسيس صندوق خاص تساهمان في تمويله من أجل تحويل مدينة حلبچة إلى مدينة حديثة ونموذجية في إقليم كُردستان والعراق مع الحفاظ على ما يذكر العالم بالجريمة البشعة التي نفذت في هذه المدينة الجريحة.
4. مطالبة الحكومة العراقية ومجلس النواب العراقي الاعتذار باسم الدولة العراقية لما لحق الشعب الكُردي من عمليات تهميش وقتل وأنفلة والتعهد بالعمل من أجل عدم تكرار مثل تلك الجرائم من خلال بناء عراق مدني ديمقراطي اتحادي مزدهر.
5. الاهتمام بكل القرى الكُردستانية التي تعرضت للسلاح الكيماوي أو لبقية عمليات الأنفال وبسكانها وتوفير أحسن الخدمات لها وربطها بطرق مواصلات حديثة وتأمين الكهرباء والماء وغيرها لها.
6. تطوير المنطقة التي تعرضت للعمليات زراعياً وصناعياً وتشغيل العاطلين عن العمل.
7. بناء متحف حديث يحتوي على كل ما يذكر الناس بالجرائم المرتكبة ويحكي قصة الأنفال مصورة وبالوثائق الدامغة.
8. إقامة نصب تذكاري في مدينة حلبچة وفي بغداد لتذكير الناس, من عرب وغير عرب, بما جرى في الأنفال على أن يحمل النصبان أسماء ضحايا الأنفال.
9. السعي لتنظيم زيارات لمدينة حلبچة وبقية المناطق التي تعرضت للضرب بحيث يصبح النظام العراقي المخلوع سبة أمام العالم يساعد على منع ارتكاب جرائم مماثلة في العراق أو في مناطق أخرى من العالم.
10. اختيار مدينة مماثلة ً لها تقريبا في العالم من حيث المعاناة لتتآخى معها وتتعاون في مختلف المجالات.
11. تأمين راتب تقاعدي مجزي لكل عائلة من ضحايا الأنفال وتأمين السكن اللائق والعيش الكريم.
إن ديناً كبيراً في أعناقنا جميعاً لضحايا الأنفال وحلبچة, وعلينا جميعاً تأدية هذا الدين على أفضل وجه ممكن, إذ أن السكوت أو نسيان الجرائم يمكن أن يساهم في تكرارها كما حصل في مجازر الأرمن في العام 1915 أو ضد اليهود في ألمانيا وأوربا في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي.

الهوامش:
اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها اعتمدت وعرضت للتوقيع والتصديق أو للانضمام بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 260 ألف (د-3) المؤرخ في 9 كانون الأول/ديسمبر 1948 تاريخ بدء النفاذ: 12 كانون الأول/يناير 1951، وفقا لأحكام المادة 13.
اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية. اعتمدت وعرضت للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 2391 (د-23) المؤرخ في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 1968 - تاريخ بدء النفاذ: 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1970، وفقا لأحكام المادة 8.
مناع, هيثم د. الإمعان في حقوق الإنسان. موسوعة عامة مختصرة. الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع. دمشق. 2000. ص 13.
تختلف الدراسات والتقارير المتوفرة لدي حول عدد القرى التي قام النظام بتدميرها خلال حربه ضد الشعب الكُردي, والمعلومات المتوفرة إلى أن النظام قام عموماً بتدمير 4500 قرية على امتداد الفترة المنصرمة. ولكنه دمر 3839 قرية حتى نهاية عام 1989, في حين أن التدمير لم يتوقف بعد ذلك, إذ تواصل أيضاً.
بابان, طه. عالم الكُرد المرعب. الكتاب الأول (تحقيق وتأليف). سلسلة كتب. كُردستان العراق. مارس 2002. ص 334.
نفس المصدر السابق. ص 334/335.
نفس المصدر السابق. ص 335.
استخدم النظام العراقي الأسلحة الكيمائية في حربه ضد إيران وأدت إلى 60000 إصابة, مات منهم 16000 إنسان إيراني بغاز الخردل و5500 إنسان إيراني بغاز
الأعصاب تابون. راجع الأنفال رقم 1/2000 ص 194.
بابان, طه. عالم الكُرد المرعب. الكتاب الأول (تحقيق وتأليف). سلسلة كتب. كُردستان العراق. مارس 2002. ص356.
نفس المصدر السابق. ص 356/357.
بابان, طه. عالم الكُرد المرعب. الكتاب الأول (تحقيق وتأليف). مصدر سابق. ص 357-377.
راجع تقارير جاك على الإنترنيت.
قادر, جبار د. الأنفال: تجسيد لسيادة الفكر الشمولي والعنف والقسوة. مجلة كه ركوك. العدد 11/2002. السليمانية. ص 222.
طالباني, نوري د. منطقة كركوك ومحاولات تغيير واقعها القومي. مصدر سابق. ص 103.



#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماذا تمخض عن اجتماع قيادتي الحزبين , الحزب الديمقراطي الكردس ...
- ماذا تمخض عن اجتماع قيادتي الحزبين , الحزب الديمقراطي الكردس ...
- حصاد عام مضى وآمال بعام بدأ لتوه!
- العراق وعام جديد , فهل من أمل قريب بالأمن والاستقرار والسلام ...
- موضوعات للمناقشة : هل من صراعات فعلية حول مستقبل العراق الدي ...
- هل لمهزلة العلم البعثي الدموي من نهاية؟
- تركيا والمسألة الكردية والعدوان على العراق!
- متابعة لأحداث سياسية ملتهبة تثير قلق العالم
- هل من مخاطر للتحالف الإيراني – السوري على شعوب المنطقة؟
- المنجزات والواقع العراقي المعاش!
- هل بين القوى الإسلامية السياسية المتطرفة فاشيون؟
- أحذروا النوم على إكليل الغار في بغداد .. ! 2-2
- رسالة ثانية مفتوحة إلى السيد مقتدى الصدر
- أحذروا النوم على إكليل الغار في بغداد .. !1-2
- عودة إلى مقالي عن السيد أحمد الحسني البغدادي
- هل من جديد في العلاقة بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة ...
- الحوار المتمدن على طريق النضوج والتطور
- أليست هذه فتاوى عدوانية لشيوخ إسلاميين متطرفين وإرهابيين ؟
- هل في الأفق حل فعلي للقضية الفلسطينية ؟
- كيف نواجه قوات الاحتلال في العراق؟ وهل من طريق غير الوحدة ال ...


المزيد.....




- كيف يعصف الذكاء الاصطناعي بالمشهد الفني؟
- إسرائيل تشن غارات جديدة في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بع ...
- أضرار في حيفا عقب هجمات صاروخية لـ-حزب الله- والشرطة تحذر من ...
- حميميم: -التحالف الدولي- يواصل انتهاك المجال الجوي السوري وي ...
- شاهد عيان يروي بعضا من إجرام قوات كييف بحق المدنيين في سيليد ...
- اللحظات الأولى لاشتعال طائرة روسية من طراز -سوبرجيت 100- في ...
- القوى السياسية في قبرص تنظم مظاهرة ضد تحويل البلاد إلى قاعدة ...
- طهران: الغرب يدفع للعمل خارج أطر الوكالة
- الكرملين: ضربة أوريشنيك في الوقت المناسب
- الأوروغواي: المنتخبون يصوتون في الجولة الثانية لاختيار رئيسه ...


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كاظم حبيب - ملف خاص في الذكرى العشرينية لمجازر الأنفال وحلبچة ضد الإنسانية والإبادة الجماعية