يجيء اعتقال النشطاء المصريين في الأيام الأخيرة خلال انتفاضة الشعب المصري تضامنا مع العراق، دليلا حديثا علي بدء الظهور العلني الواضح للذعر الرسمي المصري من أي تحرك شعبي ضد نظام تجمع كل القوي علي أنه تسبب في تهميش مصر في إقليمها، إلي حد الإهانة التي لا يقبلها شعب خبر ـ وقبل هذا التردي غير المسبوق ـ مذاق أن يكون رائدا لمشروع نهضوي إقليمي كادت تتبعه فيه دول الإقليم عربية أو إفريقية، لولا تلك اللحظة التاريخية السلبية في تاريخ مصر الحديث عام 70 الممتدة حتي الآن، والتي تسلق الحكم فيها نظام أقل ما يوصف به أنه يتكون من مجموعة من الرجال الذين لا يستوعبون قدر وقيمة ذلك البلد الذي اختطفوه، جاء إذلال المصريين علي أيديهم قبل أن يأتي من أي قوة أخري خارجية تعي وتعرف أكثر منهم قيمة مصر وقدرتها الكامنة علي التأثير في إقليمها وعالمها.ppp
وقد يكون تكرارا القول بأن مصر في أيديهم ومنذ أكثر من ثلاثين عاما تحولت إلي كم مهمل مثير للرثاء حينا والسخرية حينا آخر والإهمال في غالب الأحيان، لكن تاريخا طويلا لهذا البلد تراكم في ذهنية الإنسان المصري ومخزونه الواعي واللاواعي لن يقبل بطبيعة الحال استمرارا لهذا التردي، وربما يكون هذا هو الشيء الوحيد الذي يفهمه هؤلاء الخاطفون لمصر مما أدي إلي إمعانهم في إذلال المصريين وتحويل مصر كلها إلي قفص كبير يحشر فيه شعب بأكمله ـ وليس إستاد القاهرة الرياضي فقط الذي أجبروا المتظاهرين علي عدم الخروج منه في حادثة مظاهرة الإستاد المهينة ـ قفص كبير يحول بين هذا الشعب (المقبوض عليه) وبين انطلاقه تأثيرا وتأثرا بحركة التاريخ التي تجري أمامه. لكن أكثر من ثلاثين عاما من التباكي علي مصر المقبوض عليها تكفي، وحركة فعلية (منظمة) نحو التغيير هي الشيء العملي القابل للنقاش الآن، تغيير نظام ثبت لكل المواطنين المصريين علي اختلاف فئاتهم أنه ليس فقط نظام الكوارث والإفقار المنظم، بل ثبت أنه نظام مخز مخجل مشوه لما اعتبره المؤرخون علي مستوي العالم وعلي مدار التاريخ حقائق بديهية ترتبط بمصر جغرافيا وتاريخيا وثقافيا وسياسيا. وضمن هذا النقاش المفترض حول (حركة منظمة) للتغيير، يمكن تقسيم (الحالة المصرية) الراهنة إلي ثلاثة مناطق لابد وأن ـ تلتقي أو تصطدم ـ حتي يحدث تغيير ليس فقط يعيد بوصلة مصر إلي طريق النهضة الذي بدأته منذ أوائل القرن الماضي، بل يدفعها دفعة قوية نحو الأمام وبعيدا عن مستنقع الخمول الذي جرها إليه الخاطفون، النظام والمثقفون النشطون والشعب:
أولا: النظام الحاكم وخطف مصر
تستر علي لصوص مصريين وخنوع للصوص إمبرياليين
عندما تحرك الجيش بقيادة عبد الناصر لإحداث تغيير احتاجت إليه مصر بإلحاح منذ حوالي نصف قرن، كانت إسرائيل حينها دولة جديدة لا يزيد عمرها عن أربع سنوات وكان بن غوريون علي رأس دولته الوليدة خائفا مازال علي مستقبلها ووجودها، وعندما توجس من جمال عبد الناصر لجأ إلي ناحوم غولدمان الصهيوني المقيم في باريس والعارف بالأحوال المصرية وسأله: ما هو لون رجل مصر الجديد؟ ، فحاول غولدمان طمأنته قائلا: لا يخيف.. فكل كلامه وأحلامه تدور حول نهضة وتنمية وبناء وما إلي ذلك ، فقال بن غوريون: أهذا لا يخيف؟.. إن نهضة في مصر تعني فناء لإسرائيل ، هذه الحادثة التي رواها سامي شرف ـ من رجال الدولة الناصرية ـ تظهر في الحقيقة أحد ملامح مصر الحديثة التي ينبغي أن تكون، ففي دراسته العلمية العظيمة عن (شخصية مصر) يقول عالم الجغرافيا الكبير جمال حمدان في معرض حديثه عن (الشخصية الإقليمية لمصر): لن تصبح مصر قط دولة حرة قوية عزيزة متقدمة يسكنها شعب أبي كريم متطور إلا بعد أن تصفي الوجود الإسرائيلي من كل فلسطين، وإلي أن تحقق هذا فستظل دولة مغلوبة مكسورة راكعة في حالة انعدام وزن سياسي تتذبذب بين الانحدار والانزلاق التاريخي ، ما علاقة ذلك بالنظام الحاكم في مصر الآن إذن؟ العلاقة الوثيقة هي أن أي نظام حاكم في مصر لا يعيـ نظريا وعملياـ الرابطة بين نهضة مصر داخليا وأمنها القومي خارجيا هو نظام فاشل يجر مصر إلي منزلق تاريخي يتمناه لها الأعداء الذين يرتبط استمرار وجودهم بانحدار مصر، والنظام الموجود الآن هو استمرار لنظام السادات الذي انقلب علي هذه الحقيقة البديهية التي يقرها العدو والصديق، وحاول نفض يده من بديهية ضرورة تصفية الوجود الإسرائيلي بدعوي أن إسرائيل أمر واقع وأن مصر بحاجة إلي التنمية بعيدا عن فلسطين، فماذا كانت النتيجة؟ ثلاثون عاما وأكثر تركت فيها إسرائيل لتتوحش علي حدود مصر ولم تحدث التنمية ولا النهضة المزعومة، بل تراجع الفكر الإنتاجي وتلاشت ملامح (مشروع) نهضوي حقيقي تتطلع إليه مصر وتراجعت الجمهورية اقتصاديا وثقافيا وسياسيا بشكل غير مسبوق، وتعرضت للطمات إهانة لم تعهد البلاد مثلها، دولة بالفعل كما قال جمال حمدان مغلوبة مكسورة راكعة ، ومنذ أيام قليلة قال سيناتور أمريكي تعليقا علي المعونات الأمريكية المذلة لمصر وطلبها العلني المهين لثمن سكوتها عن ضرب العراق قائلا: هل ستظل الولايات المتحدة بقرة حلوب ترضع مصر؟ ! وإضافة إلي تراجع فكرة الإنتاج كقلب نابض لأي مشروع تنموي تعرضت مصر في ظل هذا النظام لأكبر عملية لصوصية عرفها تاريخها علي يد نخبة النظام وحاشيته ممن سموا (رجال الأعمال)، وهم ليسوا إلا لصوصا يسرقون كد المصريين بمباركة نظام متستر ليس فقط علي سرقة مصر اقتصاديا بل علي تسليم قياد مصر إلي عدوها الشرس الذي لن يرضي بتنمية في مصر إلي حد تهدد بفنائه كما قال مؤسس دولتهم، النظام في مصر هو نظام متستر علي اللصوص المصريين وخانع للصوص الإمبرياليين، ويقبل دون خجل الإهانة العلنية لبلاده، ورأس هذا النظام يغامر بصورة غير معهودة بمستقبل مصر ومصالحها الإستراتيجية من أجل أن يحولها إلي عزبة ترثها عائلة الرئيس، النظام الحالي يقاوم تهاويه ويخفي خيانته لمصالح مصر بمزيد من التعامل البوليسي العنيف والشرس (إلي حد قتل الشباب المتظاهر رميا بالرصاص)، النظام الحالي أثبت فشله في الحفاظ علي أمن مصر وكرامتها في محيطها الإقليمي وأثبت فشله في تحقيق تطلعات المصريين للحرية ورفع مستوي المعيشة والتقدم والكرامة داخليا وخارجيا، ولن يتنازل طواعية عن غنيمته التي اختطفها منذ عقود دون مقاومة شعبية جادة ومنظمة تتصدي لشراسته البوليسية.
ثانيا: بعد فشل الاحزاب، مقاومة فردية
لن تفيد ولابد من جبهة وطنية
منذ انتهت حرب أكتوبر عام 73 بدأ النظام ـ المستمر حتي الآن ـ في تجييش فرق كاملة من المثقفين الانعزاليين الذين ينظّرون حتي الآن لمصر منكفئة علي ذاتها، بحجة أن ارتباط مصر بإقليمها العربي لم يجر عليها سوي التورط في حروب كان يمكنها تجنبها لولا التعلق المضر بالعرب وما يأتي من ورائهم، ووجدوا في بداية السبعينات أذنا صاغية لبعض الوقت من شعب خرج لتوه من عدة حروب واستمع للسادات ونظامه عندما قال أنه يحلم بفيلا لكل مواطن!. ثم سرعان ما أدرك المصريون أنهم وقعوا في شرك هذا النظام الانعزالي الذي نعاني الآن من نتيجة انفراده بمصر طوال العقود الثلاثة الماضية، التي جربت فيها مصر سلاما مزعوما مع إسرائيل وابتعادا متعمدا عن القضايا العربية وتحريرا للاقتصاد المصري كانت نتيجته وبالا علي الشعب من خلال عملية إفقار منظمة لكل طبقات الشعب، ما عدا نخبة النظام من لصوص البنوك، ورغم أن النظم العربية وخاصة في الخليج هي عائق حقيقي وجوهري أمام أي مشروع عربي تحرري نهضوي شامل، ورغم أنها كانت ذراعا لقوي الإمبريالية العالمية في إسقاط محاولة مصر في الخمسينات والستينات من القرن الماضي لترسيخ مشروع عربي متكامل (وهي الآن تعيد الكرة مع العراق وبشراسة أكبر وخيانة أعظم رغم الاختلاف الكبير بين نظام صدام ونظام عبد الناصر)، رغم كل ذلك إلا أن حقائق الجغرافيا تفرض نفسها دائما، وعلي رأسها أنه إذا كان من البديهي أن لكل دولة مجالا حيويا في إقليمها لابد وأن تحاول تكوين مشروعا مشتركا مع دوله لصالح شعوبها، فإنه وبحقائق الجغرافيا لا سبيل أمام مصر إلا البحث في مجالها العربي عن مشروع مستقبلها، ويتضمن ذلك عدم الانجراف وراء استرضاء (نظم آبار البترول)، ولكن بمقاومة هذه النظم والرأسمالية الغربية التي تحركها، دون التخلي عن المجال الحيوي لمصر وهو محيطها العربي الكبير الواقع من خلال الأسر المتحكمة فيه في براثن الرأسمالية الغربية النهمة لثرواته، والمثقفون الانعزاليون الذين ظلوا يخرجون علي المصريين في كل وسائل إعلامه منددين بالمشروع العربي لتبرير عزل مصر عن وضعها الطبيعي، لم ينجحوا طوال ثلاثين عاما في إقناعنا أن المشروع العربي المتكامل هو السبب في تدهور مصر، وإن كانوا نجحوا في عزل المثقفين الواعين لقيمة هذا المشروع الحضاري الكبير عن وسائل الإعلام المتاحة للشعب المصري، لكن المثقف الواعي بتلك الحقائق الجغرافية والتاريخية لن تجدي نفعا محاولاته الفردية، فهو إما يعزل أو يضيق عليه رزقه أو يلقي في السجون، أو يؤثر السلامة ويعزل نفسه بنفسه، بينما الشعب المصري يحتاج إلي (مجهود منظم) من مثقفيه الحقيقيين الواعين بخطورة هذه المحاولة الانعزالية التي أدت إلي تهميش مصر، إلي حد الإهانة والتعجيز والوصول إلي طريق مسدود، وهذا المجهود المنظم بدأت تظهر إرهاصاته الآن وإن كانت غير كافية، ولكنها ستؤدي في النهاية إلي تكوين جبهة وطنية متماسكة واضحة الأهداف تتخلي عن نظرية (إبدال العدوان) التي تهاجم من خلالها أمريكا وكفي، بينما تعلم جيدا أن الأحق بالهجوم هو الذراع الأمريكية في مصر.
إن الحركة الجماعية التي بدأت خجولة منذ بدء الانتفاضة الفلسطينية وتنمو بمعدل أسرع كلما زادت إهانة مصر إقليميا ودوليا، ستؤدي يوما إلي (حركة وطنية موحدة) أكثر شجاعة وجرأة ولكنها لن تنجح إلا إذا بدأت بتصويب نظرها نحو الجماهير وطلب دعمها، وهذا ما فهمته السلطة عندما ارتعدت من هذا التحرك الكبير الضخم الغاضب رافضا العدوان علي العراق، لقد خاف المسؤولون وكل أركان النظام أن يتحول المحرضون علي التظاهر إلي جبهة واضحة المعالم والأهداف يراها الناس ويلتفون حولها، ولهذا السبب يجيء الاعتقال والمعاملة البوليسية المتوحشة حتي مع عدد من أعضاء البرلمان رأي فيهم النظام تجسيدا (لحركة ما) تتشكل في الأفق.
ثالثا: الشعب المصري والتعبير عن همومه مباشرة
أهدت المقاومة العراقية الباسلة إلي الشعب المصري أعظم هدية يمكن أن يتلقاها المصريون من العراق، حررته من الخوف من الأمريكان وأشعرت كافة فئات الشعب المصري أن أمريكا وأصابعها في مصر يمكن التصدي لهم، وبعدما كان الشعب المصري يتهيأ للبكاء علي العراق تشجع وخرج ينفس عن غضبه في الشوارع والميادين مدفوعا بفرح غامر باستبسال العراقيين، وفاجئ العالم هو الآخر بما يختزنه من حنق وغضب ورغبة في التخلص من الإذلال الذي كاد يصبح شرطا من شروط وجودنا، وأعادت أم قصر العراقية إلي ذاكرته التي حاول النظام مسحها عمدا معركة رأس العش قرب العريش، ومعارك حرب الاستنزاف التي استبسل فيها المصريون أيام كانت لهم قيادة تعرف معني الكرامة الوطنية وترفض التسول بإصرار وحس وطني عال، لكن مشكلة الشعب المصري الحقيقية أنه ما زال ـ مثل مثقفيهـ يلجأ إلي نظرية (إبدال العدوان) فيهاجم الأمريكان كناية عن رغبته الدفينة في الهجوم علي النظام القابض عليه، إن هذا الشعب في حاجة ماسة الآن إلي جبهة تدفعه إلي قول (لا) صارخة مباشرة لنظام الرئيس مبارك وما جلبه علي مصر من عار التسول والخنوع والضياع، جبهة تقول ويقول وراءها الشعب شعارا آن وقته في الشارع المصري: إن السمكة تفسد من رأسها.. لذا وجب قطعها.
كاتبة من مصر