|
العقل الخرافي وتسليع المقدس
شمخي جبر
الحوار المتمدن-العدد: 2153 - 2008 / 1 / 7 - 11:29
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كتب الزهاوي (ثورة في الجحيم) وهو نص طويل تهكم فيه على العقل الخرافي، الأمر الذي جعل أئمة المساجد يطالبون بقتله باعتباره كافرا، فلما استدعاه ملك العراق ليستكشف حقيقة الأمر، قال الزهاوي: (أردت أن أقيم ثورة على الارض فعجزت فأقمتها في السماء)ولكن مازال سدنة الخرافة يجدون سوقهم لترويج بضاعتهم تساعدهم الظروف الاقتصادية الصعبة والتخلف الثقافي وتفشي الامية وتغييب الوعي والاستسلام للحلول السهلة التي يطرحها العقل الاسطوري الخرافي فيغيب الفحص العقلي، ويستسلم الانسان لذلته وفقدانه حريته. رافقت الخرافة الانسان منذ وجوده الاول ومنذ ان واجهته تحديات طبيعية وكونية، حركت المجتمع الانساني. للخرافات سلطة كبيرة على الرأي العام، فكلّما كان الشعب أمياً وغير مثقّفٍ كانت سلطة الخرافة عليه ذات تأثير كبير.وقد أصبحت بعض هذه الخرافات جزءاً من حياة الشعوب، وتتصل العقائد الخرافية في جذورها، بحاجة الانسان للتحرر من طوق وحصار الطبيعة المادية البحتة. بل هي تشير بقوة ووضوح الى الاستعداد الانساني الفطري لخرق الاطر المادية ورغبته العارمة في الايمان بالخارق، المعضلة الكبرى في الخرافات لا تكمن في الاستحالة العقلية في امكان وقوع ما يتصوره، أو يتخيله، او يتكهنه او يراه الانسان في هذه الحالات، بقدر ما تكمن في الطبيعة الانحرافية لعملية الاستسلام والتخلي عن دور العقل وفاعلية طاقة الانسان الايجابية في الفعل. التداخل بين الميثولوجي والديني،يصل في بعض الاحيان الى حد ان يأخذ احدهما محل الاخر، او هي عملية تبادل ادوار او تجرى عملية ازاحة لنسق ليحل نسق اخر مكانه. (فيبدو الدين مثلاً، نوعاً من مثيولوجيا بلغت ذروتها من حيث متانة بناها السردية، إلى الدرجة التي تبدو كما لو أنها حققت قدراً رفيعاً من قوة التأثير على الجموع)، اذ تصبح المثيولوجيا هي الدين الشعبي، فيزاح الدين جانبا حين يفقد تأثيره فتصبح الميثولوجيا اكثر بريقا واشد تأثيرا. حينها تصبح الميثولوجيا ذات سوق واسعة الرواج،تتحول الى ايقونة اعلانية تعلق عليها الكثير من البضائع الكاسدة، وهو مايعرف بتسليع المقدس، وقد تصل عملية التسليع هذه الى استخدامها، في التأثير على الرأي العام. فتدخل الى السياسة من بوابة التسويق، ولان استخدام الايقونة الخرافية كشعار اسهل طريق للزعامة،بعد دراسة سايكولوجية المستهلك. وجدت الميثولوجيا كرسيها الوثير من خلال التسلل الى الاسرة والكراسي السياسية. فيصبح السياسي لايقود الجمهور بل الجمهور هو الذي يقوده، وقد يصل الامر في بعض الاحيان ان يقع المثقف في المطب ذاته وفي الهوة عينها، حين يدخل في معمعة التضليل السياسي والخطاب الشعبوي، اذ هناك تداخل وتلاصق بين الشعبوي والميثولوجي والدين الشعبي، بل هما مفهوم واحد، والخلاف يقع بحسب البضاعة المراد تسويقها.واذا كان يقال ان المجتمعات تسير نحو الحداثة والتطور وتجاوزت ماهو ميثولوجي خرافي، فأن هذا مجاف لما تعيشه مجتمعاتنا الاسلامية والعربية، اذ مازالت متشبثة برصيدها الميثولوجي، او هي تعيد انتاجه وبحسب الحاجة ومتطلبات مواجهة الحداثة التي اعلنا في الكثير من الاحيان عداءنا السافر لها.مصدر الاعتزاز بالميثولوجي باعتباره ايقونة اعلانية لاقت وتلاقي رواجا كبيرا، اذ يمكن ان يصل راكب هذه الأيقونة الاعلانية الى مصادر القوة التي اهمها الثروة والسلطة، وهكذا كانت ركوبا اوصلت من امتطاها الى مغانمه، فضلا عن تحقيق الهيمنة الاجتماعية والثقافية، اذ اصبحت الميثولوجية مجلبة للتقديس، ومن ثم فرضت سيطرتها على المجتمع والسلطة، واصبحت آلة للرقابة والاكراه ومفقسا لتفريخ المستبدين. ووجدت في امية وتخلف الوسط المجتمعي ارضا خصبة لفرض تسلطها وهيمنتها ، قال ثمامة بن أشرس احد كبار المعتزلة للمأمون، ما العامة؟ والله لو وجهت إليهم انسانا على عاتقه سواد ومعه عصا لساق إليك عشرة آلاف منها؛ وقد سواها الله بالأنعام بل هم أضل سبيلا؛ هكذا كان مستوى النظرة إلى ما يسمى (العامة) يعني الشعب باعتبارهم أنعاما لا تحتاج إلا إلى راع يرعاها فسميت (رعية) ؛ اذ دفعهم عدم الثقة بها الى حجب المعرفة عنها سواء كانت شرعية ام فلسفية وقد ألف الغزالي كتابا اسماه (إلجام العوام عن علم الكلام) قرر فيه ان العامة يجب ان لا يعرفوا من امور دينهم سوى الطاعة؛ إنهم يجب أن يتلقوا الحقيقة من مصادرها ويصدقوا بها من غير جدل وبذلك تصلح امور دينهم ودنياهم) فعملوا على تسطيح وعي الأمة أو تغييبه، او تدجينه على الخضوع والاستتباع وموالاة المستبدين من الحكام؛ حتى تحول الرمز ؛المستبد الى (مودة) فحيثما تبدلت (المودة) ظهرت الحاجة إلى غيرها؛ وكلما تهاوى رمز من الرموز ظهرت الحاجة الى رمز جديد وبهذا نكون قد دخلنا حلقة مفرغة لانهاية لها من الاستبداد؛ لأننا مهووسون بإنتاج الأسطورة او الرمز؛ فنخلقها لنختفي خلفها؛ نخلقها لمواجهة ومعالجة ضعفنا الداخلي؛ لأنها تمثل البديل القوي لجانب الضعف والوهن في تجاربنا النفسية مما ترك لدينا تقبلا للاستبداد ؛بل قد يصل الحال بنا في بعض الأحيان إلى الإحساس بالحاجة إليه الحاجة الى (الكاريزما) التي هي عند ماكس فيبر قوة او طاقة تتحقق في الإنسان فوق الطبيعي (supernatural) ذلك الكائن العبقري الأخلاق الذي يتعدى حدود الكينونة الإنسانية ومن ثمة فهو كائن فوق إنساني (superhuman) والقائد الكاريزمي (charismatic leader) هو مبعوث العناية الإلهية ومحقق الخيرات لشعبه وأتباعه وحسب ماكس فيبر ان ارادة العالم وروح التاريخ وحركة المطلق إنما تكمن جميعها في روح البطل وإرادته وحركته حيث يحقق الأبطال إرادة العالم أو ينفذون حكم التاريخ ويبعثون ويفسرون حركة المطلق وعند فيبر تتحقق قوى الكاريزما في هؤلاء القادة وهذه القوى الكاريزمية هي قوى غير طبيعية او عادية (extraordinary powers) وحسب هيغل فان (الأبطال هم الأدوات التي تحقق إرادة العالم وهم الآلات في يد المطلق؛ وحين تحقق هذه الوسائل المشخصة مطالب المطلق ومنطق التاريخ يتساقط هؤلاء الأبطال ويتهافتون كما تتساقط أوراق الخريف). فغيابه (القائد) يعني بحثنا عن شيء مفقود في حياتنا. الايمان بالخرافات والاساطير تسلب الانسان حريته، تجعله غير فاعل، بلا ارادة، لايستطيع ان يغير شيئا في الذاتي والموضوعي منتظرا ان تقوم بهذا التغيير قوى اخرى يعتقد انها القادرة الوحيدة على الفعل، مكبلا بالعقل الخرافي الذي يحمله، وحين نقول عقله، او العقل الخرافي، نقصد الثقافة التي هي مرجعيته في سلوكه ومواقفه واستجاباته، لذا بقي الانسان ذو العقل الخرافي، الانسان المسلوب الحرية متخلفا لان الحرية شرط التقدم والتمدن. وطبيعتنا الثقافية والتربوية اكثر قابلية ذهنية وأهلية نفسية في صناعة الخرافة وممارسة السحر والتفاعل معهما والتصديق بهما.وامتد التأثير الخرافي الى طبيعة التعامل مع الاطفال والعمل على صياغة عقولهم على نحو الخوف والتخويف وشل العقل، فـ(البساط السحري) و(الفانوس السحري) و(شبيك لبيك) كلها تسهم في صياغة العقل الخرافي الذي يستسلم للخرافة والسحر والقوى الخارقة التي تفعل كل شيء ولايمكن مواجهتها بل لابد من الاعتماد عليها في تسيير امورنا الحياتية، فإن المشكلة الكبرى في الخرافات انها تغذّي الاستعداد النفسي للاستسلام للواقع.
#شمخي_جبر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المثقف دون طوق نجاة
-
الفيدرالية ليست حلا
-
الإعلام و الأفكار المستحدثة
-
الشعبية والشعبوية بين التضليل وافساد الاذواق
-
عقدة الخوف
-
دور الثقافة والمثقف في التغيير الاجتماعي والسياسي
-
الكتاب الشهري والمطبوع الأول للحوار المتمدن: افاق النهوض بال
...
-
مواطنون من الدرجة الثانية
-
أحجار في طريق الديمقراطية
-
المواطنة خط شروع واحدة نحو الحقوق والواجبات
-
امرأة اسمها دعاء
-
جذور الحرب الأهلية ... لبنان،قبرص،الصومال، البوسنة
-
تغريبة بني عراق
-
الفساد الإداري: المفهوم والآثار وآليات المكافحه
-
مقارنة للأنظمة الداخلية لعدد من البرلمانات العربية وجزاءات غ
...
-
الانتهاكات التي تتعرض لها السلطة الرابعة
-
حرية الفكر والتسامح في الإسلام
-
مؤشرات الرسوخ والخلل في العملية الديمقراطية
-
المحكمة الاتحادية العليا في العراق
-
الاحتفاء بالتجديد:تاسيس للحاضر واستعداد للمستقبل
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|